الاسلام منهج شامل ودين کامل يأخذ بنظر الاعتبار أبعاد الحياة الشخصية للافراد فضلاً عن تنظيم علاقات إجتماعية سلمية.
ومن الواضح أن معظم تعاليم الاسلام، حتي تلک التي تتناول الاحکام العبادية وتنظيم علاقة الانسان بربّه، ذات توجهات اجتماعية.
فالسلوکيات المحددة للافراد، وعلي الرغم من أنها تترک تأثيرها المباشر علي روحية الاشخاص ونفسياتهم في المرحلة الاولي، إلّا أنها تتجاوز في النهاية حدود الافراد لتنتقل الي المجتمع. ذلک أن الخصال الشخصية والأخلاق الفردية التي تتجلي في سلوک أفراد المجتمع، تحاول أن تحطم الحصار الشخصي والنفوذ الي البنية الاجتماعية والانتقال بکل سهولة من شخص الي آخر واقتحام القلوب والتربع فيها.
وأن هذا النوع من التأثيرات الوجدانية ليس بحاجة الي مقدمات نظرية شاقة ولا الي تمهيد الارضية لها. وهذا يعني أن هذه الخصال عندما تبرز عند احد اعضاء المجموعة، سرعان ما تتجسد في تصرفاته وسلوکه الخارجي، وتتجلي في علاقته مع الآخرين في اول فرصة.
الامام الخميني الذي کرّس کل طاقاته وقدراته الفکرية، بصفته عالماً بالاسلام ومفکراً مصلحاً، للتعرف علي نواقص المجتمع الاسلامي لا سيما ايران، ومحاولة اصلاح العلاقات الاجتماعية في ضوء تعاليم الاسلام الاصيلة، تحظي الأخلاق بالنسبة له بأهمية خاصة في نظام السلوک الفردي والاجتماعي.
وبصفته وارث مدرسة الانبياء، أن جانباً کبيراً من نجاحات الامام الخميني رهن شخصيته الأخلاقية وسيرته العملية. وبطبيعة الحال لابد من الاشارة هنا الي أن الممارسة العملية للاخلاق الحسنة علي مستو متقدم وفي نطاق واسع من القضايا الاجتماعية، تستمد وجودها من العلم والايمان، فضلاً عن أن جذورها الاولي تمتد الي فطرة الانسان وطبعه.
ولهذا کان الامام الخميني (قدس سره) يولي أهمية فائقة لمۆلفاته الاخلاقية أکثر من غيرها. وبشکل عام يمکن تقسيم آثار سماحته
الأخلاقية الي فکرية وأخري عملية. فالآثار الفکرية عبارة عن الموضوعات التي تناولها سماحته في مۆلفاته وخطاباته بمثابة بحوث عرفانية وارشادات وتوجيهات أخلاقية. أما الآثار العملية فهي تلک التي تجلت في المواقف والتصريحات التي صدرت عن الامام اثناء نشاطاته الاجتماعية والسياسية، والتي تجسد مفاهيم أخلاقية. وکما هو واضح أن کل واحد من هاذين الجانبين بدرجة من الاتساع والشمول يتعذر تناولهما بالبحت والاستقراء في آن واحد.
تعتبر المۆهلات الاخلاقية من وجهة نظر الامام الخميني، أفضل اللياقات وغايتها.
کذلک تمتاز الافکار والاساليب الاخلاقية للامام الخميني بسمات قيمة أخري، منها أنها تختزن ملاحظات بارزة وفريدة، لأن عنصر الاخلاق في تعاليم الامام الخميني يستمد فحواه من الکلام الالهي المقدس اولاً، ويتأثر بالمفاهيم القرآنية الي حد کبير. وبشکل عام کانت مفاهيم القرآن المجيد والکلام الملکوتي للائمة المعصومين، بمثابة النبع الصافي الذي ارتوي منه الامام وزاد من تفتح روحه وسموها.
يعتمد الامام الخميني التجربة والمجاهدة والرياضة والتعبد، فضلاً عن تعاليم ومناهج السير والسلوک. وتتسم هذه التعاليم بغناها وثراها بدءً من الموعظة والمناجاة وانتهاءً بالعبارات الموجزة والبليغة.. وتعتبر الاخلاق العرفانية سمة المنهج الاخلاقي عند الامام الخميني.. الاخلاق التي يعمل الامام علي تدريسها، ويتناولها في مۆلفاته وتصريحاته، والتي تشکل مقدمة بلوغ العرفان بصورة تلقائية.
فيما يلي نشير باختصار الي المنهج الأخلاقي عند الامام الخميني وأبرز خصائصه:
اولاً: الشمولية
من خصائص المنهج الاخلاقي عند الامام الخميني، أن سماحته يعتمد الشمولية في عرض المسائل الاخلاقية والتربوبة والفکرية.. ويۆمن الامام بأن الاسلام دين جامع وشامل، وان الانسان موجود متعدد الأبعاد. وفي نهجة الاخلاقي يولي سماحته اهتماماً بمختلف ابعاد وجود الانسان، ويأسف بشدة للذين يهتمون بأحد أبعاد وجود الانسان ويتجاهلون الأبعاد الأخري، وتصوير الانسان بأنه موجود حافل بالمتناقضات:
" الاسلام يمتلک کل شيء.. الاسلام جاء لبناء الانسان، لأن الانسان هو کل شيء.. الانسان هو العالم کلّه. والذي يهتم ببناء الانسان وتربيته ينبغي له أن ينظر الي العالم من هذا المنطلق کي يتسني له السمو بهذا الانسان في مدارج الکمال".( صحيفة الامام _ ج8 _ ص 530 ) .
ثانياً: البساطة والعفوية
من الخصائص الأخري للمنهج الاخلاقي عند الامام الخميني، البساطة والعفوية في بيان المفاهيم الاخلاقية. إذ يتصور البعض أن استخدام ألفاظ ومصطلحات غامضة، دليل علي المنزلة العلمية، وبالتالي ينظر الي استخدام الاساليب السلسة والبسيطة بمثابة ضعف وعجز.
بيد أن الامام وعلي الرغم من أن سماحته کان يضطلع بمسۆولية المرجعية العامة والمطلقة، وکان يتولي مسۆولية قيادة الثورة، إلّا أنه ومن خلال تأسيه بالقرآن المجيد والاستعانة باسلوب البلاغ المبين، وتجاهله اوهام، کان يعتمد نهج الانبياء الالهيين، ويجعل من اللغة المتداولة بين الناس هي المعيار والملاک.
کان الامام يحرص کثيراً علي الأخذ بنظر الاعتبار مدي استيعاب مخاطبيه وقدراتهم علي الوعي والفهم، ولم يحاول تصديع اوقاتهم بالغموض والتصنع.. ان المۆلفات الاخلاقية لسماحة الامام منزهة من آفة التصنع، و ان بساطة وسلاسة هذه الآثار بشکل تعتمد الوضوح في تحقيق رسالتها، حتي أن المخاطب والمتلقي لايحتاج الي کثير جهد لفهمها واستيعابها.
فالقاريء لم يصاب بالاعياء، والمستمع لا يعاني من الغموض والابهام في فهم وادراک المفاهيم والمقولات الاخلاقية لسماحة الامام، لأن المخاطب يدرک جوهر الموضوع بوحي من وعيه ومۆهلاته.
ومما يجدر ذکره، أن البساطة التي تتسم بها التعاليم الاخلاقية لدي سماحة الامام، لاتقلل من ثراء فحواها ومضامينها. وکونها عيدة عن الغموض و التصنع، لا يعني أنها سطحية ومهملة. بل أن التعاليم الاخلاقية لسماحة الامام حافلة بالافکار والمفاهيم التربوية شأنها شأن آثار سماحته الأخري.
ان ما في أيدينا من مواعظ و وصايا وارشادات لهذا العزيز، تحفل بالموعظة والنصيحة والدليل والبرهان، والبصيرة، والسياسة، والحکمة، والمعاش والمعاد وعقيدة الجهاد.
ومن الواضح أن الآثار الاخلاقية لسماحة الامام تفند التصور الخاطيء من أن المواعظ الأخلاقية عادة ما تکون لغتها جافة وصارمة، وأنها لا تدع مجالاً للبحث والتفکير. إذ نجد الامام في مۆلفاته النفيسة امثال (الاربعين حديثاً)، (آداب الصلاة)، (الجهاد الأکبر)، (أسرار الصلاة)، (شرح حديث جنود العقل والجهل)... الخ، نجده يصور بمهارة فائقة مقامات ومنازل السير والسلوک، وآداب حضور القلب والاخلاق، واصول الفضائل الاخلاقية وجذور الکثير من الرذائل النفسية التي تهدد ارکان المعارف الدينية السامية، فضلاً عن أن سماحته يتقصد تناول الموضوع بشکل مباشر ومن دون مقدمات غير ضرورية.
" الاسلام جاء اساساً من أجل البناء... بناء الانسان لنفسه يحضي بالاولوية مقارنة بجميع المجاهدات.. أنه جهاد عظيم، وأن کل المشاکل وکل الفضائل تکمن في هذا الجهاد "
ثالثاً: التفاۆل ونبذ اليأس
ان مَن يحمل علي عاتقه مسۆولية تعليم الانسان، يجب أن يتمتع بالمهارة والکفاءة التي تۆهله لأداء مسۆولية التبليغ والدعوة بکل لياقة ولباقة. ولا شک في أن تعاليم الامام الخميني الاخلاقية بعيدة کل البعد عن روحية التقاعس واليأس والعجز، بل تتطلع الي بناء إنسان مفعم بالتفاۆل ويحرص علي المثابرة. لأنه (قدس سرّه) لم يقنط من رحمة الله، ولم ير نفسه في مأمن من العذاب الإلهي، ولم ييأس من عفو الله ومغفرته. وقد ورد في اقوال ائمة الدين، بأن عاشروا العالم الذي يحذرکم الکبر والغرور، ويدعوکم الي التواضع، ويأخذ بأيدکم من الشک الي اليقين، ومن حب الدنيا الي الزهد، ومن العداوة الي حب الخير. وليس بوسع أحد بلوغ هذا المقام ما لم يحذر هذه الآفات بصدق.
رابعاً: الواقعية واجتناب المبالغة
من الخصائص الأخري للمنهج الاخلاقي عند الامام الخميني، الواقعية واجتناب المبالغة. وکما هو واضح أن سماحة الامام کان يهتم کثيراً بمستوي وعي المتلقي وادراکه، وکان دقيقاً وواقعياً في عرض التعاليم الاخلاقية والتربوية، وکان يعرض أبحاثه بشکل مدروس وبما يتناسب مع التوجه الفکري والروحي للمتلقي. وکان يقدّم الموعظة والنصيحة لکل فئة بما ينسجم مع مستوي تفکيرها ووعيها، و لم يکن يزج بالافکار المعنوية السامية دون مناسبة. ولم يحاول المزج بين الافکار الهامشية والمواضيع المعمقة.
ومن السمات القيمة التي امتازت بها مواعظ الامام ونصائحه الاخلاقية، أنها تنظر الي الواقع وتأخذ طبيعة المتلقي بنظر الاعتبار، خاصة بالنسبة للتجمعات والمحافل العامة، حيث ثمة ملاحظات اجتماعية ثقافية وسياسية لابد من أخذها بنظر الاعتبار، وبالتالي ضرورة اجتناب اثارة الموضوعات التي بحاجة الي تبرير وتأويل تلافياً للغموض والابهام.
خامساً: الاهتمام بالأصول الأخلاقية لا الفروع
من خصائص المنهج الأخلاقي عند سماحة الامام، الاهتمام بمباديء الاخلاق وأرکانها. إذ يحاول سماحته البحث، کالأستاذ المحنک، عن جذور المفاسد والانحرافات النفسية وتحديد مواضع کل واحدة منها في نفس الانسان. ويحرص سماحته علي الکشف عن جذور المخالفات والانحرافات، ويحذر دائماً من أن الأنانية تعتبر أم الرذائل، ويدعو الانسانية الي الصدق والاخلاص اللذين يعتبران غاية الکرامات وأمهات الفضائل.
سادساً: محورية الاخلاق في فکر الامام الخميني
تعتبر المۆهلات الاخلاقية من وجهة نظر الامام الخميني، أفضل اللياقات وغايتها. ويعد تهذيب النفس أساس التوجهات الفردية والاجتماعية بدءً من الحياة الشخصية وانتهاء ً بالعلاقات الأسرية والاجتماعية، حتي الموازين الاقليمية والدولية ينبغي أن يتم استلهامها من الاصول والمباديء الاخلاقية. وکان سماحة الامام يۆمن بأن التزکية والخروج من الظلمات الي النور، تشکل هدف البعثة وغايتها. وکان يۆکد دائماً في تصريحاته وکتاباته، بأن الانبياء بعثوا من أجل بناء الانسان وتربيته، وکان يقول (قدس سره): " الانسان هو موضع بحث وإهتمام الانبياء کافة ". ( صحيفة الامام ، ج 8 ، ص 324 ) .
کان سماحته ينظر الي الانسان من منطلق التوحيد، وکان يۆمن بأنه ليس بوسع أية حکومة أو نظام تربية الانسان بمعزل عن نهج الانبياء الالهيين، لأن رۆية هذه الانظمة ونهجها مادي بحت، غير أن الانسان موجود ذو ابعاد مادية ومعنوية. وأن الذي بوسعه أن يتعهد تربية الانسان وتزکيته، انما هو الذي يحيط بوجود الانسان ويعي ابعاده کافة، وهذه الخصيصة لا تجدها إلا في نهج الانبياء الالهيين فحسب: " الانبياء ينشدون تربية إنسان لا تختلف خلوته عن علانيته". ( صحيفة الامام ، ج 8 ، ص 416 ) .
فکما أنه لا يرتکب ذنباً في وضح النهار، کذلک يتجنب الذنوب في الخفاء والغياب. وعليه يمکن القول أن کل المتاعب والمعاناة التي يواجهها الانبياء والربانيون علي مرّ التاريخ، إنما کانت من أجل تزکية الانسان وتهذيبه:
" الاسلام جاء اساساً من أجل البناء... بناء الانسان لنفسه يحضي بالاولوية مقارنة بجميع المجاهدات.. أنه جهاد عظيم، وأن کل المشاکل وکل الفضائل تکمن في هذا الجهاد " . ( صحيفة الامام ، ج 8 ، ص 300 ) .
لهذا کله تشکل الأخلاق جوهر فکر الامام الخميني، و لذا تري سماحته يۆکد علي إصلاح الذات قبل إصلاح الآخرين، و يعتبر ذلک بمثابة أصل مبدئي.
source : www.tebyan.net