قال اللّه تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك ، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين . الاَعراف ـ 143
قال اللّه تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك ، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين . الاَعراف ـ 143
قال أهل البيت عليهم السلام : تجلى بنوره الذي خلقه ، لا بذاتهالاِمام الرضا يدفع التهم عن الاَنبياء عليهم السلام
روى الصدوق في كتابه التوحيد :حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال : حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه محمد بن خالد ، عن أحمد بن النضر ، عن محمد بن مروان ، عن محمد بن السائب ، عن أبي الصالح ، عن عبدالله بن عباس في قوله عز وجل : فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ، قال يقول : سبحانك تبت إليك من أن أسألك الرؤية ، وأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى .
قال محمد بن علي بن الحسين مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : إن موسى عليه السلام علم أن الله عز وجل لا يجوز عليه الرؤية ، وإنما سأل الله عز وجل أن يريه ينظر إليه عن قومه حين ألحوا عليه في ذلك ، فسأل موسى ربه ذلك من غير أن يستأذنه فقال : رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ، في حال تدكدكه فسوف تراني . ومعناه أنك لا تراني أبداً ، لاَن الجبل لا يكون ساكناً متحركاً في حال أبداً ، وهذا مثل قوله عز وجل : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ومعناه أنهم لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يلج الجمل في سم الخياط أبداً .
فلما تجلى ربه للجبل : أي ظهر بآية من آياته ، وتلك الآية نور من الاَنوار التي خلقها ألقى منها على ذلك الجبل ، فجعله دكا وخر موسى صعقا ، من هول تدكدك ذلك الجبل على عظمه وكبره ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ، أي رجعت إلى معرفتي بك عادلاً عما حملني عليه قومي من سؤالك الرؤية ، ولم تكن هذه التوبة من ذنبه لاَن الاَنبياء لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ، ولم يكن الاِستيذان قبل السؤال بواجب عليه ، لكنه كان أدباً أن يستعمله ويأخذ به نفسه متى أراد أن يسأله .
على أنه قد روى قوم أنه قد استأذن في ذلك فأذن له ليعلم قومه بذلك أن الرؤية لا تجوز على الله عز وجل .
وقوله : وأنا أول المؤمنين ، يقول أنا أول المؤمنين من القوم الذين كانوا معه وسألوه أن يسأل ربه أن يريه ينظر إليه ، بأنك لا ترى .
والاَخبار التي رويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا رضي الله عنهم في مصنفاتهم عندي صحيحة ، وإنما تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز وجل وهو لا يعلم . . . .
ومعنى الرؤية الواردة في الاَخبار العلم ، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات ، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ما تزول به الشكوك ، وتعلم به حقيقة قدرة الله عز وجل .
وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ، فمعنى ما روي في الحديث أنه عز وجل يرى أي يعلم علماً يقينياً ، كقوله عز وجل : ألم تر إلى ربك كيف مد الظل . وقوله : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، وقوله : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت : وقوله : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين .
وأما قول الله عز وجل : فلما تجلى ربه للجبل ، فمعناه : لما ظهر عز وجل للجبل بآية من آيات الآخرة التي تكون بها الجبال سراباً ، والذي ينسف بها الجبال نسفاً ، تدكدك الجبل فصار تراباً ، لاَنه لم يطق حمل تلك الآية ، وقد قيل إنه بدا له نور العرش . . وتصديق ما ذكرته ما حدثنا به تميم القرشي ، عن أبيه ، عن حمدان بن سليمان ، عن علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى عليهما السلام فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك : إن الاَنبياء معصومون قال : بلى ، فسأله عن آيات من القرآن فكان فيما سأل أن قال له : فما معنى قول الله عز وجل : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ، الآية كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران عليه السلام لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله عن هذا السؤال .
فقال الرضا عليه السلام : إن كليم الله موسى بن عمران عليه السلام علم أن الله تعالى عن أن يرى بالاَبصار ، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقربه نجياً رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت وكان القوم سبعمائة ألف رجل فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثم اختار منهم سبعة آلاف ، ثم اختار منهم سبعمائة ، ثم اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربه ، فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى عليه السلام إلى الطور ، وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه ، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لاَن الله عز وجل أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عز وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنك ذهبت بهم فقتلتهم لاَنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله ، إياك فأحياهم الله وبعثهم معه فقالوا : إنك لو سألت الله أن يريك تنطر إليه لاَجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته ! فقال موسى عليه السلام : يا قوم إن الله لا يرى بالاَبصار ولا كيفية له ، وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه . فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله فقال موسى عليه السلام : يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله جل جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه السلام : رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ، وهو يهوي ، فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل بآياته جعله دكاً وخر موسى صعقا ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ، يقول : رجعت إلي معرفتي بك عن جهل قومي ، وأنا أول المؤمنين ، منهم بأنك لا ترى .
فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن . . . . الخبر . . . .
ولو أوردت الاَخبار التي رويت في معنى الرؤية لطال الكتاب بذكرها وشرحها وإثبات صحتها ، ومن وفقه الله تعالى ذكره للرشاد آمن بجميع ما يرد عن الاَئمة عليهم السلام بالاَسانيد الصحيحة وسلم لهم ، ورد الاَمر فيما اشتبه عليه إليهم ، إذ كان قولهم قول الله وأمرهم أمره ، وهم أقرب الخلق إلى الله عز وجل وأعلمهم به ، صلوات الله عليهم أجمعين .(1)
ـ وقال في علل الشرائع حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى العلوي الحسيني رحمه الله قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن أسباط قال حدثنا أحمد بن محمد بن زياد القطان قال : حدثني أبوالطيب أحمد بن محمد بن عبدالله قال حدثني عيسى بن جعفر العلوي العمري عن آبائه عن عمر بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل مم خلق الله الذر الذي يدخل في كوة البيت ؟ فقال : إن موسى عليه السلام : لما قال : ربي أرني أنظر إليك ، قال الله تعالى : إن استقر الجبل لنوري فإنك ستقوى على أن تنظر إليّ ، وإن لم يستقر فلا تطيق إبصاري لضعفك ، فلما تجلى الله تبارك وتعالى للجبل تقطع ثلاث قطع ،فقطعة ارتفعت في السماء ، وقطعة غاصت تحت الاَرض ، وقطعة تفتت فهذا الذر من ذلك الغبار ، غبار الجبل .(2)
ـ تفسير العياشي ج 2 ص 26 عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام قال : لما سأل موسى ربه تبارك وتعالى : قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، قال : فلما صعد موسى على الجبل فتحت أبواب السماء وأقبلت الملائكة أفواجاً في أيديهم العمد وفي رأسها النور ، يمرون به فوجاً بعد فوج يقولون: يابن عمران أثبت فقد سألت عظيماً ، قال : فلم يزل موسى واقفاً حتى تجلى ربنا جل جلاله ، فجعل الجبل دكاً وخر موسى صعقاً ، فلما أن رد الله إليه روحه أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين .
قال ابن أبي عمير : وحدثني عدة من أصحابنا أن النار أحاطت به ، حتى لا يهرب من هول ما رأى .
ـ وقال الشريف المرتضى في أماليه :
فإن قيل : كيف يجوز منه عليه الصلاة والسلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه ، ولئن جاز ذلك ليجوزن أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه تعالى من كونه جسماً وما أشبهه متى شكوا فيه .
قلنا : إنما صح ما ذكرناه في الرؤية ولم يصح فيما سألت عنه لاَنه مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضي كونه جسماً يمكن معرفة السمع وأنه تعالى حكيم صادق في إخباره ، فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته وجوازه ، ومع الشك في كونه جسماً لا يصح معرفة السمع فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم ..
وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية قد كان جائزاً أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحاً للمكلفين في الدين ، وإن ورود الجواب يكون لطفاً لهم في النظر في الاَدلة وإصابة الحق منها ، غير أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين في مسألة علمه باستحالة ما سأل عنه وأن غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفاً ..
والجواب الثاني في الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يعلمه نفسه ضرورةً بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة فتزول عنه الدواعي والشكوك والشبهات ويستغني عن الاِستدلال فتخف المحنة عليه بذلك ، كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى طلباً للتخفيف عليه بذلك ، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه ، والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الاِدراك بالبصر ، وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد به ، فقال له جل وعز : لن تراني ، أي لن تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته مني ، ثم أكد تعالى ذلك بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دل به على أن إظهار ما تقوم به المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز ، وأن الحكمة تمنع منه .
والوجه الاَول أولى لما ذكرناه من الوجوه ولاَنه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكاً في أن المعرفة ضرورية لا يصح حصولها في الدنيا أو عالماً بذلك ، فإن كان شاكاً فهذا مما لا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله ، لاَن الشك فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم سلام الله عليهم ، لا سيما وقد يجوز أن يعلم ذلك على الحقيقة بعض أمتهم فيزيد عليهم في المعرفة ، وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شيء يمنع منه فيهم . وإن كان عالماً فلا وجه لسؤاله إلا أن يقال إنه سأل لقومه ، فيعود إلى معنى الجواب الاَول .
والجواب الثالث في الآية ، ما حكي عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال : يجوز أن يكون موسى عليه السلام في وقت مسألته ذلك كان شاكاً في جواز الرؤية على الله تعالى فسأل ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا ، قال وليس شكه في ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته بل يجري مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الاَعراض في أنه غير مخل بما يحتاج إليه في معرفته تعالى .
قال : ولا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنباً صغيراً وتكون التوبة الواقعة منه لاَجل ذلك .
وهذا الجواب يبعد من قبل أن الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيهاً ، وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن الشك في ذلك لا يجوز على الاَنبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على الحقيقة فيكون النبي صلى الله عليه شاكاً فيه وغيره عارفاً به مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ، وهذا أقوى في التنفير وأزيد على كل ما وجب أن يجنبه الاَنبياء عليهم السلام .
فإن قيل : فعن أي شيء كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين ؟
قلنا : أما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه ، فإنه يقول إنما تاب لاَنه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه ، وليس للاَنبياء ذلك لاَنه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه فيكون ترك إجابتهم إليه منفراً عنهم . ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول إنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف . وعلى جميع الاَحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق عليه العقاب ولا الذم والاَولى أن يقال في توبته عليه الصلاة والسلام : إنه ليس في الآية ما يقتضي أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها ، وقد يجوز أن يكون ذلك منه إما لذنب صغير تقدم تلك الحال أو تقدم النبوة ، فلا يرجع إلى سؤال الله تعالى الرؤيا أو ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى وإظهار الاِنقطاع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب صغير ، وقد يجوز أيضاً أن يكون الغرض في ذلك مضافاً إلى ما قلناه تعليماً وتوقيفاً على ما نستعمله وندعوه به عند الشدائد ونزول الاَهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى ، فإن الاَنبياء عليهم السلام وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم ويحتاج من رفع ذلك عنه إلى التوبة من الاِستقالة ..
فأما قوله تعالى : فلما تجلى ربه للجبل ، فإن التجلى هاهنا هو التعريف والاِعلام والاِظهار لما يقتضي المعرفة ، كقولهم هذا كلام جلي أي واضح ظاهر ، وكقول الشاعر :
تجلى لنا بالمشرفية والقنا * وقد كان عن وقع الاَسنة نائيا
أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر له وإن كان نائياً فأقام ما أظهره من دلالة فعله على مقام مشاهدته وعبر عنه بأنه تجلى منه .
وفي قوله تعالى ( للجبل ) وجهان ، أحدهما ، أن يكون المراد لاَهل الجبل ومن كان عند الجبل فحذف كما قال تعالى : واسأل القرية ، وما بكت عليهم السماء والاَرض ، وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دل من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة . والوجه الآخر ، أن يكون المعنى للجبل أي بالجبل ، فأقام اللام مقام الباء كما قال تعالى : آمنتم له قبل أن آذن لكم ، أي به ، وكما تقول : أخذتك لجرمك أي بجرمك ، ولما كانت الآية الدالة على منع ما سأل إنما حلت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلي إليه .
وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنه تعالى لا يرى بالاَبصار من حيث نفي الرؤية نفياً عاماً بقوله تعالى : لن تراني ، ثم أكد ذلك بأن علق الرؤية باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر ، وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشيء لاَنهم يعلقونه بما يعلم أنه لا يكون كقولهم : لا كلمتك ما أضاء الفجر وطلعت الشمس ، وكقول الشاعر :
إذا شاب الغراب رجوت أهلي * وصار القير كاللبن الحليب (3)
ـ بحار الاَنوار ج 3 ص 45 : أورد رواية الصدوق الاَولى عن الاَمالي والتوحيد وقال :
بيان : إعلم أن المنكرين للرؤية والمثبتين لها كليهما استدلوا بما ورد في تلك القصة على مطلوبهم ، فأما المثبتون فاحتجوا بها بوجهين :
الاَول : أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئياً لما سأل ، لاَنه حينئذإما أن يعلم امتناعه أو يجهله فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال لاَنه عبث ، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله تعالى ويمتنع لا يكون نبياً كليماً .
وأجيب عنه بوجوه : الاَول : ما ورد في هذا الخبر من أن السؤال إنما كان بسبب قومه لا لنفسه ، لاَنه كان عالماً بامتناعها ، وهذا أظهر الوجوه واختاره السيد الاَجل المرتضى في كتابي تنزيه الاَنبياء وغرر الفوائد ، وأيده بوجوه :
منها ، حكاية طلب الرؤية من بني إسرائيل في مواضع كقوله تعالى : فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم . وقوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . ومنها ، أن موسى عليه السلام أضاف ذلك إلى السفهاء ، قال الله تعالى : فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا . وإضافة ذلك إلى السفهاء تدل على أنه كان بسببهم ومن أجلهم حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.
فإن قيل : فلم أضاف السؤال إلى نفسه ووقع الجواب مختصاً به .
قلنا : لا يمتنع وقوع الاِضافة على هذا الوجه ، مع أن السؤال كان لاَجل الغير إذا كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس ، فلهذا يقول أحدنا إذا شفع في حاجة غيره للمشفوع إليه : أسألك أن تفعل بي كذا وتجيبني إلى ذلك ، ويحسن أن يقول المشفوع إليه : قد أجبتك وشفعتك ، وما جرى مجرى ذلك ، على أنه قد ذكر في الخبر ما يغني عن هذا الجواب .
وأما ما يورد في هذا المقام من أن السؤال إذا كان للغير ، فأي جرم كان لموسى حتى تاب منه ؟
فأجاب رحمه الله بحمل التوبة على معناها اللغوي أي الرجوع ، أي كنت قطعت النظر عما كنت أعرفه من عدم جواز رؤيتك ، وسألت ذلك للقوم فلما انقضت المصلحة في ذلك تركت هذا السؤال ورجعت إلى معرفتي بعدم جواز رؤيتك وما تقتضيه من عدم السؤال .
وأجاب السيد قدس الله روحه عنه بأنه يجوز أن يكون التوبة لاَمر آخر غير هذا الطلب ، أو يكون ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى ، وإظهار الاِنقطاع إليه والتقرب منه وإن لم يكن هناك ذنب .
والحاصل أن الغرض من ذلك إنشاء التذلل والخضوع ، ويجوز أن يضاف إلى ذلك تنبيه القوم المخطئين على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه . بل أقول يحتمل أن تكون التوبة من قبلهم كما كان السؤال كذلك .
الثاني : أنه عليه السلام لم يسأل الرؤية بل تجوز بها عن العلم الضروري لاَنه لازمها ، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيما استعمال رأى بمعنى علم وأرى بمعنى أعلم ، والحاصل أنه سأله أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة ، فتزول عنه الدواعي والشكوك ، ويستغني عن الاِستدلال كما سأل إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحيي الموتى .
الثالث : أن في الكلام مضافاً محذوفاً أي أرني آية من آياتك أنظر إلى آيتك ، وحاصله يرجع إلى الثاني .
الرابع : أنه عليه السلام سأل الرؤية مع علمه بامتناعها لزيادة الطمأنينة بتعاضد دليل العقل والسمع ، كما في طلب إبراهيم عليه السلام ، وحاصله يرجع إلى منع أن العاقل لا يطلب المحال الذي علم استحالته إذ يمكن أن يكون الطلب لغرض آخر غير حصول المطلوب ، فلا يلزم العبث لجواز ترتب غرض آخر عليه ، والعبث ما لا فائدة فيه أصلاً ، ولعل في هذا السؤال فوائد عظيمة سوى ما ذكر أيضاً ولا يلزمنا تعيين الفائدة بل على المستدل أن يدل على انتفائها مطلقاً ، ونحن من وراء المنع ، ومما يستغرب من الاَشاعرة أنهم أجمعوا على أن الطلب غير الاِرادة ، واحتجوا عليه بأن الآمر ربما أمر عبده بأمر وهو لا يريده ، بل يريد نقيضه ، ثم يقولون هاهنا : بأن طلب ما علم استحالته لا يتأتى من العاقل .
الثاني من وجهي احتجاجهم : هو أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلق على الممكن ممكن ، لاَن معنى التعليق أن المعلق يقع على تقدير وقوع المعلق عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير .
ويمكن الجواب عنه بوجوه ، أوجهها أن يقال : التعليق إما أن يكون الغرض منه بيان وقت المعلق وتحديد وقوعه بزمان وشرط ، ومن البينِّ أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل . وإما أن يكون المطلوب فيه مجرد بيان تحقق الملازمة وعلاقة الاِستلزام بأن يكون لاِفادة النسبة التي بين الشرط والجزاء مع قطع النظر عن وقوع شيء من الطرفين وعدم وقوعه ، ولا يخفى على ذي لب أن لا علاقة بين استقرار الجبل ورؤيته تعالى في نفس الاَمر ولا ملازمة . على أن إفادة مثل هذا الحكم وهو تحقق علاقة اللزوم بين هاتين القضيتين لا يليق بسياق مقاصد القرآن الحكيم مع ما فيه من بعده عن مقام سؤال الكليم ، فإن المناسب لما طلب من الرؤية بيان وقوعه ولا وقوعه ، لا مجرد إفادة العلاقة بين الاَمرين فالصواب حينئذ أن يقال : المقصود من هذا التعليق بيان أن الجزاء لا يقع أصلاً بتعليقه على ما لا يقع ، ثم هذا التعليق إن كان مستلزماً للعلاقة بين الشرط والجزاء فواجب أن يكون إمكان الجزاء مستتبعاً لاِمكان الشرط ، لاَن ماله هذه العلاقة مع المحال لا يكون ممكناً على ما هو المشهور من أن مستلزم المحال محال ، وإلا فلا وجه لوجوب إمكان الجزاء . والاَول وإن كان شائع الاِرادة من اللفظ إلا أن الثاني أيضاً مذهب معروف للعرب كثير الدوران بينهم ، وهو عمدة البلاغة ودعامتها ، ومن ذلك قول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب
ومعلوم أن مشيب الغراب وصيرورة القار كالحليب لا ملازمة بينهما وبين إتيان الشاعر أهله . ونظيره في الكتاب الكريم كثير كتعليق خروج أهل النار منها على ولوج الجمل في سم الخياط ، وبعيد من العاقل أن يدعي علاقة بينهما ، وإذا كان ذلك التعليق أمراً شائعاً كثير الوقوع في كلامهم فلا ترجيح للاِحتمال الاَول بل الترجيح معنا ، فإن البلاغة في ذلك ، وأما إذا تحققت العلاقة في الواقع بينهما وعلق عليه
لمكان تلك العلاقة فليس له ذلك الموقع من حسن القبول ، ألا ترى أن المتمني لوصال حبيبه الميت لو قال : إذا رجع الموتى إلى الدنيا أمكن لي زيارة الحبيب ، لم يكن كقول الصب المتحسر على مفارقة الاَحباء : متى أقبل الاَمس الدابر وحيي الميت الغابر طمعت في اللقاء .
وأيضاً لا يخفى على ذي فطرة أن التزام تحقق علاقة لزوم بين استقرار الجبل في تلك الحال وبين رؤيته تعالى بحيث لو فرض وقوع ذلك الاِستقرار امتنع أن لا تقع رؤيته تعالى ، مستبعد جداً يكاد يجزم العقل ببطلانه ، فإذن المقصود من ذلك الكلام مجرد بيان انتفائه بتعليقه على أمر غير واقع ، ويكفي في ذلك عدم وقوع المعلق عليه ، ولا يستدعي امتناع المعلق امتناعه . ولو سلم فنقول : إن المعلق عليه هو الاِستقرار لا مطلقاً بل في المستقبل وعقيب النظر ، بدلالة الفاء وإن ، وذلك لاَنه إذا دخلت الفاء على إن تفيد اشتراط التعقيب لا تعقيب الاِشتراط ، فالشرط هاهنا وقوع الاِستقرار عقيب النظر ، والنظر ملزوم لوقوع حركة الجبل عقيبه ، فوقوع السكون عقيبه محال لاستحالة وقوع الشيء عقيب ما يستعقب منافي ذلك الشيء ويستلزم وقوعه عقيبه .
وأما أن النظر لا يستلزم اندكاك الجبل وتزلزله ولا علاقة بينه وبينه وإنما هو مصاحبة اتفاقية فممنوع ، ولعل النظر ملزوم للحركة كما أن استقرار الجبل ملزوم لرؤيته تعالى ، وتحقق العلاقة بين النظر والحركة ليس بأبعد من تحقق العلاقة بين الاِستقرار والرؤية .
ولنقتصر على ذلك فإن إطناب الكلام في كل من الدلائل والاَجوبة يوجب الخروج عما هو المقصود من الكتاب .
وأما المنكرون فاحتجوا بقوله تعالى : لن تراني ، إن كلمة لن تفيد إما تأبيد النفي في المستقبل ، كما صرح به الزمخشري في أنموذجه ، فيكون نصاً في أن موسى عليه السلام لا يراه أبداً ، أو تأكيده على ما صرح به في الكشاف ، فيكون ظاهراً في ذلك لاَن المتبادر في مثله عموم الاَوقات ، وإذا لم يره موسى لم يره غيره إجماعاً .
وإن نوقش في كونها للتأكيد أو للتأبيد فكفاك شاهداً استدلال أئمتنا عليهم السلام بها على نفي الرؤية مطلقاً ، لاَنهم أفصح الفصحاء طراً باتفاق الفريقين ، مع أنا لكثرة براهيننا لا نحتاج إلى الاِكثار في دلالة هذه الآية على المطلوب .
وقال في هامشه : قال الرضي في تلخيصه : هذه استعارة على أحد وجهي التأويل وهو أن يكون المعنى : فلما حقق تعالى بمعرفته لحاضري الجبل الآيات التي أحدثها في العلم بحقيقته عوارض الشبه وخوالج الريب ، وكأن معرفته سبحانه تجلت لهم من غطاء أو برزت لهم من حجاب .
ـ شرح الاَسماء الحسنى : واحتج الاَشاعرة بحجة عقلية كلامية لا نطيل الكلام بذكرها ، وأدلة نقلية منها قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : رب أرني أنظر اليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .
والاِحتجاج به من وجهين ، أحدهما ، أن موسى سأل الرؤية فلو استحالت كان سؤاله عليه السلام إما عبثاً إن علم المحالية وإما جهلاً إن لم يعلم ، وكلاهما محالان على النبي ولاسيما أنه كليم الله ، كيف والنبي يدعو إلى العقايد الحقة والاَعمال الصالحة . وثانيهما ، أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه فكذا ما علق عليه .
واعترض على الاَول ، بأن سؤال موسى عليه السلام عن لسان قومه بدليل قوله تعالى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، وقوله تعالى : أفتهلكنا بما فعل السفهاء .
وأجيب بأنه مع مخالفته للظاهر حيث لم يقل أرهم ينظروا إليك ، وهو فاسد ، أما أولاً فلاَنهم لما قالوا أرنا الله جهرة زجرهم بأخذ الصاعقة فلم يحتج إلى سؤال الرؤية وليس أخذ الصاعقة دليلاً لهم لجواز أن يكون ذلك لقصدهم إعجاز موسى عليه السلام عن إتيان ما طلبوه عناداً ، أو لعدم قابليتهم بما هم منهمكون في الدنيا ، ولذا قال الاَشاعرة : المؤمنون يرونه تعالى في الآخرة .
وأما ثانياً ، فلاَن تجويز الرؤية باطل عند المعتزلة فلا يجوز لموسى عليه السلام تأخير رد الرؤية وتقرير الباطل ، ألا ترى أنهم لما قالوا إجعل لنا إلَهاً كما لهم آلهة ، رد عليهم من ساعة بقوله : إنكم قوم تجهلون .
وعلى الوجه الثاني بأنها علقت على الاِستقرار عقيب النظر بدليل الفاء وكلمة إن، وهو حالة الاِندكاك ، ولا نسلم إمكان الاِستقرار حينئذ . والجواب : أن الاِستقرار حال الحركة ممكن لا بشرط الحركة كما أن قيام زيد ممكن حال قعوده لا بشرط قعوده .(4)
المصادر :
1- الصدوق في كتابه التوحيد ص 118 ـ 122
2- علل الشرائع ج 2 ص 497
3- الشريف المرتضى في أماليه ج 4 ص 125
4- شرح الاَسماء الحسنى ج 1 ص 185 ـ 191
source : rasekhoon