شبهة لمسیحی: (الَّذِینَ آتَیْنَاهُمُ الْکِتَابَ یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِینَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ)(1)، هنا أهل الکتاب یعرفون الکتاب کما یعرفون أبنائهم..، وهذا مناقض لما ورد فی سورة الجمعة (مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا کَمَثَلِ الْحِمَارِ یَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ)(2) وهنا یُشبههم القرآن بالحمار الحامل کتباً لا یدرى ما فیها.. فکیف کانوا یعرفون محمداً کنبیٍّ ورسولٍ لله من کتابهم کما فی الآیة الأولى ومع ذلک لا یدرون ما فیه کما لا یدرى البهیم ما فی الکتب المحمَّلة على ظهره فأیُّ الآیتین هی الصائبة؟
الجواب:
المراد من قوله تعالى: (الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) هم الیهود کُلِّفوا بالتوراة أی بالإذعان بما إشتملت علیه من معارف وبالإلتزام بما إشتملت علیه من شرائع وأحکام.
فکلمة حمِّلوا بحسب مدلولها اللغوی والعرفی تعنی أنَّهم کُلِّفوا، فإذا قیل مثلاً "حمَّل الأمیر شأن رعایة الثغور لقائد الجند" فإنَّ معنى ذلک هو انَّه کلَّفه مسئولیة الرعایة والحفظ لثغور البلد.
وقد إستعمل القرآن الکریم کلمة التحمیل فی معنى التکلیف فی أکثر من موضع کقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)(3) أی لا تُکلِّفنا ما لا نُطیقه ، وکقوله تعالى: (قُلْ أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَیْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَیْکُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)(4) أی إنَّ الرسول مسئولٌ عمَّا کُلِّف به وأنتم مسئولون عمَّا کُلِّفتم به.
فإذا کان المراد من قوله تعالى: (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) هو أنَّه قد أُنیطت بهم مسئولیة الإلتزام بما إشتملت علیه التوراة من معارف وأحکام فهذا یقتضی أنَّهم على علمٍ بما تضمَّنته التوراة، إذ انَّ التکلیف بالشیئ لا یتمُّ ولا یصحُّ إلا بعد الإحاطة والمعرفة بالمکلَّف به.
وعلیه فأهل الکتاب بما فیهم الیهود یعلمون بما فی التوراة ولا یجهلونه، وأما تشبیههم بالحمار الذی یحمل أسفاراً فهو لیس من جهة جهلهم بما فی التوراة بل لأنَّهم لم یلتزموا بما إشتملت علیه التوراة من مضامین، وهذا هو معنى قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا) أی انَّهم لم یلتزموا بمقتضى المسئولیة الإلهیة التی أُنیطت بهم وهی العمل بما إشتملت علیه التوراة ، وهذا معناه أنَّهم لم ینتفعوا بالهدى الذی جاءت به التوراة، فمثَلُهم فی ذلک مثَل الحمار الذی تُحمل علیه الکتب المشتملة على مختلف العلوم والمعارف إلا انَّه لا ینتفع بها ولا یجنی من حملها إلا العناء والتعب ، فهکذا هم الیهود حُمِّلوا التوراة وکُلِّفوا بالإهتداء بهدیها إلا انَّهم إستحبَّوا العمى على الهدى فلم ینتفعوا بهدْی التوراة شأنُهم فی ذلک شأنُ الحمار الذی لا ینتفع بما یُحمل علیه من کتب المعارف والحِکَم.
فوجهُ الشبَه بین الیهود والحمار الذی یَحمل أسفاراً على ظهره هو أنَّ کلاً منهما لا ینتفع بما حُمِّل ، ولیس وجه الشبَه هو أنَّ کلاً منهما لا یعلم بما حُمِّل حتى تکون هذه الآیة مناقضة لقوله تعالى: (الَّذِینَ آَتَیْنَاهُمُ الْکِتَابَ یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) فهم یعرفون محمداً النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) بلا ریب کما أفاد القرآن بل یعرفون کلَّما إشتملت علیه التوراة من معارف إلا انَّهم کانوا یجحدون الحق ویُکابرونه ، وقد أخطأوا بذلک حظَّهم فکان نصیبهم مما عُلِّموه من هدی التوراة کنصیب الحمار من الکتب المُحمَّلة على ظهره، فکما انَّه لا ینتفع بها ولکنَّه یتحمَّل عناء ثقلها على ظهره فکذلک الیهود لم ینتفعوا بالتوراة و لکنَّهم یتحمَّلون وزْرَ المسئولیة والتکلیف بها.
والذی یؤکِّد أنَّ وجه الشبَه - المراد من الآیة - بین الیهود والحمار هو ماذکرناه من عدم إنتفاع کلٍّ منهما بما حُمِّل وانَّه لیس المراد من وجه الشبَه هو انَّ کلاً منهما لا یعلم بما حُمِّل، الذی یؤکد ذلک انَّ الآیة من سورة الجمعة کانت بصدد تمثیل الیهود وما آل إلیه أمرهم للأُمیین المسلمین، وذلک لغرض تحذیرهم من الوقوع فیما وقع فیه الیهود ، وقد أفادت السورة فی مطلعها انَّ الأُمیین قد بُعث فیهم الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) لیُعلِّمهم الکتاب والحکمة ویُزکِّیهم لذلک فلیحذروا أنْ یکون مآلُ أمرهم إلى ما آلَ إلیه أمر الیهود حیثُ کانوا هم أیضاً قد عُلِّموا التوراة إلا انَّهم لم یهتدوا بهدیها، قال تعالى فی سورة الجمعة: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آَیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ / وَآَخَرِینَ مِنْهُمْ لَمَّا یَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ / ذَلِکَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ / مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا کَمَثَلِ الْحِمَارِ یَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآَیَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ)(5).
فمقتضى سیاق الآیات هو انَّ الیهود کانوا على علمٍ بالتوراة کما هو حال الأُمیین الذین عَلَّمهم الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) الکتاب والحکمة. ومن ذلک یتعیَّن المراد من تشبیه الیهود بالحمار الذی یحمل أسفاراً وانَّ وجه الشبَه هو عدم إنتفاع کلٍّ من الیهود والحمار بما حُمل علیه.
وثمة قرینة أُخرى على تعیُّن وجه الشبَه فیما ذکرناه وهی انَّ الآیة التی إشتملت على تشبیه الیهود بالحمار ذیَّلت ذلک بذمِّهم ونعتهم بالکذب ووصفهم بالظالمین، ومن الواضح انَّه لوکان مراد القرآن من تشبیه الیهود بالحمار هو التعبیر عن جهلهم وعدم درایتهم لما نعتهم بعد التشبیه بأنَّهم کاذبون وظالمون لأنَّ الجاهل لا یُوصف بالکاذب والظالم، والذی یصحُّ ذمُّه بذلک إنَّما هو العالم فهو مَن یستحق التشنیع والذم بالکذب والظلم.
ومن کلِّ ذلک یتضح انَّ الآیة من سورة الجمعة لا تُنافی قوله تعالى: (یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) فإنَّ الآیة من سورة الجمعة لا تنفی العلم بالتوراة عن الیهود وإنَّما تنفی عنهم الإهتداء بالتوراة.
هذا وقد تصدَّى القرآن فی آیاتٍ عدیدة للتأکید على علم الیهود بما فی التوراة، فمن ذلک قوله تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْکِتَابَ الَّذِی جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِیسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ کَثِیرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُکُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِی خَوْضِهِمْ یَلْعَبُونَ)(6) فهم یُبدون ما یرتضون ویُخفون الکثیر مما ینافی أهواءَهم ، وذلک لا یتفق إلا لمن یعلم بکلِّ ما فی الکتاب.
وقال تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِیثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِیَةً یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُکِّرُوا بِهِ)(7) فهم یُحرِّفون الکلم عن مواضعه ، والتحریف إنَّما ینشأ عن عدم الإرتضاء بما إشتمل علیه الکَلِم من المعانی، ومن البیِّن انَّ عدم الإرتضاء ثم السعی للتحریف هما فرع الفهم والعلم بمضامین الکلام غیر المرضی الذی یُراد تحریفه ، ثم قال تعالى: (یَا أَهْلَ الْکِتَابِ قَدْ جَاءَکُمْ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَکُمْ کَثِیرًا مِمَّا کُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْکِتَابِ وَیَعْفُو عَنْ کَثِیر)(8) والسعی لإخفاء کثیراً مما إشتمل علیه الکتاب لا یتمُّ إلا فی فرض الإحاطة بمضامین الکتاب، فهم إذن یعلمون بما فی الکتاب المنزَّل علیهم إلا انَّه ونظراً لإشتماله على مایُنتج إلزامهم بما لا یُناسب أهواءَهم ومفتریاتهم لذلک فالوسیلة هی إخفاء تلک المواضع لیکونوا فی أمنٍ من إحتجاج خصمهم بها علیهم.
والمتحصَّل مما ذکرناه انَّ وجه الشبَه فی الآیة من سورة الجمعة بین الیهود والحمار الذی یحمل أسفارا هو انَّ کلاً منهما لا ینتفع بما حُمِّل، والقرینة على ذلک انَّ معنى قوله حملوا التوراة هو انَّهم کُلِّفوا بما فی التوراة ، والتکلیف بالشیئ فرع العلم به.
والقرینة الثانیة: هی انَّ سورة الجمعة کانت بصدد تمثیل حال الیهود للأمیین الذین نصَّت الآیات من سورة الجمعة على انَّهم - أی الأمیین- عُلِّموا الکتاب والحکمة، فمقتضى ذلک انَّ الیهود کانوا على علمٍ بالتوارة حتى یصحُّ التمثیل بهم.
والقرینة الثالثة: انَّ الآیة التی شبَّهت الیهود بالحمار ذیَّلت التشبیه بذمِّ الیهود ونعتهم بالکذب والظلم ، وکلا النعتین إنَّما یصحَّان فی فرض العلم والدرایة، وأما الجاهل فلا یُذمُّ بالکذب والظلم.
والقرینة الرابعة: انَّ القرآن أکَّد فی آیاتٍ عدیدة على انَّ أهل الکتاب کانوا على علمٍ بما أُنزل إلیهم فیکون ذلک أمارةً على عدم إرادة نفی العلم من تشبیه الیهود بالحمار الذی یحمل أسفارا، وعلیه فلا یکون التشبیه مناقضاً لقوله تعالى: (یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) بل إنَّ کلاً من الآیتین تقتضی إثبات العلم للیهود ونفی الإلتزام بما علموا.
الجواب:
المراد من قوله تعالى: (الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) هم الیهود کُلِّفوا بالتوراة أی بالإذعان بما إشتملت علیه من معارف وبالإلتزام بما إشتملت علیه من شرائع وأحکام.
فکلمة حمِّلوا بحسب مدلولها اللغوی والعرفی تعنی أنَّهم کُلِّفوا، فإذا قیل مثلاً "حمَّل الأمیر شأن رعایة الثغور لقائد الجند" فإنَّ معنى ذلک هو انَّه کلَّفه مسئولیة الرعایة والحفظ لثغور البلد.
وقد إستعمل القرآن الکریم کلمة التحمیل فی معنى التکلیف فی أکثر من موضع کقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)(3) أی لا تُکلِّفنا ما لا نُطیقه ، وکقوله تعالى: (قُلْ أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَیْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَیْکُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)(4) أی إنَّ الرسول مسئولٌ عمَّا کُلِّف به وأنتم مسئولون عمَّا کُلِّفتم به.
فإذا کان المراد من قوله تعالى: (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) هو أنَّه قد أُنیطت بهم مسئولیة الإلتزام بما إشتملت علیه التوراة من معارف وأحکام فهذا یقتضی أنَّهم على علمٍ بما تضمَّنته التوراة، إذ انَّ التکلیف بالشیئ لا یتمُّ ولا یصحُّ إلا بعد الإحاطة والمعرفة بالمکلَّف به.
وعلیه فأهل الکتاب بما فیهم الیهود یعلمون بما فی التوراة ولا یجهلونه، وأما تشبیههم بالحمار الذی یحمل أسفاراً فهو لیس من جهة جهلهم بما فی التوراة بل لأنَّهم لم یلتزموا بما إشتملت علیه التوراة من مضامین، وهذا هو معنى قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا) أی انَّهم لم یلتزموا بمقتضى المسئولیة الإلهیة التی أُنیطت بهم وهی العمل بما إشتملت علیه التوراة ، وهذا معناه أنَّهم لم ینتفعوا بالهدى الذی جاءت به التوراة، فمثَلُهم فی ذلک مثَل الحمار الذی تُحمل علیه الکتب المشتملة على مختلف العلوم والمعارف إلا انَّه لا ینتفع بها ولا یجنی من حملها إلا العناء والتعب ، فهکذا هم الیهود حُمِّلوا التوراة وکُلِّفوا بالإهتداء بهدیها إلا انَّهم إستحبَّوا العمى على الهدى فلم ینتفعوا بهدْی التوراة شأنُهم فی ذلک شأنُ الحمار الذی لا ینتفع بما یُحمل علیه من کتب المعارف والحِکَم.
فوجهُ الشبَه بین الیهود والحمار الذی یَحمل أسفاراً على ظهره هو أنَّ کلاً منهما لا ینتفع بما حُمِّل ، ولیس وجه الشبَه هو أنَّ کلاً منهما لا یعلم بما حُمِّل حتى تکون هذه الآیة مناقضة لقوله تعالى: (الَّذِینَ آَتَیْنَاهُمُ الْکِتَابَ یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) فهم یعرفون محمداً النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) بلا ریب کما أفاد القرآن بل یعرفون کلَّما إشتملت علیه التوراة من معارف إلا انَّهم کانوا یجحدون الحق ویُکابرونه ، وقد أخطأوا بذلک حظَّهم فکان نصیبهم مما عُلِّموه من هدی التوراة کنصیب الحمار من الکتب المُحمَّلة على ظهره، فکما انَّه لا ینتفع بها ولکنَّه یتحمَّل عناء ثقلها على ظهره فکذلک الیهود لم ینتفعوا بالتوراة و لکنَّهم یتحمَّلون وزْرَ المسئولیة والتکلیف بها.
والذی یؤکِّد أنَّ وجه الشبَه - المراد من الآیة - بین الیهود والحمار هو ماذکرناه من عدم إنتفاع کلٍّ منهما بما حُمِّل وانَّه لیس المراد من وجه الشبَه هو انَّ کلاً منهما لا یعلم بما حُمِّل، الذی یؤکد ذلک انَّ الآیة من سورة الجمعة کانت بصدد تمثیل الیهود وما آل إلیه أمرهم للأُمیین المسلمین، وذلک لغرض تحذیرهم من الوقوع فیما وقع فیه الیهود ، وقد أفادت السورة فی مطلعها انَّ الأُمیین قد بُعث فیهم الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) لیُعلِّمهم الکتاب والحکمة ویُزکِّیهم لذلک فلیحذروا أنْ یکون مآلُ أمرهم إلى ما آلَ إلیه أمر الیهود حیثُ کانوا هم أیضاً قد عُلِّموا التوراة إلا انَّهم لم یهتدوا بهدیها، قال تعالى فی سورة الجمعة: (هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ آَیَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِنْ کَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ / وَآَخَرِینَ مِنْهُمْ لَمَّا یَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ / ذَلِکَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ / مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا کَمَثَلِ الْحِمَارِ یَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآَیَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ)(5).
فمقتضى سیاق الآیات هو انَّ الیهود کانوا على علمٍ بالتوراة کما هو حال الأُمیین الذین عَلَّمهم الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) الکتاب والحکمة. ومن ذلک یتعیَّن المراد من تشبیه الیهود بالحمار الذی یحمل أسفاراً وانَّ وجه الشبَه هو عدم إنتفاع کلٍّ من الیهود والحمار بما حُمل علیه.
وثمة قرینة أُخرى على تعیُّن وجه الشبَه فیما ذکرناه وهی انَّ الآیة التی إشتملت على تشبیه الیهود بالحمار ذیَّلت ذلک بذمِّهم ونعتهم بالکذب ووصفهم بالظالمین، ومن الواضح انَّه لوکان مراد القرآن من تشبیه الیهود بالحمار هو التعبیر عن جهلهم وعدم درایتهم لما نعتهم بعد التشبیه بأنَّهم کاذبون وظالمون لأنَّ الجاهل لا یُوصف بالکاذب والظالم، والذی یصحُّ ذمُّه بذلک إنَّما هو العالم فهو مَن یستحق التشنیع والذم بالکذب والظلم.
ومن کلِّ ذلک یتضح انَّ الآیة من سورة الجمعة لا تُنافی قوله تعالى: (یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) فإنَّ الآیة من سورة الجمعة لا تنفی العلم بالتوراة عن الیهود وإنَّما تنفی عنهم الإهتداء بالتوراة.
هذا وقد تصدَّى القرآن فی آیاتٍ عدیدة للتأکید على علم الیهود بما فی التوراة، فمن ذلک قوله تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْکِتَابَ الَّذِی جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِیسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ کَثِیرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُکُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِی خَوْضِهِمْ یَلْعَبُونَ)(6) فهم یُبدون ما یرتضون ویُخفون الکثیر مما ینافی أهواءَهم ، وذلک لا یتفق إلا لمن یعلم بکلِّ ما فی الکتاب.
وقال تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِیثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِیَةً یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُکِّرُوا بِهِ)(7) فهم یُحرِّفون الکلم عن مواضعه ، والتحریف إنَّما ینشأ عن عدم الإرتضاء بما إشتمل علیه الکَلِم من المعانی، ومن البیِّن انَّ عدم الإرتضاء ثم السعی للتحریف هما فرع الفهم والعلم بمضامین الکلام غیر المرضی الذی یُراد تحریفه ، ثم قال تعالى: (یَا أَهْلَ الْکِتَابِ قَدْ جَاءَکُمْ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَکُمْ کَثِیرًا مِمَّا کُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْکِتَابِ وَیَعْفُو عَنْ کَثِیر)(8) والسعی لإخفاء کثیراً مما إشتمل علیه الکتاب لا یتمُّ إلا فی فرض الإحاطة بمضامین الکتاب، فهم إذن یعلمون بما فی الکتاب المنزَّل علیهم إلا انَّه ونظراً لإشتماله على مایُنتج إلزامهم بما لا یُناسب أهواءَهم ومفتریاتهم لذلک فالوسیلة هی إخفاء تلک المواضع لیکونوا فی أمنٍ من إحتجاج خصمهم بها علیهم.
والمتحصَّل مما ذکرناه انَّ وجه الشبَه فی الآیة من سورة الجمعة بین الیهود والحمار الذی یحمل أسفارا هو انَّ کلاً منهما لا ینتفع بما حُمِّل، والقرینة على ذلک انَّ معنى قوله حملوا التوراة هو انَّهم کُلِّفوا بما فی التوراة ، والتکلیف بالشیئ فرع العلم به.
والقرینة الثانیة: هی انَّ سورة الجمعة کانت بصدد تمثیل حال الیهود للأمیین الذین نصَّت الآیات من سورة الجمعة على انَّهم - أی الأمیین- عُلِّموا الکتاب والحکمة، فمقتضى ذلک انَّ الیهود کانوا على علمٍ بالتوارة حتى یصحُّ التمثیل بهم.
والقرینة الثالثة: انَّ الآیة التی شبَّهت الیهود بالحمار ذیَّلت التشبیه بذمِّ الیهود ونعتهم بالکذب والظلم ، وکلا النعتین إنَّما یصحَّان فی فرض العلم والدرایة، وأما الجاهل فلا یُذمُّ بالکذب والظلم.
والقرینة الرابعة: انَّ القرآن أکَّد فی آیاتٍ عدیدة على انَّ أهل الکتاب کانوا على علمٍ بما أُنزل إلیهم فیکون ذلک أمارةً على عدم إرادة نفی العلم من تشبیه الیهود بالحمار الذی یحمل أسفارا، وعلیه فلا یکون التشبیه مناقضاً لقوله تعالى: (یَعْرِفُونَهُ کَمَا یَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) بل إنَّ کلاً من الآیتین تقتضی إثبات العلم للیهود ونفی الإلتزام بما علموا.
المصادر :
1- سورة الانعام آیة رقم 20.
2- سورة الجمعة آیة رقم 5.
3- سورة البقرة آیة رقم 286.
4- سورة النور آیة رقم 54.
5- سورة الجمعة آیات رقم 2-5.
6- سورة الانعام آیة رقم 91.
7- سورة المائدة آیة رقم 13.
8- سورة المائدة آیة رقم 15.
1- سورة الانعام آیة رقم 20.
2- سورة الجمعة آیة رقم 5.
3- سورة البقرة آیة رقم 286.
4- سورة النور آیة رقم 54.
5- سورة الجمعة آیات رقم 2-5.
6- سورة الانعام آیة رقم 91.
7- سورة المائدة آیة رقم 13.
8- سورة المائدة آیة رقم 15.