وأما ما استدل به ساير الفقهاء على وجوب الفور في الحج فهو كما يلي :
1ـ قوله تعالى : (وَأَتِمّوُا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ) وهذا أمر، والأمر يقتضي الفور.
2ـ حديث مهران أبي صفوان عن ابن عباس، قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : آ«من أراد الحج فليتعجّلآ»48 رواه أبو داوود باسناده عن مهران، ورواه الدارمي في سننه أيضاً49.
3ـ حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : آ«عجّلوا الخروج إلى مكّة، فإنّ أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أوحاجة آ»50.
4ـ حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) آ«من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة، أوسلطان جائر، أومرض حابس فمات ولم يحج، فليمت إن شاءَ يهودياً أونصرانياً آ»51.
ورواه البيهقي في سننه ثم قال : وهذا وإن كان اسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب، ثم روى عن عمر بن الخطاب انه قال : آ« ليمت يهودياً أونصرانياً يقولها ثلاث مرات ـ رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله، الحديث آ»52.
5ـ روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال : آ«من كسر أوعرج فقد حلّ وعليه الحج من قابلآ»53 وهو يدلّ على الفور بوضوح وإلاّ لم يكن وجه لوجوب الحج عليه من قابل.
6ـ روي عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : آ« لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين آ»54. ودلالته على وجوب الحج بالفور عنده واضحة فلو لا وجوبه فوراً لم يكن وجه في عدّهم غير مسلمين فإن صرف عدم الحج لمن كان له جدة لا يعد مخالفة للشرع على القول بالتراخي فإنّ هناك سعة لأداء الواجب ما لم يدركه الموت.
7ـ انه كالصوم عبادة تجب الكفارة بإفسادها فوجبت على الفور، كما وجب الصوم على الفور 55.
8ـ انه كالجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فتجب على الفور، كما وجب الجهاد فوراً 56.
9ـ انه إذا لزمه الحج وأخّره إمّا أن تقولوا : يموت عاصياً، وإمّا غير عاص، فإن قلتم : ليس بعاص; خرج الحجّ عن كونه واجباً، وإن قلتم : عاص، فإمّا أن تقولوا عصى بالموت أوبالتأخير، ولا يجوز أن يعصى بالموت إذ لا صنع له فيه، فثبت أنه بالتأخير، فدلّ على وجوبه على الفور 57.
وقد اعترض القائلون بالتراخي على ما استدل به هؤلاء الفقهاء لوجوب الفور باعتراضات أهمّها كالتالي :
أما الأوّل : وهو الاستدلال بالآية الكريمة بناءً على دلالة الأمر على الفور.
فقد اعترض عليه أوّلاً :
بأنّا لا نقبل دلالة الأمر على الفور.
وثانياً : بأنّه على تقدير دلالته على الفور فإنّ هنا قرينة تصرفه إلى التراخي وهي آ«أنّ الحج عبادة لا تنال إلاّ بشق الأنفس ولا يتأتّى الأقدام عليها بعينها بل يقتضي التشاغل بأسبابها والنظر في الرفاق والطرق، وهذا مع بعد المسافة يقتضي مهلة فسيحة لا يمكن ضبطها بوقت، وهذا هو الحكمة في اضافة الحج إلى العمر آ»58.
والجواب عنه : أنّ ما ذكر قرينة على التراخي يفيد عكس المدّعى فإنه على الفور أدلّ منه على التراخي، بل إنّه يدلّ على الفور بالتعيين، فإنّ المراد بالفور أوّل عام الاستطاعة، والاستطاعة تتضمّن كلّ ما ذكر من المقدّمات التي يتوقف عليها الحج، فإذا كانت الاستطاعة وفق ما ذكر; لا تحصل إلاّ بتهيّئ هذه المقدّمات الكثيرة، فاذا حصلت لزم العجيل في أداء الواجب خوفاً من فوات الفرصة وعروض ما يمنع أوزوال بعض المقدّمات التي لا تتوفر بسهولة.
والحاصل أنّ المقدّمات التي يتوقف عليها أداء فريضة الحج إذا كانت من التعدّد وصعوبة الحصول، بحيث لا تتوفر للكثيرين إلاّ مرة واحدة في العمر ممّا اقتضى وجوب الحج مرة واحدة في العمر ـ كما أشار المعترض في كلامه ـ فإنّ هذا يقتضي لزوم اغتنام فرصة توفّر المقدمات وحصول الأسباب وعدم جواز تفويت الفرصة، وهذا يستلزم وجوب الفور، لا جواز التراخي.
ومن هنا يمكن أن يقال : إنه على فرض التسليم بعدم دلالة الأمر على الفور لكن القرينة تقتضي دلالته على الفور هنا، والقرينة ما ذكرناه.
أما الثاني :
فقد اعترض عليه أولاً : آ« بأنّه ضعيف، وثانياً : بأنّه حجّة للقائل بالتراخي، لانّه فوّض فعله إلى إرادته واختياره، ولو كان على الفور لم يفوّض تعجيله إلى اختياره، وثالثاً : انه أمر ندب جمعاً بين الأدلّة آ»59.
والجواب عن الأوّل : أنه على فرض ضعفه يتأيّد بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب، وبمجموعها تفيد الاطمينان بصدور مضمونها عن النبي(صلى الله عليه وآله).
وعن الثاني : أنّه ليس في الحديث تفويض الفعل إلى ارادة المكلّف ليكون حجّة للقائل بالتراخي، بل الحديث يفترض إرادة الحج مفروغاً عنها ويثبت وجوب التعجيل لمن يحمل هذه الصفة وهي (إرادة الحج)، وبما أنّ الأمر بالتعجيل إنما يناسب من أراد الحج الواجب، فإنّ المتطوع بالحج لا يجب عليه أصل فعله فكيف بالتعجيل فيه، فيكون معنى الحديث، أنّ من توفّرت فيه شرايط الحج الواجب فعزم على أداء الفريضة فعليه التعجيل في الأداء، وهذا يعني وجوب الفور بالحج.
وعن الثالث : أنّ الحمل على الندّب إنما يصحّ عند وجود القرينة على خلاف الوجوب أوالمعارض، وكليهما منتفيان، فلا وجه للحمل على الندب.
أما الثالث والرابع : فيعترض عليهما بضعف السند تارة وأخرى بأنّ المراد النهي عن تأخير الحج إلى حين الموت، ولا نزاع في حرمته.
والجواب عن ضعف السند نفس ما أجبنا به عن الاعتراض بضعف السند على الحديث السابق، مع زيادة أنّ حديث أبي أمامة مروي بطرق متعدّدة يقوّى بعضها بععضاً.
قال الشوكاني في تعليقه على هذا الحديث : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً، وبذلك يتبين مجازقة ابن الجوزي في عدّه لهذا الحديث من الموضوعات، فإنّ مجموع تلك الطرق لا يقصر من كون الحديث حسناً لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني : آ« لا يصحّ في الباب شيء، لأنّ نفي الصحّة لا يستلزم نفي الحسن آ»60.
وأمّا عن الدّلالة، فدلالة حديث ابن عبّاس على الوجوب واضحة، فانّ فيها الأمر بالتعجيل والامر يفيد الوجوب، ولم يعلّق التعجيل فيه على خوف عروض الموت ، فيدّل على وجوب الفور بالحج. وأما حديث أبي أمامة فدلالته على وجوب الفور من جهة الاطلاق فإنّه باطلاقه شامل لمن أخّر الحج بغير عذر ـ رغم استطاعته ـ مع عزمه على الاتيان بالحج في السنين المقبلة، فإنّه مشمول لقوله : من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة ـ إلى قوله ـ فليمت إن شاء يهودياً أونصرانياً، فيكون دالاً على عدم جواز التأخير في أداء فريضة الحج بغير عذر.
وأما الخامس والسادس : فقد يعترض عليهما بضعف السند أيضاً وجوابه نفس ما ذكرناه سابقاً، وبالمعارضة مع ما دلّ على جواز التأخير، وسوف نبيّن فيما يأتي عند البحث عن أدلة القائلين بالتراخي قصور ما ادّعى كونه معارضاً عن المعارضة.
وأما السابع : فقد اعترض عليه بأنّ قياس الحج بالصوم قياس مع الفارق، فإنّ الصوم وقته مضيّق; فكان فعله مضيّقاً بخلاف الحج61.
والجواب عنه : إنه إن أريد من التضيق في وقت الصوم أنّ له وقتاً معيّناً فالحجّ كذلك أيضاً، فليست الأوقات سواءً بالنسبة إلى فعل الحج، بل المتعيّن ايقاعه في أيام خاصّة . وإن أريد منه عدم جواز تأخيره فهذا عين المدّعى في الحج، فنفيه عن الحجّ مصادرة للمطلوب.
وأما الثامن : فقد اعترض عليه أولاً : آ«بعدم التسليم بوجوب الجهاد فوراً بل الفور والتراخي فيه موكول إلى ما يراه الامام بحسب المصلحة. وثانياً : إنّ في تأخير الجهاد ضرراً على المسلمين بخلاف الحجآ»62.
والجواب عن الأوّل من الاعتراضين : أنّ الكلام مبني على القول بالفور في الجهاد، أما على تقدير انكاره في الجهاد فلا كلام. وأما الجواب عن ثاني الاعتراضين، فبأنّ القائل بالفور في فريضة الجهاد لا يرى ذلك مختصاً بما إذا لزم الضرر من التأخير، بل يرى الفور حتى في صورة القطع بعدم الضرر في التأخير، فيقاس به التكليف بالحجّ.
وأما التاسع : آ« فقد اعترض عليه بأنّا نختار أنّه إذا أخرّ حتى مات يكون عاصياً، ولكن عصيانه من جهة تفريطه بالتأخير إلى الموت، وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما اذا ضرب ولده اوزوجته أوالمعلم الصبي أوعزّر السلطان انساناً فمات، فانه يجب الضمان، لانه مشروط بسلامة العاقبة آ»63.
والجواب عنه : أنّ الفور لو لم يكن واجباً لم يكن وجه لعصيانه بالتأخير حتى الموت، وسلامة العاقبة ليس تحت الاختيار ليعتبر شرطاً في التكليف، أما الضمان فإنّه حكم وضعي، ولا بأس بأن يناط الحكم الوضعي بما لا يقع تحت الاختيار بخلاف الحكم التكليفي المتنازع فيه.
أدلّة القول بالتراخى :
واحتجّ القائلون بالتراخي بعدّة أدلّة وهي :
أوّلاً : إنّ فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة وقد حجّ النبي سنة عشر، وقد كان هو وأصحابه موسرين بما غنموه من الغنائم الكثيرة ولا عذر لهم، فلم يكن تأخيره للحج إلاّ لبيان جواز التأخير64.
أما أنّ فريضة الحج نزلت سنة ست فلحديث كعب بن عجرة قال : آ«وقف عليّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالحديبيّة، ورأسي يتهافت قملاً، فقال : يؤذيك هوامّك ؟ قلت : نعم، يا رسول الله . قال : فاحلق رأسك . قال : ففيّ نزلت هذه الآية :(فمن كان منكم مريضاً أوبه أذىً من رأسه ففدية..) إلى آخرها وبذلك يثبت أنّ قوله تعالى : (وَأَتِمّوُا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ للهِ) إلى آخرها نزلت سنة ست من الهجرة آ»65.
ثانياً : جاء في حديث أنس عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينما جاءه رجل من أهل البادية فسأله قال : آ«يا محمّد أتانا رسولك فزعم لنا أنّك تزعم أنّ الله أرسلك، قال : صدق ، إلى أن قال : وزعم رسولك أنّ علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال : صدقآ» رواه مسلم في صحيحه في أوّل كتاب الايمان بهذه الحروف وروى البخاري أصله، وفي رواية البخاري آ«أنّ هذا الرجل ضمام بن ثعلبة، وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي(صلى الله عليه وآله) كان سنة خمس من الهجرة، قاله محمّد بن حبيب وآخرون، وقال غيره : سنة سبف وقال أبو عبيد : سنة تسع آ»66.