يعلم كل من لديه ادني اطلاع على المذاهب والفرق الإسلامية، بان أصول المعارف والعقائد والأحكام والقوانين والمناسك الإسلامية محفوظة لدي جميع المذاهب، وأن مواضع الاختلاف بشأنها قليله مقارنه بمواضع الاتفاق … كذلك يعلم بان المحور الأصلي للاختلاف بين الشيعة والسنة يدور حول مسألة «الإمامة والخلافة»؛ إذ تعتبر الشيعة على بن أبي طالب الإمام وخليفة الرسول بعد رحيل النبي الأكرم (ص)، خلافاً لما هو عليه أتباع المذاهب الأخرى الذين يرون في الإمام علي الخليفة الرابع، وأن أئمة الشيعة الآخرين ليسوا أكثر من علماء كبار وفقهاء بارزين … ومن هنا، فالذي لم يتعمق في جذور المسألة تصور أنّ الاختلاف بين الشيعة والسنة قضية سياسية بحته، تماماً كالاختلاف الذي يوجد بين حزبين سياسيين بشأن مرشح الرئاسة. بيد أن الحقيقة غير ذلك.
وفي هذا المقال سنحاول توضيح بواعث الاختلاف الأساسي بين الشيعة والسنة؛ والتعرف على الخلفية العقائدية والفكرية التي تقف وراء هذه المسألة السياسية والتاريخية. وأن مسألة الإمامة قبل أن تتصل بحوزة الفقه والسياسة، ترتبط بأصولها العقائدية والدينية. وخلافاً لما يتصوره بعض أصحاب الرأي ـ انظر شرح المقاصد، ج 2، ص 171 ـ من أنّ إثارة هذه المسألة في علم الكلام الإسلامي هي من باب الاستطراد والتطفل؛ بل هي من جملة المسائل الأساسية لهذا العلم.
نظرة إلى النظام العقائدي
لكي يتضح موقع مسألة الإمامة في النظام العقائدي الإسلامي، لا بد من المرور على المسائل الأساسية في علم الكلام الإسلامي التي ترتبط فيما بينها كحلقات السلسلة الواحدة، لنتعرف على الحلقة المفقودة ـ وفقاً لرأي المذاهب الإسلامية ـ في هذه السلسلة والخلل في انسجامها، خلافا لنظرية الشيعة التي تلافت هذا النقص عن طريق اعتقادها بالإمام المعصوم.
في بحوث الإلهيات الإسلامية، وبعد إثبات وحدانية الله سبحانه، ينتقل الحديث للبحث حول صفاته الذاتية والفعلية. وإضافة إلى الخالقية، تتم البرهنة على ربوبية الحق المتعال وتدبيره لعوامل الوجود، بالنحو الذي يدل على أنّ لا صغيرة ولا كبيرة إلاّ وضمن دائرة خلقه وتدبيره. ومن جهة النظر الإسلامية، إنّ الله تبارك وتعالي لم ولن يخلق شيئاً عبثاً أو خلافاً للحكمة. وأن عالم الوجود رغم اتساع ظواهره التي لا تعدو ولا تحصى، يدار بنظام متناسق ومنسجم بفضل إدارته الحكمية، مع الإبقاء على سلسلة المراتب الطويلة والعرضية.
من بين الكائنات الإلهية، يتمتع الإنسان بملكه الشعور والوعي والإرادة، ويتحكم بتحديد جهة حركته الثنائية البعد، أما نحو الكمال والسعادة الأبدية، أو إلى السقوط والحضيض. وأنّ أي عمل يۆديه الإنسان، إما أن يسمو به أو أن يجرّه إلى الانحطاط؛ وأن عاقبة هذه «الحياة الدنيوية الطوعية» ملاقيها في «العالم الأبدي». ولهذا بالذات بات الإنسان مشمولاً بنوع من التدبير الإلهي أو ما يسمي بـ «الربوبية التشريعية»؛ ربوبية تجد مفهوما في نطاق التكليف والمسۆولية، وهي تستلزم أن يضع الله تبارك وتعالى، من خلال إعداد أرضية العمل ووسيلة التحرك، سبل معرفة الهدف وطريق الوصول إليه في متناول يد الإنسان. وتتضمن هذه السبل الوسائل الحسية والعقلية. ولكن ونظراً لافتقار هذه الوسائل إلى الكفاءة والفاعلية اللازمة لتحقيق الكمال النهائي، فقد تم تلافي نقصها وعجزها بواسطة الوحي والنبوة. وبذلك تتضح ضرورة إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب والشرائع السماوية؛ أما النتائج التي يتم التوصل إليها عن طريق هذا النوع من البحوث، تشترك فيها جميع الأديان الإبراهيمية قليلاً أو كثيراً. أما البحوث التي تلو ذلك فهي تختص بالدين الإسلامي، وتسعى للبرهنة على حقانية الشريعة الإسلامية وسماوية القرآن الكريم والنبوة ورسالة الرسول الأكرم (ص).
خلود الإسلام
من ابرز خصوصيات الدين الإسلامي، خلوده وعالميته، اللذان يعتبران من ضرورات الإسلام. ويعرف الجميع حتى غير المسلمين، ما يذهب إليه الإسلام من أن الرسول الأكرم (ص) هو آخر الحلقة في سلسلة الأنبياء (عليهم السلام)، وأن رسالته لا تختص بمكان أو زمان محددين ولا بقوم أو عنصر دون آخر؛ وهذا يعني أن الإسلام دين الناس الوافي إلى يوم القيامة. وباستطاعة المسلمين، بالالتفات إلى أصول الدين والمباني الأخلاقية والقواعد الفقهية، تلبية جميع متطلباتهم العقيدية والأخلاقية والقانونية. ومثل هذا يتطلب أن تكون تلك الأصول والمبني والقواعد في متناول أيد الناس إلى أن يرث الله الأرض؛ وأن تبقي مصونة من آفات التحريف والتغيير، لأنه في هذه الحالة فقط تنتفي الحاجة إلى إرسال نبي جديد.
وهنا يثار هذا التساۆل: من الذي يضمن بقاء الإسلام مصوناً من التحريف والتشويه؟ وهل اخذ الإسلام حقا عامل المصونية هذا بنظر الاعتبار؟
للإجابة عن هذا السۆال ينبغي أن نري أولاً ما هو السبيل للتعريف على حقائق الإسلام؟ وما هي المصادر المتوافرة لهذه المعرفة؟ وهل هذه المصادر متوافرة دائماً في متناول أيد الناس، وبإمكانهم الاستفادة منها متى ما شاءوا؟
مصادر التعرف على الإسلام
القران الكريم هو المصدر الأول للتعرف على الإسلام، الذي يتسم بالمصونية من التغيير والتحريف. وخلافاً لما هو عليه الكتب السماوية الأخرى، التي أما فقدت أو أضحت عرضه للتحريف قليلاً أو كثيراً؛ فان هذا الكتاب السماوي بقي بالصورة التي نزل فيها دون أن يناله أي تغيير أو تبديل. وعليه يمكن القول إنّ مصونية القران هي عامل بقاء إسلام. ولكن ليس بمقدورنا التوصل إلى جميع المعارف التي هي موضع احتياجنا عن طريق القران الكريم. فالقرآن المجيد نفسه قد القي مهمة تبيين حقائق التعاليم وتفاصيل تعاليم الإسلام وأحكامه؛ هل بقي مصاناً من الأهواء وسيبقى كذلك إلى الأبد. وهل يوجد ما يضمن بقاءه بعيداً عن أيدي المتلاعبين والمحرفين؟
الإجابة على هذا التساۆل بالنفي. ذلك أنه إضافة إلى الظروف الصعبة التي اعتبرت حياة الرسول الأكرم (ص) والمسلمين قبل الهجرة وصراعهم المتواصل مع الكفار والمشركين بعد الهجرة؛ فان هذا القدر الذي كان قد وضع في متناول العام لم يكن يمتلك أية ضمانة على بقائه مصوناً من النسيان والخطأ في الفهم والنقل. فضلاً عن أنّ في بعض الأحيان كانت تظهر دوافع للتلاعب والتحريف. وبالتالي آل الأمر إلى درجة لم يعد بالإمكان تبيين جميع أحكام الإسلام وتعاليمه استناداً إلى سنة الرسول الأكرم (ص). وهنا يتضح على وجه الدقة موضع الحلقة المفقودة في نظام الإسلام العقائدي طبقاً لمفهوم آهل السنة، ويظهر نوع من التناقض بين الاعتقاد بخلود الإسلام وعدم مصونية السنة من آفات التحريف والنسيان. فمن جهة يقضي الاعتقاد بخاتمية الرسول محمد (ص) وخلود الإسلام، بقاء معارف الإسلام في متناول أيدي الناس إلى الأبد، ووجود مصادر محل اطمئنان مسلم بصحتها للتعريف عليها، في متناول الجميع. ومن جهة أخرى نري أن التشويق الذي ظهر عند أهل السنة قد جعل من إمكانية الاعتماد عليها في التعريف على معارف الإسلام أمراً مشوباً بالحذر. وهذا يعني حرمان المسلمين من جانب مهم من المعارف التي يحتاجونها، المعارف التي يفترض أن تكون قد وضعت في متناول أيدي الناس عن طريق الوحي والنبوة. وأن العقل والتجربة البشرية غير كافيين للإحاطة بها.
بيد أنه، وعلي ضوء اعتقاد الشيعة، يوجد مصدر آخر موثوق به للتعريف على الإسلام بإمكانه أن يملاً الفراغ الناشئ عن تشويق السنة النبوية والآفات التي تلحق بها. المصدر الذي يحظي بيانه في تفسير القرآن وتفصيل المجلات وتوضيح المتشابهات بالاعتبار والضمانة نفسها التي يتسم بهما حديث الرسول الأكرم (ص). وهذا يعني رغم أن الوحي والنبوة قد انقطعت إلى الأبد بعد رحيل الرسول الأكرم (ص)، إلا أنه مازال يوجد نوع آخر من التعليم الإلهي للأفراد، يستمد وجوده من عترة الرسول الأكرم (ص). وأن نظير كان يستفاد من رجال أمثال الخضر وذو القرنين، ونساء أمثال أم النبي عيسى السيدة مريم. وقد تمثلت هذه العبرة بأئمة الشيعة ألاثني عشر، التي اهتمت بتبيين حقائق الإسلام استلهاماً من العلم الفطري، على الرغم من أن معظم الناس لم يكن يقبل إمامتهم. وعلى مدي قرنين ونصف القرن لم يألوا جهداً في التعريف بالإسلام وصيانة معارفه من النسيان والتحريف. ولو لم تكن هذه العلوم والمعارف التي وضعت عن طريقتهم في متناول أيدي الناس، لما كانت كل هذه المشتركات بين الفرق الإسلامية؛ ولما كان بالإمكان وجود دين واضح المعالم جامع الأطراف باسم الإسلام يشد إليه أنظار العالم.
ومن البديهي إذا ما كانت أحاديث أئمة الشيعة ستحظي بالاعتبار الكافي الذي تحظي به أحاديث الرسول الأكرم (ص)، وبتعبير آخر سوف تطرح بمثابة مصدر معتبر ثالث للتعريف على الإسلام، فمنا لبديهي أن يتمتع هۆلاء الأئمة، فضلاً عن العلم الفطري، بملكة العصمة لكي تحول دون أي تحريف مقصود، أو الخطأ والسهو. وواضح تماماً أن وجود مثل هذه الملكة لا تثبت إلاّ من قبل الله عز وجل. ولهذا تعتقد الشيعة بعدم إمكانية إثباتها إلاّ من قبل الله سبحانه وعن طريق الرسول الأكرم (ص). وبهذا يتضح سرّ الاختلاف بين الشيعة والسنة في مسألة الإمامة. ويتضح أيضاً لماذا ترى الشيعة ضرورة تحلي الإمام وخليفة الرسول (ص) بسمات ثلاث هي: العلم الفطري، وملكة العصمة، والتعيين الإلهي. وكذلك يتبين لماذا عرّف الرسول الأكرم (ص) عترته وأهل بيته إلى الأمة بوصفهم ميراث غني جداً ملازم للقرآن الكريم. واعتبر (ص) القران والعترة ضمن الهداية ومانع الانحراف والضلالة: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا . وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض».
بناء على هذا، يعد جهاز الإمامة مكمل لجهاز الرسالة، إذ به بتحقق كمال الدين: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي». وأن أئمة أهل البيت (ع) كانوا يتمتعون بسائر خيرات الرسول الأكرم (ص) عدا مقام النبوة والرسالة؛ أي الإمامة والولاية على الناس وما يتفرع عنها ـ الحكومة، والقضاء وقيادة القوي ـ رغم أن تطبيقها العملي لم يتحقق إلاّ خلال فترة وجيزة من حياة الإمام علي (ع) و الإمام الحسن (ع). وهكذا يتضح أن مسألة الإمامة هي من جملة المسائل الأساسية لعلم الكلام.
محمد تقي مصباح يزدي
source : tebyan