عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

د. احمد راسم النفیس

د. احمد راسم النفیس

طالما دارت مساجلات فی بیتنا حول الشعر والأدب بین أبی (رحمة الله علیه) وبین اصدقائه من الشعراء والأدباء الذین حفلت بهم أنئذ مدینة المنصورة...، فتعلمت من أبی وجدی (رحمة الله علیهما) حبّ القراءة والاطلاع، وقرأت کل ما وقع تحت یدی من کتب اثناء طفولتی إلا کتاب واحد عجزت عن مواصلة القراءة فیه، ووهو "أبناء الرسول فی کربلاء" للکاتب المصری خالد محمد خالد، حیث کنت أجهش بالبکاء فی اللحظة التی أمسک فیها الکتاب وأعجز عن مواصلة قراءته.... ولد عام 1372هـ فی مدینة "المنصورة" بجمهوریة مصر العربیة، کان أبوه من رجال التعلیم، وأما جده فکان عالماً من علماء الأزهر الشریف یقوم بالخطابة فی مسجد القریة، وکان له "منتدى" یجتمع فیه المثقفون من أبناء هذه القریة، یتعلمون على یدیه العلوم الدینیة والفقهیة والأدبیة.

الأجواء الجامعیة التی عاشها:
توجّه الدکتور أحمد بعد ذلک إلى الدراسة الاکادیمیة حتى حصل عام 1970هـ على الثانویة العامة بمجموع أهله للدخول فی کلیة الطب بمدینة المنصورة، وفی الکلیة بادر الدکتور أحمد إلى الالتحاق باتحاد الطلبة، لأنّه وجده افضل مکان یتیح له العمل فی المجال الثقافی، ومن هذا المنطلق تفتحت ذهنیته على الصراعات الفکریة والسیاسیة التی امتلأت بها الساحة المصریة فی اوائل السبعینات.
فیصف الدکتور أحمد اوضاع تلک الحقبة الزمنیة قائلا: کان التیار الشیوعی لا یزال نشطاً من خلال الموقع التى احتلها فی الحقبة الناصریة. والواقع أن الحجم الإعلامی لهذا التیار تجاوز بکثیر حجمه الحقیقی، وکان التیار الدینی یتحرّک بصورة خجولة محاولا اکتساب بعض المواقع، وکان من الطبیعی أن یحدث الصدام بین التیارین المتناقضین، وخاصة أنّ التیار الیساری کان یتحرَّک بصورة مستفِزّة للجمیع.
د. احمد راسم النفیس
ویضیف الدکتور أحمد: فی عام 1975م وبعد سلسلة من الاستفزازات الیساریة، خضنا الانتخابات الطلابیة تحت رایة التیّار الإسلامی فی مواجهة التیار الیساری، وانتهت المعرکة بهزیمة ساحقة للیسار وانتصار باهر للتیار الإسلامی، وتسلمت رئاسة الطلاب بکلیة طب المنصورة لعامین متتالین.

أوّل التفاتته الجادّة للتشیع:
انتصرت الثورة الاسلامیة فی ایران 1979م، فکان لهذا الحدث اکبر تأثیر فی اعجاب الدکتور أحمد بهذا الشعب المسلم الذى تلقى الرصاص بصدره واستعذب الشهادة والتف حول قائدة بحماس حتى حقق لنفسه النجاح والانتصار.
یقول الدکتور أحمد: "ضایقنی أن یکون ذلک الشعب "منحرف العقیدة" کما وصفه بعضهم من غیر المنصفین،... وعندما حاولنا طباعة کتیّب لمناصرة الثورة الاسلامیة فی ایران، رفض ذلک بعض رفاقنا فی العمل الثقافی، ولم یکن بوسعی یومها إلا السکوت، فلیست هناک مصادر للمعرفة حول هذا الأمر".

التشنیع العام ضد التشیّع:
بقی الدکتور أحمد متأنیاً فی اتخاذه الموقف ازاء الثورة الاسلامیة فی ایران، وبقی على هذه الحالة حتى وقعت الحرب العراقیة الایرانیة.
فیقول الدکتور أحمد فی هذا المجال: "فی الآونة (1982 ـ 1985) کانت هذه الحرب على أشدها، وفجأة تحوّل جزء من النفط عن مساره المعهود فی تمویل آلة الحرب العراقیة،... وفی هذه الآونة أمطرت الساحة المصریة بوابل من الکتب الصفراء التی تتهجّم على المسلمین الشیعة، وانطلق التیار السلفی لیقوم بالدور المرسوم له فی مهاجمة المسلمین الشیعة وبیان بطلان عقائدهم. ومن الواضح تماماً أنّ هؤلاء کانوا ینفذون خطاً مرسوماً ومدعوماً، بل ویحاولون الایحاء بأنّ وراء التشیع فی الجمهوریة الاسلامیة خطاً عنصریاً فارسیاً فی مواجهة الاسلام العربی! وهذه مقولة تکشف بوضوح الرؤیة البعثیة العراقیة التی امتطت ظهر السلفیة".

دواعی اختیاره لمذهب أهل البیت (علیهم السلام) :
یقول الدکتور أحمد حول أسباب ترکه لانتمائه السابق وتمسکه بمذهب التشیع: کنت فی سفرة عائلیة فی أحد أیام صیف عام 1984 م، فعثرت فی احدى المکتبات على کتاب عنوانه: "لماذا اخترت مذهب أهل البیت؟"، فاستأذنتُ فی أخذه، ولم یکن أحد یعبأ به أو یعرف محتواه فأخذت الکتاب، وقرأته، فتعجبت، ثم تعجبت کیف یمکن لعالم أزهری هو الشیخ محمد مرعی الأمین الأنطاکی مؤلف الکتاب أن یتحول إلى مذهب أهل البیت (علیهم السلام) ، فأرقتنی هذه الفکرة آونة، وقلت فی نفسی: هذا الرجل له وجهة نظر ینبغی احترامها، فلم أقرر شیئاً أنئذ واحتفظت بالکتاب.
وبعد عام وفى التوقیت نفسه، وفی المکان نفسه، عثرت على الکتاب الثانی: "خلفاء الرسول الاثنا عشر" فقرأته وفهمته ولم أقرر شیئاً، ولکننی شعرت بأننی اقترب بصورة تدریجیة إلى فکر أهل البیت (علیهم السلام) .
ویضیف الدکتور أحمد: مضت أیام، وکان هناک معرض للکتاب فی کلیة الطب بالمنصورة، فمررت به فوجدت کتاباً بعنوان "الإمام جعفر الصادق" تألیف المستشار عبد الحلیم الجندی، طبعة مجمع البحوث الاسلامیة 1997م.
فقلت فی نفسی: هذا کتاب عن الإمام جعفر الصادق من تألیف کاتب مصری سُنّی، وصادر من قبل مؤسسة رسمیة قبل قیام الثورة الاسلامیة فی ایران، فأخذته وقرأته وتزلزل کیانی لما فیه من معلومات عن أهل البیت (علیهم السلام) طمستها الأنظمة الجائرة وکتمها علماء السوء، فان القوم لا یطیقون أن یذکر آل محمد بخیر.
فعدتُ إلى الکتابین السابقین، وأخرجت ما فیهما من المعلومات، ووجدتها جمیعها من مصادر سُنیة، فقلت فی نفسی: لعلّ المسلمین الشیعة کذَّبوا فاوردوا على الناس ما لم یقولوه! فلنعد إلى هذه المصادر بنفسها، فقمتُ بعملیة جرد دقیق لجمیع هذه الکتب، سواء منها ما کان فی مکتبتی الخاصة، أم کان کان فی مکتبة جمعیة الشبان المسلمین، وتحققت فعلاً من صحة هذه المعلومات.

مرحلة الانتماء إلى مذهب التشیع:
یقول الدکتور أحمد: لم تمض إلا أسابیع بعد البحث الجاد والمقارنة بین المذهب السنی والمذهب الشیعی إلا وکانت المسألة محسوسة تماماً من الناحیة العقائدیة، ثم التقیت بواحد من الأصدقاء القدامى الذی وجدته على هذا الأمر، وبدأنا فی دراسة بعض الاحکام الفقهیة اللازمة لتصحیح العبادات.
وکنت مشغولاً فی هذا الوقت فی إنهاء رسالة الدکتوراه، حتى أننی اقفلت عیادتی للتفرغ للعمل بهذه الرسالة، وقبلت فی نیسان عام 1986 وبدأت اتأهب لدخول امتحانات الدکتوراه فی تخصص "الباطنیة العامة". فاقبلت على القراءة العلمیة وکانت راحتی ومتعتی الوحیدة إذا اصابنی الملل من القراءة فی الطب، هی اللجوء إلى کتب أهل البیت (علیهم السلام) .

ردود الفعل الاجتماعیة:
لم تمض فترة قصیرة من شیوع خبر استبصار الدکتور أحمد إلاّ وبادر أصحاب العقلیات المنغلقة بالصاق تهمة الانحراف الفکری والخلل والعقلی بشخصیة الدکتور، ثم تصدى البعض لتسقیط شخصیته والاطاحة بسمعته، بحیث أدى هذا الأمر إلى مقاطعة من قبل جمع غفیر من الناس.
فیقول الدکتور أحمد: کنت أتساءل بینی وبین نفسى عن سر هذا العداء والشراسة فی مواجهة کل من ینتمى إلى خط آل بیت النبوة، وما هی الجریمة التی ارتکبها أولئک المنتمون؟
ویضیف أیضاً: ثم اخذ التآمر شکلاً آخر، وخطّط البعض لإخراجی من عملی بالجامعة، فبذلوا اقصى جهدهم لذلک وحاولوا استخدام کل ما لدیهم من وسائل، ومن هنا تم تأخیر حصولی على الدکتوراه من عام 1987م حتى 1992 م ست سنوات کاملة من الضغوط الوظیفیة والمعاشیة کی یجبرونی على تغییر عقیدتی لکنهم لم یستطعیوا أن یزعزعوا أنملة من التزامی بمذهب أهل البیت (علیهم السلام) .

مؤلفاته:
1- الطریق إلى مذهب أهل البیت (علیهم السلام): صدر عن مرکز الغدیر / بیروت سنة 1418 هـ ـ 1997 م. جاء فی مقدمة الناشر: "یروى لنا فی مؤلفه هذا قصه سعیه إلى هذه المعرفة وتوصله إلیها فی رحلة طویلة بدأت منذ نشأته فی اسرة علمیة واتصلت فی المدرسة والمحیط والجامعة وفی دروب الحیاة الملأى بالاحداث..وتبین للمسافر فی سبیل المعرفة فی نهایة الرحلة، ان سفینة النجاة للامة الاسلامیة تتمثل فی أهل بیت النبوة، فطوبى لمن اهتدى الى هذه السفینة وانضوى تحت شراعها". یمکن تقسیم الکتاب إلى قسمین: القسم الأول یتعرض فیه إلى تعرفه على التشیع ومراحل ذلک، والقسم الثانی یتعرض لبحث الإمامة ویدعم إمامة أهل البیت من القرآن والسنة، کما یتعرض لصلح الإمام الحسن (علیه السلام) وقیام الإمام الحسین (علیه السلام) .
2- على خطى الحسین
صدر عن مرکز الغدیر سنة 1418 هـ ـ 1997م.
جاء فی تقدیم الناشر: "یمهد المؤلف بالحدیث عن رؤیا للنبی(صلى الله علیه وآله) تکشف ان ملوک السوء سیرتقون منبره من بعده، فیحذر منهم ویدعو إلى نصرة سبطه الامام الحسین (علیه السلام) ، ویعین جماعة المنافقین ثم یبحث بشی من التفصیل فی تحقق هذه الرؤیا، فیتحدث فی فصل أول، عن ابناء الشجرة الملعونة وهم روّاد الفتنة فی الاسلام، وتبین أسس بوصفهم الخارجین على قیادة الامة الشرعیة، ویقارن هذا الخطاب الشرعیة، ویحدد مفهوم الفتنة وملابسات خدیعة التحکیم واسباب وقوع فئة من المسلمین فیها، وفی فصل ثان عن قیام "ارباب السوء" ویتبین أسس شریعته، ویتبع المحاولات التی قاومت هذا النهج المزیف، وعملت على احیاء قیم الاسلام. وفی فصل ثالث عن الثورة الحسینیة بوصفها نهوضاً بمهمة حفظ الدین فتبین نهجها، ویتتبع مراحلها:
التمهید، والتصمیم والتخطیط، اکتمال عناصر التحرک، الهجرة الثانیة: من مکة إلى الکوفة، فی الطریق إلى کربلاء، ویناقش هذا السیاق آراء بن کثیر الذی حاول اخفاء الحقیقة وناقض نفسه، وفی فصل رابع "کربلاء: النهوض بالأمة المنکویة" ویکشف ان الموقف الحسینی معیار وقدوة، ویتجلى هذا الموقف فی مواجهة إمام الحق لإمام الباطل، حیث تتبین الحقیقة وتقام الحجة، وتستنهض الأمة".

المقالات:
فقه التغییر بین سیِّد قطب والسید محمد باقر الصدر :نشرته مجلة المنهاج التی تصدر فی بیروت ـ العدد السابع عشر 1421هـ ـ ربیع 2000م. مما جاء فی هذه المقالة: "التاریخ لقضیة التغییر فی مدرسة أهل البیت یبدأ فی موعد مبکر عن التاریخ للمسألة نفسها فی فکر سید قطب، ولأسباب تختلف تماماً عن الأسباب المودعة فی ملف تلک القضیة عند مدرسة "الاخوان المسلمین" التی نبت فیها سید قطب.

مدرستان:
إذن فنحن أمام مدرستین: مدرسة ترى أنّ العلة التی ضربت الأمة الإسلامیة، بعد کمالها وتمامها، إنما تنبع من تبنیها لمفاهیم خاطئة لشهادة أن لا إله إلاّ الله وتنحیة الشریعة الاسلامیة جانباً، ومن ثمّ انقطع وجود الأمة الإسلامیة، وأصبحنا نعیش فی جاهلیة معاصرة، ولا خروج من هذا الظلام إلاّ بظهور طلیعة تعید اعتناق الاسلام وتجعل إعلان الشهادتین معلّقاً بتأکید مفهوم الحاکمیة واعتباره رکناً اساسیاً من ارکان الشهادتین. وان هذه الطلیعة علیها ان تواجه البشریة کما واجهتها الطلیعة الاولى من المسلمین التی التفت حول رسول الله(صلى الله علیه وآله)واستعلاء على الجاهلیة المعاصرة ومواجهة لها بالقوة والجهاد والهجومی لا زالة جمیع العوائق.
وبالنسبة للأمور الفقهیة ومسائل الاجتهاد، فهی مسائل سهلة ومیسرة، ویمکن الاستعانة بأی کتاب فقهی فی مکتبة المجاهدین لتحقیق الغرض، وبخاصة أنّه لا اجتهاد مع النص، إنها وصفة سهلة ومبسطة!
أما فی مدرسة الشهید الصدر، فالأمة الإسلامیة تمضی فی مسیرة تکاملیة تتحرک نحو غایة مطلقة هی الله عزّوجلّ، وهی فی مسیرها الطویل المستمر نحو المثل الاعلى، ستواجهها المثل المنخفضة من حکام ذلک الزمان وحکام هذا الزمان، ومن "وعاظ السلاطین" فضلا عن مواجهتها لـ "مثل علیا" اخرى من صنع البشر من الأخسرین أعمالاً الذین ضلّ سعیهم فی الحیاة الدنیا، وهم یحسبون انهم یحسنون صنعا.
فالمسألة إذن لیست مجرَّد قرار باعلان الثورة، أو اعادة اعتناق "لا إله إلا الله" من جدید، أو مواجهة المجتمع المسلم بتکفیره، بل هی مسألة مسیر متواصل نحو الله لا تحدَّه حدود ولا تقیده قیود نحو المطلق فی إطار أصول الدین الخمسة:
التوحید والنبوة والامامة والعدل والمعاد. تلک الاصول التی لم یتطرق سیّد قطب إلى الحدیث عنها، باعتبار ان العامل الأساس فی فکره هو مسألة تطبیق الشریعة الاسلامیة، ومع ذلک لاحظنا مدى البساطة التی تعامل من خلالها مع تلک القضیة الجوهریة...
لم یکن سید قطب صاحب مشروع ثوری بالمعنى الحقیقی لهذه الکلمة، إنها ثوریة ناقصة تخاصم الهة المرحلة الراهنة. وتثنی على الهة المراحل السابقة خیر الثناء، وتکیل لهم جمیع اصناف المدیح.
وعلى کل حال، فقد ظهرت ثمار ذلک الزرع واخفقت تلک الحرکات فی الوصول إلى أی نتیجة نافعة لها، أو للمجتمعات التی تحرکت فیها. ونحن نقول هذا من موقف الاعتبار والتأمل الحقیقی، لان المراجعة الجذریة تثبت ان الخلل الرئیسی کان بسبب موقف هؤلاء السلبی من قضیة الامامة بوصفها حجر الزاویة، والرکن الاساس فی بناء الامة ومحاولة اعادة وجودها الفاعل إلى ساحة التاریخ".

وقفة مع کتابه: "على خطى الحسین"
هذا الکتاب یمثل إحدى محاولات استلهام ملحمة کربلاء التی اسست نهجاً فی مقاومة الطغیان، وشقت درباً یسیر على هدیة الساعون إلى الحق، ومثلت الخطى التی سارها الإمام الحسین (علیه السلام) هجرة ثانیة تعید سیرة هجرة جدّه المصطفى(صلى الله علیه وآله) من مکة المکرمة إلى المدینة المنورة.
ونبدأ مع الکتاب فی عرضه للصراع الاسلامی ـ الأموی فی معرکة صفین:
شهدت "صفّین"، وهی مکان یقع بالقرب من شاطىء الفرات بین الشام والعراق. "واقعة صفّین"، التی دارت بین جیش الإمام علی الذی یمثل القیادة الشرعیة للأمة الإسلامیة وبین جیش القاسطین الظالمین، بقیادة معاویة بن آکلة الأکباد ووزیره الأول عمرو بن العاص.
توشک النبوءة أن تتحقَّق، یوشک من حذَّر رسول الله(صلى الله علیه وآله)، منهم أن یتسنموا منبره. الصراع محتدم بین قیم الإسلام لمحمدی الأصیل، کما یمثله إمام الحق علی بن أبی طالب (علیه السلام) والفئة الباغیة بقیادة ابن آکلة الأکباد ووزیره الأول ابن النابغة. وسنعرض نماذج متقابلة لخطاب کل فریق من الفریقین ولسلوکه، ثم نرى النهایة الفاجعة لهذا الصراع، أو نهایة البدایة لفجر الإسلام المضیء، على ید هذه العصابة، وهو عین ما حاولوه یوم عقبة تبوک، فلم یحالفهم التوفیق.
خطاب رواد الفتنة، الخارجین على القیادة الشرعیّة:
رفع معاویة بن أبی سفیان شعار الثأر لعثمان بن عفان، فهل کان ابن آکلة الأکباد ووزیره الأول صادقّیْن فی دعواهما؟ فلنقرأ سویاً فی صفحات التاریخ.
روى ابن جریر الطبری، فی تاریخه: "لما قتل عثمان قدم النعمان بن بشیر على أهل الشام بقمیص عثمان ووضع معاویة القمیص على المنبر، وکتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إلیه الناس، وبکوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فیه (أصابع نائلة زوجة عثمان) وآلى الرجال من أهل الشام ألاّ یأتوا النساء ولا یناموا على الفرش حتى یقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشیء أو تفنى أرواحهم، فمکثوا حول القمیص سنة، والقمیص یوضع کل یوم على المنبر ویجلله أحیاناً فیلبسه، وعلق فی أرادنه أصابع نائلة".
"ثم مضى معاویة ینشر فی الناس أن علیّاً (علیه السلام) قتل عثمان"(1). کان هذا هو الشعار المعلن، فهل کان هذا الشعار یمثل الحقیقة؟، فلنقرأ أولاً فی تاریخ عمرو بن العاص.
الشعار المعلن وحقیقته، الاستحواذ على السلطان:
وروى الطبری، أیضاً: "لما بلغ عمراً قتل عثمان...، قال: أنا أ بو عبد الله قتلته [یعنی عثمان] وأنا بوادی السباع، من یلی هذا الأمر من بعده؟ إن یَلِه طلحة فهو فتى العرب سیْبا، وإن یَلِه ابن أبی طالب فلا أراه إلاّ سیستنطق الحق وهو أکره من یلیه إلیّ. قال: فبلغه أن علیّاً قد بویع له، فاشتد علیه وتربّص أیاماً ینظر ما یصنع الناس، فبلغه مسیر طلحة والزبیر وعائشة، وقال أستأنی وأنظر ما یصنعون، فأتاه الخبر أن طلحة والزبیر قد قتلا، فارتج علیه أمره فقال له قائل: إن معاویة بالشام لا یرید أن یبایع لعلی، فلو قاربت معاویة، فکان معاویة أحب إلیه من علی بن أبی طالب. وقیل له: إن معاویة یعظم شأن قتل عثمان بن عفان ویحرض على الطلب بدمه، فقال عمرو: ادعوا لی محمداً وعبد الله فدُعیا له، فقال: قد کان ما قد بلغکما من قتل عثمان... وبیعة الناس لعلی وما یرصد معاویة من مخالفة علی، وقال: ما تریان؟ أما علی فلا خیر عنده وهو رجل یدل بسابقته، وهو غیر مشرکی فی شیء من أمره، فقال عبد الله بن عمرو:
... أرى أن تکف یدک وتجلس فی بیتک حتى یجتمع الناس على إمام فتبایعه، وقال محمد بن عمرو، أنت ناب من أنیاب العرب، فلا أرى أن یجتمع هذا الأمر ولیس لک فیه صوت ولا ذکر، قال عمرو: أما أنت، یا عبد الله، فأمرتنی بالذی هو خیر لی فی آخرتی واسلم فی دینی، وأما أنت، یا محمد، فأمرتنی بالذی هو أنبه لی فی دنیای وشرّ لی فی آخرتی. ثم خرج عمرو بن العاص، ومعه ابناه، حتى قدم على معاویة، فوجد أهل الشام یحضّون معاویة على الطلب بدم عثمان.
فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخلیفة المظلوم، ومعاویة لا یلتفت إلى قول عمرو. فقال ابنا عمرو لعمرو: ألاترى إلى معاویة لا یلتفت إلى قولک، انصرف إلى غیره، فدخل عمرو على معاویة فقال: والله لعجب لک إنی أرفدک بما أرفدک وأنت معرض عنی، أما والله إن قاتلنا معک نطلب بدم الخلیفة، إن فی النفس من ذلک ما فیها حیث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولکنا إنما أردنا هذه الدنیا، فصالحه معاویة وعطف علیه"(2)
هذا هو حال الوزیر الأول، فهو نفسه ممن ألبّوا على عثمان وهو القائل: "أنا أبو عبد الله، قتلته وأنا بوادی السباع"، وهو المقرّ بأن انضمامه لابن آکلة الأکباد إنما هو من أجل الدنیا".
أمّا معاویة، صاحب القمیص الذی صار مضرباً للمثل على الادعاءات الکاذبة، فنورد فقرة من خطبته التی استهل بها عهده المشؤوم. روى أبو الفرج الأصفهانی فى مقاتل الطالبیین: "لما انتهى الأمر لمعاویة، وسار حتى نزل النُخَیْلة وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن یدخل الکوفة خطبة طویلة". وأورد بعض مقاطعها ومنها:
"ما اختلفت أمة بعد نبیها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها... فندم فقال: إلاّ هذه الأمة فإنها وإنها...".
"ألا إن کل شیء أعطیته الحسن بن علی تحت قدمّی هاتین لا أفی به".
"إنی والله ما قاتلتکم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزکّوا، إنکم لَتَفْعَلُون ذلک. وإنما قاتلتکم لأتأمّر علیکم، وقد أعطانی الله ذلک وأنتم کارهون"(3)
هل کان ابن آکلة الأکباد ووزیره الأول عمرو بن العاص یطالبان بدم عثمان أو أن السلطة کانت هدفاً لهما؟ وهل یبقى شک; بعد قراءتنا خطاب کل منهما فی طبیعة الادعاءات المرفوعة من قبل الفئة الباغیة والصورة الحقیقیة لحرکة الردّة التی ما کان لها ان تحقق هدفها لو لا تخاذل بعض المسلمین ووهن بعضهم الآخر.
کانت هذه هی الأهداف الحقیقیة: "الاستحواذ على السلطة" و "إذلال المؤمنین"، وهی تختلف عن الأهداف الدعائیة: "الثأر من قتلة عثمان".

وسائل التأمّر على الناس:
أما عن الوسائل التی اتبعها ابن آکلة الأکباد من أجل تحقیق غایاته الشیطانیة (وهی إقامة حکومة من بدوا فی رؤیا رسول الله(صلى الله علیه وآله) "قردة"، فی مواجهة حکومة العدل الإلهیة) فهی فی المستوى نفسه، ومن نماذجها نذکر:
أولاً: الرشوة والإغراء بالمناصب وإلیک النموذج الآتی، حاول معاویة رشوة قیس بن سعد بن عبادة، والی الإمام علی على مصر، فکتب له: "... فإن استطعت، یا قیس، أن تکون ممن یطلب بدم عثمان فافعل. تابعنا على أمرنا ولک سلطان العراقَیْن، إذا ظهرت ما بقیت، ولمن أحببت من أهل بیتک سلطان الحجاز ما دام لی سلطانی. وسلنی غیر هذا مما تحب فإنک لا تسألنی شیئاً إلاّ أوتیته"(4)
أما رد قیس بن سعد بن عبادة، رضوان الله علیه، على ابن آکلة الأکباد فکان ردّاً مخرساً فقد کتب إلیه: "بسم الله الرحمن الرحیم، من قیس بن سعد إلى معاویة بن أبی سفیان. أما بعد، فإن العجب من اغترارک بی وطمعک فی، واستسقاطک رأیی، أتسومنی الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة وأقولهم للحق وأهداهم سبیلاً وأقربهم من رسول الله(صلى الله علیه وآله)، وتأمرنی بالدّخول فی طاعتک، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزّور وأضلّهم سبیلاً، وأبعدهم من الله عزّوجلّ ورسوله(صلى الله علیه وآله)، وسیلة، ولد ضالین مضلین، طاغوت من طواغیت إبلیس. وأما قولک إنی مالىء علیک مصر خیلاً ورجلاً، فو الله إن لم أشغلک بنفسک حتى تکون نفسک أهم إلیک، إنک لذوجد، والسلام"(5)
ثانیاً: الاغتیال السیاسی جاء فی تاریخ الطبری: "فبعث علیُّ الأشتَر أمیراً إلى مصر حتى إذا صار بالقلزم، شرب شربة عسل کان فیها حتفه، فبلغ حدیثهم معاویة وعمراً، فقال عمرو: إن لله جنوداً من عسل"(6)
ثالثاً: الاختلاق والخداع جاء فی تاریخ الطبری: "ولما أیس معاویة من قیس أن یتابعه على أمره، شق علیه ذلک لما یعرف من حزمه وبأسه، وأظهر للناس قبله أن قیس بن سعد قد تابعهم فادعوا الله وقرأ علیهم کتابه الذی لان له فیه وقاربه. قال: واختلق معاویة کتاباً من قیس، فقرأه على أهل الشام"(7)
رابعاً: الإغارة على المدنیین وقتل النساء والأطفال ذکر ابن جریر الطبری فی تاریخه:
1 ـ "وجّه معاویة، فی هذا العام، سفیان بن عوف فی ستة آلاف رجل وأمره أن یأتی "هیت"، فیقطعها، وأن یغیر علیها ثم یمضی حتى یأتی الأنبار والمدائن فیوقع بأهلها"(8)
2 ـ "وجّه معاویة عبد الله بن مسعدة الفزاری فی ألف وسبعمائة رجل إلى تیماء، وأمره أن یصدق (یأخذ صدقة المال) من مرَّ به من أهل البوادی، وأن یقتل من امتنع من إعطائه صدقة ماله. ثم یأتی مکة والمدینة والحجاز ویفعل ذلک"(9).
3 ـ وجّه معاویة الضحّاک بن قیس، وأمره أن یمر بأسفل واقصة، وأن یغیر على کل من مر به ممن هو فی طاعة علی من الأعراب، ووجّه معه ثلاثة آلاف رجل فسار، فأخذ أموال الناس وقتل من لقی من الأعراب، ومر بالثعلبیة فأغار على مسالح علی، وأخذ أمتعتهم ومضى حتى أنتهى إلى القطقطانة فأتى عمرو بن عمیس بن مسعود، وکان فی خیل لعلی وأمامه أهله وهو یرید الحج، فأغار على من کان معه وحبسه عن المسیر، فلما بلغ ذلک علیاً سرّح حجر بن عدی الکندی فی أربعة آلاف وأعطاهم خمسین خمسین، فلحق الضحّاک بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان وحال بینهم اللیل فهرب الضحّاک وأصحابه ورجع حجر ومن معه(10).
4 ـ فی عام 40هـ، أرسل معاویة بن أبی سفیان بسر بن أبی أرطأة فی ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز حتى قدموا المدینة، وعامل علی على المدینة یومئذ أبو أیوب الأنصاری، ففر منهم أبو أیوب، وأتى بسر المدینة فصعد المنبر وقال: یا أهل المدینة، والله لو لا ما عهد إلی معاویة ما ترکت بها محتلماً إلاّ قتلته. ثم مضى بسر إلى الیمن وکان علیها عبید الله بن عباس عاملاً لعلی، فلا بلغه مسیره فرَّ إلى الکوفة حتى أتى علیاً، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثی على الیمن، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه، ولقی بسر ثقل عبید الله بن عباس وفیه ابنان له صغیران فذبحهما، وقد قال بعض الناس أنه وجد ابنی عبید الله بن عباس عند رجل من بنی کنانة من أهل البادیة، فلما أراد قتلهما قال الکنانی: علام تقتل هذین ولا ذنب لهما؟ فإن کنت قاتلهما فاقتلنی، قال: أفعل، فبدأ بالکنانی فقتله ثم قتلهما، وقتل فی مسیره ذلک جماعة کثیرة من شیعة علی بالیمن. ولمَّا أرسل علی جاریة بن قدامة فی طلبه هرب"(11).
تلک هی لمحات من أهداف الدولة الأمویة وملامحها وأسالیبها فی الوصول إلى هذه الأهداف. لا فارق بین معاویة وصدّام حسین وهتلر. الغایة، عند کل هؤلاء، تبرر الوسیلة، بل ونزعهم أن ابن آکلة الأکباد، على قرب عهد بالنبوة، أشد وزراً من صدّام حسین الذی قتل النساء والأطفال واستخدم السلاح الکیمیاوی فی قتل الأبریاء، فصدّام حسین لم یرَ رسول الله(صلى الله علیه وآله)، ولا سمع منه ولا ادعى له بعض المؤرخین أنه کان کاتباً للوحی، إلى آخر هذه الادعاءات التی یمزج فیها الحق بالباطل.
خطاب قیادة الأمة الشرعیّة، (وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ لِلَّهِ):
على الجانب الآخر کان معسکر الحق، معسکر القیادة الشرعیة للأمة الإسلامیة، قیادة أهل البیت، ورمزها یومئذ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (علیه السلام) ، یجاهد للحفاظ على الإسلام نقیاً صافیاً.
وکان هذا هو الهدف الحقیقی الذی تهون من أجله کل التضحیات.
کان الإمام علی (علیه السلام) ومن حوله کوکبة المؤمنین الخلص من أصحاب النبی(صلى الله علیه وآله).
روى ابن أبی الحدید، فی شرح نهج البلاغة، نقلاً عن "کتاب صفّین" لنصر بن مزاحم: "خطب علی (علیه السلام) ، فی صفیّن، فحمد الله وأثنى علیه، وقال: أما بعد، فإن الخیلاء من التجبُّر، وإن النَّخوة من التکبر، وإن الشیطان عدوٌّ حاضر، یعدُکم الباطل. ألا إنّ المسلم أخو المسلم فلا تنابذُوا ولا تجادلوا، ألا إنّ شرائع الدین واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ بها لَحِق، ومن فارقها مُحِق، ومن ترکها مَرَق، لیس المسلم بالخائن إذا ائتمِن، ولا بالمخلِف إذا وعد، ولا بالکذاب إذا نطق. نحن أهل بیت الرحمة، وقولنا الصدق، وفعلنا الفضل، ومنا خاتم النبیین، وفینا قادة الإسلام، وفینا حملة الکتاب.
ألا إنا ندعوکم إلى الله ورسوله، وإلى جهاد عدوِّه والشدَّة فی أمره، وابتغاء مرضاته، وإقام الصلاة، وإیتاء الزکاة، وحجِّ البیت، وصیام شهر رمضان، وتوفیر الفیء على أهله. ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاویة بن أبی سفیان الأموی وعمرو بن العاص السهمیَّ، یحرِّضان الناس على طلب الدِّین بزعمهما، ولقد علمتم أنی لم أخالف رسول الله(صلى الله علیه وآله) قط، ولم اعصمه فی أمر، أقیه بنفسی فی المواطن التی ینکص فیها الأبطال، وترعد فیها الفرائص، بنجدة أکرمنی الله سبحانه بها، وله الحمد. ولقد قبض رسول الله(صلى الله علیه وآله) وإنّ رأسه لفی حِجْری، ولقد وَلیتُ غسله بیدی وحدی، تقلِّبه الملائکة المقربون معی. وأیّم الله ما اختلفت أمةٌ قط، بعد نبیها، إلاّ ظهر أهلُ باطلها على أهلِ حقها إلاّ ما شاء الله"(12)
لنسمع الکلمات المضیئة لأبی الهیثم بن التّیهان وکان من أصحاب رسول الله(صلى الله علیه وآله)، بدریًّا نقیباً عقبیّاً یسوِّی صفوف أهل العراق، ویقول: "یا معشر أهل العراق، إنه لیس بینکم وبین الفتح فی العاجل، والجنة فی الآجل، إلاذ ساعة من النهار، فأرْسُوا أقدامَکم وسوُّوا صفوفکم، وأعیروا ربّکم جماجمکم، واستعینوا بالله إلهکم، وجاهدوا عدوَّ الله وعدوکم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم، واصبروا فإن الأرض لله یورثها من یشاء من عباده والعاقبة للمتقین"(13).
أما عن مواقف عمّار بن یاسر، رضوان الله علیه، فی صف الإمام، فهی فی المکانة العلیا، ویمکن أن نتبیَّنها من خلال هذه الروایة: "عن أسماء بن حکیم الفزاری، قال: کنا بصفّین مع علی، تحت رایة عمّار بن یاسر، ارتفاع الضحى، وقد استظللنا برداء أحمر، إذ أقبل رجل یستقری الصفّ حتى انتهى إلینا، فقال: أیّکم عمّار بن یاسر؟ فقال عمّار: أنا عمّار، قال: أبو الیقظان؟ قال: نعم، قال: إنّ لی إلیک حاجةً أفأنطقُ بها سراً أو علانیة؟، قال: اختر لنفسک أیهما شئت، قال: لا بل علانیة، قال: فانطق، قال: إنّی خرجت من أهلی مستبصراً فی الحق الذی نحن علیه، لا أشکُّ فی ضلالة هؤلاء القوم، وأنّهم على الباطل، فلم أزلْ على ذلک مستبصراً، حتى لیلتی هذه، فإنی رأیتُ فی منامی منادیاً تقدّم، فأذّن وَشِهِدَ أنْ لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله(صلى الله علیه وآله)، ونادى بالصلاةن ونادى منادیهم مثل ذلک، ثم أقیمت الصلاة، فصلَّینا صلاة واحدة، وتلونا کتاباً واحداً، ودعونا دعوة واحدة، فأدرکنی الشکّ فی لیلتی هذه، فبت بلیلة لا یعلمُها إلاّ الله، حتى أصبحت، فأتیتُ أمیرَ المؤمنین، فذکرت ذلک له فقال: هل لقیت عمار بن یاسر؟، قلت: لا، قال: فالقه، فانظر ما یقول لک عمّار فاتَّبِعه، فجئتک لذلک. فقال عمّار: تعرف صاحبَ الرایة السوداء المقابلة لی، فإنها رایة عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله(صلى الله علیه وآله)، ثلاث مرات وهذه الرابعة فما هی بخیرهنّ ولا أبرِّهن، بل هی شرُّهن وأفجرهُنّ، أشهِدْت بدراً وأحداً ویوم حُنین، أو شهدها أب لک فیخبرک عنها؟، قال: لا، قال: فإن مراکِزنا الیوم على مراکز رایات رسول الله(صلى الله علیه وآله)، یوم بدر ویوم أحد ویوم حنین، وإنّ مراکز رایات هؤلاء على مراکز رایات المشرکین من الأحزاب، فهل ترى هذا العسکر ومَن فیه؟ والله لوددتُ أن جمیع مَن فیه ممن أقبلَ مع معاویة یرید قتالنان مفارقاً للذی نحن علیه کانوا خَلْقاً واحداً، فقطّعته وذبحته، والله لدماؤهم جمیعاً أحلُّ من دم عصفور، أفترى دم عصفور حراماً؟، قال: لا بل حلال، قال: فإنهم حلال کذلک، أترانی بیّنت لک؟، قال: قد بیّنتَ لی، قال: فاختر أیّ ذلک أحببت.
فانصرف الرجل، فدعاه عمّار ثم قال: أما إنّهم سیضربونکم بأسیافکم حتى یرتابَ المبطلون منکم فیقولوا: لو لم یکونوا على حقّ ما ظهروا علینا، والله ما هم من الحق ما یقذى عین ذباب، والله لو ضربونا بأسیفاهم حتى یبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حق وأنّهم على باطل"(14).
وعمّار، إذ یقف هذا الموقف، إنّما یصغی إلى صوت الله تعالى یدعوه: (وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدِّینُ لِلَّهِ) (15)
مسؤولیة من أرادها أمویة وکرهها إسلامیّة:
قام ملک "بنی فلان" الذین رأى النبی(صلى الله علیه وآله) أنهم ینزون على منبره نزو القردة، ولا نعفی أحداً من المسؤولیة، لا الذین أضعفوا سلطان آل محمد على قلوب الناس وجعلوا منهم مستشارین عند الضرورة، ولا الذین جعلوا الإمام علیاً سادساً فی ما أسموه بالشورى، وقد قال (علیه السلام) فی ذلک: "متى اعترض الریب فیَّ مع الأوّل منهم، حتى صرت أُقْرَنُ إلى هذه النظائر"، ولا الذین مهّدوا لمعاویة سلطانه فی الشام، ولما رأوا ما هو فیه من الأبهة والسلطان قالوا: "لا نأمرک ولا ننهاک"، کأن ابن آکلة الأکباد استثناء، ولا الذین حرصوا على سلب أهل البیت أموالهم التی أعطیت لهم من قبل السماء، فأخذوا فدکاً من الزّهراء وحرموا آل محمد حقهم فی الخمس، ولا الذین حرصوا على إعطاء بنی أمیة ما یتقوون به لإقامة دولتهم، فأعطوا مروان بن الحکم وابن أبی سرح خمس غنائم أفریقیا، ولا الذین أشعلوا نار الفتنة فی موقعة الجمل،... الخ الخ، کلهم مسؤولون وشرکاء فی هذه الکارثة (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْـُولُونَ * مَا لَکُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْیَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (16)، کلهم أرادوها أمویة وکرهوها إسلامیّة خالصة لله.

شریعة ملوک السّوء:
لا بأس بأن نورد نماذج من تطبیق الشریعة الإسلامیة، على الطریقة الأمویة، وهو ما یتمناه بعض المخدوعین فی هذا الزمان:

أولاً: النهج الأموی یبیح شرب الخمور
روى أحمد بن حنبل فی مسنده عن عبد الله بن بریدة قال: "دخلت أنا وأبی على معاویة فأجلسنا على الفرش، ثم أتینا بالطعام، فأکلنا. ثم أتینا بالشراب، فشرب معاویة، ثم ناول أبی، ثم قال: ما شربته منذ حرمه رسول الله"(17)

ثانیاً: النهج الأموی یبیح الربا
أخرج مالک والنسائی وغیرهما، من طریق عطاء بن یسار أنَّ معاویةَ باعَ سِقایَة من ذهب، أو ورق، بأکثر من وزنِها، فقال له أبو الدرداء(رضی الله عنه): سمعتُ رسول الله(صلى الله علیه وآله)، یَنْهى عن مِثْلِ هذا إلاّ بِمِثْل، فقال له معاویة: ما أرى بمثلِ هذا بأساً(18)

ثالثاً: استلحاق زیاد
"وصّى رسول الله(صلى الله علیه وآله)، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر". متفق علیه.
"وقال (صلى الله علیه وآله) من ادعى إلى غیر أبیه، وهو یعلم أنه غیر أبیه، فالجنة علیه حرام". رواه البخاری ومسلم وأبو داود.
أمّا ابن آکلة الأکباد فجاء بزیاد، وکان یدعی زیاد ابن أبیه، وتارة زیاد ابن أمّه، وتارة زیاد بن سمیّة، وأقام الشهادة أن أباه أبا سفیان قد وضعه فی رحم سمیّة، وکانت بغیّا، وسماه زیاد بن أبی سفیان لیستخدمه فی قمع المسلمین الشیعة وقتلهم.
رابعاً: قتل الأحرار من أصحاب محمد(صلى الله علیه وآله)
قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَ لِکَ کَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَ ائِیلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَیْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِى الاَْرْضِ فَکَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعًا وَمَنْ أَحْیَاهَا فَکَأَنَّمَآ أَحْیَا النَّاسَ جَمِیعاً) (19)
روى الطبری فی تاریخه: "استعمل معاویة المغیرة بن شعبة على الکوفة وأوصاه: لا تحجم عن شتم علی وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له، والعیب على أصحاب علی والإقصاء لهم، وترک الاستماع منهم، وبإطراء شیعة عثمان... والإدناء لهم والاستماع منهم. وأقام المغیرة على الکوفة عاملاً لمعاویة سبع سنین وأشهراً، وهو من أحسن شیء سیرة، وأشدّه حبّاً للعافیة غیر أنه لا یدع ذم علی والوقوع فیه والعیب لقَتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزکیة لأصحابه، فکان حجر بن عدی، إذا سمع ذلک قال: بل إیاکم فذمّم الله ولعن. ثم قال فقال: إنّ الله عزّ وجلّ یقول: (کُونُواْ قَوَّ مِینَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ) (20) وأنا أشهد أن من تذمّون وتعیرون لأحق بالفضل وإن من تزکّون وتطرون أولى بالذم"(21)
واستمرت هذه الحال حتى ولی زیاد الکوفة فقال مثلما کان یقول المغیرة، وردّ علیه حجر رضوان الله علیه بمثل ما کان یرد على المغیرة، فأرسل زیاد إلى أمیره معاویة فأمر باعتقاله (وفقاً لقانون طوارىء بنی أمیة) وأرسل إلى ابن آکلة الأکباد مشدوداً فی الحدید فأمر بقتله، فقال حجر للذین یلون أمره: دعونى حتى أصلی رکعتین، فقالوا: صلّ، فصلى رکعتین خفّف فیهما ثم قال: لو لا أن تظنوا بی غیر الذی أنا علیه، لأحببت أن تکونا أطول مما کانتا، ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عنی حدیداً ولا تغسلوا عنی دماً فإنی ألاقی معاویة غداً على الجادة، ثم قدم فضربت عنقه.
لم یکن حجر بن عدی النموذج الوحید الدال على ظلم هذه الدولة الجائرة التی یزعم جاهلو أمرها، وحدهم، أنها کانت تُحکم أو تَحکم بشریعة الإسلام. لقد کان بنو أمیّة یدأبون لیل نهار لإطفاء نور الله، وفی الوقت نفسه کان خط الأئمة (علیهم السلام) قد تحول إلى مشروع تأسیس لإقامة دولة المهدی المنتظر وإن تأخر ذلک قروناً وقروناً. أما بنو أمیة فیجهدون لإحداث أکبر قدر من الدمار بالأمة الإسلامیة وبرجالاتها وبقیمها. وفی الوقت نفسه کان خط آل بیت محمد حریصاً على إبقاء قیم الإسلام الرسالی الأصیل حیة ومتوهجة، والتأکید على أن مرحلة التمهید وتأسیس دولة الإمام المهدی لیست مرحلة هدنة سلبیة، ولیست إیثاراً للإبقاء على حیاة مجموعة من البشر وإنما إبقاءً للقیم وإمدادها بکل ما یبقیها متألقة وحیة حتى زمن الظهور.
محاولة تحویل "النهج الأموی" إلى قدر أبدی:
نفذ معاویة سیاسة واضحة المعالم، من أبرز معالمها:
أ ـ لعن آل البیت (علیهم السلام) ، وخاصة إمام الأئمة علی بن أبی طالب (علیه السلام) على منابر الأمة، صباح مساء.
ب ـ العمل على رفع مکانة مناوئی أهل البیت ومنافسیهم باختلاق الروایات المنسوبة إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله).
ج ـ القضاء على خطوط الدفاع بقتل رجال الشیعة واغتیالهم، مثل حجر وعمرو ابن الحمق، کما أسلفنا بل وحتى قتل أی معارض آخر له وزن وإن لم یکن من شیعة أهل البیت، ومثال ذلک سعد بن أبی وقاص وعبد الرحمن بن خالد بن الولید.
د ـ إستعمال سیاسة الرشوة وإفساد الذمم لاستمالة من تبقى.
وهذه السیاسات نفسها هی التی بدأ بها تمدّده السرطانی فی جسد الأمة.

امتداد الملک، یزید ولی عهد:
أراد ابن آکلة الأکباد أن یمهِّد الأمر لیزید ابنه لیمتد الملک فی عقبه حتى قیام الساعة. ومن یتتبع أخبار الرواة، فی هذا الصدد، یجد تبایناً، فمن قائل یقول:
إن هذا الأمر کان بمبادرة من المغیرة بن شعبة لیمد له معاویة فی ولایته على الکوفة، ومن قائل یقول: إن هذا کان بأمر من معاویة، واتفاق مع الضحّاک بن قیس، وما اعتقده أن هذه أمور واحدة... کل المنافقین یعلمون رغبة سیدهم والکل یتبارى فی اختیار الأسلوب الملائم للتنفیذ، ولا باس بإیراد بعض النماذج التی توضح طبیعة الملک الأموی وسیاسته:
"أوفد المغیرة بن شعبة عشرة من شیعة بنی أمیة إلى معاویة، لیطالبوا ببیعة یزید، وعلیهم موسى بن المغیرة، فقال معاویة: لا تعجلوا بإظهار هذا، وکونوا على رأیکم، ثم قال لموسى: بکم اشترى أبوک هؤلاء من دینهم، قال: بثلاثین ألفاً، قال: لقد هان علیهم دینهم".
لما اجتمعت عند معاویة وفود الأمصار بدمشق، بإحضار منه، دعا الضحاک بن قیس، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغتُ من بعض موعظتی وکلامی، فاستأذنی للقیام، فإذ أذنت لک، فاحمد الله تعالى، واذکر یزید، وقل فیه الذی یحق له علیک، من حسن الثناء علیه، ثم ادعنی إلى تولیته من بعدی، فإنی قد رأیتُ وأجمعتُ على تولیته، فاسأل الله فی ذلک، وفی غیره الخیرة وحسن القضاء. ثم دعا عدة رجال فأمرهم أن یقوموا إذا فرغ الضحاک، وأن یصدقوا قوله، ویدعو إلى یزید. ثم خطب معاویة فتکلم القوم بعده على ما یروقه من الدعوة إلى یزید فقال معاویة: أین الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتکلم؟ فقال الأحنف، فحمد الله وأثنى علیه وقال بعد مقدمة: إن أهل الحجاز وأهل العراق لا یرضون بهذا، ولا یبایعون لیزید ما کان الحسن حیاً.
فغضب الضحّاک ورد غاضباً: ما للحسن وذوی الحسن فی سلطان الله الذی استخلف به معاویة فی أرضه؟ هیهات ولا تورث الخلافة عن کلالة ولا یحجب غیر الذکر العصبة، فوطّنوا أنفسکم یا أهل العراق على المناصحة لإمامکم، وکاتب نبیکم وصهره، یسلم لکم العاجل، وتربحوا من الآجل. ثم قام الأحنف بن قیس فحمد الله وأثنى علیه فقال: قد علمت أنک لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر علیها قصعا، ولکنک أعطیت الحسن بن علی من عهود الله ما قد علمت، لیکون له الأمر بعدک(22)
أما عبد الرحمن بن خالد بن الولید، وکان من خواص أصحاب معاویة فقد لقی حتفه مسموماً حیث حدثته نفسه بالسلطة والإمارة بدلاً من یزید.
جاء فی تاریخ الطبری: "أن عبد الرحمن بن خالد بن الولید کان قد عظم شأنه بالشام، أو مال إلیه أهلها کما کان عندهم من آثار أبیه خالد بن الولید ولغنائه عن المسلمین فی أرض الروم وبأسه حتى خافه معاویة، وخشی على نفسه منه لمیل الناس إلیه فأمر ابن آثال أن یحتال فی قتله وضمن له إن هو فعل ذلک أن یضع عنه خراجه ما عاش وأن یولیه جبایة خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن بن خالد لحمص منصرفاً من بلاد الروم دس إ ابن آثال شربة مسمومة مع بعض ممالیکه فشربها، فمات بحمص"(23)
ویحکی لنا التاریخ صورة أخرى من مشاورات معاویة فی خلافة یزید، ومن بینها کلمات ذلک الأحمق الذی قام فقال: "هذا أمیر المؤمنین ـ وأشار إلى معاویة ـ فإن هلک فهذا ـ واشار إلى یزید ـ ومن أبى فهذا ـ وأشار إلى سیفه ـ قال معاویة: إجلس فأنت سید الخطباء"(24)
لم یکن عبد الرحمن بن خالد وحده هو الذی طمع فی الخلافة بعد معاویة، فهناک سعید بن عثمان بن عفان الذی وجد له أنصاراً من أهل المدینة یقولون: والله لا ینالها یزید حتى یعض هامه الحدید، إن الأمیر بعده سعید، ولکن کان أمره هیناً; حیث خرج من حلبة المنافسة راضیاً بولایة خراسان(25)
من الواضح أن الصراع السیاسی کان دائراً على أشدّه حول قضیة خلافة معاویة، وقد هددت هذه القضیة الصف الأموی بالتفکک والانهیار، وأن الخلافة الیزیدیة لم تکن أمراً مستقراً حتى فی داخل البیت الأموی نفسه، حتى أن معاویة اضطر لتأجیل إعلان هذا الأمر إلى ما بعد هلاک زیاد، وأن مروان بن الحکم، والی معاویة على المدینة، عارض هذا الأمر بشدة ما اضطر معاویة إلى إعفائه من منصبه، ویمکننا أن نُرجع هذه المعارضة الداخلیة لعدة أسباب منها:
أ ـ إن انتقال السلطة إلى یزید، من طریق ولایة العهد، کان اقتباساً من النظام السیاسی البیزنطی الذى لم یعرفه العرب فی سابق تاریخهم، ولعل قرب موقع معاویة من دولة الروم کان مصدر معرفته بهذا النظام الملکی الإمبراطوری الذی صار هو النظام السیاسی فی الأمة الإسلامیة فی ما بعد.
ب ـ إن هذا الأسلوب کان إهداراً لنظام الشورى الذی توهم المسلمون أنه القانون الأساسی للمسلمین. والواقع أن الشورى لم تکن قد مورست بصورة جیدة فی الحِقَب السابقة مما یسمح باستقرار معالمها وأسالیب ممارستها. فأن یأتی معاویة لینقل المداراة إلى دیکتاتوریة صریحة کان هذا أمراً ثقیلاً على کثیرین، وخاصة على أولئک الذین توهموا أنهم أهل الحل والعقد، ولم یکن معاویة لیبقی على نفوذهم ولا على وجودهم نفسه، إذا تعارض ذلک مع رغباته السلطویة الجامحة.
ج ـ صفات یزید الشخصیة وافتقاده الحد الأدنى من المقومات جعلت زیاداً، وهو من هو فی بغیه وعدوانه ونسبه، کارهاً لبیعته وإمارته قائلاً: "ویزید صاحب رَسْلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصید"(26) وکتب إلى معاویة یأمره بالتؤدة وألا یعجل".
لم تستعصِ الأغلبیة على معاویة ولا على أسالیبه، فهناک المتطوعون السابقون إلى مرضاة الطواغیت، مثل الضحّاک بن قیس والمغیرة بن شعبة وسمرة بن جندب، ولا بأس هنا بأن نورد بعضاً من منجزات سمرة، هذا "الصحابی" الذی استخلفه زیاد على الکوفة ثم عاد إلیه فوجده قد قتل ثمانیة آلاف من الناس فقال له: "هل تخاف أن تکون قد قتلت أحداً برئیاً؟، قال: لو قتلت إلیهم مثلهم ما خشیت. أو کما قال، وعن أبی سوار العدوی قال: قتل سمرة من قومی فی غداة سبعة وأربعین رجلاً کلهم قد جمع القرآن"(27) "ثم عزله ـ معاویة ـ فقال سمرة: لعن الله معاویة والله لو أطعتُ الله کما أطعتُ معاویة ما عذّبنی أبدا"(28)
لقد أجاد معاویة سیاسة "فرّق تسد"، فلما أحس أن رجالات المدینة یمتنعون من بیعة یزید، راسلهم أولاً ثم ذهب إلیهم نفسه، فی عام خمسین للهجرة، مستخدماً سیاسة المخادعة عازفاً على أوتار النفوس ومکامن الأهواء، عالماً أن الامة التی أسلمت علیاً والحسن لن تجتمع کلمتها خلف الحسین (علیه السلام) ، ومن ثمّ فإن المطلوب هو کسب الوقت وتفتیت المعارضة وضرب الناس بعضهم ببعض حتى یصل الملک إلى یزید غنیمة باردة.

نهج الثورة الحسینیة:
ما أحوج الأمة، وسط هذا الظلام الأموی وهذه الفتنة العمیاء إلى موقف حسینی یبدد الظلمات، موقف حسینی لا یتحدث عن الحق وإنما یفعله، ولا یفعله فعلاً یراه بعض الناس ویغفل عنه بعضهم الآخر، وإنما یفعله فعلاً یبقى مسطوراً ومحفوراً فی عمق الأرض وفی عمق الوجدان البشری. ما أحوج الأمة الإسلامیة والبشریة کلها إلى هذا النور المتوهج لتبقى شمس الحسین تهدی الحائرین وتدل السائلین على الحدود الفاصلة بین الحق والباطل، بین مرضاة الله وسخطه.
هکذا کانت ثورة الحسین. لم تکن حالة انفعالیة نشأت عن حالة الحصار التی تعرض لها أبو عبد الله الحسین ولا کانت حرکة إلى المجهول أملتها أجواء رسائل البیعة المشکوک فی صدقها، منذ البدء کانت فعلاً مدروساً وخططاً منذ لحظة ولادته وبدأت خطوات تنفیذها فی اللحظة التی تخیل فیها ابن آکلة الأکباد أنه لا إسلام حقیقیّاً بعد الیوم، ولیبق الدین لعقٌ على ألسنة بعض القادة یصعدون به على أعناق الناس یطلبون الدنیا بادعاء النسک والزهادة على أن یدعوا ما لقیصر لقیصر، وما تبقى إن تبقى شیء فهو لله.

اکتمال عناصر التحرّک:
کتب أهل الکوفة إلى الحسین (علیه السلام) یقولون: لیس علینا إمام، فأقبل لعل الله أن یجمعنا بک على الحق. وتوالت الکتب تحمل التوقیعات تدعوه إلى المجیء لاستلام البیعة وقیادة الأمة فی حرکتها فی مواجهة طواغیب بنی أمیة، وهکذا اکتملت العناصر الأساسیة للحرکة الحسینیة، وهی:
أ ـ وجود قیادة شرعیة تمثل التصور الحقیقی للإسلام، وهی قیادة أبی عبد الله الحسین.
ب ـ وجود الظروف الداعیة إلى حمل لواء التغییر، وتتمثل فی تمادی الفساد الأموی ورغبته فی مصادرة إرادة الأمة مرة واحدة وإلى الأبد فی شکل مبایعة یزید "القرود".
ج ـ وجود إرادة جماهیریة تطلب التغییر وتستحث الإمام الحسین للمبادرة إلى قیادة الحرکة وکان موقع هذه الإرادة فی الکوفة، تمثلت فی رسائل البیعة القادمة من أهلها.
وهکذا لم یکن بوسع أبی عبد الله الحسین أن یقف من هذه الأمور کلها موقف المتفرج الهارب بنفسه من ساحة الوغى أو "الفار بدینه" إلى ساحات الاعتزال والانعزال، وهی جمیعها أشکال مختلفة من الهروب والتهرب من تحمل المسؤولیة، وهو مسلکٌ فضلاً عن ضرره البلیغ على الواقع الراهن فی تلک اللحظة یعطی المبرر لکل من تعرض لهذه الظروف أو ما شابهها أن یهرب بنفسه وینجو بشحمه ولحمه حتى یستوفی الأجل المحتوم، ویبقى فی وجدان الأمة رمزاً من رموز الکهنوت الهارب من مواجهة الشیطان فی أرض الواقع واللائذ بالنصوص والتبریرات.
کان بوسع الحسین (علیه السلام) ، أن یفعل مثلما فعل ابن عمر فیبایع بیعة المضطر لیزید، ونضیف إلى لائحة الروایات التبریریة التی رواها الرجل على لسانه أو على لسان النبی الأکرم عدة نصوص أخرى ربما کانت تحتل مکاناً أبرز من نصوص أبن عمرو کان البخاری ومسلم سیحتفلان بها، فها هو ابن الرسول وعلی وفاطمة یوجب السمع والطاعة لیزید القرود ویدعو إلى توحید الجماعة صفاً واحداً خلف حفید آکلة الأکباد وحفید أبی سفیان عدو الله ورسوله حتى آخر نفس.
ولو کان فعل هذا ـ وحاشاه ـ لاستشهد به الأفاقون والمنافقون والمخادعون فی کل موقف یرون فیه ضرورة إسناد حزب الشیطان ومنعه من الانهیار، ولما قال أحد: ثار الحسین رافضاً الظلم واستشهد فی سبیل الله، ولماتت هذه الأمة إلى نهایة الدهر.

إقامة الحجّة وبیان الحقیقة:
ثمّ جاء صباح عاشوراء، ووقف الحسین (علیه السلام) یدعو ربه: "أللهم أنت ثقتی فی کل کرب ورجائی فی کل شدة، وأنت لی فی کل أمر نزل بی ثقة وعدة، کم من هم یضعف فیه الفؤاد وتقل فیه الحیلة ویخذل فیه الصدیق ویشمت فیه العدو أنزلته بک وشکوته إلیک رغبة منی إلیک عمن سواک ففرجته وکشفته فأنت ولی کل نعمة وصاحب کل حسنة ومنتهى کل رغبة"(29)
ثم إن الحسین أضرم ناراً وراء البیوت لئلا یأتیه أعداء الله من الخلف، فجاءه شمر بن ذی الجوشن وقال: "یا حسین استعجلت النار فی الدنیا قبل یوم القیامة؟،فقال الحسین: من هذا؟، کأنّه شَمر بن ذی الجوشن؟ فقالوا: نعم أصلحک الله، هو... هو. فقال: یا ابن راعیة المعزى أنت أولى بها صُلیَّاً. فقال مسلم بن عَوْسَجَة: یا ابن رسول الله جُعلتُ فداک ألا أرمیه بسهم. فإنه قد أمکننی ولیس یسقط سهم، فالفاسق من أعظم الجبارین. فقال له الحسین: لا ترمِه فإنی أکره أن أبدأهم"(30)
سلام الله علیک یا أبا عبد الله،ها أنت، وأنت فی قمة المواجهة مع أعداء الله من بنی أمیة محافظاً على موقف فقهی، وأخلاقی، وعقائدی راسخ.
سلام الله علیک یا من أنت من نور أبیک وأمک، ومن نور رسول الله(صلى الله علیه وآله)، فالإمام علی (علیه السلام) لم یبدأ أعداءه، أعداء الله یوماً بقتال لا أصحاب الجمل، ولا الخوارج، ولا بنی أمیة یوم صفین، فالقوم أدعیاء إسلام دخلوا هذا الدین من بوابة النبوة، ولسنا بصدد تکفیرهم ولا استباحة دمائهم (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَیْکُمْ) (31)، (فَلاَ عُدْوَ نَ إِلاَّ عَلَى الظَّــلِمِینَ) (32)
هذا هو المبدأ الراسخ فی العلاقة بین أبناء الأمة المنتمین إلیها حتى ولو کان ذلک بمجرد الإسم والادعاء. وإن فتح باب التکفیر وقتل المسلمین، حتى الأدعیاء منهم، فإن ذلک یعنی فتح باب فتنة لا یُغلَق.

معانی خروج حرائر آل البیت:
بقی أن نسجل ما کشفته الأحداث عن معانى خروج حرائر أهل البیت (علیهم السلام) مع الحسین. لقد قتل الحسین (علیه السلام) ولم یشهد أحد من المؤمنین هذه الجریمة إلا حرائر أهل بیت النبوة، من ینعاک إذاً یا ابا عبد الله إلا بنات علی وفاطمة؟،ها هی زینب(علیها السلام)حتى تمرُّ بالحسین (علیه السلام) صریعاً فتبکیه، وتقول: "یا محمداه یا محمداه صلّى علیک ملائکة السماء هذا الحسین بالعرا مرمَّل بالدما مقطع الأعضا، یا محمداه وبناتک سبایا وذریتک مقتلة تسفی علیها الصبا. فأبکت والله کل عدو وصدیق"(33)
ثم ها هی أسیرة فی مجلس ابن زیاد، فیسأل: "من هذه الجالسة؟. فلم تکلّمه، فقال ذلک ثلاثاً کل ذلک لا تکلّمه، فقال بعضُ إمائها: هذه زینب ابنة فاطمة. فقال لها عبید الله: الحمد لله الذی فضحکم وقتلکم وأکذب أحدوثتکم. فقالت: الحمد لله الذى أکرمنا بمحمد(صلى الله علیه وآله) وطهرنا تطهیراً لا کما تقول أنت، إنما یفتضح الفاسق ویکذب الفاجر. قال: کیف رأیت صنع الله بأهل بیتک؟. قالت: کتب علیهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسیجمع الله بینک وبینهم فتحاجون إلیه وتخاصمون عنده. قال: فغضب ابن زیاد واستشاط. قال له عمر بن حریث: أصلح الله الأمیر إنما هی امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشیء من منطقها (...)(34) فقال لها ابن زیاد: قد أشفى الله نفسی من طاغیتک والعصاة والمردة من أهل بیتک. فبکت ثم قالت: لعمری لقد قتلت کهلی وأبرت أهلی وقطعت فرعی واجتثثت أصلی فإن یشفک هذا فقد اشتفیت"(35)

محاولات إخفاء الحقیقة، ابن کثیر یناقض نفسه:
کلمات واضحة یفهمها من یقرأها، تستعصی على التزویر، لکن ید الغش والخیانة أخفت کل شیء وزورت کل شیء، ونشأت أجیال وأجیال لا تعرف من ذکرى الحسین إلا أنه ابن بنت رسول الله(صلى الله علیه وآله)، وأنه خرج یطلب الملک والإمارة فخذله المسلمون الشیعة، وقتله بنو أمیة وهم أصحاب الدولة الشرعیة، وأما الشیعة فهم یضربون أنفسهم ویسیلون دماءهم لأنهم قتلوه، قلیل أولئک الذین یعرفون الحقیقة بتفصیلاتها حتى ابن کثیر یکتب فصلاً، فی البدایة والنهایة، بعنوان "صفة مقتل الحسین بن علی(رضی الله عنه) مأخوذة من کلام أئمة هذا الشأن لا کما یزعمه أهل التشیع من الکذب الصریح والبهتان".
ولا یلام ابن کثیر الدمشقی على حب قومه من بنی أمیة، ولا على سبابه للمسلمین الشیعة واتهامه لهم بالکذب الصریح والبهتان.
ولکن العجب کل العجب انه لم یخالف حرفاً واحداً مما رواه أئمة التشیع فی کتبهم عن مقتل الحسین (علیه السلام) ، ویکذب عدة روایات وردت فی هذا الشأن لیست محوریة ولا أساسیة فی القضیة وهو یتناقض مع نفسه فیقول: "ولقد بالغ الشیعة فی یوم عاشوراء فوضعوا أحادیث کثیرة کذباً وفحشاً من کون الشمس کسفت یومئذ حتى بدت النجوم..."(36)
ثم یقول ناقضاً ما ذهب إلیه: "وأما ما روی من الأحادیث والفتن التی أصابت من قتله فأکثرها صحیح!!! فإنه قلّ من نجا من أولئک الذین قتلوه من آفة أو عاهة فی الدنیا فلم یخرج منها حتى أصیب بمرض وأکثرهم أصابهم الجنون"(37)
ثم یناقض نفسه، ویتخبط ویواصل الشتم والسب، ویقول: "للشیعة والروافض فی صفة مصرع الحسین کذب کثیر وأخبار باطلة وفی ما ذکرناه کفایة، وفی بعض ما أوردناه نظر، ولو لا أن ابن جریر وغیره من الحفاظ ذکرو ما سقته وأکثره من روایة أبی مخنف لوط بن یحیى، وقد کان مسلماً شیعیاً وهو ضعیف الحدیث عن الأئمة، ولکنه إخباری حافظ عنده من هذه الأشیاء ما لیس عند غیره. ثم یقول: "وقد أسرف الرافضة فی دولة بنی بویه فکانت الدبادب تضرب بغداد ونحوها من البلاد فی یوم عاشوراء" إلخ...
"وقد عاکس الرافضة والشیعة یوم عاشوراء النواصب من أهل الشام فکانوا یوم عاشوراء یطبخون ویغتسلون ویتطیبون ویلبسون أفخر ثیابهم، ویتخذون ذلک الیوم عیداً یصنعون فیه أنواع الأطعمة ویظهرون فیه السرور والفرح یریدون بذلک عناد الروافض ومعاکستهم"(38)
إذاً الشیخ ابن کثیر یقر ویعترف أن أجهزة الدعایة الأمویة قلبت الحقائق وحولت یوم الکارثة إلى عید وسرور، وهو الذی ما زال متداولاً إلى یومنا هذا. ویمضی الرجل یکشف على استحیاء دخیلة نفسه فیقول: "وقد تأول علیه من قتله أنه جاء لیفرق کلمة المسلمین بعد اجتماعها ولیخلع من بایعه من الناس واجتمعوا علیه فقدورد فی صحیح مسلم الحدیث بالزجر عن ذلک والتحذیر منه والتوعید علیه".
عفواً، أیها الشیخ، یبدو أن "خطأ" الإمام الحسین (علیه السلام) أنه ولد واستشهد قبل مجیء "مسلم" وکتابه، فلم یدر بالحدیث المزعوم على رسول الله(صلى الله علیه وآله)، ولم یعلم أن الأمة بعد قرنین ستعرف "صحیح مسلم" وتجعل "صحیح الحسین". عفواً، أیها الشیخ، فقد جهلت الأمة (حدیث الثقلین): "إنی تارک فیکم ما إن تمسکتم به بعدی لن تضلوا أبداً کتاب الله وعترتی أهل بیتی وأنهما لن یفترقا حتى یردا علی الحوض"، وهو حدیث رواه "مسلم" فی صحیحه بعد الحسین بقرنین، لقد جهلت الأمة هذا الحدیث یوم کان علیها أن تذکره ثم روته بعد ذلک ولم تفهمه هذه الأمة التی نسیت وتناست ما صحّ نصاً وما جسَّده الإمام الحسین، مارست الدین على الطریقة الأمویة ومن حاول المقاومة کان مصیره القتل کما أسلفنا من قبل.
ثم یمضی الشیخ فی منطقه ویقول بعدما عدّد القتلى ممن عدّهم أفضل من الحسین وأبیه: "ولم یتخذ أحدٌ یومَ موتهم مأتماً یفعلون فیه ما یفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة یوم صرع الحسین"(39). ثم یناقض نفسه کعادته: "وأحسن ما یقال، عند ذکر هذه المصائب وأمثالها، ما رواه علی بن الحسین، عن جده رسول الله(صلى الله علیه وآله)أنه قال: ما من مسلم یصاب بمصیبة فیتذکرها وإن تقادم عهدها فیحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل یوم أصیب فیها".
إننا نستعرض کلمات ابن کثیر لأنها نموذج لحالة التناقض والارتباک التی وقع فیه الکثیرون ممن أذهلهم الحدث وعجزوا عن متابعته وقول کلمة الحق فیه، ومن أولئک الذین أرادوا استتباب الأمر لبنی أمیة وظنوا أن قضیة آل البیت قد طویت وانتهت فلما أعلن الحسین ثورته وخط کلمة الحق بدمائه على الأرض، وفی السماء بل وفی الکون کله، لجأوا مرة أخرى إلى الکتمان والتزییف لعل الناس ینسون، ولکن هیهات هیهات.

من یُقیل عثرة الأمة المنکوبة؟:
وهکذا انقضت هذه الجولة ونال کل طرف ما یستحقه، نال الحسین وآل بیته الشهادة التی أرادوها واستحقوها، فیما نال بنو أمیة ومن والاهم اللعنة الدائمة، والخسران المبین.
أما هذه الأمة المنکوبة فلا نجد من یصف حالها ومآلها إلا هذه الروایة التی یذکرها الطبری فی "تاریخ الأمم والملوک" فیقول ما نصّه: "لما وضع رأس الحسین (علیه السلام) بین یدی ابن زیاد أخذ ینکت بین ثنیتیه ساعة، فلما رآه زید بن أرقم لا ینجِمُ عن نکته بالقضیب قال له:
أعلُ بهذا القضیب عن هاتین الثنیتین فهو الذی لا إله غیره لقد رأیت شفتی رسول الله(صلى الله علیه وآله) على هاتین الشفتین یقبلهما. ثم انفضخ الشیخ یبکی، فقال له ابن زیاد: أبکى الله عینیک، فو الله لو لا أنک شیخ قد خرفتَ وذهب عقلک لضربت عنقک. قال: فنهض فخرج. فلما خرج سمعت الناس یقولون: والله لقد قال زید بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زیاد لقتله، فقلت: ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو یقول: ملک عبد عبداً، فاتخذهم تُلدا. أنتم یا معشر العرب العبید بعد الیوم قتلتم ابن فاطمة وأمَّرتم ابن مرجانة، فهو یقتل خیارکم ویستعبد شرارکم فرضیتم بالذل فبعداً لمن رضی بالذل"(40)
أی والله، أیها الشیخ، إنها لشهادة حق ولکن بعد فوات الأوان، ولکنها تحکی الواقع الذی احتار الناس فی تفسیره، لماذا وکیف صرنا لما نحن علیه الآن عبید فی دیارنا لا نملک من الظالمین دفعاً ولا نفعاً، هذا یحکی لنا عن الحریة فی أوروبا! وذاک یحکی لنا عن طبیعة هذا الشعب أو ذاک الذی یحب العبودیة ولم یحاول أحد أن یصل إلى الحقیقة.
إن ما جرى علینا هو استجابة لدعوة دعاها أبو عبد الله على من قتله أو رضی بذلک أو سمع فلم ینکر. فها هو أبو عبد الله الحسین یدعو علیهم وقد أثخنته الجراح: "اللهم امسک عنهم قطر السماء، وامنعهم برکات الأرض، اللهم فإن متعتهم إلى حین ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائقَ قِددا ولا تُرْض عنهم الولاة أبداً فإنهم دعونا لینصرونا فعدوا علینا فقتلونا"(41)
ثم هو قبل قتله مباشرة: "سمعته یقول قبل أن یقتل وهو یقاتل على رجلیه قتالَ الفارس الشجاع یتقی الرمیة ویفترض العورة ویشد على الخیل وهو یقول: أعلى قتلی تحاثون؟، أما والله لا تقتلون بعدی عبداً من عباد الله، الله أسخط علیکم لقتله منی وایم الله إنی لأرجو أن یکرمنی الله بهوانکم ثم ینتقم لی منکم من حیث لا تشعرون، أما والله أن لو قد قتلتمونی لقد ألقى الله بأسکم بینکم وسفک دماءکم ثم لا یرضى لکم حتى یضاعف لکم العذاب الألیم".
وهکذا ضاعت الفرصة تلو الفرصة من هذه الأمة دون أن تستفید منها وکان أمر الله قدراً مقدوراً.
والفرص لا تمنح للأمم مائة مرة، ولا عشرین مرة، ولا عشر مرات، إن الفرص التاریخیة لإصلاح الأحوال والسیر على نهج مستقیم لا تأتی إلاّ قلیلا. وهکذا ضاعت من هذه الأمة فرصة السیر على نهج نبیها ثلاث مرات، فرصة الإمام علی، ثم فرصة الإمام الحسن، ثم کانت فرصة الإمام الحسین هی القاصمة التی ما بعدها قاصمة، وکان لابد من انتظار طویل. وأسدل ستار اللیل فی سماء هذه الأمة وهو لیل لن یجلوه إلا ظهور قائم أهل البیت (علیهم السلام) ، الإمام الثانی عشر محمد المهدی المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشریف).
وهکذا قُدِّر لنا أن ننتظر ذلک الانتظار الطویل وأن نعیش ذلک الصراع المریر بین قوى الحق والباطل داخل هذه الأمة، وأن نرى کل هذه المصاعب والویلات من سفک دماء وطاقات تهدر فی صراعات داخلیة ورؤوس تطیر وسجون تملأ وغزوات خارجیة تتریة وصلیبیة وأخیراً صهیونیة وقبلها أوروبیة وحکومات من کافة الأنواع والأشکال مملوکیة وعباسیة وأمویة وعثمانیة، وهل هناک أسوأ من أن یحکم الممالیک العبیدُ أمة وهم لا یملکون حق التصرف فی ذواتهم، کل هذه الحکومات أکثرت من الظلم، وقلّلت من العدل وادعى الجمیع أنهم یطبقون الإسلام، والکل یقتل بالظنة، والکل یستبیح الخمور، وانتهاک الأعراض وأخیراً جاءت إلینا الحکومات العلمانیة والقومیة والاشتراکیة والملکیة والشیوعیة، جربوا فینا کل شیء إلا العدل، ذلک الممنوع علینا من یوم أن جاء بنو أمیة.
وهکذا قدر لنا أن نعیش الصراع والانتظار.
المصادر :
1- تاریخ الأمم والملوک للطبری: 3 / 561، مؤسسة الأعلمی، بیروت
2- الطبری، م. س: 3 / 559 ـ 560
3- مقاتل الطالبیین: 76 ـ 77، مؤسسة الأعلمی، بیروت، 1408هـ ـ 1987م.
4- تاریخ الطبری: 3 / 552، مؤسسة الأعلمی، بیروت
5- تاریخ الطبری: 3 / 552 ـ 553
6- المصدر نفسه: 3 / 554
7- المصدر نفسه: 3 / 554
8- تاریخ الطبری: 4 / 103
9- المصدر نفسه.
10- تاریخ الأمم والملوک لابن جریر الطبری: 4 / 104
11- المصدر نفسه: 4 / 107
12- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، تحقیق محمد أبو الفضل ابراهیم: 5 / 181، الطبعة الأولى، دار الجیل ـ بیروت 1407 هـ ـ 1987م
13- المصدر نفسه: 5 / 190
14- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، تحقیق محمد أبو الفضل ابراهیم: 5 / 256 ـ 257 ـ 258، ط1، دار الجیل ـ بیروت 1407 هـ ـ 1987م
15- البقرة: 193
16- الصافات: 24 ـ 26
17- مسند أحمد بن حنبل: 5 / 407، ح 23005، ط دار الکتب العلمیة بیروت 1413هـ ـ 1993م
18- سنن النسائی بشرح السیوطی: 7 / 279. دار الکتب العلمیة ـ بیروت، الموطأ لمالک بن أنس، تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی: 2 / 634 ح 33 توزیع دار الکتب العلمیة ـ بیروت
19- المائدة: 32
20- النساء: 135
21- تاریخ الطبری: 4 / 188 ـ 190، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات ـ بیروت
22- الإمامة والسیاسة لابن قتیبة الدینوری، تحقیق علی شیری: 1 / 188، 191 ـ 192
23- الإستیعاب فی معرفة الأصحاب للقرطبی: 2 / 372 ـ 373، رقم 1410
24- تاریخ الأمم والملوک للطبری: 4 / 171
25- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر: 3 / 214 ـ 216
26- الإمامة والسیاسة، تحقیق علی شیری: 1 / 213 ـ 214
27- تاریخ الأمم والملوک للطبری: 4 / 224 ـ 225
28- المصدر نفسه: 4 / 176
29- تاریخ الأمم والملوک للطبری: 4 / 321 ط. الأعلمی ـ بیروت
30- المصدر نفسه: 4 / 322
31- البقرة: 194
32- البقرة: 193
33- المصدر السابق: 4 / 348
34- عبارة محذوفة
35- الطبری: م. س: 4 / 349 ـ 350
36- البدایة والنهایة لابن کثیر: 4 / 731
37- المصدر نفسه: 4 / 731
38- المصدر نفسه: 4 / 732
39- المصدر نفسه: 4 / 732
40- تاریخ الأمم والملوک للطبری: 4 / 349 أحداث سنة (61 هـ)
41- المصدر نفسه: 4 / 344 ـ 345

 


source : .www.rasekhoon.net
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مسجد الإمام الصادق يخلو من المصلّين في صلاة ...
شهداء وجرحى في غارات للعدوان السعودي على صنعاء ...
تونس والدعوة الوهابية
اسماعیل الحسنی الشامی
صائب عبد الحميد ( العراق ـ حنفي )- 1
السيد السيستاني يستقبل الرئيس بري وتأكيد على ...
اکرم یونس البرزنجی
ساندرا جونسون (سارا)
المستبصر ألفا عمر باه
السيدي محمد سانكارا

 
user comment