لم تكنزينب ذات سمعة سياسية قبل مصرع الحسين، ولم تشترك يوماً بالخصومات الحزبية على الإطلاق، وعجيب جداً أنها كانت كذلك بالقياس إلى كونها نشأت في بيئة النبوة والخلافة حيث تقطف ما تشاء من آراء القادة و أفكار العظماء المحنكين، ولكنما حصافتها الرزينة أمسكتها إلا عن ممارسة التقوى والاشتغال بتثقيف النساء فقط.. ولذلك تركت ميدان السياسة للعلويين الزعماء إذ كانوا أجدر بقيادة الأمة وأقدر على مكافحة الخصوم والأشرار.
ويقيني أنه لولا واقعة الطف التي أطاحت بأكثر زعماء العلويين يومذاك لما أكرهت زينب على الخروج من عزلتها، أو التكلف بمسألةالدفاع عن ذمام أخيها والاحتجاج على جرائم الأمويين. أما وقد صار أمرها إلى ما ليس عنه محيص فقد أحسنت كل الإحسان بدفاعها واحتجاجها جميعاً ولاسيما حين خطبت في الكوفة والشام، وأماطت لثام الغموض عن شخص الحسين.. وعن أنه ليس رجلاً مجرماً فيستحق القتل، ولا كافراً بالدين فيستوجب التنكيل كما قد صنع به الأدعياء والفتاكون.
وهكذا نهضت زينب بأثقل واجب سياسي في أنسب مناسباته.. وهل كان يرام هذا إلا منها وحدها؟ إنها كانت تعلم حق العلم بأن الناس أغلبهم مخدوعون بالشائعات الأموية فلا يعفرون عن سبط الرسول إلا ما كان يذاع عنه ممسوخاً غير حميد، فكان لابد لها أن تزهق تلك الشائعات حتماً، وأن تحقق من هناك بعض الذي كان يصبو إليه الحسين أيام حياته.
قال الراوي حذلم بن كثير.. قدمت الكوفة في المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة، فرأيت الناس يبكون من حول زينب
وهي تخطب فيهم هذه الخطبة:
(الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والغدر ، أتبكون..؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف، و الكذب والشنف وملق الإماء، وغمز الأعداء؟ ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون..؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدره سنتكم؟ ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة!
ويلكم يا أهل الكوفة.. أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم؟.. ولقد جئتم بها صلعاء عنفاء، سوداء فقماء، خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملاء السماء، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخافه فوت الثأر، وإن ربكم لبالمرصاد).
قال الراوي..
وما كادت زينب تختتم خطبتها هذه في وسط الكوفة حتى سيقت إلى مقرّ الوالي عبيد الله بن زياد بن أبيه، فلما دخلت إليه جلست متنكرة بين الأسرى فسأل ابن زياد: من هذه المتنكرة؟ فقيل له: إنها زينب بنت علي بن أبي طالب، فارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة وقال:
(الحمد لله الذي فضحكم، وأكذب احدوثتكم)!
فقاطعته زينب من فورها وقالت:
(إنما يفتضح الفاجر، ويكذب الفاسق. وهو غيرنا).
فاحتدم غيظاً منها ثم قال:
ولكن (كيف رأيت صنع الله بأخيك، وأهل بيتك؟).
قالت: (ما رأيت إلا خيراً.. هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم.. فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ.. ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).
وكانت زينب ترمي بهذه الردود إلى شيئين في وقت معاً، أما الأول فتأثيم عبيد الله بن زياد بتصريحات نفسه على رؤوس الأشهاد. وأما الباقي فتنبيه الكوفيين أنفسهم إلى التمييز بين سلالة النبوة المضطهدة وسلالة مرجانة المنتصرة بسلاح الأباطيل.. ولقد أثارت في جميعهم بذلك أشد النقمة وأخطرها على ابن زياد، حتى كادت أن تفضي معها عليه لو لم يسارع إلى التخلي عن مغاضبتها، وعلى تجهيزها نحو الشام.
يا إلهي سوف تساق الأميرة قسراً إلى هناك وهي لا تطيق الوعثاء، ولكن لا بأس عليها. فربما تحظى وشيكاً بالحرية، وربما يغبطها أن تغدو كذلك.. إتماماً لتبليغ رسالتها هي وهل يرضيها أن لا يتبين أهل الشام قضية الحسين على التحقيق..
قال الراوي.
فلما دخلت زينب على يزيد بن معاوية كانت تبدو للعيان كأنها متداعية القلب والفرائص، وكان وقارها يوهم أيضاً بأنها مكدودة فما تستطيع نطقاً ولا مناجزة.. بحيث أن يزيد نفسه ظنَّ بأن الفرصة سانحة أمامه للتلبيس عليها، وإحراجها بالإدانة، وإعيائها عن إجادة الذود والملاحاة، فابتدرها وهو يتغنى:
(ليـــت أشــــياخي ببدر شهدوا جزع الخـــزرج من وقع الأسل
لأهــــــلوا واســـــــتهلوا فـرحاً ثــــم قــــالوا، يا يزيد لا تشل)
فقامت إليه زينب.. وكأنها العاصفة تنذر بالويل، قالت:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث يقول - ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى إن كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزؤون - أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الإسراء... إنّ بنا هواناً على الله، وإن بك عليه كرامة، وإن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى - (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين؟). أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدنيئ والشريف، وليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي؟
وكيف يرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء؟ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والا حن والأضغان؟ ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهــــلوا واســــــتهلوا فــــرحاً ثــــم قــــــالوا يــا يزيد لا تشل
وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة.. بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك؟
زعمت أنك تناديهم.. فلتردن وشيكا موردهم، ولتوّدن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت..
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.
فوالله يا يزيد.. ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما تحملت من دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله تعالى شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقهم - (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد (صلى الله عليه وآله) خصيماً، وسيعلم من سوّل لك وأمكنك من رقاب المسلمين. بئس للظالمين بدلاً، وأيهم شر مكاناً وأضعف جندا.
ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لاستغصر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء. فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا. وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل.
ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكاً مغرما. حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك، وما الله بظلام للعبيد. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك. فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك امدنا، ولا يرحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين؟).
والحق أن هذه الخطبة القارعة نزلت من المستمعين جميعاً منزلة القلق من قلوبهم.. إذ جعلتهم يتبينون أن جناية يزيد على الحسين بداية لنهايات مرعبة توشك أن تنتهي بهم وبغيرهم على السواء، خصوصاً وأن الذي لم يصانع عندهم في البطش بحفيد الرسول لا يصانع كذلك في البطش بأي إنسان آخر، هذا بالإضافة إلى أن مقتل الحسين وحده تفريط شنيع في حرمة الدين، وتوريط للأمويين كلهم في التعويل على سفك الدماء، والقضاء على رابطة الأمة عاجلاً أم آجلاً.
قال الراوي:
أما يزيد، فقد كان في هذه الأثناء يتصفح وجوه الملأ عن كثب، ويستقرئ ما وراءها من خواطر وأحاسيس، فاستوحى منها بغير شك ما أخطره بسوء المنقلب.. مما اضطره أن يستنفذ نفسه باللجوء إلى أمرين: الأول تجريم أهل العراق بمقتل الحسين، والثاني: توجيه زينب إلى يثرب حيث يقيم العباسيون والهاشميون.
ثم ماذا؟
ثم كانت الثورات الانتقامية التي اندلعت نيرانها بعد حين من الدهر في سائر بلاد إيران والعراق والحجاز واليمن فأدالت دولة الأمويين من رقعة الوجود..
source : www.tebyan.net