لا نبالغ اذا قلنا أن النتاج الصادر عن الامام علي (عليه السلام) يعد أفضل نتاج خبره التأريخ (فنياً، ودلالياً). وعندما نقرر هذا الكلام فلأننا - مضافاً الى ما استنطقنا من النصوص المأثورة عنه - نعتمد كلام النبي (صلى الله عليه وآله) - وهو لا ينطق عن الهوى- في وثيقته المعروفة القائلة: «انا مدينة العلم وعلي بابها» (۱). هذا النص التقويمي هو - اذا أخضعناه للغة الفن- (استعارة) ولكننا نعرف - كما ألمحنا الى ذلك- ان الفارق بين الأدب التشريعي (القرآن الكريم، السنة النبوية) وبين غيره أن الادب التشريعي حينما يلجأ الى عنصر الصورة: تشبيه، استعارة...الخ، يختلف عن الأدب العادي في ان التشبيه أو الاستعارة ترتكن الى واقع وليس الى تخيل او وهم او مبالغة، فعندما يقرر القرآن الكريم ان المنفق في سبيل الله مثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، حينئذ لا مبالغة في الصورة نظراً لكون الله تعالى منزها عن تقرير غير الحق، كذلك ما يقرره النبي (صلى الله عليه وآله) - وهو معصوم من الخطأ- لا يبالغ في تقريره لحقيقة ما... فعندما يقول (صلى الله عليه وآله): «من عد غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت» فانه لم يبالغ في ذلك مادام المرء يتعين عليه أن يحيا فكرة الموت وأن يعد له الزاد الذي يتناسب مع هذه الحقيقة، وحينئذ فان احياء فكرة الموت هي: صحبة بالفعل، فاذا لم يعد الغد من أجله فقد أساء هذه الصحبة وحينئذ لا مبالغة في هذه الاستعارة، بل هي الحقيقة ذاتها.
والآن حين نتجه الى الاستعارة القائلة (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(۲) نجد أن هذه الاستعارة تجسد الحقيقة دون مبالغة أيضاً، مادام كلام النبي (صلى الله عليه وآله) معصوماً من الباطل... واذا كان من وظيفة مورخ الادب ان يضع النصوص التي يدرسها في نطاقها التاريخي، حينئذ نجد أن الوثيقة النبوية القائلة (أنا مدينة العلم وعلي بابها) تشكل خلفية «تاريخية» ينبغي أن نستند الى محتوياتها عند دراستنا لأدب الامام علي (عليه السلام)... ان كونه (صلى الله عليه وآله) (مدينة) للعلم يعني أن الله تعالى «الهمه المعرفة» التي لم يلهمها أحداً من البشر سواه حيث حصرها في (مدينة) تابعة له (صلى الله عليه وآله)، وأما كون علي هو (باب المدينة) يعني أن المعرفة التي ألهمها الله للنبي (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن يتعرف عليها احد الا من خلال علي (عليه السلام) لأنه الباب الذي يفضي الى دخول المدينة وهذا- يعني أيضاً- ان علياً (عليه السلام) هو الذي يتكفل ببيان ما الهمه الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله): حيث اوصل النبي (صلى الله عليه وآله) هذه المعرفة الى علي (عليه السلام) وجعله لساناً رسمياً يتكلم نيابة عنه، مما يفسر لنا واحداً من أهم الاسباب التي جعلت النتاج الذي قدمه علي (عليه السلام) ينطوي على طرح يجمله (صلى الله عليه وآله) ويفصله (عليه السلام)، أو يسكت عنه (صلى الله عليه وآله) ويتركه لعلي (عليه السلام) بأن يضطلع بتقريره وتوصيله الى الآخرين...
إذن: عندما نقول بان ادب الامام علي (عليه السلام) يجسد أفضل نتاج عرفه تاريخ الأدب، حينئذ لا نبالغ في تقرير هذه الحقيقة التي ينبغي لمورخ الأدب أن يعيها كل الوعي: اذا كان مستهدفاً دراسة تاريخ الأدب بلغة موضوعية تفرضها عليه وظيفته العلمية... وفي ضوء هذه الحقيقة نتقدم بعرض سريع لأدب الامام علي (عليه السلام) بنحو يتناسب وحجم هذه الدراسة....
إن اهمية النتاج الذي قدمه الامام علي (عليه السلام) تتمثل في المستويين الفكري والفني. أما الفني فيكفي أن يطلق على نتاجه - في المختارات التي انتخبها الشريف الرضي- اسم (نهج البلاغة) أي: النموذج او المعايير أو القواعد أو الطرائق التي تجسد ما هو (فني) أو (بلاغي) من التعبير، وهذا يعني أن الامام (عليه السلام) قدم (النموذج) للفن وان ما عداه من النتاج العام هو: دونه أو تقليد له... واما الفكري منه، فيكفي أن نعود الى وثيقة النبي (صلى الله عليه وآله) لنعرف أنه حصيلة ما اودعه (صلى الله عليه وآله) من المعرفة لدى الامام (عليه السلام)، وهو أمر يمكن ان يلاحظه مورخ الادب حينما يجد أنه حيال (فكر) متميز يستبق عصره ويتجاوزها الى التخوم التي لا يزال بعضها مجهولاً حتى في حياتنا المعاصرة... لقد تحدث الامام (عليه السلام) عن المعرفة بنمطيها: المعرفة الانسانية والمعرفة الطبيعية والبحتة، فتحدث عن نشأة الكون وظواهره المختلفة من سماء وارض وكواكب وملائكة وبشر وحيوان الخ، وسائر ما يرتبط بالمعرفة الطبيعية والبحتة.
وتحدث عن النفس والتربية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والاجتماع وسائر ما يرتبط بالمعرفة الانسانية... ومعلوم ان الحديث عن الظاهرة العلمية: انسانية كانت ذو طبيعية أو بحتة يتم عادة بلغة تقريرية، الا انه (عليه السلام) كتبها بلغة فنية تتوسل بالصوت والصورة وسائر الادوات الجمالية: في أرفع مستوياتها، مما جعل النتاج المأثور عنه (عليه السلام) مطبوعاً بسمتي المعرفة والفن، ومن ثم جعل هذا النتاج مطبوعاً بما هو نموذجي متميز بحيث يعكس آثاره على النتاج الذي تشهده العصور الأدبية اللاحقة، حتى أنه لا يكاد خطيب أو كاتب أو مفكر بنحو عام يتخلص من تأثير هذه الانعكاسات الأدبية والفكرية كما سنشير الى ذلك في حينه. وأهمية هذا التأثير أو الانعكاس تتمثل في أن النتاج (فكرياً) لا طرح مماثل له في الميدان العلمي عصرئذ حيث ان الازدهار العلمي بدأ بعد اكثر من مائة سنة من عصر الامام (عليه السلام)، كما أن اللغة الفنية التي استخدمها (عليه السلام) كانت مكثفة بشكل يحولها الى لغة جمالية محضة تغرق في غابة من الصور التشبيهية والتمثيلية والاستعارية والرمزية والاستدلالية والتضمينية الخ، وتحشد بايقاعات هائلة تتناول كل مفردة ومركبة حتى لا تكاد تجد من بين آلاف المفردات والتراكيب مفردة أو تركيباً خالياً من ايقاع ملحوظ... فضلاً عما يواكب ذلك كله من الادوات اللفظية والبنائية التي تحفل بما هو مدهش ومثير: في مختلف مستوياتها... والمهم بعد ذلك ان نصنف هذا النتاج الى أشكال متنوعة من التعبير الفني، يمكن درجها ضمن ما يلي:
الخطبة، الرسالة، الخاطرة، المقالة، الدعاء، الزيارة، الحديث، المقابلة، المحاورة، الملاحظة.
لكن قبل أن نتحدث عن هذه الأشكال الأدبية ينبغي أن نعرض شكلاً فنياً، نحسب أن الامام علياً (عليه السلام) قد تفرد بصياغته بحيث يمكن أن نقول بأن هذا الشكل لم يستبق زمنه فحسب، بل قد استبق حياتنا الأدبية المعاصرة أيضاً، وعبرها الى جيل لم تتحد هويته الأدبية بعد.. ولنقف عند هذا النص
source : irib.ir