ولد علیّ الأکبر فی الحادی عشر من شهر شعبان(1) سنة ثلاث وثلاثین من الهجرة قبل مقتل عثمان بسنتین(2) وقد قتل سنة خمس وثلاثین وقول شیخنا الجلیل ابن إدریس الحلّی فی مزار (السرائر) ولد فی خلافة عثمان یتفق معه.
فیکون له یوم الطف ما یقارب سبعاً وعشرین سنة ویؤیّده اتّفاق المؤرّخین ورُباب النسب على أنّه أکبر من الإمام السجّاد الذی له یوم الطف ثلاث وعشرون سنة والتحدید بالسبع عشرة کما فی منتخب الشیخ الطریحی أو الثمان عشرة کما فی الإرشاد وإعلام الورى أو التسع عشرة کما فی مناقب السروری، محکوم لذلک الاتفاق مع خلوّة عن الشاهد وکلمة ابن نما الحلّی فی (مثیر الأحزان): انّ له یومئذٍ أکثر من عشر سنین وان کانت مجملة إلاّ أنّها تقال لمن فوق العشرة بنحو ثلاث سنین ونحوها وهذا شیء غریب.
وأغرب منه ما فی (نقد المحصل) للخواجة نصیر الدین الطوسی: ص 179 طبعة مصر (ان له یوم الطف سبع سنین).
فإن القرائن دالة على منزلة له رفیعة عند أبیه الشهید وتقدُمه على من معه من أصحابه وأهل بیته عدى عمّه العباس فإن المؤرخین اتفقوا على أن الحسین (علیه السلام) لما اجتمع لیلة عاشوراء بابن سعد أمر من کان معه بالتنحّی عنه إلاّ أخوه العباس وابنه علیّ الأکبر وکان مع ابن سعد غلامه وابنه حفص.
ولما خطب (علیه السلام) یوم عاشوراء وسمع بکاء عیاله قال لأخیه العباس وابنه علیّاً الأکبر سکتاهنّ فلعمری لیکثر بکاؤهنّ.
ولما أمر الحسین أصحابه یوم الثامن بالذهاب إلى المشرعة للاستقاء بعث معهم علیاً الأکبر قائداً فإن هذا یشهد بن للأکبر یومئذٍ أکثر من هذا السنّ کما أن رجزه عند الحملة یشهد به فهذا الرأی لا نعرف مأخذه.
نعم من المحتمل قریباً إسقاط (عشرة) بعد السبع فیکون له سبع عشرة وهذا ألیق وإن لم یوافقه التاریخ المتقدم.
• کنیته
جاء فی زیارة علیّ الأکبر المرویة عن أبی حمزة الثمالی، ان الإمام الصادق (علیه السلام) قال له:
ضع خدّک على القبر وقل: صلى الله علیک یا أبا الحسن ثلاثاً(3).
ولذلک تکون کنیته (علیه السلام): أبو الحسن.
حیث إنه مثلما یحتمل أن تکون الکنیة للتفاؤل بالولد، فیحتمل أنها صدرت بعد أن کان له ولد سمّی (الحسن) وروایة أحمد بن أبی نصر البزنطی تشهد بأنه کان متزوجاً من جاریة له قد أولدها.
على أن الاستضاءة من قول الإمام الصادق فی تلک الزیارة التی رواها أبا حمزة تلمسنا جوهرة فریدة وحقیقة ناصعة أن للأکبر الشهید أهلاً وولداً،وأن کان عقبه منقطع الآخر فإن الإمام الصادق یقول فیه:
(صلى الله علیک وعلى عترتک وأهل بیتک وآبائک وأبنائک وأمهاتک الأخیار الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً).
ولفظ الأبناء جمع بدلّ على أکثر من اثنین وکما یحتمل إرادة الصلبیین خاصة یحتمل أن یراد ما یعمهم وأبناءهم لکن الاحتمال الثانی مدفوع بظاهر إطلاق اللفظ عند العرف فإنه یختص بالصلبین.
کما أن قوله (علیه السلام) «وعلى عترتک» دالّ علیه فإن عترة الرجل ذریته فلو لم یکن له ذریة لما صحّ استعمال هذا اللفظ وورود هذه الجملة فی لسان الإمام العارف بخواص البلاغة ومقتضیات الأحوال أقوى برهان.
وغیر خافٍ أن هذه الروایة رواها الشیخ الجلیل ابن قولویه فی (کامل الزیارة) بسند صحیح ورجال ثقاة منهم علی بن مهزیار وهو من أوثق وکلاء أبی جعفر الجواد (علیه السلام) کما دل علیه قوله فی کتابه إلیه (لقد خبرتک وبلوتک فی الطاعة والخدمة فلو قلت أنی لم أر مثلک رجوت أن أکون صادقاً).
وفیهم ابن أبی عمیر الثقة الثبت وهو الذی ضربه السندی بن شاهک على التشیع بأمر الرشید مائة وعشرین سوطاً ثم حبس ولم یطلق إلا بعد أن دفع مئة وعشرین دیناراً.
• لقبه
لقب السید الشهید (بالأکبر) لکونه أکبر من الإمام زین العابدین وقد صرّح بذلک السجاد (علیه السلام) حین قال له ابن زیاد: ألیس قتل الله علیاً؟ فقال الإمام: کان أخ أکبر منی یسمى علیاً فقتلتموه(4).
فقال ابن زیاد: بل الله قتله.
فقال الإمام: الله یتوفى الأنفس حسب موتها.
فالثابت عند أهل النسب والسیرة ان للحسین علیاً الأکبر وعلیاً الأصغر وهو السجاد وعبد الله الرضیع وجعفر درج فی أیام أبیه.
• والده
عند التحدث عن أی شخصیة مهما کانت، لابد من الرجوع للحدیث عن أسرته، لاسیما والده ووالدته، فثمة صلة هامة ورابطة خطیرة بین الحدیثین، للوقوف على الحقائق ولإماطة اللثام عن واقع الشخصیة المعنیة. نظراً للدور الأبوی الفعال فی الشخص، بدءً من کونه نطفة، ومروراً بمراحل التکوین، حتى الولادة فالتربیة والتهذیب..
من ذا الذی یجهل والد سیدنا علی الأکبر، کلنا یعرفه، وکلنا یجهله، نعرفه بالاسم وببعض الأمور، ونجهل حقیقته الکاملة.
إن الإمام سبط الرسول الحسین بن علی (صلوات الله علیهم)، لیس أباً فحسب، ولیس بمستوى الأبوة فقط، إنه فوق ذلک المستوى بما یمثله من إشراف على الأمة بکل أبنائها وبناتها، وبما یتبناه من قضایا أبناء الأمة ودینهم الإسلامی الحنیف فی بعده المستقبلی.
هذا الأب العظیم من شأنه - دونما جدال - أن ینجب ابناً بمثابة أُمة من الناس، أن ینجب من یکون نوراً ونبراساً، وقائداً وقدوة.
وعلیه فلا تستکثر على ذلک الإمام إنجاب القادة ورجال العقیدة، وهو الإمام الذی تمکن من أن یصون شعوب الإسلام، ویحفظ الأمة العملاقة مع دینها ومبادئها الخلاقة..
ولا نرید هنا أن نتکلم عن أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) فهذه الصفحات خاصة بولده ونجله فقط، کما أن الحدیث عن الإمام لا یعد محاولة هینة ویسیرة بناءً على أنه لیس شخصاً عادیاً یصح عنه الکلام کیفما اتفق الکلام، وإنما هو شخص امتزجت فیه المبادئ، فجسدها عملاً على أرض الواقع، إنه صاحب رسالة وسید قضیة.. رسالة ممتدة من رسالة جده الرسول الأعظم، وقضیة تبرعمت من شجرة قضیة جده النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله).
وبعد: فإنما نتجنب الخوض فی الحدیث من الإمام سید الشهداء فلسعة مهمته الرسالیة التی یلزمنا التحدث فیها وعنها، ولبعد وظیفته الإلهیة، ورحابة طرحه لقضیته.. وأخیراً فلانه حقق عملیاً - وعلى المدى البعید - للأمة ما لم تستطع کل الأمة تحقیق بعضه.
ذلک هو الوالد والأب والمربی الصارم القویّ، معلم الأمة. الذی أنجب للانعتاق والتحریر طاقات نورٍ متمثلةٍ بالشخصیات المضیئة التی اخترقت أستار الظلام عبر عصور الظلم والاضطهاد ووسط تفاقم الأوضاع.
أخذ الإمام الحسین عن جده (مدینة العلم) ثروة من العلم والحکمة، وثروة من السمات البالغة فی السمو.
أخذ الإمام الحسین عن أبیه (باب مدینة العلم) وافر العلوم والامتیازات، أبوه أمیر المؤمنین علی الذی ارتشف من نفس منهل النبی (صلى الله علیه وعلیهم أجمعین). وراح الحسین بدوره یوزع ما عنده دون أن ینقص مخزونه أو ینضب ویفیض بما لدیه على أولاده الأطهار والتابعین له بإحسان (وکل إناء بالذی فیه ینضح).
کان حسین رحیماً ورحمة للمؤمنین، فکان علی الأکبر یشاطر والده فی هذه الخصوصیة الرحمانیة.
کان حسین قاسیاً وقسوة على الکافرین والمنحرفین، فکان علی الأکبر حلیف والده، صارماً لا یلین.
کان حسین ثائراً وثورة یأبى الضیم عزیز النفس، وکان نجله مثله ولا یختلف عنه شدید التمسک بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر حریصاً جداً على الجهاد المصیری.
وکان الإمام الحسین حسیناً بجمیع حسنیات الإسلام، وکان نجله على الأکبر علیاً رفیع المقام، یحذو حذو أبیه، حذو الحقائق بعضها وراء بعض... ولو أن رجالاً وشباباً عاشوا مع الحسین (علیه السلام) بعض الوقت وبعض العمر لما انفکوا عن تأثیره الرسالی الخطیر، فکیف یکون ثائر هو نجله إذن؟ وکیف ستکون طبیعة الأثر والآثار وهو فلذة کبده، المتحدر من شامخ صلبه الطاهر؟
(ذریة بعضها من بعض) [قرآن کریم...].
• والدته السیدة لیلى الثقفیة
أما والدته فهی السیدة لیلى الثقفیة. وهی عربیة الأصل کما یوحی نسبها إلى بنی ثقیف ذات الشهرة والصیت الذائع فی الطائف وکل البقاع العربیة.
السیدة لیلى هذه نالت من الإیمان والحظوة لدى الله سبحانه وتعالى بحیث وُفقت لأن تکون مع نساء أهل بیت النبوة، تعیش أجواء التقى والإیمان، وتعیش آلام آل الرسول وآمالهم، وتشاطر الطاهرات أفراحهن وأتراحهن، وقد ظفرت بتوفیق کبیر آخر، حیث أضحت وعاءً لأشبه الناس طراً برسول الله (صلى الله علیه وآله).. فهی امرأة رشیدة، جلیلة القدر، سامیة المنزلة، عالیة المکانة، رفیعة الشرف فی الأوساط الاجتماعیة، کیف لا وهی زوجة سبط سید المرسلین وسید شباب أهل الجنة أبی عبد الله الحسین (علیه السلام).
ونرى أن من الضروری التحدث عن أبیها عروة بن مسعود الثقفی کما سیأتی بعد أسطر.
أما والدة لیلى، فهی میمونة بنت أبی سفیان بن حرب بن أمیة، أی أن أبا سفیان یعد جداً للیلى، بید أن شوائب أمیة لم تمس من لیلى أو تؤثر فیها، بقدر تأثیر العنصر العربی الثقفی فیها.. ونسبتها هذه لبنی أمیة کانت مسوغاً للجیش الأموی بکربلاء کیما یستمیل علی الأکبر إلى جبهته بأسلوب مضحک هزیل وبمحاولة فاشلة.
• أبو مرة عروة بن مسعود الثقفی
من المعروف تاریخیاً أن الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) قد بذل کثیراً وحرص على الصدع برسالته الخلاقة، وکانت الطائف هی أحد المراکز التی قصدها (صلى الله علیه وآله)، ومن المعروف جیداً مبلغ المعاناة من جراء جهل أهل الطائف لهذا الداعیة المحرر، فقد عاد النبی من الطائف وهو متعب ومخضب بالدم.
فلم یستجب لدعوته أحد قط، سوى رجل واحد تبع أثره ولحق به، ولا نعرف غیره، ثم إنه اتصل به فأسلم وحسن إسلامه، ذلک هو قطب ثقیف، والد السیدة لیلى، التی لا نعرف ما إذا کانت مولودة أو غیر مولودة فی تلک الفترة.
إنه(5) (عروة بن مسعود بن معتب بن مالک بن کعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقیف، واسمه قیس بن منبّه بن بکر بن هوازن بن عکرمة بن حصفة بن قیس عیلان الثقفی.
أبو مسعود، وقیل أبو یعفور شهد صلح الحدیبیة) وکنی بأبی مرة.
فعروة بن مسعود الثقفی، زعیم من زعماء العرب، وسید ممن ساد قومه فأحسن السیادة، وهو رابع أربعة من العرب سادوا قومهم، کما ورد عن النبی (صلى الله علیه وآله) قول حول عروة، والثلاثة الآخرون، وهو قوله:
(أربعة سادة فی الإسلام: بشر بن هلال العبدی - وعدی بن حاتم - وسراقة بن مالک المدلجی - وعروة بن مسعود الثقفی)(6).
وعلى هذا فإن مرکز عروة فی المجتمع العربی، مرکز رفیع مرموق، وذلک قبل أن یُسلم ویعلن إسلامه، بحیث بلغت منزلته عند العرب مبلغاً متزایداً حتى بالغوا به فتطرفوا إذ عظموه تعظیماً على حساب محمد ذی الخلق العظیم، وعظموه لیجعلوا منه شخصیة تضاهی النبی الأعظم.. وهذا ما نص علیه القرآن فی موقف معروف، إذ حکى عنهم ما قاله أحدهم - الولید بن المغیرة - على سبیل المقارنة الفاشلة.
(قالوا لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القریتین عظیم)(7).
والمقصود من القریتین هما مکة والطائف، أما المقصود من العظیمین فیهما، فهو القائل نفسه - الولید بن المغیرة - بمکة ویعنی بالثانی عروة الثقفی بالطائف، کما عن قتادة وورد فی الإصابة والاستیعاب ذلک.
أجل کان عروة شخصیة مرموقة، لکنه أبى أن یزعم العظمة کغیره مثل ابن المغیرة وأمثاله، وکان شجاعاً وجریئاً بحیث إنه صمم على أن یدعو قومه للإسلام حالما یعود إلى الطائف وهکذا کان. فبعدما أسلم على ید الرسول الذی تبع أثره من الطائف وأدرکه قبل دخول المدینة، وبعد أن تمکن الإسلام والإیمان من قلبه، استأذن النبی (صلى الله علیه وآله) کی یرجع لهدایة قومه.
(وسأل رسول الله (صلى الله علیه وآله) أن یرجع إلى قومه بالإسلام. فقال یا رسول الله، أنا أحب إلیهم من أبصارهم، وکان فیهم محبباً مطاعاً، فخرج یدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دینه رجاء ألا یخالفوه لمنزلته فیهم، فلما أشرف على قومه(8)، وقد دعاهم إلى دینه - رموه بالنبل من کل وجه فأصابه سهم فقتله -).
ومن إیمانه ورضاه وقناعته بواجب الصدع بالرسالة مع تحمل دفع الثمن باهظاً إنه أجاب بجواب واضح الیقین حینما سألوه (وقیل لعروة: ما ترى فی دمک؟ قال: کرامة أکرمنی الله بها، وشهادة ساقها الله إلیّ، فلیس فیّ إلا ما فی الشهداء الذین قتلوا مع رسول الله (صلى الله علیه وآله) قبل أن یرتحل عنکم)(9).
هذا وکان من حسن الهیئة کالمسیح عیسى (وکان عروة یُشبَّه بالمسیح (علیه السلام) فی صورته)(10) وکان من حسن العاقبة والمصیر کما نسب للنبی (صلى الله علیه وآله) قوله: إن مثله فی قومه مثل صاحب یس من قومه(11) دعا قومه إلى الله فقتلوه(12).
فضلاً عن ذلک، قال النبی (صلى الله علیه وآله): (رأیت عیسى ابن مریم، فإذا أقرب من رأیت به شبهاً عروة بن مسعود)(13).
یتجلى من ذلک أن هذا الصحابی الجلیل کان أثیراً عند النبی (صلى الله علیه وآله)، وله فی نفسه موقع ومکانة.. هذا وان التاریخ لم یورد عنه ما یسیء إلیه أو یتهمه، فهو رجل نزیه السمعة صاحب مکانة وسامی الوقعة.. کما أنه شخصیة عظیمة قیاساً لشخصیات القبائل الأخرى. ولله مطلق العظمة.
أسلم فی السنة التاسعة من الهجرة - بعید رجوع النبی (صلى الله علیه وآله) من رحلته الرسالیة إلى الطائف - وقتل عروة الثقفی أثناء إعلانه دینه ودعوته، وکان یتأهب لأداء فریضة الصلاة کما جاء فی (نفس المهموم).
أما کلمات الرسول (صلى الله علیه وآله) التی وردت بصدد عروة، فهی لعمرک من أروع أوسمة التقدیر التی منحا الرسول القائد إلى جنده الدعاة الصامدین الصابرین أوسمة الشرف المذخور والفخر الخالد فی الدنیا والآخرة.. وأهم وسام - بعد إعلان أنه شبیه النبی عیسى (علیه السلام) - هو أنه نظیر النبی یاسین فی قومه.
ولا نعتقد أن الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) یشبهه بیاسین لمجرد أنه دعا قومه فقتلوه کیاسین (علیه السلام). وإنما لأنه رجل دعوة على بینة من دینه ورجل إیمان وتقى وإخلاص ویقین، ولأنه بلغ من شرف الإیمان ما منحه شرف الشهادة، ثم شرف الإشادة به على لسان الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله).
ذلک هو والد السیدة لیلى، المجاهد الشهید عروة بن مسعود الثقفی (رضوان الله علیه).
وقد ترک فی نفس ابنته لیلى آثار الهدى والإیمان والاستقامة على الدین الحنیف. وفی أی سن کانت الفتاة لیلى فإنها ولا شک قد أحست بفقد والدها الحبیب، وکلما نضجت وکبرت شعرت بأن أباها مضى ضحیة قضیة سماویة مقدسة، حتى بلغت الیقین بأنه صرع وقتل لا کمن صرع وقتل من العرب وأشراف القبائل، لقد راح والدها شهیداً وقرباناً لله من أجل رسالته، ولیس قتیلاً أثناء صراع قبلی رخیص.
وعلیه فقد کانت أول نکبة أصابت قلبها، هی هذه الحادثة الشدیدة الوقع على الفتیات اللواتی یصعب علیهن الاستغناء عن حنان الأبوة وصل الوالد المؤمن الشجاع. ثم توالت علیها النکبات - بعد أن أضحت لیلى أحد أعضاء هیئة نساء البیت المحمدی الکریم - إذ راحت تعیش أجواء بیت النبوة والرسالة صاحب القوة والأصالة، فی مواصلة الصدع بمقدرات القرآن ومبادئ الإسلام، حتى ختمت لیلى حیاتها وهی صابرة صامدة محتسبة قد تحملت ألوان الأسى والألم وقدمت لرسالة الإسلام ما أنجبت من صالحین وطاهرین.
أی أن استشهاد والدها لیس مجرد أول نکبة، بل أول درس على ضرورة الصمود ووجوب الصبر لمواصلة العمل من قبل المؤمن والمؤمنة، البنت والزوجة، وأول تجربة للسیدة لیلى على تحمل شدة وطأة نتائج الدعوة ودفع ثمن العمل لدین الله سبحانه وتعالى.
أجل تلک هی لیلى الثقفیة والدة علی الأکبر، التی لم تستمد قیمتها من أمها ولم تستمد کرامتها ومنزلتها حتى من أبیها، وإنما استمدت رقیها من تقواها وانتمائها ثم انتسابها للأسرة المحمدیة المقدسة، ولارتباطها الوشیج بشخص الإمام العظیم أبو عبد الله الحسین (علیه السلام) وکفاها بذلک فخراً حینَ تفتخرُ.
• نشأته وترعرعه
ولد علی فی بیت یتمتع بالحضور الکامل للإیمان والتقوى بیت رحب الفکر واسع المعرفة مزدحم بالصالحین والطاهرین والذین لا تأخذهم فی الله لومة لائم، الذین لا یفتأون یحرصون على صیانة مبادئ رسالتهم، ویتمسکون بحرفیتها، ویرفعون ألویة العقیدة عالیاً.. بیت هو العقیدة بذاتها، الأمر الذی یفسر دعوة الله للناس کی یحبون ذلک البیت ویوادونه، ویحاربون من یکرهه ویعادون.. بیت عامر بکل ما یمت للإسلام بصلة وللحق والحقائق بروابط وعلائق.
ومن شأن الولید الذی یفتح عینیه فی أجواء الصفاء لبیت الصفوة، وأوساط الشرف والسؤدد، وبیئة الخیر والصلاح والهدى، من شأنه أن ینشأ على إفاضات ذلک البیت النبیل، وقبسات أهل ذلک البیت من الرجال الذین أنیطت بهم حراسة القضیة الإسلامیة، وصیانة الشرع الشریف، وحفظ الدین المحمدی الحنیف.
نشأ وهو یرتشف لبن صدور المؤمنات التقیات، وقد تشرب بأخلص العواطف وصادق الحنان، وراح جسده ینمو وتنمو مشاعره السلیمة وروحه الطاهرة، ونفسه السویة، أکل وشرب مما أنعم الله به حلالاً طیباً لا یأتیه الباطل والشبهة.. نشأ على أسمى معانی المؤمنین الأتقیاء، ومزاحمهم الجمیل معه.
فمادته ومعنویاته من فیض حوض طاهر نقی، بمعنى أن جسده وروحه تنزها عن الشوائب المکدرة والأدران المقیتة.
ترعرع علی الأکبر فی تلک الأوساط النظیفة، حیث قضى سنی حیاة صباه یدرج بین صفوة الرجال وصفوة النساء، وخیرة الفتیان والصبیان، بین شخصیات جلیلة القدر وشباب یسمون نحو الکمال والعز والإباء.
نشأ وترعرع وهو ملء العین، فتخطى الزمن وتجاوز الأیام، مضى یقضی أیاماً زاهرة ولیالٍ مبارکة، وأشهراً وسنیناً خالدات، متسلقاً الدهر، یعلو فوق هامة التاریخ شخصاً فریداً فی مجمل خصوصیاته، وشاباً خلاقاً فی ربیع حیاته، فرجلاً بطلاً یتفرد فی ممیزات جمة وجلیلة سامیة. إذ نال من التربیة ما یصعب على الکثیرین حصوله ونیله، حتى أبناء الملوک والأمراء، أبناء الأکاسرة، والقیاصرة، وما هو وجه الشبه حتى نذکر ونمثل بأبناء الملوک؟!
• تربیته
شب نحو العلى والکمال، فهو بمستوى تعاطی القیم والمثل والتربویات القیمة، والحق أن آل الرسول (صلى الله علیه وآله) مکیفون لذلک منذ الصغر بدءً من نعومة أظفارهم أی لا یشترط فیهم بلوغ سنٍ معینة لیکونوا على استعداد لأمر ما، کالتربیة مثلاً التی تسایر نشأتهم وترافق ترعرع صغارهم (الکبار).
أخذ علی الأکبر من التربیة الشیء الکثیر - دون أن نستکثره (علیه سلام الله) علیه - وذلک من أعضاء الأسرة الرسالیة سواءً الرجال أو النساء، وخصوصاً والده الإمام الحسین الذی یقع علیه عبء إعداده وتعبئته (إن صح قولنا عبء)، والحق أن ذلک لم یکن عبئاً بنظرتهم، أهل البیت، لأنه من أخص خصوصیاتهم، فلا یصعب علیهم تکوین النموذج الحی فی التربیة.
قد ندرک ببساطة عوامل بلوغ أحدهم مستوىً تربویاً عالیاً جداً، وهی بعض عوامل تضلعهم العلم واضطلاعهم بالحکمة فضلاً عن التربیة بالذات، وذلک عندما نأخذ بنظر الاعتبار وجود العناصر، أو توفر المقدمات الأساسیة هذهِ سلفاً. وهی:
1 - خلو الشخصیة من الشوائب السلبیة المعکرة والرافضة للإیجابیات والنافرة من الصفاء.
2 - طهارة الروح، وصفاء النفس.
3 - سلامة الضمیر.. والتجاوب مع الوجدان.
4 - نزاهة المشاعر، وسمو الأحاسیس.
5 - التطلع للأفضل والتوق للأحسن.
6 - السعی للاقتراب من الکمال وبلوغ مستوى المسؤولیات ومستوى حمل الرسالة.
هذه کلها مجتمعة تشکل تُربة الأرض الخصبة لبذر بذور التربیة وغرس أشجار التربیة الراسخة الأصول، الضاربة الجذور.. الثابتة فی الواقع طالما تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها.
لقد کانوا - أهل البیت - یحرصون على تطبیق نظریاتهم التربویة الرحبة، ویشددون على ضبط الأسالیب التهذیبیة، ویخلصون فی ممارستهم المنهجیة من أجل إعداد الإنسان، إعداداً لا یقبلوه إن لم یکن معادلاً لمهامه ومعادلاً لواجباته ومخاطر مسؤولیاته الموکل بها.
إنهم لا یقلدون أحداً أو فئة فی طرائق التربیة، وإنما لهم عمقهم الفکری وبعد نظرتهم وإبداع أسالیبهم، وممارساتهم المبتکرة، انهم یأخذون من الإسلام ما فیه من شذرات لیضیفوا إلیها لیوضحوها ویفصلوها بتحویلها إلى فعل وعمل، إلى ترجمة حیویة صادقة، وذلک بجرها جراً إلى حیز التطبیق، لتدخل دائرة التجربة المؤکدة النجاح والحتمیة العطاء..
أضف إلى تلک الممارسات الجادة، امتلاکهم للخبرة الواسعة جداً وإدراکهم للمناهج الفاشلة فی هذا المضمار.
ثم إن خریج مدارسهم إنسان رفیع فی التربیة، عالٍ فی العلم، علواً یؤهله وبجدارة لأن یکون هو بشخصه مربیاً ومعلماً ینهج ویبدع فی المنهج الإسلامی، بل یکون هو بالذات مدرسة مستقلة کفیلة باستیعاب المجتمع وتقدیم العطاءات الإصلاحیة له، لأن خریج مدارسهم مکیف لذلک جاهز له بحکم مضمونه ومحتواه (وکل إناء بالذی فیه ینضح).
ولمن یرید الوقوف على مدارس التربیة عند أهل البیت ومناهجهم الواعیة، ولمن یرید التوفر على نظریاتهم الثریة، فما علیه إلا أن یراجع مذخوراتهم والثروة الکبیرة من التراث الذی خلفوه. سلام الله علیهم...
إن خصوصیات مناهجهم التربویة قد انعکست على مواقفهم الصارمة الحاسمة، ففوق أنها سر کمالهم، فهی تفسر مواقفهم المبدئیة وقراراتهم الخطیرة التی آلوا على ألا یفرطوا فی جنبها.
ونحن إذ نمجد، والمسلمون إذ یمجدون ذلک فیهم فلیس من باب الزهو بهم، وإنما من باب التأثر والاقتداء بهم لندرک أسرار سیرتهم وأبعاد أعمالهم الصعبة وأمرهم المستصعب، الذی عجز الرجال عن تحمله لافتقارهم للرجولة ولأن رجولتهم الضعیفة تنقصها تربویات الإسلام وفق منهاجه التام.
• الأکبر یشبه الرسول
إن أخلاق صاحب الدعوة الإلهیة التی خصه المهیمن سبحانه بها من دون العالم أجمع وامتاز فیها على الأنبیاء والرسل واستکبرها المولى تعالى فوصفها بالعظمة إذ یقول فیها: (وإنک لعلى خلق عظیم)(14).
لم ینص المؤرخون على مشابهة آل النبی (صلى الله علیه وآله) له فی جمیع الصفات إلا ولده الأکبر.
یحدث السروی عن جابر الأنصاری إن فاطمة الزهراء تشبه أباها فی المشیة فإنها تمیل على الجانب الأیمن مرة وعلى الأیسر أخرى(15).
وروایة الصدوق تشهد بأن الحسن شابه جده فی الهیبة والسؤدد والحسین فی الجود والشجاعة(16).
وأخرج الحاکم النیسابوری عن علی (علیه السلام): إن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قال لجعفر الطیّار أشبهت خَلقی وخُلقی(17).
ویحدث الشیخ الجلیل الشیخ فخر الدین الطریحی فی المنتخب إن الحسین قال فی حق الرضیع: اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولک محمد (صلى الله علیه وآله).
وهذه الشواهد کلها لا تدل على مشابهة العترة الطاهرة للرسول فی جمیع الصفات الکریمة.
لکن کلمة الحسین الذهبیة فی حق ولده الأکبر:
اللهم إشهد إنه برز إلیهم أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولک وکنا إذا اشتقنا إلى نبیّک نظرنا إلیه(18).
ترشدنا إلى أن فقید بیت النبوة کان فی وقته مرآة الجمال النبوی ومثال کماله الأسمى وأنموذجاً من منطقه البلیغ الرائع حتى إن أباه (علیه السلام) إذا اشتاق إلى رؤیة ذلک المحیا الأبهج الذی یقول فیه حسان مصرحاً بالحقیقة غیر مبالغ:
وأحســن مـنـک لـم تـر قـط عـیـنی*** وأجمل مـنـک لـم تـلـد الـنــسـاء
خـلـقـت مـبـرءاً عـن کــــل عــیـب***کـأنـک قـد خـلـقـت کـمـا تـشـاء
عطف نظره إلیه، أو أراد سماع ذلک الصوت المبهج الذی ترک نغمات داود خاضعة للطفه أصاخ إلى قیله، أو راقه تجدید العهد بتلکم الخلائق الکریمة التی مدحها الله تعالى بقوله: (وإنک لعلى خلق عظیم) توجه بکله إلیه.
وأنت تعلم أن جامع هذا الخلق الممدوح یشمل ما کان یتحلى به رسول الله من ورع وإخلاص وشجاعة وکرم وحلم وبشاشة فی العشرة ودماثة فی الخلق ولین الجانب وخشونة فی ذات الله وتجنب عن الدنایا والرذائل سواء فی ذلک ما حضرته الشریعة أو زجرت عنه الإنسانیة الکاملة إلى غیرها مما حق له أن یعد عظیماً عند الله تعالى.
إن الآثار وإن أفادت مشابهة أفذاذ من البشر لشخصیة الرسالة لکن (الأکبر) هو المثل الأعلى لتلک الذات القدسیة الکاملة المعصومة عن کل خطأ المنزهة عن أی عیب المحلاة بالجمال القدسی الإلهی فلا یعدوه أن یکون معصوماً کالذوات الطاهرة من الأئمة المعصومین وإن احتاج إلى إمام یرکن.
ولیس ببعید من فضل الباری جل شأنه أن یوجد ذاتاً کاملة منزهة عن کل عیب مبرأة عن أی شین وعار وإن کلمة سید الشهداء تلفتنا إلى تحقق تلک الشخصیة القدسیة بما حوته من فضائل ومحامد فی ولده علی الأکبر (علیه السلام).
أضف إلى ذلک ما جاء فی زیارته المخصوصة فی أول رجب من قول الإمام (علیه السلام).
کما منَّ علیک من قبل وجعلک من أهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.
وإذهاب الرجس معنى العصمة فهی متحققة فیه وإن لم تکن واجبة کوجوبها فی الإمام المطلق الحجة على الخلق.
• فضله
لقد کان علی الأکبر (سلام الله علیه) إبان شبابه تطفح علیه لوائح العظمة وتلوح على أساریره أنواح الفضیلة ویتدفق من جوانبه الکرم النبوی فکان على شرفه الباذخ ومجده الأثیل وخطره التلید الطارف متلفعاً بکل خصال الخیر یرفل على باحة المنعة بأبراد المناقب القشیبة وحلل المآثر الساطعة من معروف طافح ونائل متدفق وضرائب حمیدة کاثرت النجوم فکثرتها وطاولت الجبال فبذتها وکان فذ وقته فی جمیع الفضائل آخذاً بأعضاء الشرف والسؤدد وإن الواصف مهما تشدق لینحسر بیانه عن بلوغ غایة فضله ولم یجد المخالف إلا البخوع له ومما یرشدنا إلى ظهور الفضائل وزهو المآثر عن علی الأکبر فی عصره قول مادحه:
لـم تـــر عـیـن نـظـرت مـــثـــــلــه***مــن محتـف یـمشی ومن ناعل
یـغــلی نـهــیء الـلـحــم حـتـــى إذا*** أُنـضج لم یغل على الأکل(19)
کــــان إذا شــــــــــبــت لــه نــاره***أوقــدهــا بالـشرف القابل(20)
کـیـمـا یــــراهـــا بائـس مـــرمــــل***أو فـرد حــی لـیــس بــالآهــل
لا یــؤثـــــر الـدنـیـا عـلــى دیــنـــه***ولا یـــبـیـع الــــحــق بالباطــل
أعنی ابن لیلى ذا الـسدی والـندى***أعنی ابن بنت الحسب الفاضل(21)
وهذه الصفات التی نضدها الشاعر فی مسلکه الذهنی لم تجر مجرى المبالغة فی القول أو الخیال الشعری وإنما هی حقائق راهنة کیف لا وقد تفرع (الأکبر) من الدوحة النبویة وکان غصناً من أغصان الخلافة الإلهیة وإن الفضائل والفواضل بأسرها موروثة له من سلفه الطاهر الهاشمی.
ومما یشهد له أن معاویة مع ما علیه من المباینة مع الهاشمیین لم یسعه إلا الاعتراف أمام قومه باجتماع الفضائل فی (علی الأکبر) وأنه جدیر بالخلافة وقابل للزعامة الدینیة یوم قال من حضر عنده من أهل الشام وغیرهم:
من أحق بهذا الأمر:
قالوا: أنت.
فقال معاویة: لا أولى الناس بهذا الأمر علیّ بن الحسین بن علی جدّه رسول الله وفیه شجاعة بنی هاشم وسخاء بنی أمیة وزهو ثقیف(22).
نحن لا نشک فی أن الأکبر کان جامعاً للفضائل وحائزاً لما هو أربى وأرقى منها وهو العصمة عن المآثم ومنافیات الأخلاق والمروءة ولا یأتی بما یخالف الأولى کیف لا وقد جمع الخلق المحمدی بأتمّ معانیه وحتى عن الدنس من الآثام بشهادة أبیه الواقف على نفسیات الرجال وکما شهد نص الزیارة المتلوة عند قبره فی أول رجب والتی علمها الصادق (علیه السلام) أبا حمزة الثمالی(23).
وهذه الکلمة الصادرة من معاویة ترشدنا إلى أن علیاً الأکبر یومئذ معروف عند هل الشام وغیرهم بأنه الجامع للقداسة الإلهیة ومحاسن الأخلاق بأجلى مظاهرها وإلا فلا یعقل أن یشیر معاویة بأهلیة الخلافة إلى رجل غیر مرموق عند الناس من جمیع الفضائل.
کما أن معاویة لم یشک فی أن هاتیک الفضائل موروثة له من سلفه الطاهر فحسب ولکنه تغافل عن ذلک حتى شرک معهم غیرهم لمغازی تختلج فی صدره.
أولاً: أراد أن یزحزح الخلافة عن أبیه الحسین المنصوص علیه من جده النبی (صلى الله علیه وآله) وأبیه الوصی (علیه السلام) بإیجاد شخص من هذا البیت یکون مرجع الأمة فی النوائب وغیاثها المرتجى وفصل القضاء وتبیاناً للمشکلات.
وثانیاً: أراد تخفیف وطأة المنازع فی خلافته بحصر شرائط الخلافة فی هذه الأمور الثلاثة دون غیرها لفقده أهم ما یشترط فی الخلیفة على المسلمین من العلم والعصمة والنص.
ثالثاً: أراد إثبات فضیلة فی قومه غیر أن البرهنة تعوزه فشرک معه من لا یدافع فی فضله وهم الهاشمیون وثقیف وأنت على ثقة من خلو البیت الأموی من کل فضیلة ومکرمة منذ نشأة جدهم عبد شمس الذی کفله أخوه هاشم وقد کان مملقاً لا مال له وأمیة الذی استعبده عبد المطلب عشر سنین وذلک لما تراهنا على فرسین وجعلا الخطر لمن سبقت فرسه مئة من الإبل وعشرة عبید وعشر إماء واستعباد سنة وجز الناصیة.
فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر وقسمه فی قریش وأراد جز ناصیته فافتدى ذلک باستعباد عشر سنین فکان أمیة یعد فی حشم عبد المطلب هذه المدة.
وأما حرب بن أمیة جد معاویة فأجاره عبد المطلب من ابنه الزبیر وکفأ علیه إناء هاشم الذ یهشم فیه الثرید(24) وکان أبو سفیان شحیحاً بخیلاً لا ینفق على زوجته هند فألجأها ذلک إلى السرقة من ماله لتنفق على فنسها وولدها.
فأنّى یقاسون هؤلاء بهاشم مطعم الحاج وساقیهم وکانت مائدته منصوبة لا ترفع فی السرّاء والضرّاء وهو أول من سن لقریش الرحلتین إلى الیمن والشام وأخذ لهم من ملوک الروم وغسان ما یعتصمون به(25).
وقد کانت تجارة قریش لا تعدو نفس مکة وضواحیها وإنما تقدم علیهم الأعاجم بالسلع فیشترونها حتى رحل هاشم إلى الشام ونزل على قیصر فأعجبه حسن خلقه وجمال هیئته وکرمه فلم یحجبه وأذن له بالقدوم علیه بالتجارة وکتب أماناً بینهم فارتقت منزلة هاشم بین الناس وسافر فی الشتاء إلى الیمن وفی الصیف إلى الشام واشترک فی تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوک الیمن والشام وجعل له معهم ربحاً وساق لهم إبلاً مع إبله وکفاهم مؤنة الأسفار على أن یکفوه أذى الأعداء فی طریقه إلیهم ومنصرفه فکان فی ذلک صلاح عام للفریقین وکان المقیم رابحاً والمسافر محفوظاً فأخصبت قریش بذلک وأتاها الخیر من البلاد العالیة والسافلة ببرکة هاشم وهذا هو الإیلاف المذکور فی القرآن المجید(26).
(لإیلاف قریش إیلافهم رحلة الشتاء والصیف)(27).
وأما عبد المطلب فکان یدعى شیبة الحمد لکثرة حمد الناس له لکونه مفزع قریش فی النوائب وملجأهم فی الأمور فکان شریف قومه وسیدهم کمالاً ورفعة غیر مدافع وهو من حلماء قریش وحکمائهم وقد سن لهم أشیاء أمضاها له الإسلام.
فإنه حرم نساء الآباء على الأنباء، ووجد کنزاً أخرج خمسه وتصدق به، وسن فی القتل مئة من الإبل، ولم یکن للطواف عند قریش عدد فسنه سبعة أشواط، وقطع ید السارق، وحرم الخمر والزنا، وأن لا یطوف بالبیت عریان، ولا یستقسم بالأزلام، ولا یؤکل ما ذبح على النصب(28).
وقیل له الفیاض لجوده وکثرة نائله حتى ان مائدته یأکل منها الراکب ثم ترفع إلى جبل أبی قبیس لتأکل منها الطیور والوحوش(29).
ولمنعته وشرفه کان یفرش له بإزاء الکعبة ولم یفرش لأی أحد من قریش ولا یجالسه على بساط الأبهة والعظمة إلا نبیّ الرحمة(30).
وکان وصیاً من الأوصیاء وقارئاً للکتب السماویة ولم یزل یلهج فی محافل قریش بظهور نبیّ من صلبه ثم یوصی ولده وقومه بالإیمان به واتباع أمره(31).
وأما أبو طالب سید البطحاء وموئل قریش وزعیمهم المقدم بعد أبیه لا یفات رأیه ومن غریب أمره ان قریشاً لما أبصرت العجائب لیلة ولادة أمیر المؤمنین (علیه السلام) جاؤوا بالآلهة إلى جبل أبی قبیس یتضرعون إلیها لیسکن ما حل بهم فارتج الجبل وسقطت الأصنام فازداد تحیرهم وفزعوا إلى أبی طالب لأنه کأبیه عصمة المستجیر وسألوه عن ذلک فرفع یدیه مبتهلاً إلى الله سبحانه یقول:
(إلهی أسألک بالمحمدیة المحمودة والعلویة العالیة والفاطمیة البیضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة).
فسکن ما حل بهم ببرکات هذه الأسماء الطیبة الکریمة على الله تعالى وعرفت قریش فضل هذه الأسماء قبل ظهورها فکانت العرب تکتب هذه الأسماء وتدعوا بها فی المهمات فیکشف الله تعالى عنها ضراءها ولم تکن تعرف حقیقتها(32).
وما عسى أن یقول القائل فیمن هو أشرف الخلیقة وعلة الکائنات المتکون من النور الإلهی القدسی: نبینا محمد (صلى الله علیه وآله) وأعطف علیه فی الفضائل کلها وصیه المقدم الذی هو منه بمنزلة هارون من موسى علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) ثم ریحانته سید الشهداء أبی عبد الله الحسین (علیه السلام).
فعلی الأکبر هو المتفرع من هذه الشجرة الطیبة التی أصلها ثابت وفرعها فی السماء والوارث لهذه المآثر النیرة والحائز على جمال النبوة وأُبهة الخلافة الإلهیة.
ورث الصــفــات الـغــر فهی تراثه***عــن کل غطریف وشهم أصید
فی بأس حـــمزة فی شجاعة حیدر***بأبی الحسین وفی مهابة أحمد
وتـراه فی خـلق وطـیـب خـلائــــق***وبـلـیـغ نـطـق کـالـنـبـی مــحمد
• فی مسیرة الرکب التاریخیة
انطلق الرکب الحسینی بمسیرته التاریخیة من المدینة المنورة إلى مکة المکرمة، البلد الأمین، دار السلام والاطمئنان، وبعدما أضحت مکة غیر ذات أمان مهتوکة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسیرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حیث إقلیم الکوفة فکربلاء.
وأخذ الکرب یلف الصحراء ویطوی البیداء، ویعبر ویصعد الهضاب ویقطع السهول متجاوزاً التلال والمرتفعات. یحث خطى السیر لا یلوی على شیء. قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد، ومحامل النساء. فیما امتطى الفرسان صهوات جیادهم.
وقد لحقهم مئات من الرجال النفعیین الذین ظنوا باقبال الدنیا على الحسین (علیه السلام)، وقد أدرک الإمام دوافعهم فسلک معهم عدة أسالیب لإرجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقی، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرسالیین الأبطال، ممن لا منفعة دنیویة تحدوهم ولا مصلحة شخصیة تدعوهم، إلا إعلاء کلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل.
مرَ الرکب بعدة مناطق فی الطریق، کمنطقة الصفاح، وزرود والخزیمیة. ومنطقة الثعلبیة... .
وهنا فی هذه المنطقة بالذات حیث بلغها الرکب فی المساء، وعلیّ الأکبر یسیر معهم لیلاً نهاراً، یسیر کلما ساروا ویقف کلما وقفوا، ویحث جواده کلما حثوا الجیاد.. حتى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب، وفی ذلک المساء بتلک المنطقة غفى الإمام الحسین، وأخذه الکرى، فرأى فی نومه المؤقت رؤیا أزالت عنه الکرى، وفتح عینیه على أثرها، وأخذ یسترجع (إنا لله وإنا إلیه راجعون)(33) وهذه عبارة عن تعقیب على مضمون الرؤیا ومعناها.
فانتبه نجله علی الأکبر الذی کان یسیر على مقربة منه فالتفت حالما سمعه، لیستفسر من والده العظیم عما دعاه للاسترجاع، فأجابه الأب القائد.
(رأیت فارساً وقف علیّ، وهو یقول: أنتم تسیرون والمنایا تسرع بکم إلى الجنة، فعلمت أن أنفسنا قد نعیت إلینا) وفی روایة لا توجد عبارة (... إلى الجنة).
فبادر ولده علی قائلاً بصرامة المؤمن القوی (یا أبة أفلسنا على الحق؟) قال إمام الحق: (بلى یا بنی، والذی إلیه مرجع العباد).
فرد علی بکلمة نابعة من العزة والإباء: (یا أبه إذن لا نبالی بالموت) وفی الأعیان أنه قال: (فإننا إذن لا نبالی أن نموت محقین) فعقب والده الإمام بکلمة التقدیر العالیة الرفیعة، التی جاءت بصیغة الدعاء، وأی دعاء من أب لوالده، أم أی کلمة هذه التی ینطق بها الإمام الحسین شخصیاً لولده علیّ الأکبر بالذات... (جزاک الله یا بنی عنی خیر ما جزى به ولداً عن والده)(34).. وهکذا هی تحیة الإجلال لموقف الصلابة الشجاع. أکرم بهذه الأبوة وتلک البنوة، الممتدان من أصول الأنبیاء وخاتم النبوة.
لقد تحدى کل العقبات والمعوقات التی تحول دون تحقیق أهداف الحق، فطالما نحن على حق ینبغی أن لا نهاب الموت، الموت الذی حتى لو أیقنا قربه ودنوه منه، الموت المؤکد فی الموقف المعین بالذات، الموت على الإیمان والیقین.. والیقین من أسماء الموت (أشهد أنک قد أقمت الصلاة وآتیت الزکاة وأمرت بالمعروف ونهیت عن المنکر وأطعت الله ورسوله حتى أتاک الیقین).
فلابد من نصب الموت أمام الأعین فی السلم والحرب، ولابد للؤمن من حمل الکفن إن لم یحمل معه خشبة الصَلْب. فلا یقولن أحد أن منیته وأجله فی غیر هذه الحادثة الجهادیة أو هذه الحرب، لأن ذلک معناه سابق نیة على التهرب والإنسلال وعدم الرغبة فی تمام التحریر وکامل الاستقلال.
إن هذه الروایة وحدیث علی مع أبیه لابد أن نستفید منه ولنتعرف على حقیقة شخصیة علی من خلاله. (وفی الحدیث من الدلالة على جلالة علی بن الحسین الأکبر، وحسن بصیرته، وشجاعته ورباطة جأشه، وشدة معرفته بالله تعالى، ما لا یخفى)(35).
لقد کان حواراً جهادیاً عظیماً، یذکرنا بحوار نبی الله إبراهیم مع نجله النبی إسماعیل. فحینما قص إبراهیم الرؤیا، (یا بنی إنی أرى فی المنام أنی أذبحک)، أجابه ابنه إسماعیل بقوله: (یا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدنی إن شاء الله من الصابرین).
فثمة تشابه من حیث الغرض وهو الفداء والتضحیة غیر أن ثمة فوارق. فجواب إسماعیل کان مفروضاً علیه بحکم طبیعة الرؤیا فهو مطالب بالرد المناسب ومطلوب للتضحیة بذاتِه دون سواه. بینما لم یکن مفروضاً على علی الأکبر أن یجیب ولیس الرد مطلوباً منه، ولم یک مطلوباً للتضحیة بذاته ولوحده، وکان بمقدوره أن لا یجیب على ما ذکره أبیه من رؤیا.. لکنه أجاب بنبرات الصارم وعزیمة الصابر الصامد الذی لا یلین.
ولا نرید أن نعقد مقارنة بین الحوارین، فلا تفاضل بین النجلین الطاهرین، بحصول الفرق بین الموقفین وطبیعة القضیتین.
وبعد فقد تقدم إسماعیل صابراً، لیقدمه والده قرباناً ویبقى هو - والده - حیاً، ثم غیر الله سبحانه قضاءه إذ بدى له أن ینزل کبشاً کبدیل (ففدینا بکبش عظیم) فنجا إسماعیل من مذبحة کادت تنهیه.
بینما تقدم علی الأکبر مع والده وکوکبة الرجال والشبان صفوة الأمة المسلمة، تقدم بأقدام ثابتة وخطوات لا تثنیها أی قوة مضادة إلى حیث مذبحه الذی ذبح علیه وقطع تقطیعاً هو ومن سبقه، بمرأى والده، بل مضى حتى والده قرباناً وضحیة، أجل ذلک بحکم اختلاف القضیة، ویا لها من قضیة عظیمة لا کبش - مهما کان عظیماً - یعوضها أو یعادلها.
أجل سار علی وواصل مع الرکب المجید، سار والحق یحدوه، وأمامه نصبت صخرة الذبح من أجل أقدس قضیة حَتَمَتْ أرقى فداء وتفانٍ وتضحیة.
علی یرابط فی کربلاء مع المرابطین:
حتى إذا وصل الرکب فی مسیرته، ربى الطف، وتلاع شاطئ الفرات، وقف الإمام الحسین لیتعرف على اسم المنطقة وما هی إلا برهة زمنیة حتى أعلن بأنها موعده ومستودعه ومنازل الأبطال ومقابر الشهداء.
ها هنا والله مناخ رکابنا.. وها هنا قَتل رجالنا.. حتى قال: وها هنا تزار قبورنا. بهذه التربة وعدنی جدی رسول الله (صلى الله علیه وآله)، ولا خلف.
فنزلها الرجال والشباب، وقد انطلق الصبیان یلعبون ویرتعون، بینما أخذ الرجال یبنون البیوت وینصبون الفساطیط والخیام، فبانت أطناب الخیام وظهرت مواقعها بأهلها المرابطین على الحق.. ورابط علی الأکبر فی بطحاء کربلاء، منذ الیوم الثانی حتى العاشر من شهر محرم.
أما الجیش المعادی الذی یرابط على شط الفرات فقد أخذ یتکاثر کل ضحى وکل یوم حتى کملت عدته یوم تاسوعاء، إذ کانت الکتائب تتوافد لترابط قبالة الجبهة الحسینیة. ولکثرتها تسنى لها تنفیذ أوامر منع الماء الصادرة من ابن زیاد، حیث ضربوا على نهر الفرات حصاراً یحول دون بلوغ ضفافه أی ضام عطشان.
وظل علی فی انتظار دوره وأداء مهامه، فهو یترقب بدء القتال مع الأعداء، وبدء دوره خصوصاً، إذ کان فی رأیه أن یکون هو أول قتیل وشهید. لقد وقف إلى جانب ثلة الهاشمیین تحت لواء عمه العملاق، العباس بن علی (علیهما السلام). لیطالب بأن یکونوا هم - بنو هاشم - أول من یبرز للمیدان.
بید أن عصبة الأنصار ترى أنها هی الأول دخولاً للمیدان وقد تجمعوا تحت لواء المجاهد حبیب بن مظاهر الأسدی وهم یطالبون بسبق الهاشمیین للجهاد والقتل.
وتدور بین الطرفین مباراة کلامیة.. ویستمر تنافس الجناحین على الظفر بالأولویة لخوض غمار الحرب العادلة. ولا أحد یرضى بأن یکون ثانیاً، کل یؤثر نفسه على الموت قبل غیره، وبطبیعة الحال فإن علیاً کان أکثر عزماً وأشد رغبة فی إحراز تلک الأسبقیة والأولویة، فهو من جناح الهاشمیین الذی یقول بضرورة تَقَدُم بنی هاشم لأنهم حَمَلة الرسالة وثقل الحدید لا یحمله إلا أهله.
وأخیراً إحتکم الجناحان إلى الإمام الحسین (علیه السلام) فحکم الإمام القائد للأنصار بالسبق لدخول الساحة.
وظل الهاشمیون فی ترقب لدورهم.
وظل علی الأکبر خصوصاً أشد شوقاً لساعته ولحظات سعادته.
حمى الوطیس واحتدم الصراع، إذ دارت رحى حرب ضروس، جالت خلالها الخیل واشتد اشتباک الأسنة، واختلاف السیوف، فما انجلت الغبرة إلا عن جمع من القتلى.. کانت تلک هی الحملة الأولى فی صبیحة عاشوراء، التی اشترک فیها الجمیع وتمخضت عن قتل عشرات ومئات الأمویین، کما أسفرت عن خمسین قتیل شهید من رجالات الإسلام الحسینیین (علیهم سلام الله ورضوانه).
ثم آب کل إلى موقعه. وبدأت عصبة الأنصار - أی ممن تبقى منهم - یستأذنون الإمام الحسین للجهاد مثنى وفراداً، وهو یأذن لهم - وکان عاشوراء یوماً مشهوداً حیث صعدوا مسرح الجهاد والاستشهاد وهم لا یلوون على شیء، ولا یفکرون بشیء سوى الفداء والفناء من أجل مجد الإسلام والبقاء الرسالی.
ظل علی یرمق ببصره البعید أطراف المیدان.
مُکبراً تفانی الأنصار البواسل الشجعان.
فقد کان قوی العزیمة، لا تخونه إرادته ولا تلین عزیمته أو تضعف شکیمته، قوی البأس ثابت الجنان. صَلب صامد على مصارع عصبة الأنصار، حتى إنه شهد مصارعهم وکان یرثیهم ویؤبنهم مشتاقاً لما آلوا إلیه - کما وقف على جسد أحدهم وهو یرثیه بأبیات نفیسة.
إذ أشرف علی الأکبر على جسد البطل المجاهد الحر بن یزید الریاحی، وقد سبقه والده الحسین الذی أبَنَه بقوله:
(بخ بخ لک یا حر، أنت الحر کما سمتک أمک وأنت الحر فی الدنیا والآخرة). أو (سعید فی الآخرة).
فعقب علی الأکبر قائلاً:
لـنـعــم الــحرّ حـرّ بـنـــی ریــــــاح *** صــبـور عـنــد مشتبک الرماح
ونـعـــم الــحــر إذ نــادى حــــسیناً *** فجاد بنفسه عند الصباح(36)
إنه یقرر بأبیاته أن للحر صبراً، فیقرر أن له إیماناً قویاً بحیث أنه تحمل المخاطر، وصبر - لکی ینجز مهمته - رغم اشتداد اشتباک الأسنة والسیوف وکل الأسلحة. (صبور عند مشتبک الرماح).
کما ویقرر أنه قدم أغلى ما لدیه، وسخى بما عنده وجاد بما یملک من ثمین ونفیس وهل أثمن من النفس والحیاة (فجاد بنفسه عند الصباح) والحق أن (الجود بالنفس أقصى غایة الجود)
فضلاً عما نلمسه من إکبار وافتخار بمن هو نعم الرجل، نعم الشخصیة الفاضلة، ونعم الحر، بحیث أبى التقید بالذل والارتهان بالعبودیة، ورنا إلى نعماء العز والحریة، دونما خوف من دفع الضریبة الباهضة لتلک النعمة.. وهی ضریبة الدم والروح.. وکذا تکون سجیة الأبطال.
وبقی علی الأکبر یرقب المیدان عن کثب: معرباً عن روعة صمود الصابرین المجاهدین، ومکبراً جهادهم. متشوقاً إلى دوره ونزوله للساحة. بعد أن مضى من مضى وبقی من بقی.
(رجال صدقوا ما عاهدوا الله علیه * فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ینتظر * وما بدلوا تبدیلا).صدق الله العلی العظیم
• السبق للجهاد
المبادرة الفوریة:
لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما یرام، فمضوا إلى حیث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إیاها، إنه لا یخلف المیعاد.
ولم یدع علی واحداً یسبقه، بعد إذ إنفرد الإمام وأهل بیته، فکانوا البقیة الباقیة من الشجرة المحمدیة. الوحیدون على وجه الأرض، من آل الرسول الأعظم (ص) فطفق بعضهم یودع بعضاً. ومال أحدهم على الآخر یعانقه بحرارة وشوق.. وصف المؤرخون ذلک المشهد الرهیب واتفقوا على هذا المعنى:
(لما قتل أصحاب الحسین (علیه السلام) ولم یبق معه إلا أهل بیته خاصة، وهم ولد علی بن أبی طالب (علیه السلام) وولد جعفر وولد عقیل، اجتمعوا یودع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فتقدم علی بن الحسین (علیه السلام)، وکان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً، وخُلقاً). أما وداع علی لأهله من النساء کأمهِ وأخواته وعماتهِ لاسیما عمته الحوراء زینب (علیها السلام)، فقد حفل بالآلام والأشجان. فقد آن فراق ذکرى المصطفى (صلى الله علیه وآله) هکذا شعرن وأحست کل منهن.
ظهر علی بأنه شدید الحرص على السبق للساحة وعلى أن یکون أول ضحیة وقرباناً لله سبحانه وتعالى(37). وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة.
فلاشک أن المسؤولیات الجسام لا تناط إلا بأهلها، وخلیق بهم تحمل عبئها وما یترتب علیها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، وحراس المبادئ ذات الأصالة. فهم لا یختارون التأخیر عن دورهم، الأمر الذی یفسر حالات التنافس بین الهاشمیین والأنصار، وعملیات الرهان على الأسبقیة، کما أشرنا حیث حسم الإمام ذلک الموقف لرغبة الأنصار المجاهدین على رضى منه.
أما وإن علیاً یسبق أخوته من الهاشمیین. فذلک ما یفسره نفس المعنى، فنظراً لکونه نجل الإمام القائد المتحدر من صلبه الشامخ، فهو یشعر بخصوصیته، لا لکی یسلم وینعم، بل لکی یبادر ویعمل ویضحی فیکون المثل الأعلى.
ولیس هذا من باب المفاضلة والمکابرة، بقدر ما هو من باب الإیثار، فخلیق به أن یتقدم على الجمیع مؤثراً سلامتهم وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم.
ولما کانت القضیة قضیة الإسلام الحسینیة، فلا یحسن به أن ینتظر إلى آخر شوط وآخر دور، فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن یکون هو المتقدم.
وهکذا تتجلى علو التربیة ورفعة التوجیه وسمو الآداب وجلال التهذیب المتوفر فی شخص علی الأکبر. فما کانت تربیة أهل البیت تنص على معنىً یخالفه عملهم، لیس فیهم قوالاً غیر فعال. وإنما جبلوا على ممارسة تطبیقات مقررات الرسالة والدین الحنیف وحتى الآداب والمثل البسیطة والمفاهیم الخلقیة العملیة.
الاستئذان للنزال:
إتجه نحو أبیه الإمام، فاتخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إلیه والده الحسین فأدرک ما یرید، فکل ما ظهر علیه من لامة حربه ومدرعته وإسراجه لفرسه یدل على عزمه للمضی على ما مضى علیه من سبقوه، یدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلح.
وراح الحسین ینظر إلیه بنظرت ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ یطیل النظر إلیه، فاتخذت عواطف الأبوة الطاهرة مستقرها بین جوانح الأب العظیم.
دار التفاهم على صعید الصمت.. وتم تبادل البیان من خلال مؤشرات موقف الأشجان. ولم یکن الفراق عجیباً ولا غریباً، إذ (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جید الفتاة). (لا محیص عن یوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البیت، نصبر على بلائه فیوفینا أجور الصابرین) کما فی خطابه التاریخی بمکة.
ترى هل عز على الحسین فراق حبیبه وریحانته وذکرى رسول الله؟ هل یا ترى یمنعه عن التسرع أو یؤجل دوره إلى حین؟ نعم عز علیه ولکنه لا یمنعه أو یؤجل جهاده.
عز علیه عزاً لا حد له، بید أن الحسین یسیطر علیه أمر أکبر وأخطر، ذلک هو عز القضیة التی من أجلها نهض بنهضته وصدع بمبدأ الجهاد. فبعز رسالته هان علیه عز الأحبة وآلام الوحدة والغربة. فالموقف شجی ومحرج لکنه فی غایة التحرج فی قضیة الدین بحیث هونت علیه فقد الحیاة وحراجة تقدیم البنین.
وأخذت الآهات مأخذها فی داخل صدره، وراح ینظر إلیه. إلى أشبه من وطئ الحصى بجدهِ النبی المصطفى.
واغرورقت عیناه بالدموع. وطفق إلیه لیضمه لیحتضنه ویلثمه. وقف الشباب الهاشمی أمام المشهد الحزین، وقد دام العناق طویلا. فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق. عناق لحظات الفراق.
أجل إنها آخر فرصة لتبادل القبلات المنغصة.
وفهم علی الأکبر، وأدرک من تلک الإجراءات الأبویة أنه لا مانع من خوض غمار الحرب الرسالیة فوراً، فمال إلى جواده الذی أعده وأسرجه فامتطى صهوته واتجه نحو تأکید الحقائق، وراح عیون الهاشمیین ترمقه بحب عظیم وإشفاق کبیر، فکیف بأبیه الحسین الذی أخذت عینیه ترافقه، واستمر یلاحقه بنظراته وتابعه بقلبه البصیر الذی یخفق على النهایة والمصیر، لهذا الفتى المحمدی، لقد وجدناه یحول طرفه لیرمق السماء ولیناجی ربه، رافعاً شیبته الشریفة وقد أرخى عینیه لتسیل الدموع کل مسیل:
(اللهم أشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إلیهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولِک محمد (صلى الله علیه وآله وسلم) وکنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولک نظرنا إلى وجهه.
اللهم فامنعهم برکات الأرض وفرقهم تفریقاً، ومزقهم تمزیقاً واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضی الولاة عنهم أبدا، فانهم دعونا لینصرونا ثم عدوا علینا یقاتلوننا)(38).
فی تلک الأثناء کان علی (سلام الله علیه)، یبتعد رویداً رویداً متجهاً نحو الحشود البشریة المتراکمة کالغنم النائمة وقد وبخ الإمام، قائد الأعداء، عمر بن سعد بن أبی وقاص، وتوعده مؤکداً له استحالة حصوله على نیل مصالحه من قتال عترة الرسول وإبادتهم وقطع رحمهم، فصاح به.
(ما لَک! قطع الله رحمک ولا بارک الله لک فی أمرک، وسلط الله علیک من یذبحک بعدی على فراشک، کما قطعت رحمی، ولم تحفظ قرابتی من محمد رسول الله)(39).
ثم حول طرفه إلى ولده الذی دنا من الجیش الهجین وأخذ ینظر إلیه، وقد رفع الإمام صوته وهو یتسلى بتلاوة قول الله تبارک وتعالى(40):
(إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهیم وآل عمران على العالمین، ذریة بعضها من بعض والله سمیع علیم).
سمع الجمیع تلاوة الإمام الحسین (سلام الله علیه)، سمعوا حقیقة کون علی الأکبر ممن اصطفاه الله سبحانه، وارتضاه، وانه ماضٍ إلى حیث أداء حق الاصطفاء وحق المسؤولیات فی ظل العز والإباء.
محاولة أمویة لاستمالته:
ساد فی العصر الجاهلی البائد صراع وخراب أدى إلى سفک الدماء وإراقتها دونما حساب، وذلک بفعل الروح العشائریة والعصبیة القبلیة، وقد اشترک فی تلک الحروب والمعارک أفراد وجماعات قد لا ناقة لهم فیها ولا جمل - کما یقول المثل -.
فلا یتأخرون عن إشعال نار معرکة لأدنى سبب تافه وصلة قربى رخیصة، ولربما کانت صلة مصطنعة وهمیة أو مجرد استلحاق لا غیر. ویکفینا أن نتذکر أدوار زیاد بن أبیه ومهامه الإجرامیة الشنیعة عقیب استلحاق معاویة له بأبیه صخر بن حرب (أبا سفیان) إذ أضحى زیاد بن أبی سفیان، وصار أبا سفیان والد زیاد بالإستعارة، فکان علیه أن یؤدی حق النسب والرحم، وقل حق الاستلحاق، والرابطة الوهمیة. وقد جرت على الأمة ویلات ومآسی نتیجة لوهم النسب هذا ونتیجة لتمکین معاویة لزیاد من رقاب المؤمنین.
فالمعانی الجاهلیة التی عادت لتسود فی زمن بنی أمیة کان لها الأثر البالغ فی صنع کثیر من الأحداث وفی حرب أهل الحق وآل الرسول.. ویحدث أحیاناً إستمالة بعض العناصر من طرف ما إلى طرف آخر من هذا المنطلق ووفق منطق الصراع القبلی. فما أن یُلاحظ وجود عناصر أو عنصر واحد له صلة رحمیة حتى یعرضوا علیه منطق حمیة الجاهلیة. وقد أشرنا إلى أن جدة علی الأکبر لامهِ، وهی میمونة من بنی أمیة.
(ولهذا دعاه أهل الشام - حسب قول البخاری - إلى الأمان، وقالوا: إن لک رحماً بأمیر المؤمنین یزید بن معاویة، یریدون رحم میمونة بنت أبی سفیان)(41).
وهذا ما أشار إلیه الزبیری، ولم یقل أهل الشام أو أن القائل هو شامی وإنما عراقی.
(وکان رجل من أهل العراق دعا علی بن الحسین الأکبر إلى الأمان، وقال له: إن لک قرابة بأمیر المؤمنین یعنی یزید بن معاویة، ونرید أن نرعى هذا الرحم! فإن شئت أمناک)(42).
وثمة شیء آخر وهو أن قائد الجیش، عمر بن سعد بن أبی وقاص من أم أمویة وهی أخت میمونة أی من بنات أبی سفیان(43).
فللنسب والرحم سلطان على نفوس الناس، یسوقهم حیثما اشتهى من بیده زمام اللعبة، کسلطان الطائفیة الیوم فی السیاسة الدولیة المعاصرة، حیث إن السُنی أو الشیعی، ثم المسیحی أو الیهودی، أو من له أدنى رابطة بأی من تلک الطوائف یمکن أن یُسخر ویستغل ویستخدم، وهو ما نلاحظه ونلمسه لمس الید.
ولأن سلطان العصبیة مستحوذ على الأمویین، وأذنابهم من الشامیین والعراقیین، ولأن سطوة القبلیة مهیمنة علیهم، برزت أطروحة حمیة الجاهلیة بلا حیاء ولا خجل وعُرضت على علی الأکبر ظناً منهم بجدواها، وقد کانوا من البلادة والغباء بحیث قارنوا أفذاذ الأمة کعلی الأکبر بأنفسهم هم شذاذ الآفاق ونبذة الکتاب، ونسوا أن علیاً ونظائره لا یستجیبون لتلک الدعوات حتى وإن بلغ السیل الزبى.
فما موقف علی من تلک الأطروحة وذلک العرض؟؟
لابد أن ندرک بأن العرض هذا رخیص، وعلی یتجاوب مع العرض الثمین النفیس، الذی یکون أقل ما یدفع له الجسد والروح. وقد سبق له أن استجاب لعرض لا یدانیه عَرض آخر، لم یقدمه شامی ولا عراقی، عرض لیس من أجل یزید والرحم. وإنما قدمه رجل آخر، وأی رجل ذلک الذی هز مهده جبرائیل، سبط سید المرسلین ونجل سید الوصیین وابن الصدیقة الطاهرة سیدة نساء العالمین. أی رجل هذا وأی عرض یحمل. إن هذا الرجل بذاته وعظمته یکفی قبل أن یقدم ما عنده من عرض مبدئی، فهو بذاته عرض رسالی نفیس لا یقاس.
أجل إن لعلی الأکبر عهداً ووعداً بالمصادقة على میثاق وقعه حول ما قُدم له، حیث أطروحة الحسین الحرة، ولهذا أجاب أهل العرض الرخیص بجواب حدی بقوله:
(لقرابة رسول الله صلى الله علیه وآله أحق أن ترعى)(44).. ثم هجم علیهم.
فلا رحم ولا قرابة أقدس مما وصى القرآن بها وحرص بشدة علیها، فأی یزید أم أیة رحم أمویة هذه.
(لقرابة رسول الله أحق أن ترعى من قرابة یزید بن معاویة.. ثم شد علیهم)(45).
وبهذا فقد قابل علی منطق الجاهلیة الرعناء، بمنطق الرسالة والقرآن العظیم (قل لا أسألکم علیه أجراً إلا المودة فی القربى).
وأعظم ما فی الموقف أنه لم یقل لهم أنه أبی وأنا ابنه فعلیَّ أن أدافع عنه، ولم یذکرهم بأنه سلیل الرسول ولهذا یراعی رحمه وصلته بالهاشمیین، وإنما کان جوابه جواب المؤمن بالرسالة وحتمیة حفظ قربى الرسول، وقد یکون مستساغاً أن یعلن کونه یراعی نسبه المقدس ولم یعلن ذلک وإنما قرر بصیغة جوابه، الواجب الشرعی على کل فرد مسلم کأمر مفروض لا محیص عنه ولا مناص منه (فقرابة رسول الله أحق أن ترعى) لا لأنها مجرد قرابة الرسول وإنما لأنها قد أنیطت بها الرسالة والدین الحنیف.
أخیراً: کان علی فی غنى عن تلک البادرة البلیدة، لأنه أسمى من تلک العروض التافهة، لکن العدو کان مضطرب العقلیة مرتبک الموقف. کما أننا فی غنى عن الوقوف الطویل هنا، لولا الحاجة الماسة للتأکید البیانی على الأخلاق الجاهلیة والقیم والمثل الجاهلیة التی حورب بها الإمام الحسین وآله وأنصاره، من حیث عورضت بها الرسالة من قبل وحورب بها مسبقاً جده الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله).
المجاهد العنید
الجولة الأولى:
وإمتشق حسامه المهند من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتکبر، فراح الأکبر فی کبریاء العز یضرب الأجلاف ویجندل الجبناء، ویحصد بهم فیوقع أکبر الخسائر فی أوساطهم. راح یضربهم فوق الأعناق ویضرب منهم کل بنان.
ظهر تأثیره علیهم حینما دخل دائرتهم وأخذ یخوض فی وسطهم العسکری، لیمزق جمعهم ویفرق صفوفهم ویشتت شملهم الشرید، فقلب وقوفهم وحالة سکونهم إلى حرکة دائمة، ورکض وهروب فهزیمة، فالرجل من إذا هرب نجا.
وغاب شخص علی الأکبر بینهم غیاباً تاماً یتجلى للعیان بما یلعبه فیهم ویؤثر علیهم، فلا یظهر منه غیر نشاطه المتمثل بهز العسکر وزعزعة الجیش إذ کان نزاله المسلح بکل طاقاته وقدراته مما أعیى الفرسان المدججین والکماة الناصبین، واستمر فی فعالیاته البطولیة یخرق الصفوف ویتحدى السیوف.
نزل فیهم نزول الأسد الجریح، وخاض بهم خوضاً لم یشهدوا له مثیلاً قط، فما یترک کتیبة إلا وعاد إلیها وما یلبث أن یرجع لمن فرقهم بسیفه الصقیل، مضى یتصرف بهم حسبما یرید، وقد عجزوا عن وضع حد له وإیقاف قواه التی تواصل استعراضهم فتکیل لهم الضرب وتنزل بهم الخسائر الجسیمة.
حتى إذا ما جهلوه وظنوا أنه علی بن أبی طالب قد خرج إلیهم، لأنهم لم یصدقوا أن هذه الحمالات الشجاعة لغیره، طفق یکشف لهم عن هویته المقدسة واسمه الشریف - کما قیل عن سبب ارجوزته التالیة -. أو أنه أراد توضیح شخصیته ومهمته المنوطة به فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضیاً بعزم لا یلین، ینشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجیدة.
أنا عـلی بـن الـحسیـن بـن عــــلی ***نـحـن ورب البیت أولى بالنبی
تا الله لا یـحـکم فـیـنـا ابن الـدعـی***أضرب بالسیف أحامی عن أبی
ضرب غلام هاشمی علوی(46)
أعلن لهم أنه نجل الحسین حفید أمیر المؤمنین علی.
کما أعلن رفضه لحکم الطلقاء وسیاسة إدارة الأدعیاء فلا وفاق علیها مهما بلغ الثمن (تالله لا یحکم فینا ابن الدعی).
أبلغهم أنه سیواصل سیره بسیفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدین الحنیف ومحامیاً لأبیه سید الأمة.
نبههم أن صرامته وتصلبه، وضرباته الفتاکة لها ما وراءها من رصید هاشمی، فقوة ضربته وعزیمة ساعده، وتحمله لمشاق المعارک وهول الحروب إنما له أصالته بدءً من هاشم خیر الکیان القرشی.. تلک المعانی السامیة والإیحاءات الجدیة تصک أسماع الأعداء، وهو یکرر انشودته ویکر علیهم کرات جده الکرار فلا یعرف أی معنى للفرار.
(فلم یزل یقاتل حتى ضج أهل الکوفة لکثرة من قتل منهم، حتى روی أنه علىعطشه قتل مئة وعشرین رجلاً)(47).
لم یفت فی عضده العطش بل حتى الجراح المعضلة، یسمو یحدق فیهم متعالیاً فوق الجواد الناهض. وإذا ما تحاوموه بجمع وکتائب یردهم ویجبرهم على التقهقر والنکوص قسراً.
یـرمی الـکـتـائب والفلا غـصت بها*** فـی مـثـلها مـن بـأسـه المتوقد
فـیـردهـا قـسراً عـلى أعـقابــهـــــا***فــی بـأس عرنین العرینة ملبد
وما همَّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامیة المتدفقة دماً عبیطاً، حتى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، ورجع وهو یأمل أن ینال شربة من الماء لو وصل إلى المخیمات.
العودة المؤقتة:
وعاد ولکن لیرجع، عاد کیما یعود إلیهم، إذ توعدهم ثم إنه على موعد مع الله سلفاً، موعد لا یخلفه فی مکان وزمان سوى... غیر أنه الآن عطشان لحد قد یمکن العدو منه، فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤیة الجیدة، فلا یرى الأوباش ولا یمیز الأشیاء.. عاد.
عاد وهو یحمل رأس أحد فرسان الأمویة المدعو، بکر بن غانم، الذی تحدى علیاً وصمم على قتله بقوله: (لأثکلن أباه)، لکن علی الأکبر تلقاه فبارزه حتى صرعه وأرداه وحمل رأسه وهو یحس بالجهد الشدید الوطأة فوصل المخیم الحسینی وقد رمى بالرأس، وهو یردد.
صید الـمـلــوک أرانـب وثــعــالـــب***وإذا بـــرزت فـــصیدی الأبطال
هذا ما جاء فی روایة.. بینما أجمعت الروایات حول عودته المؤقتة، على جفاف حشاشته، ویبوس فمه، وذبول شفتیه، حتى بلغ لسانه أقصى حدود الذبول بعظم الظمأ الذی ناله.
فهل کان متیقناً، أو معتقداً حصوله على جرعة ماء یطفی بها لهیب العطش؟ فنحن نقرأ له کونه طلب من أبیه شربة من الماء.. (یا أبه: العطش قد قتلنی وثقل الحدید قد أجهدنی، فهل إلى شربة من الماء سبیل، أتقوى بها على الأعداء)(48).
فترقرقت واغرورقت عینا أبیه.
وأی سبیل هذا یا سیدی.. أم کیف.
لیت شعری.. أو ما یرى علیّ حال أهله وذویه، ویبوس حتى شفتی أبیه، وإن فاقد الشیء لا یعطیه.
وکأنی به یجیب فیقول: أجل وهو کذلک فأنا أدرى بسر الحال، ولکن الأمل.. إنه الأمل فی إطفاء غائلة الظمأ.
إنه یعلم جیداً، بید أن أمله کان قویاً وأراد أن یقتنع أو یقنع نفسه فقط، فهی حالة نفسیة ألحت علیه بالعودة وإلا فالماء غیر موجود (ولکن لحاجة فی نفس یعقوب قضاها).
وهذا الحد الأدنى من أمل الإرتواء النسبی لم یتحقق، ولذا دمعت عینا أبیه الحسین، ولا أدری کیف دمعت وسالت الدموع حینما أجاب الأب العطشان ولده بقوله: (واغوثاه.. ما أسرع الملتقى بجدک فیسقیک بکأسهِ شربة لا تظمأ بعدها أبداً). وفی روایة أنه أجابه بقول:
(یا بنی قاتل قلیلاً فما أسرع ما تلقى جدک محمداً صلى الله علیه وآله فیسقیک بکأسه الأوفى)(49).
وعن الخوارزمی: (فبکى الحسین وقال: یا بنی، عز على محمد وعلى علی وعلى أبیک أن تدعوهم فلا یجیبونک وتستغیث بهم فلا یغیثونک، یا بنی هات لسانک، فأخذ لسانه فمصه، ودفع إلیه خاتمه وقال له: خذ هذا الخاتم فی فیک وارجع إلى قتال عدوک، فإنی أرجو أن لا تمسی حتى یسقیک جدک بکأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً)(50).
ثم إنه (علیه السلام) إنتزع الخاتم لیضعه علی فی فمه تحت لسانه.. وهذه عملیة اسعافیة قد تفید ان للخاتم - أو أی شیء بنفس حجمه - دور فی إثاره الغدد لتفرز ما یسعف الحال(51).
وبعد أقل القلیل من الماء، فعطف لیودع أمه التی روی عنها أنها کانت شدیدة القلق علیه حتى أغمی علیها وأفاقت ورأسها فی حجر ولدها العائد من الجولة الأولى والذی لا بد له من جولة ثانیة کیما ینال شرف الشهادة المقدسة.. وراح یودع الجمیع لیواصل المسیرة الفردیة المسلحة رغم مکابدته لوطأة العطش وظنى الظمأ، وقد کتب فی حالته هذه أحد الشعراء المؤمنین قائلاً فیه:
ویـؤوب للـتــودیــع وهــو مــکابــد ***لــظمـى الـفؤاد وللحدید المجهد
صادی الحشا وحسامه ریــان مــن***ماء الـطلا وغــلـیـله لـم یـبـرد
یشکو لخیر أب ظماه ومــا اشــتکى***ظمأ الحشا إلا إلى الظامی الصدی
کانت حـشاشـته کـصالیة الـغــضـــا***ولـسـانـه ظـمـأ کـشـقـة مـبـرد
فانـصـاع یـؤثـره عــــلـیـه بـریـقـه ***لــو کان ثمة ریـقـه لــم یـجـمـد
ومـذ انـثـنـى یـلـقى الـکریهة باسماً***والموت منه بمسمع وبمشـهـد
لف الوغى وأجـالـها جـول الـرحى***بـمـثـقـف مـن بـأســه ومـهــند
الجولة الثانیة:
(ما أسرع الملتقى بجدک فیسقیک بکأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً...
وما أروع هذا الارتواء الروحی والشربة المعنویة والجرعة المشبعة بالمعانی الجلیلة، وقد عملت عملها فی نفس علی الأکبر، فغدى إلى الحلبة فی جولته هذه وهو أشد اشتیاقاً للارتواء الأبدی بماء الکأس الأوفى لجده المصطفى من حوض الکوثر وجنة عدن.
إنها لبشارة مبهجة، لا یعیها أو یستوعبها فیتأثر بها إلا ذوی العلم والإیمان والیقین بما ینتظرهم من نعیم الفردوس ویفیض من على موائدها أو ضفاف أنهارها.
وتقدم البطل، العملاق العطشان الراوی من الإیمان.
وامتشق حسامه فرن رنینه إیذاناً ببدء، فعالیاته وشق الرمال معتلیاً صهوة جواده الذی خلف وراءه غبرة غلیظة ممتدة. شد علیهم لیکتسحهم کسحاً، ویکرد جحافلهم کرداً.
(فزحف فیهم زحف العلوی السابق، وغبّر فی وجوه القوم، ولم یشعروا أهو (الأکبر) یطرد الجماهیر من أعدائه، أم أن (الوصی) علیه السلام یزأر فی المیدان، أم أن الصواعق تترى فی بریق سیفه، فأکثر القتلى فی أهل الکوفة حتى أکمل المئتین)(52).
هذا وهو یؤکد لهم بأن ثمة حقائق قد تجلت للحرب هذه، وهی حقائق ثابتة، ولا مجال للتفریط فی حق تلک الحقائق ذات البراهین والمصادیق الواضحة البینة على الساحة فأثناء شنهِ لحملاته، صرح لهم مؤکداً وبأسلوبه الجمیل من خلال أرجوزة جملیة وأنشودة ثانیة جلیلة، کررها على مسامعهم بمنطقه المسدد:
الـحـرب قـد بـانـت لـهـا حـقـائــــق***وأظـهـــرت من بعدها مصادق
والله رب الـــعــــــرش لا نـفـــارق***جــمــوعــکــم أو تغمد البوارق
فبناء على تلک الحقائق وما تبعها من مصادیق عملیة، فهو یواصل دورُه أبداً دون أن یترک الساحة، کیما یقوم بتدعیم المصادیق، ولن یفارق مهمته قط، لأنه سلیل أهل الحق وسادة الحقیقة وربان الحقائق التی بدأت جلیة على أیدیهم وواصلوا الکفاح من أجلها، والجهاد خلال الصراع فی خضم التنازع على البقاء والإبقاء، وإنه سیبقى وسیثابر على ثباته ویکرر وثباتهِ بتحدٍ وصرامة وغلظة (والله رب العرش لا نفارق).
فاضمروا له الکید، وبینوا له المکر، إذ أوغر صدورهم وملأها رعباً وقلل من شأن شجعانهم، مستصغراً فرسانهم.
مضى بلا ملل یؤدی أعماله فی ضوء أقواله، ویحقق منطق انشودته الخطیرة، ولیبر بقسمه براً لا حد له، عبر صولاته المحمدیة، صولة إثر صولة وسط الحلبة فی آخر جولة، زاحفاً زحفه الجهادی باطشاً بطش الأسد الغاضب.
ویکاد ینهار البطل العقائدی العطشان، فقد تقاسمت طاقاته کل من : التعب والإرهاق، والظمأ الشدید، والجراح التی توزعت على جسده الشریف، فأخذ الدم یتدفق وینساب من جراح جسمه کالمیزاب.
لکنه ظل شامخاً بجراح جسده یقاتل قتالاً شدیداً إذ بلغت فیه روح التفانی حد الإستهانة بالدنیا واستصغار شأن الحیاة.
قتال من لیس لسلامته أدنى أمل. وعلى هذا الأساس ومن هذا المقیاس، علیک أن تتأمل وتحسن تقدیر موقف هذه الشخصیة الشابة، الشخصیة العقائدیة العملاقة. فالتضحیة من أجل القضایا العادلة، والشباب الدائم، والمثابرة والتوثب على العدو مما لا غنى عنه، إذ أن الصمود قوة نستمدها من الصامدین، والصبر نستلهمه مفهوماً حرکیاً، لا مفهوماً انهزامیاً، مفهوماً إیجابیاً حساساً لا سلبیاً ردئیاً.
والصبر مفهوم حرکی علینا أن نستلهم من رواده أبعاده ومرامیه، ومنهم نحدد معانیه.
ما برح علی یجول فی أوساط معسکرهم یلقنهم أقسى الدروس، ولا یکادون یحددون له ساحة أو موقعاً - کیما یضیقوا علیه - حتى یوسعها علیهم بشنه للهجمات. وشاهد بعضهم جسده الذی سالت منه الدماء کل مسیل، فأدرکوا أنه قد ضعف عن القتال أو یکاد. ولاحظوا وهم فی رعب وذعر وانهزام أنه قد یجف جسده من الدم کما جف من الماء. وعندها سیشفون به صدورهم الموغرة.
الانتقام:
(علیّ آثام العرب إن مر بی وهو یفعل مثل ما کان یفعل إن لم أثکله أباه)(53).
هذا ما قاله أحد المرتزقة فی معسکر العدو، وقد إلتاع وتعذب من شدة حملات علی الأکبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق علیه والحقد بحیث صمم على التصدی لهذا المجاهد العطشان، ولاشک أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزیمة وجبن من سیف علیّ الأکبر، ولکنه حینما لاحظ تعب علیّ وإرهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلک.
إنه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدی) الذی تتضح روحه الجاهلیة من کلماته ومنطقه (علی آثام العرب یستحقها وهی علیه وهو بمستواها، إذ إنه کاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسید العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآنی الناهی لمثل ذلک المعنى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) نجد أن ذلک الجندی الجاهلی مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر کثیراً من الأوزار، وهکذا أحب أن یحمل على ظهره هو ومن على شاکلته أوزاراً ثقیلة لا طاقة لهم ببعضها. (ومن أوزار الذین یضلونهم ألا ساء ما یزرون).
ولولا العار علیه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لکن صیغة تصحیحه تلک أقل کشفاً لمضمونه الجاهلی کما یتوهم، وعلى کل حال فإن الأهداف والدوافع الدفینة قد انکشفت، وتکشفت عن الحرب الجاریة هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.
الــحـــرب قــد بــانــت لها حـقائـق***وأظــهــرت مــن بـعدها مصادق
ولکی لا نهمل النص السابق علینا أن نلاحظ ما فیه ونرى ما یمکن أن نستوحیه. قال: (... إن مر بی)، کما قال: (... وهو یفعل مثل ما کان یفعل).
یبدو جلیاً أن علیاً کان لا یترک لهم جمعاً إلا ومر به ولا کتیبة إلا وهاجمها، وکأنه کان یستعرضهم بحملاته استعراضاً عسکریاً مرعباً، بحیث أنه ما أن یترک کتیبة إلى غیرها حتى یعود إلیها وإلى غیرها، وهکذا کان نشاطه منقطع النظیر بحیث أنهم یتوقعون معاودته وکرته علیهم ثانیة لهذا توقع ذلک الجندی فقال: (... إن مر بی).
ویبدو أنه کان یفعل بهم فعلاً لهم یشهدوه طوال حیاتهم العسکریة من شاب مسلح بمفرده، فکان استعراضه للجیش رهیباً إن مرة العبدی لاحظ حرص علی الأکبر على تلقین جموعهم دروساً قاسیة وتعلیم جحافلهم حقائق بطولیة رسالیة لا تنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أی کتیبة دون أن یطعمها بالقتلى والجرحى ویختم لها بالهزیمة المنکرة فحقد حقداً قویاً. (علیّ آثام العرب، إن مر بی وهو یفعل مثل ما کان یفعل إن لم أثکله أباه).
فانتظر دور الکرة العلویة على کتیبته الأمویة، وقد نزع منه لباس الهروب والهزیمة، وکأنه نسی أنه جبان جلف جافی..
فراح یتربص ویلتمس الفرص، لیطعنه ولو عن بُعد منه، وبینما کان الشجاع العطشان یستعرضهم رغم ضعف بدنه ذی الجراح المثخنة المکثفة، ویزحف على جموعهم بالتتابع، کأنما هو زحف منتظم، وبینما کان یشق طریقه مقاتلاً بقواه الباقیة، دنا الجندی المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطویل فی ظهر علی(54) سلام الله علیه فغرز الرمح - أو السهم - فیه، فانحنى علی على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشریف، ففجه، حینها أطلق علی الأکبر صوته بالسلام على أبیه.
(یا أبتاه علیک منی السلام. هذا جدی یقرئک السلام ویقول لک عجل القدوم إلینا).
ثم شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزکیة.
لکنهم لم یترکوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذی أذاقهم مر طعم المواقف المسلحة؟؟؟
الشهید
المنتقمون
ما أن تناهى إلى مسامع أبیه الحسین صوت حبیبه وسلام ریحانته حتى طفق نحو الساحة معتلیاً جواده، کأنه فی سرعته طائر ینقضّ من علو الفضاء.
ولکن بأی حال وجده أم بأی وضعیة رآه.
لقد وجده جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله من جانبی جواده الذی کساه الدم الزکی حلة حمراء... هکذا ترکوه.
فلم یترکوه إلا بعد أن مثلوا به سریعاً، إذ إحتوشوه من کل جهة، وما أسرع ما وضعوا سیوفهم وحرابهم وسکاکینهم لیقطعوه تقطیعاً ویمزقوا جسمه تمزیقاً. لیشفوا غیظ صدورهم، ویرووا حقد قلوبهم مما أدخله علیهم من عذاب دنیوی هذا الشاب العطشان الشجاع الذی شکل جیشاً یقابلهم بمفرده، وعسکراً لوحده، وأمة بذاته.
کان (سلام الله علیه) صلباً صابراً فی الباساء، شدیداً فی الله، غلیظاً على الأعداء، الأمر الذی یفسر شوق ابن العبدی للإنتقام منه، ثم أشواق أولئک المرتزقة الذین آلوا إلا أن یشبعوا غریزة الإنتقام، وکان کل منهم أراد أن یتبرک بجسده ویتزلف للشیطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التی أذاقتهم مر الحیاة، وحنظل المواقف العسکریة.
ولولا محبی الإمام الحسین (علیه السلام) لأکلوه، لأکلوا کبده وقلبه، وما یدریک؟ ولم العجب؟ ألم تلوک (آکلة الأکباد) هند الأمویة کبد عمه حمزة الذی کان یجول فی بطحاء الجزیرة.
أجل لولا إسراع الحسین لأتوا على أشلائه بأنیابهم فضلاً عن حرابهم، ولکان أثراً بعد عین.. وتلک سجیة الأجلاف.
وصل الإمام إلیه، وأخذ یطیل النظر إلیه، ثم إلتحق به شباب هاشم مواقعهم حول الجسد الصریع وهم یقرؤون آیات البطولة الرسالیة والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشمة.
وهدأ جیش الأعداء بعد ضجیج دام خلال الجولتین وسکن العسکر بعد اضطراب طویل، فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجر القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالیة فیما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنین الشقاء یصدر منهم، بینما انشغل الباقی بتراشق التهم والعیوب وکل منهم یعیّر صاحبه بالهزیمة ویتبرأ کذباً من الهروب.
الإمام الحسین مع أشلاء الشهید
لا نفهم لماذا وضع الإمام خده على خد ولده المجاهد العظیم، وبالأحرى نحن لا نفهم ما رتله الإمام وتلاه حینذاک، فلم ندرک سر هذا الإجراء الذی لا یخلو من معنى.
غیر أننا نفهم بأن الآلام قد ألمت بالإمام نتیجة التنکیل وشدة الانتقام بهذا الجسد الشریف، وقد ضاق به مشهد ولده سلیل المصطفى فهو عبارة عن أشلاء موزعة وأعضاء مقطعة.. ثم تزداد حسرات الإمام وآهاته لما یدرکه عمیقاً من منزلة لهذا القتیل، ومن شأن وحرمة عند الله وعند رسول الله لذلک تمتم:
(قتل الله قوماً قتلوک یا بنی، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاک حرمة الرسول... على الدنیا بعدک العفا)(55).
فصغرت الدنیا بعین الإمام. ثم إنه قال وآثار الشجون قد تجلت على سحنته الشریفة.
(أما أنت یا ولدی، فقد استرحت من هم الدنیا وغمها وسرت إلى روح وریحان وجنة ورضوان، وبقی أبوک لهمها وغمها، فما أسرع لحوقه بک).
ونزلت بالحسین آلام ظهرت معالمها على کیفیة قیامه من الأرض، کأنه العجوز المتعب، وظهرت معالمها حینما اعتذر من حمل ولده بنفسه. فطلب من الشبیبة الهاشمیة أن تتبنى حمله، لأنه وقد صرح (والله لا طاقة لی على حمله).
قام الحسین ونهض الشباب الهاشمی وقد حملوا الشهید العظیم.
قال الحسین وهو مختنق بعبرته یحبس حسراته وأهاته فی صدره، قام وهو یکفکف بقایا دموعه محتسباً صابراً.. وأخذ یطیل النظر إلى الشهید المحمول، فکما تابعه حینما خرج للحرب وودعه، یتابعه الآن بطرفه ویلاحقه بالنظر إلى جثمانه الممزق وهو یقطر ویسیل دماً، تحمله أکف الشباب بمطارف حمراء ناقعة بالدم.
شباب لا یخیفهم الموقف ولا یرهبهم المنظر، کما لا یخشون نفس المصیر الذی آل إلیه هذا المحمول. شباب ینتظرون مهامهم وأدوارهم، یتنافسون ویتسابقون وکأنما هم یتسلون وفی الحلبات یمرحون، وکأنی بهم لا یحملونه فحسب بل یحملون الثأر له ولمن سبقه، یحملون فکره وعقیدته، وإذ هم یضعونه فی مخیم الشهداء، فلا لیبقوا معه. هم جاءوا به لا لیجلسوا حوله، وإنما لکی یواصلوا دوره، أو یجددوا صولاته فی المیدان، وفعلاً کانوا یحملونه لیرجعوا، ولولا الأوامر الحسینیة بحمله إلى المخیم، لما عاد الشباب المؤمن العقائدی إلیها، ولباشروا وشهروا السیوف من هناک.
ذلک لأن الشهید عندهم یغری الآخرین بالشهادة ولا یخیفهم منها، یشوقهم ویجعلهم یتلهفون لها ولا یرهبونها.
یبقى فی ذهن الحسین هذا الأب الکبیر، ذکرى ولده علی الأکبر، ویبقى فی تصوره، صوت علی، وصورة علی، ومنطق علی، وخلق علی، ومجمل مواصفات النبی.. وإذ کان هو ذکرى الرسول ومنعکس صورة النبی، فقد فقده وفقدوه جمیعاً..
ویتذکر الأب العظیم علویات ولده ومحمدیات ابنه، أقواله الصارمة وکلماته الصلبة الکثار التی لا نملک منها إلا أقل القلیل، یتذکره جیداً وهو أدرى بما قاله ولده بمنطقه الجمیل وأسلوبه الجلیل.. فهو یتصوره متکلماً مرة.
(لقرابة رسول الله صلى الله علیه وآله أحق أن ترعى).
(نحن ورب البیت أولى بالنبی)، (یا أبه أفلسنا على الحق)، (إذن لا نبالی بالموت)، (والله لا یحکم فینا ابن الدعی)، (الحرب قد بانت لها حقائق)، (یا أبتاه علیک منی السلام)...
آه ذکریات أیام وساعات مضت.
(جزاک الله یا ولدی خیر ما جزی به والد عن ولده).
(ما أجرأهم على الرحمن وانتهاک حرمة الرسول).
• مرقد الأکبر
إن البرهنة الصحیحة فی کل ما یفعله الإمام المعصوم الحکیم ترشدنا إلى مرجع فعلی من بیان حکم أو إشادة بذکر رجل أو إظهار فضیلة أو غایة کریمة أو مزیة ظاهرة.
وإنا إذا نظرنا إلى فعل الإمام زین العابدین فی وضع (علی الأکبر) قریباً من أبیه نعرف من ذلک الغرض الباعث له وهو تعریف الملأ الدینی بما حواه [أبو الحسن] من مزایا جلیلة وصفات فاضلة وانه أقرب من أولئک الصفوة إلى المهیمن تعالى لما حواه من ملکات لا تدرکها أحلام البشر.
وهناک شیء آخر لاحظه الإمام الحجة الواقف على نفسیات الرجال وتقدیر أعمالهم ذلک ان هذه الحالة أشجى للقلوب وأذرف للدموع فأی مؤمن یقف بذاک الحرم القدسی فلا یتمثل لدیه [والد وما ولد] وما تضمنه ذلک القبر من شلو مبضع ودماء سائلة وجروح دامیة ورأس محزوز وأصبح مفصول وجناجن طحنتها سنابک العادیات وأحشاء التهبت بالظما وقلب تشعب بالسهام.
وإلى جنبه بضعة الرسالة شبیه النبی (صلى الله علیه وآله) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً مقطع بالسیوف إرباً إرباً.
وإن الإمام الشهید عانى ما جرى على ولده ودیعة (محمد) فینظر إلیه معفراً على البوغاء ولم تدع المقاضب منه عضواً سالماً حتى فارقه أو فارق نفسه التی بین جنبیه ولم یسعه أن یغیثه بماء أو یرد عنه عادیة فوضع خده على خده ولم یرفعه إلا بدموع منهلة وزفرات متصاعدة.
فبطبع الحال یکون الموالی الماثل أمام الضریح المطهر معتلج الأشجان متدفق العبرة مرتفع العقیرة ویشتد ولاؤه ووده الذی هو أجر الرسالة.
(قل لا أسألکم علیه أجراً إلا المودة فی القربى)(56).
• زیارته:
فی مصباح المتهجد للشیخ الطوسی الحالة أشجى للقلوب وأذرف للدموع فأی مؤمن یقف بذأن صفوان الجمال استأذن الصادق (علیه السلام) فی زیارة الحسین وسأله أن یعلمه ما یقول إلى أن قال له ثم صر إلى رجلی الحسین وقف عند رأس علی بن الحسین وقل:
السلام علیک یا ابن رسول الله سلام علیک یا ابن نبیّ الله السلام علیک یا ابن أمیر المؤمنین السلام علیک یا ابن الحسین الشهید السلام علیک یا ابن الشهید وابن الشهید السلام علیک أیها المظلوم وابن المظلوم لعن الله أمّة قتلتک ولعن الله أمّة ظلمتک ولعن الله أمّة سمعت بذلک فرضیت به.
ثم انکب على القبر وقبله وقل:
السلام علیک یا ولی الله وابن ولیه لقد عظمت المصیبة وجلّت الرزیة بک علینا وعلى جمیع المسلمین فلعن الله أمة قتلتک وأبرأ إلى الله وإلیک منهم.
• رثاء وشاعر
للخطیب الفاضل الشیخ أحمد الوائلی
قـالــت سـعـاد وقـد تـمـلـک نـاظری***مـتـرقـرق مـن أدمـع حــمــــراء
مـتـحـیـر بـیـن الـخـدود ومحـجـری***یـستـــاق بــیـــن مسـرة وشجاء
إنـی عـهـدتـک لـلـشـجـون مـغـالـباً***فـمـتـى ألـفـت تـنـفـس الـصـعـداء
فـأجـبـتـهـا والـمـوریـات تـحدشـت*** تـذکـی أوار الـحــزن فی أحشائی
حـزن (ابن لیلى) یسـتـدر مدامعی***ومــضـــاء عــزمــتـه یثیر هنائی
نـدب تـحـــــدر مـــن سـلالة فـتـیـة***مـلأوا ربـــاع الأرض بــــــالآلاء
بــدر تـتـوجــه خــلائــق (أحــمــد)***بــفـــصـــاحــة وسـمـاحة ومضاء
مـتـجـلـبـب مـن (حـیـدر) بـشجاعة***ومــــن (الـحـسین) مـوشح باباء
سـل عـنه أکـنـاف الطفوف فکم بها*** تــرکت صـفیحـتـه مـن الأشــــلاء
وسـل الـقـواضـب والـقـنا عن نثره*** والنظم فهی بـه مـن الـخـبـــــراء
مـلک الـوغى بـحسامـه فأحـالـهــــا***دهــمـــاء أعــیــت ألـسن البلغاء
خـرسـت مـقـاولـهـا فـلا مـتـکـــلــم ***وغــدت تـــشـــیــر إلــیه بالإیماء
سـیـان عـنـد سـنـانـه وحـسامـــــه ***یــوم الــهــیــاج قــریـبها والنائی
بـطـل تـخـب بـه ربـیـبـة سـبـسب *** یـهـتـز صـلـواهـا مــن الـــخـــیـلاء
غـراء تـستـبـق الـنـواظر إن سرت***أوحـــت لـــذهـــنـک لیلة الإسراء
غـیـران یـفـتـک بالألــــوف وعمره***مــا جــاوز العقدین فی الإحصاء
و (الـسبـط) یـرصـده وفـوق جبینه***لـلـنظـارین بــوادر الــــــــــسراء
وأصـاخ یـسمع رجـزه ویـجـیـبــــه *** الـــمـیـــدان عند الرجز بالأصداء
وإذا بـــه یـــدعــــوه أدرکــنـی فقد*** دارت عــلـــی بــجـــمعها أعدائی
فـانـقـض مــثل الصقر شام فریسة***وجلا الصفوف وجال فی الأرجاء
حــتى إذا دفــع العــدى عـن شـبـله***آوى إلــیــه بـــلـــوعــة وبــکــاء
الــفـاه مـنـعـفر الـجـبـیـن تـمازجت***حـمـــر الـدماء بوجنة بــیــضــاء
ورأى شـفار الـمـرهفات تـلاعـبـت***بـجـمـال تـلـک الـقـامـة الـهــیـفاء
فـجـثـا وأقـنـع للـسمـاء بـشیــبـــــة***مـغـمـورة بـمـدامـع ودمــــــــــاء
یا عـدل قـد قـتـلـوا شـبـیـه (محمد)***انزل بساحتــهــم عــظــیــم بــلاء
المصادر :
1-الذریعة: ج 2 ص 458
2- الحدایق الوردیة مخطوط.
3- کامل الزیارات لابن قولویه: ص 240.
4- الطبری فی المنتخب من الذیل ملحق بجزء 12 ص 39، وابن کثیر فی البدایة: ج 9 ص 103
5- أنظر الاستیعاب فی معرفة الأصحاب - لابن عبد البر، ق 3 ج 3 ص 1066 - 1067 طبعة مصر.
6- أنظر نفس المهموم، للشیخ القمی.
7- سورة الزخرف: الآیة 31.
8- وبلفظ: فلما أشرف علیه قومه راجع الاستیعاب.
9- الاستیعاب، والإصابة: ج 3 ص 112 - 113 المطبوع على هامش الاستیعاب.
10- نفس المصدر.
11- الاستیعاب، والإصابة.
12- نفس المهموم، للشیخ القمی.
13- نفس المهموم، للشیخ القمی.
14- سورة القلم: الآیة 4.
15- المناقب: ج 2 112 إیران.
16- الخصال: ج 1 ص 39.
17- مستدرک الحاکم: ج 3 ص 211.
18- اللهوف للسید ابن طاووس: ص 63 صیدا.
19- یغلی: الأولى بمعنى یفیر، والنهیء: کامیر اللحم النی، ویغل: الثانیة ضد یرخص.
20- الشرف: الموضع العالی، والقابل: بمعنى المقبل.
21- السدى: هو الندى أول اللیل، والندى: هو النائل آخر اللیل.
22- مقاتل الطالبیی: ص 31، إیران.
23- کامل الزیارة لابن قولویه.
24- شرح لابن أبی الحدید: ج 3 ص 466.
25- تاریخ الطبری: ج 2 ص 180.
26- شرح النهج لابن أبی الحدید: ج 3 ص 454 و 458.
27- سورة قریش: الآیة 1 - 2.
28- الخصال للصدوق: ج 1 ص 312. والسیرة الحلبیة: ج 1 ص 5.
29- النبراس فی تاریخ بنی العباس: ص 165 والسیرة الحلبیة: ج 1 ص 4.
30- تاریخ الیعقوبی: ج 2 ص 11، وتاریخ الخمیس: ج 1 ص 270.
31- البحار: ج 9 ص 31.
32- روضة الواعظین للفتال: ص 69.
33- فی روایة أنه قال: (إنا لله وإنا إلیه راجعون والحمد لله رب العالمین)، أعیان الشیعة، للسید الأمین: ج 41 ص 171.
34- الفتوح، لابن اعم: ج5 ص 123، وبحار الأنوار، للمجلسی: ج 44 ص 379، 380، وتاریخ الإسلام، للذهبی: ج 2 ص 346، والأعیان.. غیرها بتفاوت ملحوظ فی صیغ الروایات المدونة.
35- السید الأمین فی الأعیان.
36- مقتل الحسین، للخوارزمی: ج 2 ص 11 ومقتل العوالم : ص 85 ورویت الأبیات مع إضافات، کما وقیل أنها للإمام الحسین:
لنعم الحر حر بنی ریاح*** صبور عند مشتبک الرماح
ونعم الحر فی وهج المنایا***إذ الأبطال تخطر بالصفاح
ونعم الحر إذ واسى حسیناً***وجاد بنفسه عند الصباح
فیا ربی أظفه فی جنان*** وزوجه من الحور الملاح
لقد فاز الأولى نصروا حسیناً***وفازوا بالکرامة والفلاح
37- وقیل إنه لیس الأول، بل لقد أدرجه ابن أعثم فی الفتوح: ج 5 ص 207 فجعله آخر من قتل، وهذا ما لا شهرة فیه.
38- الفتوح: ج 5 ص 207 و 208، ومقتل الحسین، للخوارزمی: ج 2 ص 30، بتفاوت لفظی.
39- المصدر السابق.
40- المصدر السابق.
41- کتاب سر السلسلة العلویة، لأبی نصر البخاری: ص 30 وهو من أعلام القرن الرابع للهجرة. حقق کتابه السید صادق الصدر طبعة النجف الأشرف.
42- کتاب نسب قریش، للزبیری ص 57 وهو من أعلام القرن الثالث للهجرة، حقق کتابه المستشرق أفرنستال.
43- وسیلة الدارین، للزنجانی: ص 292.
44- نسب قریش للزبیری: ص 57.
45- سر السلسلة العلویة، للبخاری: ص 30.
46- الإرشاد، للشیخ المفید، وغیره کالمقتل، للخوارزمی، وأعیان الشیعة، وفی الفتوح بعض الزیادة عن هذا. وفی الطبری والکامل نقصان عنه. وهکذا بتفاوت جلی.
47- مقتل الحسین، للخوارزمی: ح 2 ص 30 وفی الفتوح جاء (فلم یزل یقاتل حتى ضج أهل الشام من کثرة من قتل منهم، فرجع إلى بیه وقد أصابته جراحات کثیرة): ج 5 ص 209 بمعنى أن ثمة تسلیم بوجود بعض الشامیین.
48- الفتوح: ج 5 ص 209. ومقتل الحسین، للخوارزمی: ج 2 ص 30 - 31.
49- الفتوح، لابن أعثم: ج 5 ص 209.
50- مقتل الحسین، للخوارزمی: ج 2 ص 31.
51- مقتل الحسین، للسید المقرم هامش: ص 313.
52- مقتل الحسین، للمقرم: ص 313.
53- الطبری: ح 4 ص 340.
54- وفی کتاب اللهوف، لابن طاووس أنه سدد له سهماً قاتلاً.
55- الطبری: ج 4 ص 340، واللهوف: ص 44، وابن الأثیر: ج 3 ص 293.
56- سورة الشورى: الآیة 23.
source : rasekhoon