عن أمير المؤمنين عليه السلام
فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ وَاعْتَبِرُوا بِالْآيِ السَّوَاطِعِ وَازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ وَانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِيَّةِ وَدَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَالسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فَكُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا1.
وَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً وَلِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً2.
إنّ سوء الحساب هو دقّة الحساب، والمتابعة التامّة لكلّ تفصيل من التفاصيل، فكلّ فعلٍ قام به الإنسان في هذه الدنيا صغيراً كان أو كبيراً،
سوء الحساب
قال تعالى: "وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ"3.
إنّ من أعظم أهوال يوم القيامة هو سوء الحساب، فما هو المراد من سوء الحساب؟
إنّ الله عزّ وجلّ أعدل العادلين، وفي يوم القيامة لا تظلم نفس شيئاً، ولذا كيف يكون سوء الحساب؟ إنّ سوء الحساب هو دقّة الحساب، والمتابعة التامّة لكلّ تفصيل من التفاصيل، فكلّ فعلٍ قام به الإنسان في هذه الدنيا صغيراً كان أو كبيراً، فإنّه سوف يسأل عنه في يوم القيامة، وهذا ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام لرجل شكاه بعض إخوانه: "ما لأخيك فلان يشكوك؟ فقال: أيشكوني أن استقصيت حقّي؟! قال: فجلس مغضباً ثمّ قال عليه السلام: كأنّك إذا استقصيت لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله تبارك وتعالى:?وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ? أخافوا الله أن يجور عليهم؟! لا والله! ما خافوا إلّا الاستقصاء، فسمّاه الله سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساء"4.
فالعبد المؤمن الذي يذنب الذنب قد يناله العفو يوم القيامة، أو تشمله الرحمة الإلهيّة في ذلك اليوم، فينجو بذلك من جهنّم، ولكن هل ينجو من السؤال الإلهيّ عن تلك الذنوب؟
إنّ هذه الذنوب وإن خفيت على الناس ولكنّها لا تخفى على الله عزّ وجلّ، لأنّه المطّلع على كلّ شيء، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"5.
مَن يدخل الجنّة بغير حساب؟
قال تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ"6.
تتحدّث الآية عن الصابرين الذين تكتب لهم النجاة من الحساب، وللصبر أقسام، فالصبر قد يكون على البلاء الذي يحلّ بهذا الإنسان، فلا يخرج عن طاعة الله إلى معصيته، ولكن من أقسام الصبر، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، فإنّ النفس الأمارة بالسوء تدعو الإنسان إلى المعصية، وترك الواجب، ومن يصبر على مخالفة هوى النفس وأوامرها هو الصابر، الذي ينجو من الحساب، ففي الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ينادي منادٍ: أين الصابرون ليدخلوا الجنّة جميعاً بغير حساب إلى أن قال قالت الملائكة لهم: من أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا من معصية الله"7.
إنّ الحساب الإلهيّ في يوم القيامة هو على العمل الذي يقوم به الإنسان في هذه الدنيا، وكلّما ازداد عطاء الله للإنسان في هذه الدنيا؛ من المال والجاه والولد، كلّما ازدادت مسؤوليّته، وطال موقفه في يوم القيامة،
كلّما ازداد العطاء عظم الحساب
إنّ الحساب الإلهيّ في يوم القيامة هو على العمل الذي يقوم به الإنسان في هذه الدنيا، وكلّما ازداد عطاء الله للإنسان في هذه الدنيا؛ من المال والجاه والولد، كلّما ازدادت مسؤوليّته، وطال موقفه في يوم القيامة، لأنّه سوف يسأل عن كلّ هذا، وذلك خلافاً لمن لم يكن ذا مالٍ ولا ذا جاهٍ ولا ذا ولد في هذه الدنيا، فإنّ حسابه يكون أخفّ بكثير؛ ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة قام عنق من الناس حتّى يأتوا باب الجنّة فيضربوا باب الجنّة، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الفقراء، فيقال لهم: أقَبْلَ الحساب؟ فيقولون: ما أعطيتمونا شيئاً تحاسبونا عليه، فيقول الله عزّ وجلّ: صدقوا، ادخلوا الجنّة"8.
فالإنسان الذي يسعى في الليل والنهار في سبيل جمع المال، أو يدخل في عداوات وصراعات مع رحمه وإخوانه في سبيل الوصول إلى منصبٍ ما، عليه أن يتذكّر أنّه بذلك يسعى ليكون حسابه طويلاً في يوم القيامة.
أسرع بمحاسبة نفسك
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر"9.
إنّ أفضل طريق لكي يأمن الإنسان سوء الحساب في يوم القيامة، أن يسبق ذلك بمحاسبة نفسه في هذه الدنيا، فإنّه بذلك يتمكّن من أن يعالج ما قد اقترفه من الذنوب، بالتوبة والاستغفار، أو طلب العفو من الناس في حقوق الناس، كما أنّه يتمكّن من استزادة فعل الطاعات، عندما يجد من نفسه التقصير في ذلك، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "حقّ على كلّ مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كلّ يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنةً استزاد منها، وإن رأى سيّئةً استغفر منها، لئلّا يخزى يوم القيامة"10.
صلة الرحم، تهوّن الحساب
ورد في العديد من الروايات، أنّ صلة الرحم هي من أعظم ما يوجب تخفيف الحساب في يوم القيامة، نذكر منها رواية إسحاق بن عمار حيث قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ صلة الرحم والبرّ ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب، فصِلوا أرحامكم، وبرّوا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردّ الجواب"11.
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام: "صلة الرحم تهوّن الحساب يوم القيامة، وهي منسأة في العمر، وتقي مصارع السوء، وصدقة الليل تطفئ غضب الربّ"12.
العفو في الدنيا يلازم العفو في الآخرة
يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الناس في يوم القيامة ينقسمون إلى مجموعتين، فمجموعة يحاسبهم الله بيسرٍ وسهولة وبغير تدقيق، "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا"13. وعلى العكس من ذلك هناك مجموعة يحاسبون بشدّةٍ، حتّى الذرّة والمثقال من الأعمال يحاسبون عليه، كما حدث لبعض البلاد التي كان أهلها من العاصين، "فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا"14. إنّ هذا الحساب الشديد هو نتيجة لما كان يقوم به هؤلاء في حياتهم، من استقصاء الآخرين حتّى الدينار الأخير، وإذا ما حدث خطأ من أحد فإنّهم يعاقبون بأشدّ ما يمكن، ولم يسامحوا أحداً حتّى أبناءهم وإخوانهم وأصدقائهم، وبما أنّ الآخرة انعكاس لحياة الدنيا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يحاسبهم حساباً شديداً على أيّ عمل عملوه بدون أدنى سماح، وعلى العكس فهناك أشخاص سهلون ومسامحون ومن أهل العفو، خصوصاً في مقابل أصدقائهم وأقربائهم وذوي الحقوق عليهم أو الضعفاء، ويغضون النظر عنهم وعن كثير من زلّاتهم الشخصيّة، وفي مقابل ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يشملهم بعفوه ورحمته الواسعة ويحاسبهم حساباً يسيراً15.
حساب الغني والفقير
عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام قال: "إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة: فقيرٌ في الدنيا، وغنيٌّ في الدنيا، فيقول الفقير: يا ربِّ على ما أوقف؟ فوعزّتك إنّك لتعلم أنّك لم تولني ولايةً فأعدل فيها أو أجور، ولم ترزقني مالاً فأؤدّي منه حقّاً أو أمنع، ولا كان رزقي يأتيني منها إلّا كفافاً على ما علمت وقدرت لي، فيقول الله جلّ جلاله: صدق عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة، ويبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها، ثمّ يدخل الجنّة، فيقول له الفقير: ما حبسك؟ فيقول: طول الحساب، ما زال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي، ثمّ أسأل عن شيء آخر حتّى تغمّدني الله عزّ وجلّ منه برحمة وألحقني بالتائبين، فمن أنت؟ فيقول: أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً، فيقول: لقد غيرّك النعيم بعدي16.
*حياة القلوب، سلسة الدروس الثقافية
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- الخطبة: 85
2- الخطبة: 102
3- سورة الرعد، الآية 21.
4- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 7 ص 266.
5- سورة الزلزلة، الآية 7-8.
6- سورة الزمر، الآية 10.
7- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 79 ص 138.
8- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 265.
9- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 67 ص 73.
10- ميزان الحكمة - محمّد الريشهري - ج 1 ص.619
11- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص157.
12- م.ن. ج 2 ص 157.
13- سورة الانشقاق، الآية 8.
14- سورة الطلاق، الآية 8.
15- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 7 ص 385.
16- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 7 ص 259.
source : tebyan