الجلودي يرعب ودائع آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلّم )
سنة 199 هجرية
المدينة المنوّرة
بعض العلويين يعلنون الخروج على حكم بني العباس في المدينة ، وفي مكة ، وفي اليمن .
وكان محمد بن جعفر قد خرج عليهم في مكة أيام حكومة المأمون ، فأرسل إليه المأمون جيشاً للقضاء عليه بقيادة الجلودي ، وأمره بضرب عنقه إن ظفر به .
ولم يقف أمر المأمون عند هذا الحد ، بل أوعز إليه يغير ويهجم على دور آل أبي طالب في المدينة ، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً .
وحاول الجلودي أن ينفذ الأمر بنفسه ، فهجم على دار الإمام ا لرضا ( عليه السلام ) بخيله ، فلمّا نظر إليه الإمام جعل النساء كلهنٌ في بيت (1) واحد ، وكانت السيدة المعصومة ( عليها السلام ) إحداهن (2) . ووقف الإمام على باب البيت يمنع الجلودي وجنده من اقتحامه .
فقال الجلودي : لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين .
فقال ( عليه السلام ) : أن أسلبهن لك ، وأحلف أن لا أدع عليهن شيئاً إلا أخذته .
وعلى نفس نهج أسياده العباسيين ظل الجلودي مصرا على سلب عقائل آل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد آثر الجلودي أن يكون ناصبياً (3) من القَرن الاول الهجري يعيش على مشارف القرن الثالث ، يحمل حقد وكراهية وحسد أولئك الذين هاجموا بيت الوحي والرسالة ، وافتحموا على السيدة الزهراء ( عليها السلام ) دارها ، وأسقطوا جنينها ، وصنعوا مع إبنة صاحب الوحي ما تقشعر منه الأبدان ، ويندى له جبين التأريخ (4) .
بهذه النفسية الحاقدة ، وبهذه الروح الشريرة هاجم الجلودي دار الإمام ( عليه السلام ) ، فحقده على أهل البيت كان الهواء الذي يتنفسه ، ويحفظ عليه حياته ومقامه عند أسياده العباسيين .
ولكنّ الإمام ( عليه السلام ) يمنعه من اقتحام البيت . وليس الجلودي ـ وأشباهُهُ ـ جديراً ليستجيب للعواطف والتوسلات ، أو ليخضع للمنطق والبرهان ، فهو ممن ملئت قلوبهم بغضا وحنقاً وحسداً لأهل بيت النبوة ، ولا يعرفون إلا لغة السلاح ومنطق القوة والظلم والإضطهاد .
فلم يزل الإمام يطلب إليه ويحلف له ، حتى سكن الجلودي ووافق على طلب الإمام .
فدخل الإمام فلم يدع عليهن شيئا إلا أخذه منهن حتى اقراطهن وخلاخيلهن واُزرهن ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير .
ويظهر أن هذه الحادثة هي من مسلسل ضغوط المأمون لإرغام الإمام ( عليه السلام ) وإخراجه من المدينة إلى خراسان حيث يكون تحت منظار المأمون ورقابته ، إذ إن الحادثة كانت بعد سنة من تولّي المأمون للحكم ، فقد خلص الأمر له سنة 198 هـ ، وتوصل تفكيره الشيطاني إلى القضاء على الإمام ( عليه السلام ) وتشويه سمعته بجلبه إلى خراسان ، وتسليمه الخلافة أو ولاية العهد ، وللضغط عليه لاستقدامه أنفذ إلى الجلودي بالإغارة على دار الإمام ، وسلب عقائل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإرعابهنٌ .
ولما رحل الإمام إلى خراسان واُدخل على المأمون قام فرحب به واظهر المحبة والإخلاص له ، وعرض عليه الخلافة فأبى الإمام ( عليه السلام ) ، فعرض عليه ولاية العهد ، فقبلها الإمام مرغماً بعد تهديد المأمون له (5) . عندها أمر المأمون القواد والحجّاب والقضاة وسائر الطبقات بمبايعة الإمام ( عليه السلام ) بولاية العهد ، ولكن بعض قادة المأمون نقموا البيعة ولم يرضوا بها ، فاعتقلهم المأمون . ثم أمر بإدخالهم عليه منفردين .
وكان الجلودي أحدهم ، فلما اُدخل على المأمون ووقع نظر الإمام عليه قال ( عليه السلام ) للمأمون : هب لي هذا الشيخ (6) ! !
فقال المأمون : يا سيدي ! هذا الذي فعل ببنات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فعل من سلبهن ! !
فنظر الجلودي إلى الاإمام ( عليه السلام ) وهو يكلم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ويهبه له ، فظن أن الإمام يعين عليه لما كان قد فعله من افتحامه دار الإمام وإرعابه أهل بيته .
فقال الجلودي : يا أمير المؤمنين ! أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في ! !
فقال المأمون : يا أبا الحسن ! قد استعفى ، ونحن نبر قسمه .
ثم قال : لا والله لا أقبل فيك قوله . الحقوهُ بصاحبيه (7) .
فقدم فضربت عنقه (8) .
* * *
هذه الحادثة ـ أي حادثة اقتحام دار الإمام الرضا ( عليه السلام ) ـ إنفرد بذكرها الشيخ الصدوق في كتابه « عيون أخبار الرضا » حيث يقول :
« وكان الجلودي في خلافة الرشيد لما خرج محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة (9) ، بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه ، وان يغير على دور آل أبي طالب ، وأن يسلب نساءهم ، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً . ففعل الجلودي ذلك ، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) . . . » (10) .
قد تتسائل ـ أيها القارىء الكريم ـ :
إذا كان الشيخ الصدوق قد انفرد بذكر الحادثة وأنّها كانت في عهد الرشيد ، فكيف تنسب القضية إلى المأمون ؟
استميح القاريء عذرا ، وأرجوه أن يمهلني أسطراً حتى تتضح له حقيقة الأمر .
1 ـ أن الحادثة وقعت في زمان هارون .
2 ـ أن الحادثة تزامنت مع خروج محمد بن جعفر .
ولكن أرباب السير والتاريخ من الفريقين اتفقوا على أن خروج محمد بن جعفر كان في عصر المأمون في سنة 199 هـ أو 200 هـ .
فالشيخ المفيد (قدس سره) يقول في الإرشاد :
« وكان محمد بن جعفر شجاعاً سخياً ، . . . وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة ، واتبعته الزيدية الجارودية ، فخرج لقتاله عيسى الجلودي ، ففرق جمعه وأخذه وانفذه إلى المأمون » (11) .
كما أن الطبري في تاريخه (12) وإبن الأثير في الكامل (13) ذكرا خروج محمد بن جعفر في ضمن حوادث عام 199 ـ 200 هـ ، فراجع .
والجدير بالذكر أن نفس الشيخ الصدوق ذكر ما يوافق ذلك في كتابه « عيون أخبار الرضا » حيث نقل الرواية التالية :
الورّاق ، عن سعد ، عن إبن أبي الخطّاب ، عن إسحاق بن موسى (14) .
قال : « لما خرج عمي محمد بن جعفر بمكة ، ودعا إلى نفسه ، ودعي بـ « أمير المؤمنين » ، وبويع له بالخلافة ، دخل عليه الرضا (عليه السلام ) وأنا معه .
فقال له : يا عم ! لا تُكذب أباك ولا أخاك ، فإن هذا الأمر لا يتمّ .
ثم خرج وخرجت معه (15) إلى المدينة ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قدم الجلودي ، فلقيه فهزمه ، ثم استأمن إليه ، فلبس السواد ، وصعد المنبر فخلع نفسه .
وقال : إن هذا الأمر للمأمون ، وليس لي فيه حق » (16) .
وهذه العبارة الأخيرة تدل بكل وضوح أن خروج محمد بن جعفر كان في عهد المأمون ، فالشيخ الصدوق يذكر هنا بأنّ محمد بن جعفر قد خرج في زمان المأمون لا الرشيد (17) .
فلماذا ذكر الشيخ الصدوق في رواية الإقتحام أنّ خروجه كان في زمان الرشيد ؟
إن منشأ هذا الإشتباه قد يكون أحد أمرين :
الأمر الأول : الخلط بين هارون الرشيد وبين هارون بن المسيب أحد قادة المأمون زمن حادثة الجلودي .
ففي الكافي : « لما أراد هارون بن المسيب أن يواقع محمد بن جعفر . . . » (18) .
وفي مقاتل الطالبيين : « أن جماعة من الطالبيين اجتمعوا مع محمد بن جعفر فقاتلوا هارون بن المسيب بمكة قتالاً شديداً . . . » (19) .
وقال إبن قتيبة : « ووجه الحسن بن سهل هارون بن المسيب إلى الحجاز لقتال العلوية ، فاقتتلوا ، فهزمهم هارون بن المسيب ، وظفر بمحمد بن جعفر ، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته . . . » (20) .
وقد مرّ علينا أيضا (21) أن الذي قاتل محمد بن جعفر هو الجلودي ، والظاهر أنه لا تنافي في ذلك ، فالجلودي يكون قد نفذ أمر المأمون بتوجيه من هارون بن المسيب وتحت قيادته .
بل في شرح الأخبار ما يوضّح ذلك ويرفع التنافي : فقد جاء فيه :
« وقام جماعة من ا لعلويين في سنة المائتين على المأمون ، وكان من قام منهم عليه محمد بن جعفر بن محمد ، قام بمكّة ، فبايعه أهل الحجاز وتهامة على الخلافة . . . . فأنفذ [المأمون] إليه الحسن بن سهل ، وهارون بن موسى المسيب ، وعيسى بن يزيد الجلودي ، ورقا بن محمد الشيباني وهم من جملة قوّاد المأمون ، وأوقعوا على أصحابه بالمدينة ومكة وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ، وتفرق عامتهم واستامن [محمد بن جعفر] ، واكذ نفسه فيما ادعاه من الإمامة ، فاومن وحمل إلى المأمون إلى خراسان ، فمات بها » (22) . وعليه فقد يكون المصدر الذي استقى منه الشيخ الصدوق قد ذكر إسم هارون بن المسيب مجرداً عن الإسم واللقب التالي ، فتصوّره الرشيد ، خاصّة وأن الجلودي كان قد خدم الرشيد كما مر عليك في ثنايا حادثة الإقتحام التي نقلها الشيخ الصدوق .
الأمر الثاني : أن الشيخ الصدوق قد خلط بين محمد بن جعفر الذي خرج في زمن الرشيد ، وبين محمد بن جعفر الذي خرج في زمن المأمون فالذي خرج في زمن الرشيد هو محمد بن جعفر بن يحيى بن الحسن بن الحسن بن الحسن كما في مروج الذّهب حيث يقول : « وقد كان محمد بن جعفر بن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ( كرم الله وجهه ) ، سار إلى مصر ، فطلب ، فدخل المغرب ، واتصل ببلاد تاهرت السفلى ، واجتمع إليه خلق من النّاس ، فظهر فيهم بعدل وحسن استقامة ، فمات هنالك مسموماً . . . » (23) .
والذي خرج في زمن المأمون هو محمد بن جعفر بن محمد ـ كما مر آنفاً .
فنستنتج مما سبق : أنّ هذه الحادثة كانت في زمان المأمون ، وقبيل وفاة السيدة المعصومة ( عليها السلام ) بسنتين :
وعلى فرض وقوعها في عهد هارون فالسيدة تكون أيضا قد عايشت الواقعة بكل تفاصيلها ، فكما ذكر الشيخ الصدوق أن الحادثة وقعت وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، أي بعد عام 183هـ .
* * *
كانت هذه صورة من صور المحن والآلام التي عاشتها سيدتنا ومولاتنا المعصومة ( عليه السلام ) .
ويكفيك أن تتخيل وتتصور أجنبياً يروم دخول دارك ، فيكشف عرضك ليسلب أمك أو زوجتك أو أختك . فما هو حالك إذا علمت أن المراد سلبهن هن بنات أهل بيت العصمة والطهارة ؟
يكفيك تصور ذلك حتى تعلم عظم الحادثة وفجاعتها .
____________
(1) أي في غرفة واحدة ، وهذا يعني أن الجلودي دخل على الإمام بخيله في ساحة الدار ، وما يواكب ذلك من إرعاب عقائل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
(2) حيث إن هذه الحادثة كانت قبيل وفاتها بعامين ـ كما سيأتي ـ .
(3) الناصبي : هو من نصب العداوة لآل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتظاهر ببغضهم . بل قالوا : إن الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعتهم وتظاهر بالوقوع فيهم ، وممن ذهب إلى ذلك الشهيد الثاني (قدس سره) في مبحث الأسآر : ص 157 من كتابه روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان .
(4) راجع إثبات الوصية : ص 124 ، وتاريخ اليعقوبي : ج2 ص 126 ، والامامة والسياسة : ص 30 و31 ، كما وتراجع المصادر التالية : لسان الميزان ، الملل والنحل ، أنساب الأشراف ، العقد الفريد ، أعلام النساء ، الوافي بالفويات ، تاريخ أبو الفداء .
(5) راجع تفصيل مسألة ولاية العهد في كل مما يلي :
أصول الكافي : ج1 ص488 ، الحديث السابع .
عيون أخبار الرضا : ج2 ص 138 .
الإرشاد : ج2 ص259 .
(6) أراد الإمام ـ مع كل ما أدخَلَهُ الجلوديّ من رعب على العقائل ـ أراد أن يكافئه على استجابته له وعدم سلبه لهن بنفسه .
(7) أي علي بن أبي عمران وأبو يونس ، اللذان ضربت عنقاهما قبل الجلودي .
(8) لاحظ عيون أخبار الرضا : ج2 ص 161 .
(9) سيأتي من الشيخ الصدوق أن خروج محمد بن جعفر كان بمكة ، وهذا ما ذكره غيره أيضاً .
(10) عيون أخبار الرضا : ج2 ص 161 .
(11) الإرشاد : ج 2 ص 211 .
(12) تاريخ الطبري : ج 5 ص 129 في حوادث سنة 200 هـ .
(13) الكامل في التاريخ : ج 4 ص 154 في حوادث سنة 200 هـ .
(14) إبن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
(15) أي خرج الإمام الرضا ( عليه السلام ) وخرج معه أخوه إسحق .
(16) عيون أخبار الرضا : ج2 ص 207 ح8 .
(17) قد يقال : إنه لا مانع من كون خروج محمد بن جعفر في زمان الرشيد ، وكون إلقاء القبض عليه في زمان المأمون .
والجواب :
أولاً : هذا مناف لما ذكره أهل السير والتاريخ من أن محمد بن جعفر خرج في حكومة المأمون .
ثانياً : هذا لا يتناسب مع نفس الحديث الأخير الذي ذكره الصدوق ، إذ فيه : « فلم يلبث إلا قليلاً حتى قدم الجلودي » ، وقد مات الريد في عام 193 هـ ، وتولى المأمون الحكم في عام 198 هـ أي بعد ست سنوات ، وهذا لا ينسجم مع قوله : « فلم يلبث إلا قليلا » .
(18) أصول الكافي : ج1 ص 491 ح 9 .
(19) مقاتل الطالبيين : ص 359 .
(20) المعارف : ص 389 .
(21) من الإرشاد وتاريخ الطبري وتاريخ ابن الاثير .
(22) شرح الأخبار : ج3 ص 336 .
(23) مروج الذهب : ج3 ص 353
source : sibtayn