ينتظم حق المرأة العام في نظام الاقتصاد الإسلامي ضمن مجموعة من الحقوق الجزئية، التي تكون في مجموعها إطاراً متلاحماً من الحقوق المترابطة التي تعمل في مجملها على إبقاء شخصية الفتاة معتبرة الجانب، محفوظة الذات من كل ما يَشينها، أو يحطُّ من مكانة أسرتها، أو يضر بمجتمعها، ضمن ما يوصف بالحياة الطيبة، التي قال عنها المولى عز وجل : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1)
ولقد عاشت الفتاة - والإناث عموماً- عبر تاريخ الإنسانية نوعين من الحياة، لم تخرج في أحدهما عن سلطان الرجل وإشرافه - المباشر أو غير المباشر- أحدهما: حياة صالحة كريمة في كنف قيادة رجولية مؤمنة عادلة، والأخرى: حياة بائسة ذليلة في ظل سيادة ذكورية جاهلة ظالمة، فتتمتع في الأولى بالسعادة والرخاء، وتعاني في الأخرى من البؤس والشقاء، فهي دائماً - بالطبيعة- أول المضطهدين عند غياب الإيمان والتقوى.
ومن المستبعد في مستقبل الحياة الإنسانية -وقد أشرفت البشرية على نهاية الدنيا- أن يطرأ تغيُّر جوهري على وضع النساء، بحيث يصبحن أنداداً للرجال، فضلاً عن أن يصبحن سادة الدنيا، فإذا لم يتحقق مثل هذا في السابق والحاضر فإن ذلك أبعد في المستقبل، فقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكون القيِّم على خمسين امرأة رجلاً واحداً، بمعنى أن النساء يكثرن في مقابل عدد الذكور، ومع ذلك يتبعنه ويلذن به، كما جاءت الروايات مصرِّحة بذلك، ولا يستطعن الاستقلال بأنفسهن فضلاً عن السيطرة على الحياة الإنسانية.
والمتأمل في تاريخ الإنسانية الطويل وحتى اليوم، وعبر الحضارات المختلفة المتعاقبة لا يجد هذا المعنى يتخلَّف عن أي تجمع إنساني - متطوراً كان أم مختلفاً- فمتى ما وُجدت الجاهلية: وُجد معها - بالضرورة - اضطهاد الإناث في صورة من الصور الظاهرة أو الخفية، حتى الجاهلية الفرعونية التي يحاول بعضهم عبثاً أن يستثنيها من بين الحضارات الجاهلية الظالمة لعنصر الإناث، معتمدين في ذلك على رسوم ونقوش تصور المرأة بجانب الرجل، وكأن الرموز والصور في حد ذاتها تُعطي الفراعنة براءة من دم آسية امرأة فرعون، التي دُقَّت الأوتاد في يديها ورجليها، وحجَّة على اضطهاد نساء بني إسرائيل، كما صورها القرآن الكريم، إضافة إلى عادة قذف فتاة حسناء في مياه النيل، ضمن ما يُسمى: "وفاء النيل"، زاعمين أن ذلك يمنع من نقص مياه النهر.
وأما الجاهلية العربية، فمع محاولة بعضهم تحسين صورة الفتاة فيها: فإن الإجماع قائم على غير ذلك، فهي لا تعدو أن تكون متْعة مستلذة، أو رحماً ناتقاً، أو حملاً ثقيلاً، أو ذاتاً موؤدة، وغير ذلك لا يعدو أن يكون شذوذاً لا يُلتفت إليه، وهذا السيد الخبير عمر بن الخطاب يصف مكانة المرأة في الجاهلية، وكيف كانوا يعاملونها فيقول فيما روي عنه: "…. كنا بمكة لا يكلِّم أحدنا امرأته، إنما هي خادم البيت، فإذا كان له حاجة سَفَعَ برجليها فقضى حاجته….".
وأما جاهلية العصور الوسطى الأوروبية، التي سيطرت عليها ضلالات الكنيسة، فهي لا تعدو أن تكون امتداداً لمظالم اليونان، ونظرتهم الحقيرة إلى الأنثى؛ إذ لم تكن المرأة بعيدة عن ممارسات الظلم والاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل حتى الإذلال النفسي، حينما تحمَّل الأنثى أسباب الغواية الأولى، وبلية البشرية وضلالها، ولم ينته ظلم المرأة بعصر النهضة والتنوير؛ فإن القرن التاسع عشر الميلادي يمثل في "الثقافة الأوروبية والأمريكية إحدى الفترات التاريخية التي كانت تعاني فيها المرأة أشد حالات القهر والظلم والاضطهاد"، ولم تكن المرأة في المجتمعات الاشتراكية لتنجو من صور جديدة من الخسف والظلم على أيدي الاشتراكيين، واستغلالهم الاقتصادي.
وأما الجاهلية الحديثة فهي الأخرى لا تعدو أن تكون صورة مكررة من الجاهليات الماضية، تمارس على الفتاة صنوفاً جديدة من الاضطهاد والعسف، والاستغلال الجنسي البشع، والظلم الاجتماعي والاقتصادي، مع الإبقاء على بعض المظاهر الخادعة -التي يقتضيها العصر- من صور التكريم والإجلال في الأندية واللقاءات العامة، وإعلانات حقوق الإنسان في مجامع منظمة الأمم المتحدة، ويكفي العالم المتحضر خزياً أن يشكل النساء (70%) من فقراء العالم.
إن هذه الجاهليات المتعاقبة تتفق كلُّها على اضطهاد النساء حين تغيب عن حياة الأمم هيمنة تعاليم الوحي المبارك التي تجعل الجنة عند قدم الأم الوالدة، وتأمنها على المصحف الأم، وتوجب الاقتداء بها في السعي بين الصفا والمروة، وتسمح لها أن تطأ بقدمها ركبة أعظم الخلق، ثم لا يختار المولى عز وجل مكاناً يقبض فيه أكرم نسمة عليه أفضل من حجر فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، وأما ما يُنسب إلى السنة النبوية مما يخالف هذا التوجه، فإنه لا يعدو أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً، ويكفي المرأة كرامة أن يعلن النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين محذراً ومنبهاً فيقول: "اللهم إني أحرِّج حقَّ الضعيفين: اليتيم والمرأة".
إن هذه التعاليم الربانية، والممارسات الواقعية التي ترقى بالفتاة إلى هذا المقام: لا يمكن أن تقْصُر عن حقوقها الاقتصادية، التي لا تزيد عن كونها جزءاً من حقوقها الإنسانية العامة التي حباها بها الإسلام.
أهم خصائص الفتاة الاقتصادية:
1- اختصاصها بالكفالة الاقتصادية، وعدم إلزامها النفقة؛ حتى تتفرغ لمهام الإنجاب ورعاية الأطفال وخدمة الأسرة، مما يتطلب قيام المجتمع بمهمتها التربوية على أكمل وجه.
2- اختصاصها بالصناعات المنزلية باعتبارها حرفة للكسب دون أن تتعارض مع مسؤولياتها الأسرية ومهماتها التربوية، وهذا يتطلب تعريفها بهذه الحرف، وتطويرها، وتدريبها عليها حتى تستغلها في الكسب الشريف ضمن نطاق الأسرة.
3- اختصاصها بمعاناة أزمة صراع الأدوار الاجتماعية عند محاولة جمعها بين العمل خارج المنزل ومهمة الخدمة الأسرية ورعاية النشء، مما يتطلب التأكيد على الحرف المنزلية، والتوسع فيها حتى تنحصر هذه الصراعات في أضيق حدود.
4- اختصاصها بأنواع من المهن العامة المشروعة، التي توافق طبيعتها الإنسانية، وتراعي مهمتها الاجتماعية، وتحقق في الوقت نفسه خدمة يحتاج إليها المجتمع، وبخاصة مهنتي الطب والتعليم مما يتطلب التأكيد على تهيئة الظروف التعليمية الصالحة لتوجيه بعضهن إلى المهن التي توافق طبيعتهن، وتحقق في الوقت نفسه خدمة للمجتمع من الصعب أن يقوم بها الرجال.
5- اختصاصها بكونها شغوفة بالزينة والميل إلى المباهاة بالممتلكات مما يتطلب تربيتها على الاعتدال وعدم التبذير والإسراف، مع تنمية قدرتها على السيطرة على رغباتها الجامحة.
أهداف تربية الفتاة الاقتصادية:
1- اقتناع الفتاة بطبيعة العدل في نظام الاقتصاد الإسلامي.
2- وعي الفتاة باضطهاد الإناث الاقتصادي في ظل سلطان الأنظمة الجاهلية القديمة منها والحديثة.
3- تمكين الفتاة من الانتفاع بحقوقها الاقتصادية المقررة في الشريعة الإسلامية.
4- إدراك الفتاة بأن مهمة الضرب في الأرض للكسب والإنفاق على الأسرة في أصلها الشرعي مهمة الرجال.
5- تعرف الفتاة على الأحكام الشرعية لتصرفاتها المالية مع تقيُّدها بها.
6- اقتناع الفتاة بالقيمة الاقتصادية للخدمة الأسرية.
7- إسهام الفتاة بالعمل الحِرَفي المباح في إحياء الصناعات المنزلية.
8- استغلال طاقة الفتاة الريفية في تنمية ثروة العائلة الزراعية.
9- رفع مستوى تدبير الفتاة المالي ضمن الحد الشرعي المطلوب.
10- إحياء مبدأ القناعة والرضا بمستوى الفتاة الاقتصادي في المجتمع.
11- إدراك الفتاة للغاية الشرعية من وراء جميع أعمال التنمية الاقتصادية العامة.
12- حماية شخص الفتاة من كل صور الاستغلال الاقتصادي لجسدها وصورتها وصوتها.
13- امتناع الفتاة عن ممارسة العمل المختلط بالرجال الأجانب.
14- تقبُّل الفتاة لمبدأ التخصص المهني بين الجنسين ورفض دعوى المساواة بينهما في أنواع المهن.
15- اقتناع الفتاة بعدم توافق طبيعة العمل السياسي مع تربيتها الإسلامية وفطرتها الأنثوية ووظيفتها الاجتماعية.
أهمية التربية الاقتصادية للفتاة المسلمة
إن للإسلام نظامه الاقتصادي الخاص، الذي يحكم جميع الممارسات التنموية -الفردية والجماعية - ويحدد للفرد- ذكراً كان أو أنثى- موقعه من الهيكل الاقتصادي، ودوره الإيجابي الأمثل في دعم المسيرة التنموية ضمن ثوابت الشريعة العامة، وأحكامها التفصيلية، في نموذج فريد متكامل الجوانب، ومترابط الأطراف، يعضد بعضه بعضاً، ويسند بعضه بعضاً، في بناء رباني كامل لا يدخله الخلل أو النقص أو التناقض، الذي أصبح سمة واضحة لأنظمة الاقتصاد الوضعية التي تقوم أصولها على قصور الطبيعة البشرية، بعيداً عن وحي الله تعالى المبارك، ومنهجه الفريد المحكم.
ولما كانت التنمية الاقتصادية - بل والتنمية بصورة عامة- مفتقرة بصورة دائمة إلى إطار اجتماعي تنمو من خلاله: برز دور المرأة كعضو اجتماعي فاعل، فاتخذ الاهتمام بها صفة دولية، فمنذ أن عُقد أول مؤتمر نسائي دولي في جنيف عام 1920م، والمؤتمرات العالمية والإقليمية الخاصة بهن تتابع بصورة متلاحقة، فضلاً عن الاهتمامات الكبرى التي تُوليها مراكز البحث الغربية لقضايا المرأة بصورة عامة، وقضايا المرأة المسلمة بصورة خاصة، لاسيما بعد التغيرات الجذرية الناتجة عن الصراعات الثورية، والنهضات الصناعية التي خاضها العالم الغربي، وبعد أن ثبت عندهم من خلال الدراسات الواقعية: "أن المرأة هي المستهلك الأول لما تنتجه المجتمعات المتقدمة"، فزاد بالتالي الاهتمام بها واستغلالها كعضو منتج من جهة، ومستهلك من جهة أخرى.
ولم تكن المرأة المسلمة بمعزل عن هذه التفاعلات الاقتصادية العالمية، فقد نالها قدر من هذه التغيرات والصراعات الاجتماعية، التي أثرت بصورة كبيرة في مفاهيمها الاقتصادية، وسلوكها الاستهلاكي، ومسؤوليتها الاجتماعية، فكان من الضروري إعادة النظر من جديد في أسس تربيتها الاقتصادية بهدف إبراز حقوقها المالية في المجتمع المسلم، ودورها الحقيقي في الاقتصاد الأسري، ووضع ذلك كله ضمن إطار تربوي إسلامي يتناسب وطبيعة الحياة المعاصرة من جهة، ويُبقي من جهة أخرى على الثوابت الاقتصادية صفة الديمومة اللازمة لها ضمن قيم الإسلام وكلياته العامة.
ويمكن -بناء على ذلك- وضع تعريف للمقصود من التربية الاقتصادية للفتاة المسلمة على النحو التالي: إعداد الفتاة للعمل الصالح بمفهومه الواسع: المادي منه والمعنوي؛ لتكون عضواً اجتماعياً مُنتجاً ومُدبِّراً، ضمن أحكام الإسلام العامة، ومفاهيمه الاقتصادية الخاصة.
حق الفتاة الاقتصادي في ترك الكسب
لما كانت الفتاة عضواً اجتماعياً مكفولاً -كما تقدم- فقد أعفاها الشارع الحكيم من السعي في طلب الرزق، حيث جعله مهمة رجولية تقابل قيامها بخدمة النوع، وتفرغها لصناعة الإنسان؛ بحيث لا تكلَّف الكسب مطلقاً، مهما كانت ظروفها الاقتصادية قاسية، فإن تكلَّفته بضوابطه الشرعية: فإنما هو نافلة تتنفَّلُ بها، لا تجبر عليها، فما زال الرجال عبر التاريخ الإنساني هم مورد المرأة الاقتصادي، وما زالت حاجتها إلى الأسرة للأمان الاقتصادي أكبر من حاجة الرجل، فالذكورة" صفة من صفات العجز إذا نظرنا إلى جدواها في عمل الأنوثة، والأنوثة صفة من صفات العجز إذا نظرنا إلى جدواها في ميدان الكسب".
وليس هذا التوجه الاقتصادي خاصاً بالحرائر من النساء؛ بل إن الأمة الساذجة، التي لا تحسن صنعة شريفة: تدخل ضمن هذا التوجه الملزم، وذلك كله حفاظاً على أخلاق الفتيات من الانهيار بتعرضهن لكدح الكسب، فليست الأعمال دائماً تناسبهن، خاصة إذا زاد الطلب وقل العرض، وباعتبارهن إناثاً فهن دائماً موضع مطمع لأرباب الأعمال، والفاحشة عند الفقيرات الضائعات أرخص وأسهل مكاسبهن الاقتصادية، خاصة وأن الفقر والحاجة فيهن أسرع وأبلغ، فلو جاز للأب أن يؤاجر أولاده الذكور إذا بلغوا الكسب، فإنه لا يصح منه ذلك مع بناته لما فيه من تعريضهن للفساد؛ إذ هن دائماً في مأمن من مكابدة الرزق، والتعرض لمخاطر الكدح؛ ولهذا حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كسب الإماء مطلقاً، حتى يُعلم مصدره.
وقد ظهرت واضحة الحكمة الإسلامية في كفِّ النساء عن الكسب حين أدركت المجتمعات غير الإسلامية أخيراً سلبيات اشتغال النساء على نظام الأسرة والمجتمع من جهة، وعلى الأخلاق والقيم من جهة أخرى، وحتى الجانب الاقتصادي الذي قُصد إنعاشه بأيدي النساء العاملات لم يزدد إلا تعثُّراً واختلالاً، حتى غدت العلاقة قوية -بصورة غير مباشرة- بين وفرة النساء العاملات وبين الانهيار الاقتصادي، وما أدلَّ على ذلك من الانهيار الاقتصادي السريع للدول الشيوعية التي توسعت أكثر من غيرها في استخدام النساء، فكان نصيبها في النهاية الإخفاق الاقتصادي، وما نتائج هذه العلاقة ببعيدة عن كل نظام اقتصادي يبني توجهه التنموي على ما يخالف الفطرة السوية، ولا يفرق في تعامله بين أدوار الذكور وأدوار الإناث.
ورغم هذا الوضوح الواقعي، والتوجه الشرعي: فإن فئات من المجتمع المسلم لا تزال تصرُّ على إلزام النساء والفتيات بالكسب، وخوض معترك صراع سوق العمل، بحجة الاستفادة من نصف المجتمع المعطَّل، والقيام بواجب المشاركة في التنمية الوطنية الشاملة، والحد من استخدام العمالة الأجنبية، والاستمتاع بحق العمل، مدعومين في كل ذلك بالمؤتمرات العربية والعالمية، والمنظمات التربوية المشبوهة، ووسائل الإعلام المنحازة، وكأن الفتاة المسلمة هي المسؤولة عن اختلال وضع المسلمين الاقتصادي وإخفاق خططهم التنموية، أو أنها تستطيع برقة ساعدها أن تنهض بما عجز عنه الرجال.
ولقد أدَّى هذا التوجه الاجتماعي العام إلى ربط تعليم الفتاة بسوق العمل، وأصبح من المقبول اجتماعياً سعي الفتاة كالرجل في طلب الوظيفة، ومكابدتها في طلب الرزق، دون النظر إلى اختلاف الأدوار بين الجنسين، وعدم الاعتبار بحال المجتمعات الأخرى، وما انتهى إليه حال كثير من النساء العاملات فيها، ولا شك أن سنة الله الاجتماعية لن تتخلف عن المفرطين، فليست المحاباة من طبيعة قدر الله الذي لا يتأجَّل.
حق الفتاة الاقتصادي على الأسرة
لما كانت الأنثى بطبعها عاجزة عن الكسب؛ فلا قدرة لها في الغالب على اكتساب ما تحتاج إليه من الكسوة والنفقة والمسكن، ونحو ذلك من الحاجات: كانت نفقتها قبل زواجها على أبيها ما لم تكن غنية تملك ما يكفيها، فإن امتنع عن النفقة الواجبة: أخذت من ماله ما يكفيها بالمعروف دون إذنه.
ومع كون نفقة الفتاة واجبة على أبيها: فقد رتَّب الشارع الحكيم على هذه النفقة عظيم الأجر فقال عليه الصلاة والسلام:(من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه), وقال للأب في شأن الفتاة المطلقة: "ألا أدلك على الصدقة، أو من أعظم الصدقة: ابنتك مردودة عليك، ليس لها كاسب غيرك"، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن كل صور الإجحاف بحقِّهن حتى قال فيما رُوي عنه: "سووا بين أولادكم، فلو كنت مؤثراً أحداً آثرت النساء على الرجال"، ولما تذمَّر أحدهم من كثرة البنات في مجلس ابن عمر { قال له مغْضباً مستنكراً -كما رُوي عنه-: "أنت ترزقهن؟".
وأما الإرث السري فهو من أوسع أبواب أرزاق الفتيات في نظام الاقتصاد الإسلامي؛ حيث يوزع الثروة بصورة دائمة من المورثين إلى من هم دونهم من الذرية والزوجات والعصبات، ورغم المنطقية الاقتصادية في مبدأ توزيع التركة على المستحقين: فإن الجاهلية العربية في وقتها، والجاهلية الأوروبية إلى عهد قريب كانتا جميعاً لا تورثان الإناث بصفتهن عناصر استهلاكية غير منتجة، بل ربما اعتبرن بذواتهن تراثاً مملوكاً قابلاً للتقسيم والاتجار، هذا في الوقت الذي كان ينزل فيه القرآن الكريم بتحديد المواريث، وإقرار حقِّ الإناث فيها بأنصبة محددة، ويهدد -في الوقت نفسه- المخالفين بقوله جلَّ وعلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2)، ويقرر أيضاً حتى للمملوكة -فضلاً عن الحرة- حقَّها في ميراث عتيقها.
ولم تكن قضية المواريث مسألة خيالية بعيدة عن التطبيق؛ فقد مارست الأمة المسلمة نظام توزيع المواريث على أهلها عملياً، فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بنفسه، فهذه امرأة سعد بن الربيع { حين قُتل زوجها وأراد عمُّ بناتها أخذ التركة كاملة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمَّهما الثمن، وما بقي فهو لك), ولما عزم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مرضه على الصدقة بجُلِّ ماله، مستكثراً على ابنته الوحيدة كل تلك الثروة: منعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وألزمه بالثلث، والأخبار في ذلك كثيرة.
ومع ثبوت نظام المواريث فقد كانت الوصية للإناث اللاتي لا يرثن قائمة في المجتمع الإسلامي؛ بل إن تزوج الرجل بالمرأة لمجرد إشراكها في التركة كان أمراً مُستساغاً في المجتمع المسلم، رغبة في نفْعهن، وإيصال الخير إليهن.
وأما المفاضلة بين الذكر والأنثى في الميراث فإنها "ليست مبنية على المفاضلة في الكرامة الإنسانية؛ بل هي مبنية على المفاضلة في التبعات المالية"، وحجم التكاليف المناطة بكل منهما؛ ولهذا كثيراً ما تأتي الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء على النصف من أحكام الرجال، كحال اختلاف الدية بين الرجل والمرأة في القتل الخطأ، فالمعتبر فيها حجم التأثير المالي على الأسرة بفقد الرجل، فاعتبر فيها التعويض المالي، في حين يتساويان تماماً في حال القتل العمد؛ لتساويهما في الإنسانية؛ ولهذا وصف اليُتْم في الإنسان يأتي من جهة فقْد الأب، وليس من جهة فقد الأم كحال الحيوان، ومع ذلك فليس دائماً في توزيع الأنصبة أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، فهناك حالات يتساوى فيها الذكور والإناث، وربما زادت أنصبة الإناث في بعض الحالات.
ومن لطائف ما ينقل عن السلف في حرصهم على إغناء نسائهم: ما نُقل عن أبي بكر في مرضه حين تحدَّث مع ابنته عائشة قائلاً: "إن أحبَّ الناس إليَّ غنىً أنت، وأعزَّهم عليَّ فقراً أنت".
حق الفتاة الاقتصادي على الزوج
يبدأ حق الفتاة الاقتصادي على الزوج بالمهر، ثم النفقة، وينتهي بالإرث، أو متعة الطلاق، ولئن كان الإسلام -بنظامه المحكم- قد أعطى الرجل النصيب الأوفر من الحقوق، فقد حمَّله مقابل ذلك العبء الأكبر من الواجبات، بحيث لا يُعذر في شيء من ذلك حتى وإن كان مُعسراً، فالمهر لا يصح في الشريعة أن تدفعه الفتاة، أو تُسقطه عن الزوج -لأي هدف كان- قبل أن يدخل بها؛ لما في ذلك من المهانة والاستغلال الاقتصادي الذي يلحقها، وهو ما تعانيه الفتيات في بعض المجتمعات الضالة، في حين يُعدُّ المهر في التصور الإسلامي من أوسع أبواب النساء الاقتصادية؛ إذ لا حدَّ لأكثره بإجماع المسلمين، وقيام الرجل به ليس صورة من صور الملكية كما هو الحال عند بعض المجتمعات القديمة؛ بل هو نِحْلة يقدمها المؤمن للزوجة تديُّناً، وطاعة لله تعالى، فهو حق خالص لها بالإجماع، ومنفعة راجعة إليها وحدها دون غيرها، يثبت لها بمجرد العقد، ولا يسقط بموت أو طلاق، ولا يشاركها فيه وليٌ ولا زوج، إلا ما طابت به نفسُها؛ بل إن الشريعة تعاقبهما، وتُلْحق بهما الإثم عند تفريطهما أو استغلالهما لحقوق الفتاة في كامل المهر؛ بل إن الزوجة لو استجابت لزوجها فوهبته مهرها فطلقها، فإن لها الرجوع فيه؛ لأنها إنما فعلت ذلك لاستدامة النكاح وليس لنقضه.
ولئن كانت "القدرة على اكتساب المال بالبضع ليست بغنى معتبر"، إلا أنها من أعظم موارد المرأة المالية، "ونعمة منَّ الله بها عليها خوَّلها حق الانتفاع بها من أجل رغبات الرجال في استصفائها، فللمرأة حق أن يكون صداقها مناسباً لنفاستها؛ لأن جمال المرأة وخُلُقها من وسائل رزقها"، وانتفاعها "بالصداق وبمواهبها التي تسوق إليها المال شيء غير مُلْغَى في نظر الشريعة؛ لأنه لو ألغي لكان إلغاؤه إضراراً بالمرأة"، ومن هنا يُعدُّ المهر نعمة من نعم الله تعالى على المرأة.
وأما النفقة فمع كونها أجراً وثواباً للرجل حين ينفق على زوجته: فإنها من أعظم حقوق الفتاة على زوجها بالإجماع، وهي باعتبارها زوجة: أول أصحاب الحقوق عليه، ونفقتها "أقوى من نفقة الأولاد والأقارب؛ لأنها وجبت بالعقد جزاء الاحتباس"، بحيث لا يسقط حقها عليه في النفقة بإعساره أو انشغاله، حتى وإن كانت مريضة أو غنية ما دامت في عصمته، محبوسة له، ففي الوقت الذي يصح فيه من الأب أن يقطع نفقته عن ابنته إن هي استغنت بمالها؛ لا يصح ذلك من الزوج بحال، حتى وإن اشترطه عليها عند العقد، بل إنها لو رضيت به مُعسراً بنفقتها، ثم بدا لها الفسخ: فلها ذلك، وقد صدر عن المؤتمر الإسلامي التاسع عشر لوزراء الخارجية المنعقد في القاهرة عام 1411هـ، حول حقوق الإنسان: أن "على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة، ومسؤولية رعايتها"، وقد نصَّ الفقهاء على وجوب قيام الرجال برعاية نسائهم، وذلك لحديث:(…. الرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم...), حتى ذكروا نقل الماء إليهنَّ في البيوت، فلا يُلزمن بالخروج؛ لكونهن مأمورات بالقرار في بيوتهن، وإنما ينقله الرجال إليهن، ويعدون الأوعية اللازمة لذلك.
ولما كان الرجل بهذه المكانة الكبرى من المرأة كان فقده بالنسبة لها من أعظم فواجعها الاقتصادية، فلئن كان الرجل يشعر بالنقص لفقدها وخلوِّ مكانها؛ فإنها -مقابل ذلك- تشعر بالضياع والهلاك لفقده وغياب دوره؛ ولهذا تبرز المشكلة الاقتصادية ومعاناتها المؤلمة كأقوى ما تكون عند المرأة العزبة عندما يتخلى عنها الزوج بطلاق أو وفاة، حتى أصبح من المسلَّمات العالمية: اقتران العَوَز بالنساء العزبات- عاملات كنَّ أو ربات بيوت- حتى قيل بتأنيث الفقر، وارتبطت -في الوقت نفسه- عزوبة الفتاة بمعاناة العمل خارج البيت، فما إن تتزوج إحداهن إلا ويصبح العمل آخر اهتماماتها؛ ولهذا تُلْزم الفتاة بالزواج إذا عجزت عن القيام بنفسها، أو خيف عليها الفساد، حتى يتولى الزوج بدوره حفظها وصيانتها بحكم العلاقة الزوجية القائمة بينهما، ومن لطائف ما ينقل في تعبير الأحلام، مما يشير إلى أهمية الزوج في حياة المرأة: أنها إذا رأت في منامها أنها تزوجت برجل ميت: "تشتت شملها وافتقرت".
حق الفتاة الاقتصادي على الدولة
يتبوَّأ السلطان المسلم مكانة عظيمة ومهمة في نظام الحياة الإسلامية عامة، ونظام الحياة الاقتصادية خاصة، بحيث تطول ولايته كلَّ من لا وليَّ له، وتشمل رعايته كلَّ محتاج لا عائل له، يقول الإمام الشافعي: "منزلة الوالي من الرعية: منزلة الولي من اليتيم"، فيقوم -من خلال برامج الكفالة الاجتماعية- بمهام الأولياء الاقتصادية في رعاية الضعفاء والنساء والذرية، بما يضمن للجميع الحياة الكريمة التي تحفظ للمسلم عزته وشموخه، وتدفع عنه ذلَّ الحاجة وخطر الضرورة؛ بل تحقق له -حسب الإمكان- درجة من الرفاهية المعيشية، والأمان الاقتصادي، وربما أسهم السلطان بصورة مباشرة- من خلال العطايا- في تكوين الثروات المالية الطائلة التي تنقل الفرد من درجة الفقر والحاجة، إلى أعلى درجات الرفاهية والغنى.
وقد خصَّت الدولة المسلمة في الزمن الأول عناصر المجتمع غير الكاسبة كالنساء والأطفال بمزيد من الاهتمام حيث شملت فقراءهم الزكاة، ونال عمومهم العطاء العام الذي شمل الكسوة والطعام مع المخصصات المالية، كما دخل جمع غفير من خواص النساء ضمن جزيل العطاء الخاص، وخُصَّ الغازيات منهن بشيء من الغنيمة، بل إن قَطْع الأراضي، وتوريث الدور، ناله جمع من النساء، حتى إن بعضهن أشركن في بعض الموارد الاقتصادية العامة.
لقد كان هدف الدولة المسلمة في ذلك الحين واضحاً في إكرام النساء الفضليات، وإغناء النساء المحتاجات، فقد أعلن عمر بن الخطاب سياسته الاقتصادية تجاه النساء فقال: "لئن سلمني الله لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً"، فالسياسة المالية اللازمة للسلطان لتحقيق ذلك: أن "يحصى الذرية ممن هم دون البلوغ، والنساء صغيرتهن وكبيرتهن، ويعرف قدر نفقاتهم، وما يحتاجون إليه في مؤناتهم، بقدر معايش مثلهم في بلدانهم، فيعطون كفاية سنتهم من كسوة ونفقة"، ولا يحق له أن يستأثر لنفسه من ذلك بشيء، أو يحابي به أحداً من خواصِّه أو أقاربه، فلا بد أن يؤمِّن لكل إنسان أساسيات حياته من: الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، فالكل له حق في ظل حكم الإسلام أن يعيش كريماً عند أدنى مراتب الغنى التي تناسب مثله في كل عصر، وذلك على أقل تقدير، لاسيما طبقات الإناث، فإنهن بالطبيعة إلى الرفاهية الاقتصادية أحوج، وفي سعة العيش أرغب؛ ولهذا فهن بالتالي إلى العطب من نقص الحاجة أسرع، وقد ثبت يقيناً بما لا يدع مجالاً للشك: أن العلاقة في غاية الإيجابية بين سوء الظروف الاقتصادية وبين الانحرافات الخلقية، والتوترات النفسية، والأزمات العائلية؛ فإن حاجة الفرد الاقتصادية الملحة، وما يلحق بها من الحرمان والنقص: "تُثير لديه نوعاً من الضيق والتوتر وعدم الراحة"، الذي يمهد بالتالي للانحراف الخلقي؛ "فإن الحديث عن الوازع الديني في: التعفف، والقناعة، والأمانة: لا يجدي في كل الأحيان في بيئة يفتك بها الفقر ليجتث كرامة الإنسان، ويزلزل ما يؤمن به من مبادئ أخلاقية، وقيم روحية"، ولهذا يقول ابن منبِّه ~ٍٍِِ: "الفقر هو الموت الأكبر"، "فالفقير الذي ليس له من تجب نفقته عليه: يجب على الحكومة أن تعطيه الكفاية"، وفي الجانب الآخر يؤثِّر الانتعاش الاقتصادي بصورة إيجابية في أخلاق الناس وسلوكهم، وبالتالي في استقرار المجتمع، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :(من سعادة المرء: المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء).
ومن هنا لا بد للدولة المسلمة في كل عصر أن تهيء لأفرادها عموماً وللنساء والفتيات خصوصاً جواً من الاستقرار الاقتصادي، الذي يسكِّن لهفتهن، ويحقق تطلعاتهن، ويحفظ عليهن كرامتهن، بحيث يصبح هذا الهدف في حسِّ السلطان ونوابه من أهم شغلهم الاجتماعي، ومن أول أولوياتهم الاقتصادية، تقول السيدة عائشة واصفة حال النبي صلى الله عليه وسلم في إشفاقه على أزواجه وعموم النساء من بعده: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحنى عليَّ، فقال: إنكن لأهم ما أترك وراء ظهري، والله لا يعطف عليكن إلا الصابرون أو الصادقون"، وقال لأم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها لما بكت في مرض موته: "ما يبكيك؟ قالت: خفنا عليك، وما ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول الله؟ قال: أنتم المستضعفون بعدي"، فلا بد أن يكون هذا الشعور النبوي المُشْفق هو إحساس السلطان المسلم تجاه النساء.
ولقد كان من سياسة الدولة المسلمة في الزمن الأول: إعطاء النساء المحتاجات دون إلزامهن بالعمل، فكانت إحداهن تأتي الخليفة تعرض عليه حاجتها، فيعطيها ما يكفيها، ولا يطالبها بالعمل كما تفعل كثير من الحكومات العربية اليوم، فإذا كان لرجال المجتمع المكلفين بالكسب حق في بيت المال، فكيف بالنساء اللاتي لم يكلَّفن أصلاً بالكسب؟ ولهذا تأتي الدوافع الاقتصادية في أول قائمة أسباب خروج النساء للعمل، وهن بالتالي أكثر فئات المجتمع المستقبلة للإعانات الحكومية.
ومن ألطف ما يُنقل في رعاية الخلفاء لأحوال النساء الاقتصادية: ما جاء عن الخليفة عمر بن الخطاب حين كان "يمشي إلى المغيَّبات، أي: اللاتي غاب عنهن أزواجهن ويقول: ألكنَّ حاجة حتى أشتري لكنَّ، فإني أكره أن تُخدعن في البيع والشراء؟ فيرسلن بجواريهن معه، فيدخل في السوق ووراءه من جواري النساء وغلمانهن مالا يُحصى، فيشتري لهن حوائجهن، ومن كان ليس عندها شيء اشترى لها من عنده".
حق الفتاة في امتلاك الثروة وتنميتها
رغم التبجُّج الذي يتعاطاه الغرب في المناداة بحقوق المرأة في الاستقلال الاقتصادي: فقد طفحت قوانينهم المدنية إلى ما قبل خمسين عاماً أو أقل بأبشع أنواع الانتهاك الاقتصادي لحقوق الإناث من جهة حقوقهن في: التملك، والتصرف، والتنمية؛ بحيث لا تعدو الواحدة منهن، وما يلحق بها من متاع ومال أن تكون ملكاً مشاعاً يتنقَّل بين الآباء والأزواج، وما زالت النساء الغربيات - منذ سنوات طويلة- يتنادين بحقوقهن، وينافحن عنها حتى حصلن مؤخراً على غالب حقوقهن القانونية، ومازالت آثار هذا الامتلاك المالي، والاختزال الذاتي يمارس ضد المرأة الغربية حتى اليوم؛ إذ هي حتى الآن "لا تكون زوجة إلا إذا تنازلت عن اسمها وعلامة وجودها، وتكللت باسم زوجها لكي تكون جزءاً من ممتلكاته المسجلة باسمه، والمتحركة تحت مظلته".
إن هذا التاريخ الاقتصادي المظلم لا يخوِّل الغرب ومنظماته الإنسانية تولي زمام تحرير المرأة المعاصرة في الوقت الذي تصل فيه ثروة المرأة المسلمة في ظل نظام الإسلام الاقتصادي إلى درجة الفحش، فلا يحق لأبيها أو زوجها أن يغترف منها ولو للصدقة إلا بطيب نفسها، وسلامة صدرها، بل ليس لزوجها إن طلقها أن ينفرد بمتاع البيت دونها حتى تأخذ منه حقها، فإذا اختلفا كان المتاع بينهما نصفين، مع ثبوت حريتها الكاملة في تنمية ثروتها، وإدارة أملاكها بما يصلحها، وأن تستخدم في ذلك الأجانب من الرجال - فضلاً عن المحارم- فيما لا يليق بالمرأة الشريفة القيام به من الأعمال والمهام الاقتصادية ضمن الضوابط الشرعية، ولا يجب عليها أن توكِّل زوجها في ذلك، إلا أنها تراعي حقَّه في عدم الخروج إلا بإذنه، حتى وإن كانت تخرج لضرورة غيرها، فحقه مقدم على ذلك، إلا أنها تجد في هذا العصر في أجهزة الاتصال الحديثة ما تستطيع من خلاله إدارة أملاكها، وتنمية ثروتها دون محظور شرعي.
إن فلسفة المنهج الرباني في مسألة التملك لا تنطلق من كونه حقاً شخصياً فحسب، بل تنطلق مما هو أعمق من ذلك، من حيث الفطرة الإنسانية التي جُبلت على حبِّ التملك والاستحواذ على الأشياء والأموال، فتحتاج بصورة دائمة إلى حدِّ من الإشباع الذي يبدأ بالكفاف، وينتهي إلى ما لا حدَّ له من درجات الثروة ومراتب الغنى.
حق الفتاة في التبرُّع المالي
لا يكتمل حق الفتاة في الملكية الخاصة حتى تتمتع بحقها في التبرع بما شاءت من مالها، فإن الناس -ذكورهم وإناثهم- أحرار في ممارستهم لأنشطتهم الاقتصادية ما داموا محترمين -في ذلك- المبادئ والقيم الإسلامية، فالإنسان العاقل - ذكراً كان أو أنثى- إذا بلغ سن التكليف، وعُرف من حاله الرشد الاقتصادي: مُكِّنَ من ماله يتصرف فيه بما شاء، إلا في حال المرض المخوِّف، أو ثقل الحمل بالنسبة للإناث فإن حق التصرف حينئذ ينحصر في الثلث؛ وذلك لأن الحمل في أشهره الأخيرة نوع من المرض الذي يؤثر على نشاط الحامل العقلي والنفسي، في حين لا يؤثر زمن حيضها أو نفاسها في قراراتها المالية، ولا تؤثر بكارتها في ذلك إذا كانت قد عنَّست عند أبيها وظهر رشدها، إلا أن أكمل حالات أهليتها الاقتصادية بلا نزاع حين يتم نموها العام بدخول الرجل بها، وإنجابها لمرة واحدة على الأقل، فعندها لا تحتاج إلى إذن زوجها في الإنفاق من مالها إلا من باب الاطمئنان لملكيتها للمال من جهة، ولتطييب نفسه وملاطفته من جهة أخرى؛ فإن الصالحة من الزوجات لا تخالف بعلها في مالها بما يكره، لاسيما إذا كان ما تريد أن تتبرع به من مالها كبيراً.
ولا ينبغي أن يُفهم من هذه الضوابط مطلق الحجْر المالي على النساء بسبب الأنوثة، فإن السفه المالي ليس خاصاً بهن، وإنما هو ضعف الدربة، وقلَّة الخبرة التي تكثر في الإناث بسبب الطبيعة والدور الاجتماعي، فما يستطيعه غالب الرجال في إدارة الشؤون الاقتصادية: يعجز عنه أكثر النساء، فإن الخديعة إليهن أسرع، والطيش فيهن أكبر، خاصة عند المخدَّرات المصونات؛ فيحتجن في كثير من الأحيان إلى الإشراف لضبط حقوقهن، وسلامة معاملاتهن؛ ولهذا يُنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقوقهن ويقرنُها بحق اليتيم فيقول: "إني أحرِّج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، وكان عمر زمن خلافته يقول للنساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن: "ألكنَّ حاجة حتى أشتري لكنَّ؛ فإني أكره أن تُخدعن في البيع والشراء"، فهذه طبيعة عامة في غالب النساء، يحتجن بصورة دائمة إلى شيء من الإشراف على شؤونهن الاقتصادية.
ومع هذا فليس كل النساء والفتيات يحتجن إلى إشراف فقد سجل التاريخ الإسلامي - في القديم والحديث دون نكير- لجمع من النساء الفضليات منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده عطايا وتبرعات مالية في وجوه الخير والبر يفوق بعضها الوصف، حتى إن السيدة عائشة -لعظيم ثقتها بالله- كانت لا تعرف في شبابها وكهولتها معنى للادخار، لا في زمن القلَّة ولا في زمن الكثرة، حتى إن ابن أختها عبد الله بن الزبير { عزم على الحجْر عليها؛ لكثرة نفقتها دون حساب، فأعلمته من خلال الهجْر بكمال رشدها، وسلامة فعلها حتى اعتذر إليها.
وقد حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والفتيات على مطلق الصدقة وجعلها سبيلهن للنجاة، وخصَّ حُليهن بمزيد من الاهتمام وجعلها من أوسع أبواب الصدقة، واحترم في الوقت نفسه القليل من عطائهن مهما كان حقيراً؛ حتى يبقى مبدأ البذل قيمة ثابتة في نفوسهن، لا يتأثر ثباته بالقلة ولا بالكثرة؛ ولهذا كان النساء في زمنه صلى الله عليه وسلم من أكثر فئات المجتمع بذلاً وعطاءً.
حق الفتاة في الإمساك عن النفقة
تتمتع الفتاة في نظام الاقتصاد الإسلامي بحق الاحتفاظ المالي فلا تُلزم بالنفقة على أحد من الناس، ولا تشترك مع الرجال في تحمل الدية، ولا تُكلَّف إرضاع ولدها حتى وإن لم تكن شريفة النسب، بل ربما كان من حقِّها أن تأخذ أجراً من زوجها على رضاعة ولدها منه، ولا يستثنى من ذلك في حقها إلا أشياء يسيرة، ضمن ظروف اجتماعية واقتصادية خاصة، كحق الأب -خاصة دون غيره- في الأخذ من مال ولده، ذكراً كان أو أنثى، ونفقة الوالدين المعْسرين إن كانت غنية، وفدية خلْعها إن كان النشوز من جهتها، ونفقة نفسها إن كانت عزباء، أو هاجرة فراش زوجها، ثم قيمة كفنها، وما يلزمها من الزكاة الواجبة، وبعد ذلك ليس لأحد في مالها حقٌ إلا ما طابت به نفسها دون حرج.
ومن هذا المنطلق الشرعي للالتزامات المالية جاءت دية المرأة في حال القتل الخطأ على النصف من دية الرجل، ونصيبها في الإرث في بعض الحالات نصف نصيب الذكر، فالأنثى وإن ساوت الذكر في القتل العمد -النفس بالنفس- فإنها في دية القتل الخطأ لا تساويه من جهة العبء المالي الذي يقوم به ويتحمله، وهي وإن أخذت من الميراث نصف ما يأخذه: فإنها تشاركه نصيبه هذا أيضاً حين يلزمه الشارع الحكيم بالنفقة ولا يُلزمها، ويفسح لها أن تشاركه نصف أجر الصدقة من ماله دون أن يفسح له بمثل ذلك في مالها، فالنساء وإن كن لا يملكن قانونياً غالب الثروات الاقتصادية الموجودة في أيدي الناس، والمتداولة فيما بينهم، إلا أنهن واقعياً أكثر فئتي المجتمع -من الذكور والإناث- استمتاعاً بها، وفي الوقت نفسه أقل الفئتين اكتراثاً بالشؤون المالية ومسؤولية الإنفاق، وهذا يرجع إلى أن واجبات الرجال في الشريعة، والمهام التي يقومون بها أعظم وأكثر في الجملة من واجبات النساء ومهامهنَّ، ومن هنا -حسب قاعدة الغُنْم بالغرم- كانت موارد الرجال الاقتصادية أكبر في الجملة من موارد النساء لتقابل حجم تكاليفهم، وكانت موارد النساء أقل في الجملة لتناسب حقَّهن في الإمساك عن النفقة.
والشريعة الإسلامية في تسامحها مع النساء في مبدأ الإمساك عن النفقة لا تخصُّ ذلك بالمسلمات من النساء، بل إن نساء أهل الكتاب تحت مظلة الحكم الإسلامي لا يُلزمن بدفع الجزية، بل لا تقبل منهن مطلقاً، إنما هي على البالغ من الرجال؛ كل ذلك لتبقى الأنثى من عنصري الإنسان بعيدة عن مواطن العناء والكدِّ والحرج، التي قد تسوقها إلى موارد الهلاك، ومن هنا كانت فكرة التساوي بين الجنسين في توزيع الدخل العام -التي يريدها البعض- ظلماً للرجال، وإفساداً للنساء، وهي في الوقت نفسه تغيير شامل لنمط الحياة الاقتصادية في نظام الإسلام.
ومن هنا يظهر بجلاء حكمة الطريقة الإسلامية في التوزيع المالي بناء على المهام والتكاليف؛ ليقوم كل جنس بدوره الإيجابي في تحقيق العبودية لله تعالى بعمارة الأرض، كلٌ حسب نظام هدايته دون تداخل مخل، أو تضارب مضر.
المصادر :
1- النحل:97
2- النساء:13-14
source : rasekhoon