لما أصبح الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء وبعدما صلى بأصحابه صلاة الصبح، عبأهم للقتال، بعدما خطب فيهم، وأخبرهم أن الله تعالى أذن في قتله وقتلهم، ثم عمد إلى خطاب القوم، فألقى فيهم خطبتين، جاء في إحداهما:.... سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً أقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيها.
وعندما نحاول التأمل في هذه الكلمات نجد أنها تنطوي على العديد من المضامين، لكننا نحاول أن نتعرض لمقتطفات منها بصورة موجزة.
سللتم علينا سيفاً في أيمانكم:
يتعرض عليه السلام في هذا المقطع إلى قسمين من أقسام الناس في خارطة الصراع، ذلك لأن الناس على خارطة الصراع ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، أو إلى ثلاث طوائف:
الأولى والثانية: هما طرفا الصراع، والثالثة الفئة المتفرجة على ساحة الصراع، المتخلفة عن الحق، وهي شريحة واسعة من المجتمع.
أما بالنسبة إلى الطائفتين الأولى والثانية، فهما يدفعان ضريـبة الصراع، التي هي تساقط الأيدي والرؤوس، وهي تعم طرفي الصراع على نحو سواء، فلا يخـتص ذلك بجانب الحق، أو بجانب الباطل، وهذه سنة الله تعالى في كل صراع، قال تعالى:- ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون).
وقال سبحانه:- ( إن يمسسكم الله بقرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس).
هذا ويتميز جانب الحق في هذا الصراع بتأيـيد الله تعالى وإسناده تعالى ونصره لهم في الصراع، وقد وعد الله تعالى المؤمنين بذلك، يقول عز من قائل:- ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وقال سبحانه:- ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي).
وهو ما يرجوه المؤمنون من الله سبحانه وتعالى في ساحة الصراع،:- ( وترجون من الله ما لا يرجون).
ولهذا الرجاء أثر في تطمين ودعم نفوس المؤمنين في ساحة المعركة، أما النصر الإلهي فهو الذي يقرر نـتيجة الصراع لصالح المؤمنين. هذا كله بالنسبة للفئـتين المتقاتلتين.
وأما بالنسبة للفئة الثالثة، فهي فئة معقدة، شديدة التعقيد، سهلة الانزلاق إلى جانب الباطل مكشوفة للعدو، وهذه الخصائص تجعل هذه الفئة معرضة للانزلاق إلى جانب الباطل في كل حال.
وهؤلاء هم الذين يخاطبهم الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، فقد غمد هؤلاء سيوفهم في أيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، والإمام الحسن الزكي عليه السلام ، وتخاذلوا عن نصرة الأمير في صفين، وعن نصرة الحسن الزكي عليه السلام بعد ذلك، حتى التجأ الإمام المجتبى عليه السلام لأن يهادن معاوية للإبقاء على من تبقى من شيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام .
فلما غمدوا سيوفهم عن نصرة الإمامين الهمامين عليه السلام ، سلها معاوية وبعده ولده يزيد في وجه الحسين عليه السلام يوم عاشوراء.
ولم يطل الغمد بهذه السيوف، فإن ساحة الصراع ترفض المتفرجين والمتخلفين، ومن لم يقف مع الحق في ساحة الصراع وآثر العافية على ضرّاء القتال لابد أن يقف إلى جانب الباطل في وقت قريب، فإن مواقف أنصار الحق ثابتة وحصينة لا ينال منها العدو، ومواقف المتخلفين سهلة الانزلاق إلى جانب العدو، ومكشوفة لهم يسهل لهم الوصول إليها، وإغراؤهم واستمالتهم إليهم أو إرهابهم وإرعابهم على مثل هذا الانقلاب إلى جهة الباطل.
ومن هنا نقول: إن مواقع الناس في ساحة الصراع تؤول إلى موقعين في النتيجة النهائية، أما الوقوف إلى جانب الحق ولاء، وبراءة، وأما الوقوف إلى جانب الباطل من الولاء والبراءة، كذلك.
هؤلاء هم الذين يخاطبهم الإمام الحسين عليه السلام في ساحة كربلاء المقدسة، غمدوا سيوفهم عن أخيه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، من قبل، وهاهم يسلون سيوفهم عليه اليوم في كربلاء الشهادة.
فيقول عليه السلام لهم: سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم...والسيف: إشارة إلى القوة، وقد كان العرب قبل الإسلام أمة معزولة في الصحراء عن العالم، ضعيفة، لا قوة لها، ولا سلطان، ولا مال، فمكنهم الإسلام من القوة والمال، وحملهم رسالة التوحيد، وفتح لهام مشارق الأرض ومغاربها، وجعلهم سادة وأئمة وحكاماً على وجه الأرض.
والشام كانت يومئذ مركزاً لهذا السلطان الذي جاء به الإسلام إلى العرب، وكانت تبسط نفوذها السياسي والعسكري على أجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا. فيقول المولى الحسين عليه السلام لهم في كربلاء يوم عاشوراء: إن الله هداكم بجدي محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ورزقكم به هذا السلطان الواسع على وجه الأرض، وجعلكم أئمة وسادة في الأرض به، فهذا السلطان(السيف) لنا في أيمانكم...ولكنكم تخاذلتم من نصرة أبي وأخي من قبل وغمدتم سيوفكم عن نصرتهم، وها أنتم اليوم تسلون السيف الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله في أيمانكم، بوجه ابن بنت رسول الله وتقاتلون به.
وقد كان أحرى بكم أن تقاتلوا بهذا السيف معاوية بن أبي سفيان من قبل إلى جانب أبي وأخي، ويزيد بن معاوية إلى جانبي.
وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم:
هذه العبارة يخبر فيها عليه السلام عن نار، لكن ما هي هذه النار التي يتحدث عنها المولى عليه السلام في يوم عاشوراء؟... ومن اقتدحها؟...وأين اقتدحها؟...
الظاهر أن هذه النار هي انفجار النور الهائل في جزيرة العرب، وكانت تحمل إلى البشرية وهجاً ساطعاً أنار قلوب الناس وعقولهم في الشرق والغرب، ودخل كل بيت، وبهذا النور أذهب الله عن الناس ظلمات الجاهلية، فتحول هذا النور إلى إيمان وإخلاص وعطاء ويقين، وقيم وتضحية، وصلاة، ودعاء، وإلى مدارس للعلم، ومساجد للعبادة، انتشرت على وجه الأرض، وإلى ثورات وحركات للمظلومين على الظالمين، كما أحرقت هذه النار عروش الطغاة والجبابرة في فارس والروم ومصر، وكسرت الأغلال والقيود من معاصم الناس وأقدامهم وأطلقتهم من أسر الظالمين.
واقتدح رسول الله صلى الله عليه وآله هذه النار في جزيرة العرب، ثم عمت الدنيا كلها، فلم يمض على هذه القدحة خمسون سنة، حتى كانت هذه النار تنير مشارق الأرض ومغاربها.
اقتدحها رسول الله صلى الله عليه وآله في هذا الوسط الجاهلي من جزيرة العرب، ولم ينـتخب لهذه الدعوة طبقة معينة، وإنما فجر كوامن الفطرة والعقل في نفوس من استجاب منهم لهذه الدعوة، وجعل منهم قوة هائلة هزمت جيوش الفرس والروم وأطاحت بعروش كسرى وقيصر.
فكما أن المهندس يستخرج من الصخرة المعتمة الباردة، النور والحرارة، وكما يستفاد من الخشب المعتم البارد، النور والحرارة، كذلك فجر رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله كوامن الفطرة والعقل والضمير في نفوس هؤلاء الناس الخاملين في الجزيرة، فجعل منهم قمماً في الصلاح والتقوى والقوة والصمود والإيمان والخشوع، استطاعوا فيما بعد أن ينشروا هذه الدعوة على وجه الأرض، ويكونوا سادة وأئمة وقادة للبشرية، بعد أن كانوا منـزوين عن الحضارات في رقعة صحراوية غير ذات زرع.
لكنه، لم يمض على رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله الذي اقتدح هذه النار فيهم ليحرق بها عروش الظالمين، خمسون سنة، حتى حرق الناس بهذه النار أبيات آل رسول الله صلى الله عليه وآله ، فحرقوا بها باب علي وفاطمة عليه السلام ، وحرقوا بها خيام الحسين عليه السلام في كربلاء الشهادة.
فأي حق أضاعه هؤلاء الناس؟...وكيف ردوا لرسول الله صلى الله عليه وآله الجميل؟...يا حسرة على العباد!!.
وقد قال الله سبحانه في محكم كتابه العزيز:- ( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى).
فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم:
هذه هي الردة الثانية، وهي أعظم من الأولى، فقد تحدث عليه السلام عن الردة الأولى، عند قوله: سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، حيث تحولت السيوف من جانب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله إلى جانب أعداء أهل البيت عليه السلام وخصومهم، وقد حددها الفرزدق عندما التقى الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه من مكة في الطريق إلى العراق بشكل دقيق، حيث قال للإمام عليه السلام وقد سأله عن الناس: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
وهو تشخيص دقيق للحالة النفسية والسياسية للناس يومئذٍ، فقد كانت قلوبهم مع الحسين عليه السلام حتى ذلك الوقت، لكن مواقفهم السياسية كانت لبني أمية، وهذه هي البداية، وهي الردة الأولى.
مع أن الحالة السوية، هي أن تـتوافق القلوب والسيوف في جانب الحق، فإذا تخالفت السيوف والقلوب، فتلك هي المحطة الأولى للردة.
والمحطة الثانية للردة، هي أن تـتوافق القلوب والسيوف على عداء وقتال أهل البيت عليه السلام ، وهذا هو الذي يحدثنا عنه الإمام عليه السلام في هذه الفقرة: فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم.
والإلب: القوم يجمعهم عداء واحد. ولكي يتضح المراد من هذه الفقرة بشكل أكبر، لابد من توضيح هذه الكلمة، فنقول:
إن الأمة مجموعة من الناس يجمعهم ولاء واحد وبراءة واحدة، وهذا هو أسلم وأدق تعبير للأمة.
وهذه الأمة يجمعها الولاء لله ولرسوله ولأئمة المؤمنين عليه السلام ، قال تعالى:- ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)فمن يقبل بهذا الولاء، فهو من هذه الأمة، ومن يرفض هذا الولاء أو بعضها، فليس من هذه الأمة.
وتجمع هذه الأمة براءة من الطاغوت الذي أمرنا الله تعالى أن نكفر به، وبراءة من المشركين فمن تبرأ منهما دخل في هذه الأمة، ومن لم يتبرأ منهما لم يدخل في هذه الأمة:- ( أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، فيقول عليه السلام في نهار عاشوراء الشهادة: لقد كانت تجمعنا بكم براءة واحدة من أعداء الله وعداء واحداً لهم، وولاء واحداً لأولياء الله، وقد أصبحتم اليوم إلباً لأعدائكم على أوليائكم.
يجمعكم بأعدائكم العداء لأوليائكم، بعكس ما يجب أن يكون تماماً، والحالة السوية أن يجمعكم بأوليائكم العداء لأعدائكم، وهذه ردة كاملة بعد الردة الأولى، وهي المحطة الثانية من الردة، وهو تعبير دقيق جداً لحال الناس الذين خاطبهم الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء.
وهذا هو الانقلاب في بؤرتي(الحب والبغض) أو (الولاء والبراءة) وهو أقصى درجات الردة في شخصية الإنسان.
بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم:
يشير عليه السلام في هذا المقطع إلى أن القلوب قد تغيرت، فتحولت من الهدى إلى الضلال، ومن أولياء الله إلى أعدائه، وانقلبت من الولاء إلى البراءة، ومن البراءة إلى الولاء، دون أن يتغير بنو أمية عما كانوا عليه: بغير عدل أفشوه فيكم.
هاهم بنو أمية يمارسون الظلم، كما كانوا يمارسونه من قبل وأمعنوا في الظلم والضلال، وأسرفوا على أنفسهم في ذلك أيما إسراف، فلم يحدث انقلاب في واقع بني أمية، إنما الذي حدث ردة في القلوب، من محور الولاء إلى البراءة، ومن محور البراءة إلى الولاء، فإن هؤلاء الناس انقلبوا من ولاء أهل البيت إلى ولاء بني أمية، دون أن يتغير أهل البيت عليه السلام عما كانوا عليه من الهدى والصلاح، أو يتغير بنو أمية عما كانوا عليه من الضلال والظلم.
ولكن الناس انقلبوا من البراءة من بني أمية إلى البراءة من أهل البيت عليه السلام وقتالهم، ومن الولاء إلى أهل البيت عليه السلام إلى الولاء لبني أمية.
ولا أمل أصبح لكم فيهم، وكما لم يكن هذا الانقلاب بسبب حصول انقلاب في بني أمية من الظلم إلى العدل، كذلك لم يكن بسبب أن الناس أصبح لهم أمل عدل بني أمية بعد ذلك.
إذن لم ينخدع الناس ببني أمية، عندما والوهم، وقاتلوا أعداءهم وخصومهم. فإذا لم يكن الناس مخدوعين، فماذا جرى في نفوسهم حتى انقلبوا من آل رسول الله إلى آل أمية؟...
إن الذي حدث هو أن بني أمية أذلوهم بالإرهاب والطمع. وفرق بين الخداع والإذلال، فإن الذي ينخدع بعدوه، يُحِبُ عدوه ويواليه ويحارب أعداءه خطأً، وهذا عجز في الوعي والمعرفة، وليس ذُلاً وعجزاً في الكرامة.
وأما الذي يوالي عدوه ويعطيه سيفه وماله ثم يعيطه قلبه وحبه وهو يعلم أنه له عدو، فهذا هو الذل بعينه وانعدام الكرامة.
وهذا لن يكون في أمة إلا بالإذلال، والإذلال قد يكون بالإرهاب والقوة، وقد يكون بالمال والذهب.
وقد استعمل الأمويون كلا الأمرين، الإذلال بالقوة، والإرهاب والإذلال بالمال والسلطان، فأذلوا الناس.
نعم استعملوا التغرير والإعلام والخداع، إلا أن إسرافهم في الظلم والترف والمعصية كان أظهر من أن يخفى على أحد.
ويحكم، أهؤلاء تقصدون وعنا تـتخاذلون:
لا يخفى أن هذه الكلمات الصادرة من الإمام الحسين عليه السلام تشير إلى أعظم ردة في حياة الإنسان، إذ ينقلب فيها الإنسان على نفسه، فيحب عدوه ويعادي وليه، وهو بمعنى أن ينسى الإنسان نفسه.
لأن نفس الإنسان حب وبغض، يحب أولياءه ويبغض أعدائه، فإذا نسى الإنسان نفسه، نسى من يجب أن يحب، ومن يجب أن يـبغض، وأعظم من ذلك أن ينقلب عنده الحب والبغض، فيحب عدوه ويبغض وليه.
وهذه الحالة هي التي يعاقب الله سبحانه وتعالى الذين ينسونه، فينسيهم أنفسهم، قال تعالى:- ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم).
والذين خاطبهم الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، كانوا من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ونسوا حبهم وبغضهم، فأحبوا بني أمية، وكان عليهم أن يعادوهم، لما جنت أيديهم من الظلم والعصيان، وقاتلوا أولياءهم الذين أمر الله تعالى المسلمين بمودتهم وأتباعهم في آيات محكمات من كتابه العزيز، فلاحظ قوله تعالى:- ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، وقوله تعالى:- ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
ولا يخفى على المتأمل في هذا الخطاب، والمدقق في هذه الكلمات، مدى الألم النابع من قلب الإمام عليه السلام إشفاقاً على هؤلاء لهذه الحالة التي وصلوا إليها من البؤس، وليس لأن الإمام الحسين عليه السلام قد فقد نصرتهم له في محنـته، وجهاده ضد الطغاة والظلمة.
يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب(الآفاق):
بعدما تعرض عليه السلام لبيان المواصفات التي يمتلكها هؤلاء القوم المستعدين لقتاله، والساعين لنصرة أعدائهم على أوليائهم، عمد إلى بيان أن هذه الصفات إنما هي صفات العبيد، فأشار إلى أن الذي صدر منهم إنما هو أخلاقية العبيد، لأن العبيد ولائهم لمن يشتريهم، فليس لولائهم أصل ثابت، فمن يشتريهم من سوق النخاسة يستحق ولاءهم، سواء كانوا يحبونهم أم كانوا يحقدون عليهم، فيتحول ولائهم من مولى إلى مولى في سوق النخاسة في لحظة واحدة، عندما يدفع المولى الجديد الثمن إلى المولى القديم، وعندما يدفع المولى القديم السوط إلى المولى الجديد.
فهم في ساعة واحدة ينسون ولاءهم وحبهم القديم، ليقدموا إلى المولى الجديد ولاءهم الجديد.
ثم أشار بقوله عليه السلام : وشذاذ الأحزاب، إلى أن القاعدة تقضي بأن يكون ولاء الناس إلى أحزابهم، في السراء والضراء، وفي الهزيمة والانتصار.
لكن شذاذ الأحزاب، يشذون عن هذه القاعدة، فيكون ولائهم لغير أحزابهم، بل يكون ولائهم للمنـتصر دائماً، حقاً كان أم باطلاً.
وهذه حالة ولاء سياسية عائمة، لها مدلولات نفسية خطيرة، تكشف عن فقدان الأصالة والقيم في النفس، والتبعية المطلقة للمنـتصر والقاهر والانسلاخ الكامل من الذات والقيم.
فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب:
ولما بيّن عليه السلام حقيقة هؤلاء من خلال كونهم عبيداً، وأنهم شذاذ الأحزاب، عمد إلى الدعاء عليهم، بالبعد من رحمة الله سبحانه وتعالى، لأن السحق يعني البعد، والإمام عليه السلام ينطق هنا في هذا الدعاء عن سنن الله، ذلك أن لرحمة الله تعالى منازل في حياة الإنسان تنـزل عليه منها الرحمة، فإذا ابتعد الإنسان عن هذه المنازل ابتعد عن رحمة الله، وهذه سنة الله في عباده، ولنـتأمل في هذه السنة، إن بين رحمة الله الهابطة على الناس ومنازل هذه الرحمة علاقة متبادلة.
فالرحمة النازلة تُفعّل مواضع نزولها، فإذا نزل المطر على أرض اخضرت وأثمرت وأينعت وازدهرت وآتت أكلها، وهذا هو فعل الرحمة النازلة بمواضع نزولها.
ومواضع الرحمة تستـنـزل الرحمة، ولا تنـزل الرحمة على مواضعها إلا إذا كانت مؤهلة لنـزول الرحمة، وهذا التأهيل هو الطلب التكويني، لرحمة الله بلسان الاستعداد، ولابد من هذا التأهل والاستعداد لقبول الرحمة حتى تـنـزل الرحمة، وبعكسه الإعراض عن رحمة الله، فإنه يدفع الرحمة ويُـبعّدها.
ومن المعلوم أن الرحمة الإلهية نازلة لا تنقطع، ولكن هناك عوامل لاستقبال رحمة الله، تستـنـزل الرحمة، وعوامل لرفض رحمة الله.
وهذا المعنى الذي ذكرناه نراه جلياً واضحاً في دعاء العبد الصالح نبي الله نوح عليه السلام على قومه، قال تعالى:- ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً).
ولا يخفى أن هذا دعاء عجيب، ينطق فيه نوح عليه السلام بسنن الله في نزول الرحمة وانقطاعها، لقد نضب فيهم كل استعداد لقبول الخير، وكل استعداد بطلب الرحمة، قال تعالى:- (ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) فعلى ماذا تنـزل رحمة الله؟...
إن لرحمة الله تعالى في حياة الإنسان منازل تنـزل عليها، فإذا انعدمت هذه المنازل ونضب معينها في نفس الإنسان، فلا يـبقى لرحمة الله تعالى موضوع في حياة الإنسان فيستحقون عندئذٍ البعد من رحمة الله.
فالإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء يدعو الله تعالى على هؤلاء، لأن هذه القلوب فقدت كل القيم التي هي منازل الرحمة في نفوسهم، فلم يـبق لنـزول رحمة الله تعالى موضع في نفوس هؤلاء وحياتهم، فيقول عليه السلام: فسحقاً يا عبيد الأمة.
غدر قديم وشجت عليه أصولكم:
فإذا بلغ الإنسان إلى هذه المرحلة، فإن الشر الذي كان بالنسبة إليه بمثابة الحالة الطارئة والعارضة عليه، يتحول بالنسبة إليه إلى حالة أصيلة عريقة داخل النفس، وكما أن للخير عراقة وأصالة كذلك للشر عراقة وأصالة، وجذور الخير تمتد إلى الفطرة والعقل والضمير والقلب، وجذور الشر تمتد إلى الهوى، وعندما يتأصل الشر والهوى في النفس يفقد صاحبه كل منابع الخير في نفسه وتنضب في قلبه وضميره وعقله وفطرته كل جذور الخير وأصوله.
ويدخل عامل الوراثة في تأصيل حالة الخير وحالة الشر معاً، وينبغي هنا الإلتفات إلى أننا لا نقرر أن الوراثة عامل قهري في تأصيل الخير والشر، وإنما نقرر أن عامل الوراثة له دور هام في تأصيل الخير والشر.
فإن الوراثة تنقح الخير وتنقح الشر، ولكن من دون إجبار وقهر، ومن هنا فإن البشرية تنشطر إلى شطرين:
الشجرة الطيـبة، والشجرة الخبيثة، كل منهما شجرة، وللشجرة جذور وثمار وتتشابه الجذور والثمار في الشجرة، فإن الجذور أصل الشجرة والثمار فرعها، والشجرة واسطة في نقل الخصائص من الجذور إلى الثمار.
وكذلك الشجرة الطيـبة والشجرة الخبيثة، كل منهما ينقلان الطيب والخبيث من الأسلاف إلى الأبناء فيتعرق في كل منهما الخير والشر.
وبالتالي فهاتان الشجرتان تشكلان خطين في تاريخ البشر، خطاً صاعداً، مستمراً في
الصعود، وخطاً هابطاً مستمراً في السقوط، فالأسرة الإبراهيمية في صعود، والأسرة النمرودية في سقوط. والأسرة الموسوية في صعود، والأسرة الفرعونية في سقوط.
ثم إن قانون الوراثة ينقح هذا الصعود، وذلك الهبوط، فلا يخـتص فقط بنقل خصائص الخير والشر من الأسلاف إلى الأبناء، وإنما ينقحه ويصفيه ويفرز الشر عن الخير، ويفرز الخير عن الشر، وكلما يمرّ الزمن على هاتين الأسرتين تـتسع الفاصلة بينهما، حتى إذا خلصت نفوسهم عن الخير ونضب معين الخير في نفوسهم، نزل عليهم العذاب لأنهم لا يستحقون الرحمة، عندئذٍ وكما حدث في عهد النبي نوح عليه السلام، والذي حدث في عهد نبي الله نوح عليه السلام يحدث في أي وقت آخر فتنـتهي الأسر الخبيثة، وتسقط فتبدأ دورة جديدة من التاريخ.
والحاصل، إن قانون الوراثة ينقل خصائص الطيّب والخبيث من جيل إلى جيل وينقح الطيّب والخبيث معاً.
وإلى هذا القانون (قانون الوراثة) يشير المولى أبو عبد الله الحسين عليه السلام في هذه الكلمة التي نحن بصدد الحديث عنها: أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم، وتأزرت عليه فروعكم، فكنـتم أخبث شجى للناظر وأكلة الغاصب.
فقوله عليه السلام : وشجت، يعني اشتبكت، وتأزرت، يعني هاجت. وهو في هذه العبارة يشير إن هذا الغدر فيكم أصيل وعريق، ورثه الأبناء من الآباء، اشتبكت عليه أصولكم وتأزرت وهاجت وتنقحت عليه فروعكم، فأنتم أخبث ثمر للشجرة الخبيثة.
source : irib