عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

ميلاد سليل الشجاعة

مرّت سنوات على وفاة بضعة الرسول، السيدة الزهراء (عليهاالسلام). وكان علي (عليه السلام) قد تزوج بعد فاطمة بامامة بنت رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) وبعد مرور ما يربو على عشر سنوات على تلك الحادثة المؤلمة، لم يزل حزن فراق الزهراء يغمر قلب علي (عليه السلام). وقد كُتب لآل الرسول مصير يدعو الى الدهشة؛ فقد كان بنو هاشم يعيشون مظلومين وهم في ذروة المجد والعظمة. وعندما عزم على علي الزواج من امرأة اخرى، كانت قضية عاشوراء ماثلة أمام ناظريه. فاستدعى أخاه عقلي، الذي كان عارفاً بأنساب العرب وقبائلهم وأره
ميلاد سليل الشجاعة

مرّت سنوات على وفاة بضعة الرسول، السيدة الزهراء (عليهاالسلام). وكان علي (عليه السلام) قد تزوج بعد فاطمة بامامة بنت رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) وبعد مرور ما يربو على عشر سنوات على تلك الحادثة المؤلمة، لم يزل حزن فراق الزهراء يغمر قلب علي (عليه السلام).
وقد كُتب لآل الرسول مصير يدعو الى الدهشة؛ فقد كان بنو هاشم يعيشون مظلومين وهم في ذروة المجد والعظمة. وعندما عزم على علي الزواج من امرأة اخرى، كانت قضية عاشوراء ماثلة أمام ناظريه. فاستدعى أخاه عقلي، الذي كان عارفاً بأنساب العرب وقبائلهم وأرهاطهم وصفاتهم. وخصالهم، وقال له: انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لإتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً.
بعد مدة ذكر له عقيل امرأة من بني كلاب تتوفر فيها هذه الصفات، اسمها فاطمة بنت حزام بن خالد. وكان كل آبائها فرسان. وأما من جهة امها فكانت من عائلة معروفة بالشرف والشجاعة. كان اسمها فاطمة الكلابية، ثم اشتهرت لاحقاً باسم أم البنين. حيث انجبت اربعة بنين احدهم العباس.
ذهب عقيل ليخطبها من ابيها، فرحب الأب بهذه الخطوبة واستجاب لها بفخر واعتزاز. فتزوج امير المؤمنين (عليه السلام) بهذه المرأة الشريفة.
"وبلغ من عظمتها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت انها لما أدخلت على أمير المؤمنين وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما وتلقي اليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأم الحنون"[1].
يُقال انهم عندما كانوا ينادونها فاطمة، قالت لهم: لا تدعوني فاطمة فيتجدد في قلبكم حزن امكم فاطمة، وانما اعتبروني خادمة لكم.
وكانت ثمرة هذا الزواج اربعة بنين هم العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان. وقد قتلوا كلهم بعد سنوات، في واقعة كربلاء. وكان الابن البكر لهذا الزواج هو العباس، الذي نسرد هاهنا فضائله ومناقبه.
"كانت فاطمة الكلابية (ام البنين) من النساء الفاضلات العارفات بحق اهل البيت، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودتهم، امتثالاً لأمر القرآن الكريم الذي جعل اجر الرسالة مودتهم. وكان لها عندهم الجاه الوجيه والمحل الرفيع. وعاشت بعد الامام علي مدة طويلة (اكثر من عشرين سنة) ولم تتزوج من غيره، حفظاً لحرمته[2].
كانت ام البنين على درجة عالية من الايمان، وكانت تحب أبناء رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) أكثر من حبها لأولادها. وعندما وقعت حادثة كربلاء، كانت تترقب الاخبار التي تصل من الكوفة. وكل من كان يخبرها بوفاة ابنائها كانت تسأله ابتداءً عن خبر الحسين، اذ كانت اخبار الحسين أهم عندها من اخبار ابنائها. كان العباس إبناً لمثل هذه المرأة الفاضلة العارفة بحق أهل البيت، وأبوه هو علي بن ابي طالب (عليهماالسلام).
ولد أول مولود لأُم البنين في الرابع من شعبان سنة 26 من الهجرة، وقتل مع اخيه الحسين عليهما السلام في أول سنة 61 من الهجرة وعمره اربع وثلاثون سنة...
ملأت ولادة العباس بيت علي (عليه السلام) وقلبه نوراً وأملاً؛ لأن امير المؤمنين كان يرى ان ابنه هذا سيكون حامل لواء ابنه ذاك، والمضحّي بنفسه دونه في كربلاء التي كانت في انتظارهم. وسيبذل العباس بن علي نفسه دون الحسين بن فاطمة.
وعندما ولد العباس، اخذه علي (عليه السلام) وأذّن وأقام في أُذنيه. وقرأ اسم الله ورسوله فيهما، فعقده مع الدين والتوحيد والرسالة، وسمّاه العباس[3].
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل ( عليه السلام )، قام الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحلق شعره، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) عملاً بالسنّة الاسلامية[4].
"ذكر صاحب كتاب (قمر بني هاشم) ان ام البنين رأت أمير الؤمنين في بعض الايام اجلس أبا الفضل عليه السلام على فخذه وشمر عن ساعديه وقبلهما وبكى فأدهشها الحال لأنها لم تكن تعهد صبياً بتلك الشمائل العلوية ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر ولما اوقفها أمير المؤمنين على غامض القضاء وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين عليه السلام بكت وأعولت..."[5].
وعند مولد العباس امتلأت دار علي (عليه السلام) فرحاً وحزناًً؛ الفرح كان لمجيء هذا المولود الجديد، والحزن والدموع لما سيلقاه مُستَقبلاً في كربلاء من قطع يديه وقتله.
نشأ العباس في دار علي (عليه السلام) في حجر أمّه المؤمنة الوفيّة، والى جانب الحسن والحسين (عليهما السلام)، وتعلّم من آل رسول الله، من ابناء هذه الاسرة الطيّبة، دروساً عظيمة في الانسانية والاخلاص وسمو الاخلاق.
وقد كان لتربية الامام علي (عليه السلام) من غير شك، تأثير بارز في صياغة الشخصية الفكرية والنفسية لهذا الفتى. وجاء ادراكه العالي انطلاقاً من هذه التربية النبيلة.
"قيل لما كان العباس وزينب ولدي علي صغيرين، قال علي عليه السلام للعباس قل: واحد. فقال: واحد. فقال له: قل اثنان، قال: استحي ان اقول باللسان الذي قلت واحداً قول اثنان. فقبّل علي عليه السلام بين عينيه"[6].
كان نبوغه الذاتي وتربيته العائلية سبباً لتكامله اخلاقياً وروحياً، ونمت تلك الجوانب من شخصيّته الى جانب نمو قواه الجسمية والعضلية حتى غدا شاباً كاملاً وممتازاً وصالحاً. لم ينحصر تفوقه في طوله الفارع فحسب، وانّما كان بارعاً في عقله وفي معالمه الانسانية أيضاً. كان يعلم لأي يوم عظيم قَد ادُّخِر، حتى يبذل نفسه في نصرة حجة الله. فهو قد وُلِد من اجل يوم عاشوراء.
كانت هذه الحقيقة نصب عيني علي (عليه السلام) حينما أراد الزواج بأُم البنين. وعندما كان علي على فراش الشهادة، ذكّر عباس بـ"سرّ الدم" هذا، وهمس في اذنه.
لما كانت ليلة احدى وعشرين من شهر رمضان عام 40هـ، واشرف علي عليه السلام على الموت، اخذ العباس وضمه الى صدره الشريف وقال: ولدي  وستقر عيني بك في يوم القيامة، ولدي إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة إياك ان تشرب الماء واخوك الحسين عطشان ...))[7].
كان هذا أول درس عاشوراء تعلّمه ليلة شهادة علي (عليه السلام)، وبقي في ذهنه على الدوام الى يوم عاشوراء.
لعلّه في تلك اللحظات الاخيرة من عمر علي، حين التف اولاده حول فراشه، وكان يساورهم القلق من المستقبل، لعله أوصى كل واحد منهم بما ينبغي. ولا يُستبعد انه اخذ بيد العباس ووضعها في يد الحسين (عليه السلام)، وقال له: يا عباس! نفسك ونفس الحسين في كربلاء. إياك ان تفارقه وتتركه وحيداً!
كان لعباس شرف النسب والمحتد، وكثيراً ما كان يحظى برعاية علي (عليه السلام) وأمه، أم البنين. وكانت هذه المرأة امرأة شريفة وعارفة بحق اهل البيت ومخلصة في ولائهم. وفي المقابل كان لها عندهم الجاه الوجيه والمحل الرفيع، وقد زارتها زينب بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الاربعة، كما كانت تزورها أيام العيد[8]. وهذا ما يدل على عظيم منـزلتها عندهم.

_____________________________________________
[1] - العباس بن علي، ص 133.
[2] - العباس بن علي، ص 133.
[3] - العباس بمعنى الأسد الهصور، وتأتي أيضاً بمعنى الكثير العبوس وتقطيب الوجه؛ لأنه كان عبوساً على الظالمين والاعداء.
[4] - العباس بن علي، ص 25.
[5] - العباس بن علي، ص 138.
[6] - جهره درخشان قمر بني هاشم، ج 1، ص 53 (نقلاً عن فرسان الهيجاء).
[7] - معالي السبطين، ص 277.
[8] - العباس بن علي، ص 23.


source : sibtayn
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
أين يقع غدير خُمّ؟
خلاصة عقيدة الوهابية في التوحيد
السيد علي بن الامام الباقر عليه السلام
علم النبي (ص) قبل البعثة وبعدها
نتائج اللقاء بالمعصومین في حیاتهم و زیارة قبورهم ...
الشجرة الطيبة في القرآن
دعوة إبراهيم و إسماعيل عند رفع القواعد من البيت
نصائح لمعالجة الغرور عند الشباب
العمل والانتاج في الإسلام

 
user comment