تنوعت الزیارات والأدعیة من حیث مهماتها؛ ومن حیث أوقاتها .. فهناک الأدعیة التی امِرَ الشیعة بالمواظبة على قراءتها فی عصر الغیبیة تحت عنوان (عصر الحیرة)؛ کما أن هناک أدعیة أُمِرَ الشیعة أن یدعون بها لتعجیل فرج الإمام القائم علیه السلام؛ بالإضافة إلى أن هناک أدعیة ترجع عوائدها على شخص الإمام الحاضر علیه السلام، ومنها ما جاء فی دعاء زیارة (آل یاسین) کمثال إستشهادی.
مع وجود الکم الهائل من الروایات التی تحدثت عن القضایا المهدیة، أفلا تکفی لتکون مصدراً مهماً لها؟
وهل استنفدت تلک الروایات أغراضها فلم تعد الحاجة إلى الرجوع إلیها مرة أخرى؟
أم أن هناک دواعی أخرى یمکننا أن نستفید من الأدعیة والزیارات المرویة عن المعصومین علیهم السلام؟
وفی مخاض الإجابة عن کل تلک الأسئلة الموضوعیة التی تنطلق عفویاً أمام أول قراءة لعنوان البحث: فإنه لا تعارض البتة بین أن نستمر بدراستنا للقضایا المهدیة من خلال الروایات المکثفة ومن جوانبها المختلفة مع فتح مصدر معرفی جدید للتعرف على جوانب أخرى من هذه القضایا العقیدیــــــة المهمة فی بعدیها المعرفی النظری والواقعی.
وأما السبب المباشر الذی لفت انتباهنا إلى هذه الانطلاقة الجدیدة هو مجموعة أشیاء:
1-الکثافة الکمیة لتلک الأدعیة والزیارات التی امتلأت بها کتب الأدعیــــة والزیـــــارات کـ(مصبــاح التهجــد) للشیخ الطوسی، و(مصابح الزائر) للسید ابن طاووس، و(الجنة الواقیة) و(البلد الأمین) للشیخ الکفعمی وغیرها.
2-الکثافة النوعیة و الوقتیة شاخصة بوضوح أمام الشیعی فی قراءاته لتلک الأدعیة والزیارات فی الأوقات المختلفة:
فهناک أدعیة یومیة صباحاً، أو بعد صلاة الصبح کـ(دعاء العهد) الکبیر، ودعاء (العهد) الصغیر أو ما یمکننا أن نسمیه بـ(دعاء البیعة)، وهناک أدعیة أسبوعیة کـ(دعاء الندبة) الذی یقرأ فی أوقات مختلفة منها المواظبة على قراءته یوم الجمعة، ودعاء الغیبة الذی یقرأ یوم الجمعة.
وهناک أدعیة تقرأ فی المواسم کدعاء الندبة الذی یقرأ فی الأعیاد الأربعة (عید الفطر ـ عید الأضحى ـ عید الغدیر ـ یوم الجمعة)، والدعاء المروی عن الصالحین الذی یستحب تکرار قراءته لیلة الثالث والعشرین (لیلة القدر) من شهر رمضان المبارک (اَللّهُمَّ کُنْ لِّوَلِیِّکَ اَلحُجَّة بنِ اَلحَسَنِ صَلَواتُکَ عَلَیهِ وَ عَلى آبائِهِ فی هذِهِ اَلسّاعِةِ وَفی کُلِّ ساعَةٍ وَلِیّاً وحَافِظاً وَقائِداً وَناصِراوَدَلیلاً وَعَیناً حَتّى تُسکِنَهُ اَرضَکَ طَوعاً وَتُمَتِّعَهُ فیها طَویلاً). وکذلک المواظبة على قراءته فی کل وقت من أیام الجمعة.
وکذلک نجد الکثافة المکانیة لتلک الزیارات والأدعیة التی وظفت قراءة بعض تلک الأدعیة فی مسجد الکوفة، وکذلک مسجد السهلــــة، وهکذا مسجد جمکـــران، بالإضافة إلى المقامــــات المنسوبة له علیه السلام فی أماکن مختلفة من الأرض من جملتها مقام صاحب الزمان علیه السلام فی النجف، ومقام صاحب الزمان علیه السلام فی الحلة وفی أماکن أخرى من العالم.
3- تفرَّدت تلک الأدعیة والزیارات بترکیز اهتمامها على طرح مواضیع حساسة بما یتعلق بالقضایا المهدویة بشکل عام أو بشخص الإمام المهــدی علیه الســلام والمرتبطین به (مثل أمّــه الطاهرة السیــــده نرجس علیها السلام .. وعمته السیدة حکیمة علیها السلام .. أو نوابه الأربعة علیهم السلام).ونشیر إلى رمزیة زیارة آل یأسین التی یزار بها صاحب الأمر علیه السلام حیث فیها إجابات على کثیر من الاستفهامات المتعلقة بخصوصیته علیه السلام.
4-وقد صیغت تلک الأدعیة والزیارات بأسالیب تفردت بها عن غیرها من حیث الأسلوب وطریقة العرض والطرح ویکفی ما فیها دعاء العهد (الذی حثَّ الإمام الصادق علیه السلام على قراءته صباح کل یوم، وبالخصوص المواظبة علیه أربعین صباحاً). ودعاء الندبة من إثارة کامن العاطفة، والحماس؛ والدعوة إلى البکاء الفردی، والبکاء الجماعی، فی نفس الوقت الذی یحث الدعاء الداعی على الإعداد والاستعداد للمعرکة المهدیة ضدّ أعدائه علیه السلام، وشحذ الهمم، بأسالیب خطابیة تجمع المتناقضات المتضادة من قبیل التفجع وشکوى الظلم والظلامات مع الدعوى إلى القوة والمجابهة والقیام للمعرکة والحرب؛ بما لم نجده فی مجموع الأدعیة الأخرى المرویة عنهم علیها السلام.
مع ملاحظة التأکید على شخص الإمام علیه السلام بما تفردت به تلک الأدعیة التی لم نجدها فی الأدعیة الأخرى التی أکدت على معانی التوحید والعبودیة لله تبارک وتعالى، کدعاء کمیل المروی عن أمیر المؤمنین، ودعاء عرفة المروی عن الإمام الحسین علیه السلام، ودعاء أبی حمزة المروی عن الإمام زین العابدین علیه السلام؛ بل نجد فی بعض تلک الأدعیة المهدیة أن نفس الإمام المعصوم علیه السلام یمارس الإثارة العاطفیة الخاصة حینما یسلط الأضواء بوضوح ملفت .
ومن نافلة القول فإنَّه لا یعنی اهتمامنا المَعْرِفی بتلک الأدعیة المسلکیة مجالاته الموضوعیة، وکما قیل: فإن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق.
ونحن فی الوقت الذی نؤکد على ضرورة انبثاق طریق معرفی جدید لدراسة القضایا المهدیة ینطلق من قالب الأدعیة والزیارات له علیه السلام، فإننا نؤکد أیضاً أن لتلک الأدعیة والزیارات خصوصیاتها الغیبة فی الثواب، وقضاء الحاجات وتحصیل مرضاة الله عزَّ وجل والنبی صلى الله علیه وآله وسلم والأئمة علیها السلام ونزول الخیرات والبرکات ودفع البلایا والأمراض، کما أن لها مواقعها الجلیلة والعظیمة فی السیر والسلوک وتزکیة الباطن والترقی فی مدارج الکمال، وقطع مراحل السیر إلیه سبحانه.
هل صدرت الأدعیة والزیارات المهدیة عن المعصومین علیهم السلام أم هی من تألیف علمائنا المقدسین؟
قد أُثیر الإشکال على صدور کثیر من تلک الأدعیة والزیارات من عند المعصومین علیها السلام ونسبت إلى المقدس السید ابن طاووس رحمه الله لما وقع فی ظاهر أسانید بعضها الإرسال، وما قیل بأنها مذکورة فی کتب ابن طاووس رحمه الله ولم نجدها فی غیرها .. وقد عرف عنه رحمه الله أنه کان یؤلف الأدعیة ویسجلها ویثبتها فی کتبه الختصة فی الأدعیة والزیارات کما هو الموجود فی کتابه الشریف «مهج الدعوات».
وقد عولج الإشکال بطریقین:
الطریق الأول:
لا ضرر من کون الأدعیة والزیارات من تألیف بعض العلماء بعدما قرر فی محله جواز تألیف الأدعیة والزیارات وقراءتها لا بقصد الورود.
الطریق الثانی:
ردّ أصل الإشکال، والقول بضرس قاطع أن الأدعیة المؤلفة من قِبَل السید ابن طاووس رحمه الله أو غیره إن وجد ـ وبالطبع فإنه لم یعرف فی طبقته ومَنْ قَبْله من نَهجَ منهجه فی تألیف الأدعیة والزیارات وکتب ما ألّفه فی مضامین کتبه ومؤلفاته ـ قد صرّح هو نفسه بها بأنه ألّف ذلک الدعاء المخصوص کما هو واضح جلی ومصرّح به فی کتب السید (رضوان الله تعالى علیه) وأما باقی الأدعیة التی لم یُصرّح أو یُلمح إلى کونها من تألیفه فإنما هی روایة له عن المعصومین علیها السلام بطرق وأسانید، خصوصاً أننا نجد فی بعضها صریح قوله (وروی)، وتکفی هذه العبارة على أن ما نقله کان ما بعدها روایة ولم یکن من تألیفه.
وربما یشاء البعض أن یعلق على هذه المسألة: بما أنه لا ضرر من العمل بالدعاء والزیارة إنشاءً، فما هو الداعی والمقتضی لهذا الإصرار بالبحث لتأکید أنّ ما رواه المتقدمون ومتأخری متقدمیهم بل ومتقدمی المتأخرین کان روایة ولم یکن إنشاء.
فیُجاب علیه بوجوه:
الوجه الأول:
إن قراءة المؤلَّف من غیر المعصوم لا یدخله إلى دائرة المباح والمسموح والجواز بالمعنى الأخص.
وأما لو ثبت صدوره عن المعصوم علیه السلام فإنه سوف یرتضى به فیدخله ضمن دائرة المستحب أو المستحب المؤکد،ویترتب علیه ما رسم له من الثوب الأخروی والأثر الدنیوی، کما یلزم ـ ولو من باب إکمال العمل ـ أن یؤتى بما وظّف له من مقدمات وشروط کما هو المعهود فی کثیر من تلک الأدعیة والزیارات حیث خصصت لها أوقاتاً معینة وشروطاً معروفة قد ذکرت متصلة بنفس الروایة، أو منفصلة عامة قد ذکرت مستقلة فی الروایات التی تحدثت عن عمومیات شروط الزیارات والأدعیة وهی مذکورة تفصیلاً فی مجالها من کتب المزار أو الأدعیة، أو عمل الیوم واللیلة.
والوجه الثانی:
إن الخط العام الذی حدّده أهل البیت علیها السلام فی قراءة الأدعیة والزیارات هو الالتزام بالروایة ووجودها، والبحث عنها فی مصادرها فی حال عدم وجودها، کما ترشد إلیه عملیة توظیفهم علیها السلام لنصوص الزیارات، والأدعیة والأعمال، واهتمامهم علیها السلام أن لا یفوتوا مناسبة من دون أن یحددوا الدعاء المخصص بها أو الزیارة المحددة، أو الدعوة لشیعتهم للقیام بالوظائف العامة فیها ولو لما جاء فی المطلقات والعمومات؛ مما یولِّد عند الفقیه رؤیة التأکید على ضرورة إتّباع هذا الخط العملی بالزیارة والدعاء وتضییق الخناق على دائرة استخدام التألیف والابتداع فی الدعاء والزیارة وإن لم یقصد به الورود ولم ینسب إلى المعصوم علیه السلام (وأما مع قصد الورود أو نسبته إلى المعصوم علیه السلام مع العلم بعدم صدوره عنه علیه السلام فهو من أکبر الکبائر المحرَّمة الذی یستوجب فاعلها النار أعاذنا الله تعالى منها).
الوجه الثالث:
لو کانت تلک الأدعیة والزیارات من إنشاء غیر المعصوم علیه السلام ومِنْ أیِّ کان من العلماء الإجلاء فإنها سوف لا تصلح کمادة بحث أولیة لاستکشاف الرؤیة الدینیة؛ لأننا نفترض فی النص المعصوم أنه یمتلک الدقة التامة فی التعبیر، وفیه قابلیة أن یضع المعانی وراء الحروف والألفاظ مبا یفتح أمام الفقیه باباً واسعاً لقراءة ما وراء السطور وما بینها؛ بالإضافة إلى حقیقة کون النص المعصوم قادر على معرفة تلک الخصوصیات الغیبیة، والسریة عن المهدیة، والإمام المهدی علیه السلام بما هو عالم عن قرب ومطّلع على الواقع مباشرة على نحو الخبر والممارسة؛ بعکس ما لو افترضنا النَّص قد صدر عن غیر المعصوم فإنه لا یخبر عن تلک القضایا الخارجیة والشخصیة إلا بنحو التحلیل لنَّص آخر، أو قراءة لقرائن حالیة أو مقالیة لا تفید فی أحسن الصور أکثر من الظن أو الإحتمال، وبالطبع فکلما نحى الرأی الفقهی ـ ومن أی فقیه کان عاش فی أی زمان متقدم، أو متقدم المتقدم ـ سیراً تحلیلیاً فی رؤى فقهیة فإنه سوف یکون فی موقع أبعد عن واقع النص، بمقدار تجاوز حدود الخبر المنصوص إلى التحلیل المفترض.
وعلیه فسوف لا یصلح النص المؤلف من قِبل الفقهاء غیر المعصومین لیکون أداة کاملة لإستنباط أو معرفة المجهول العقائدی أو التراثی إلا بمقدار ما یعتمده النص غیر المعصوم من إستفادته الفعلیة من نسّ معصوم اعتمده فی ترکیب دعائه أو زیارته.
وهذا یوصلنا إلى الباب الأول المغلق على ضرورة التعرف على النص الذی نقل منه، او عنه، وهل إنَّ ذلک النص ثابت سندیاً أم یحتاج إلى علاجات سندیة لإثباته؟
وهو یرجعنا إلى نفس النقطة التی بدأناها بضرورة أن تکون تلک الأدعیة والزیارات قد رویت عن نفس المعصومین علیها السلام، ولا نستفید الإستفادة التامة المطلوبة من تلک التی قد رویت عن غیر المعصومین علیها السلام وإن کانوا من الفقهاء الأجلاء.
المصدر : تحقیق راسخون
source : rasekhoon