عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

إن ما يمر به القائد من مصاعب ومحن في فترة الغيبة يوجب تصاعد كماله … وما يقوم به من أعمال فانه يتكامل بذلك ويزداد في أفق وجوده العظيم ترسخاً وعمقاً . وعقد المرحوم الكليني باباً بعنوان: "إن الأئمة يزدادون في ليلة جمعة " .[15] وقال الله تعالى:

"إن ما يمر به القائد من مصاعب ومحن في فترة الغيبة يوجب تصاعد كماله … وما يقوم به من أعمال فانه يتكامل بذلك ويزداد في أفق وجوده العظيم ترسخاً وعمقاً . وعقد المرحوم الكليني باباً بعنوان: "إن الأئمة يزدادون في ليلة جمعة " .[15] وقال الله تعالى:

(وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا).

تكامل الإمام المهدي هذا, يترافق مع تكامل البشر طوال الغيبة. وتعمق الفكر الإسلامي بواسطة العلماء والمفكرين " يجعل الأذهان مستعدة أكثر فأكثر لتقبل وفهم الأحكام التفصيلية التي يعلنها المهدي(عج) في دولته العالمية الموعودة … وليست الدقة في الفكر الإسلامي فقط هي التي تشارك في تعميق المستوى الثقافي اللازم تحققه في اليوم الموعود، بل يشارك في ذلك سائر القطاعات والشعوب في العالم بما تبذل من دقة وعمق في سائر العلوم, مضافاً إلى أن التقدم العلمي في سائر حقول المعرفة البشرية سوف يشارك مشاركة فعالة في بناء الغد المنشود".[16]

نعم، هذه القراءة التي تنظر إلى فترة غياب المهدي كحلقة من حلقات التطور والاستكمال, قد تصطدم بجمّ غفير من الأحاديث التي ترسم معالم هذه الفترة في إطار مفعم بالسيئات والشرور، كالروايات التي تشير إلى ظهور المهدي الذي (عج)به يملا الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً) . أو تلك التي ترى علامات قيام القائم فيما: (عج)إذا تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال, وركبت ذات الفروج السروج وأمات الناس الصلوات واتبعوا الشهوات واستخفوا بالدماء وتعاملوا بالربا وتظاهروا بالزنا واستحلوا الكذب واخذوا الرشا واتبعوا الهدى وباعوا الدين بالدنيا وقطعوا الارحام وضنوا بالطعام… "[17], وما إلى ذلك مما قد يثير الشك في إصرارنا على اعتبار فترة الغيبة حلقةً من مراحل تكامل المجتمع البشري, ويعتبر هذا الزمن زمن سقوط القيم وتراجع البشرية عن خط الاستكمال الذي سلكته في زمن الأنبياء, ويفسر عصر الغيبة بفترة الفراغ وزمن الاستثناء. بالفعل هذا ما يراه الكثيرون منا. وبتعبير أحد الكتاب:

"الحضور التاريخي للشيعة كان يتقلب على ضفاف دولة الخلافة السنية, ويتكون خارج أروقتها ودوائرها, حيث غلب على الموقف السياسي للشيعة الانكفاء عن موضوع السلطة والحكم، وتعزز في الوعي رؤية متعالية حول الدولة والحكم ذات طبيعة نموذجية ومثالية . فالدولة الحقة هي التي ستحقق آخر الزمان بظهور الإمام المهدي(عج). أما زمن غيبة الإمام فهو فترة فراغ سياسي وزمن الاستثناء والخروج على الأصل . وكان أقصى ما ابتكره الاجتهاد الشيعي في المجال التنظيمي هو التأسيس لمرجعية الفقية كمرجعية إجرائية للجماعة الشيعية تحفظ وجودهم وتمنع اختراقهم . إلاّ أن هذه المرجعية تبلورت في سياق ملء الفراعات واستيعاب الظرف الطارئ للغيبة . فالأصالة للإمام ولزمانه والمؤقت للفقيه الذي سيصبح نائبه في تصريف الأعمال من دون أية صلاحية بملامسة كليات الواقع. فلا سلطة سياسية مشروعة في زمن الغيبة, ولاقيادة سياسية إلا للإمام المعصوم، إذ كل راية قبل الظهور و هي راية ضلال".(عج)د. وجيه قانصو. السفير). هذه فكرة تعود عليها الكثيرون.

إلاّ أن هناك أكثر من برهان عقلي ونص شرعي يزيل النظرة التشاؤمية إلى فترة الغيبة ويفيد أنها حلقة من مراحل الاستكمال التدريجي للإمام والبلوغ التدريجي للبشر. إن اعتبار فترة الغيبة فراغاً سياسياً وخروجاً على الأصل يساوي اعتبار نهضة المنجي على حد تعبير الشهيد المطهري:

ذات طابع انفجاري محض، ناتجة عن انتشار الظلم والفساد والطغيان، أي أن مسألة الظهور نوع من الإصلاح الناتج عن تصاعد الفساد.[18]

وهذا باطل عقلاً, لاستحالة الطفرة أولاً, ولاستحالة التراجع من الكمال إلى النقص في أية حركة لالإنسان الذي هو العالم الصغير وللعالم الذي هو الإنسان الكبير ثانياً.

وباطل نقلاً بصريح الآيات القرآنية التي تحيل كل الحركات والتطورات إلى الله الذي إليه المصير وإليه ترجع الأمور، وبصريح الروايات الموثوقة التي لا ترى بداً من تحقق فترة الغيبة لتكوين النضج العقلاني والأخلاقي بالابتلاء والامتحان, ومنها ما رواه الشيخ الصدوق; عن الإمام الصادق (ع):

إن ظهور المهدي لا يتحقق حتى يشقى من شقى ويسعد من سعد.[19]

فالحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كل شقي وكل سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الأشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة.

يقول الله تعالى:

(لِّيقْضِي اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَينَةٍ وَيحْيى مَنْ حَي عَن بَينَةٍ).[20]

والآية صريحة في ضرورة إجراء قانون التمحيص والاختبار. و"المجتمع الموعود لا يمكن أن يحدث ما لم تسبقه فترة من التمحيص".[21] كما أن الفرد "قبل حصول ظروف الجهاد وقبل تشريعه يكون ناقص التكوين حقيقة, لا مجاهداً ولا صابراً، وتكون حالته النفسية واتجاهاته مجملة".[22] ومن ثم قال الله تعالى:

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيعْلَمَ الصَّابِرِينَ).

من هنا يتبين أن ازدياد الفتن والمزلات بشكل تصاعدي في زمن الغيبة, وإن كان ظاهرها أمر سلبي تشاؤمي للغاية, لكنها تحمل في طياتها أمراً إيجابياً للغاية, وهو أن كثرة الابتلاءات بحد ذاتها تدلّ على ظهور نفوس مترسخة في الإيمان استطاعت أن تتجاوز العقبات الصغيرة وحان لها أن تضغط بمزيد من العراقيل وتبتلى بمزيد من المطبات، ولا بد للصراط أن يصبح أحد من السيف وأدق من الشعر، لأن أفضل الأعمال أهمزها. ولابد أن يكون حفظ الإيمان أصعب من حفظ نار … (لِيمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ), وألا يكفي هذا لإثبات وجود الطيب إلى جانب الخبيث حسب الآية, ووجود السعيد إلى جانب الشقي حسب الرواية ؟

دعونا نتجاوز الظاهر ونتسلل في العمق، ونرى وراء الظاهر المفعم بالفتنة والفساد في فترة الغيبة باطناً رائعاً يتمثل في نفوس:

لا تضرها الفتنة شيئاً لأنهم يمثلون الحق صرفاً، وينتمون إلى قسطاط الحق الذي لا كفر فيه كما ورد في الأخبار.[23]

هذا, وإن التفاؤل بتكامل البشر على المستوى العلمي لا يقل عن التشاؤم من الابتذال الأخلاقي. وإذا كان العلم بدون التهذيب لا قيمة له, فالعكس أيضاً صحيح. وربما يعود إلى هذا التوازن, السر في تقديم التزكية على التعليم في الآية 2 من سورة الجمعة: (وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وتقديم التعليم على التزكية في الآية 129 من سورة البقرة: (وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيزَكِّيهِمْ).

إن هذه القراءة تدعي أن اعتبار فترة الغيبة زمن الفراغ والاستثناء والخروج على الأصل له مردوده السلبي في إبعاد الشيعة عن التفاعل الإيجابي طوال دورة قد تطول أكثر من فترة تواجد الأنبياء وفترة حكومة المهدي نفسه والتي لا تدوم كثيراً.

وتفيد القراءة بعد تبني هذه النظرة التفاؤلية أن السر في غيبة الإمام المهدي لا ينحصر في الحفاظ على نفس الإمام وكثرة العدو كما ذهب إليه معظم متكلمي الشيعة. وعبارة العلامة الحلي في الباب الحادي عشر التي يقول فيها:"وأما سبب خفائه عليه السلام فإما لمصلحة استأثره بعلمها أو كثرة العدو وقلة الناصر"[24] تفتح المجال لأكثر من قراءة في علل غيبة المهدي وحكمتها.

انطلاقاً من الرؤية المتفائلة القائلة بأن فترة الغيبة مرحلة طويلة من تاريخ البشر, وحلقة أساسية من حلقات الاستكمال التدريجي للإنسان, نرى أن فترة الغيبة الكبرى هي جزء من ولاية المهدي التي تتراوح بين الغياب والظهور، ونستمد من توحد الظهور بالبطون في الأسماء الإلهية الشريفة, لنقول إن غياب المهدي (عج) قد يكون بحد ذاته حضوراً لحقيقته من خلال تحريك العقل والاجتهاد في تعاطي الأمة التي غاب عنها وليها, وناب عنه علماء وفقهاء وضعت على عاتقهم إدارة شؤون الناس وشجونهم بتوظيف العقل في استنباط المتغيرات من ثوابت العقل والشرع.

الخاتمة

إن غياب المهدي هو بعينه حضوره من خلال تحريك العقل وتوكيله وحجتنا أن خاتمية الولاية بالمهدي هي سّر لخاتمية النبوة بمحمد(ص). والحقيقة المحمدية هي العقل كله. والذي قال:"أول ما خلق الله نوري"، قال أيضاً "أول ما خلق الله العقل".

إن غياب المهدي بجسده, الذي يفتح المجال لحضوره بحقيقته ونوره الذي هو العقل, يهيء الأرضية في نضج المجتمع البشري الذي يجب أن يتأهل لأن يقوم هو بالقسط,: (لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). وسيف المهدي لا يشهر على الناس بل على الطغاة الذين يأسرون عقول الناس وقلوبهم وأرواحهم وأبدانهم.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

کتابة رقعة الحاجة إلی مولانا صاحب العصر والزمان ...
الحرب العالمیة فی عصر الظهور
في رحاب بقية الله: المهدوية عقيدة النجاة
المعالم الاقتصادية والعمرانية في حكومة الامام ...
تكاليف عصر الغيبة الكبری
المهدي والحسين عليه السلام الدور والتجلي
سيرة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
كيف يكون الإنتظار للإمام المهدي عليه السلام
المدخل إلى عقيدة الشيعه الإمامية في ولادة الإمام ...

 
user comment