عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

خلق وفضائل الامام الکاظم عليه السلام

إنما جعل اللـه أنبياءه وحملة رسالاته من البشر ، لكي تتم الحجة على الناس فيقتدوا بهم ، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة ، أوليسوا من جنس آخر ؟بلى وإن الإنسان مفطور على حب الفضيلة ، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً ، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلى اتباعه ، والسعي لكي يكون مثله .
خلق وفضائل الامام الکاظم عليه السلام

إنما جعل اللـه أنبياءه وحملة رسالاته من البشر ، لكي تتم الحجة على الناس فيقتدوا بهم ، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة ، أوليسوا من جنس آخر ؟بلى وإن الإنسان مفطور على حب الفضيلة ، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً ، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلى اتباعه ، والسعي لكي يكون مثله .
إنك لو ألقيت على شخص محاضرة مفصّلة عن فضيلة الإحسان فإنه لا يندفع بقدر ما لو حكيت له قصة رجل محسن .
إن مكارم أخلاق الأئمة من أهل البيت (علیه السلام)أفضل منهاج تربوي ، وإنهم - بحق - أسمى قدوات الخير والفضيلة ، وإن سيرة حياتهم الحافلة بالمكرمات أقوى حجة على سلامة نهجهم في التربية وسلامة خطتهم في الحياة ، وإن أفكارهم التي تناقلتها الرواة هي التفسير الصحيح للقرآن الحق ، أوليسوا من البشر ؟ إذاً كيف بلغوا هذا الشأن من العظمة ، ألم يبلغوه بتطبيق هذه الأفكار التي رويت عنهم ؟ بلى ، أولسنا نحن أيضاً نريد العظمة ؟ إذاً دعنا نقرأ تلك الأفكار ونتفاعل معها .
والواقع أن التاريخ لم يحفظ لنا من سيرة الأئمة إلاّ قليلاً ، لأنهم كانوا محاصرين إعلامياً من قبل سلطات الجور حتى أن رواية فضيلة لهم كانت تكلِّف في بعض العصور حياة الراوي ، وكان على الشاعر دعبل أن يحمل على كتفه خشبة إعدامه لمدة ربع قرن ، ويهيم على وجهه في القفار لأنه كان يمدح أهل البيت . ومع ذلك فإن ما تبقّى من فضائلهم يعتبر دورة تربوية كاملة لمكارم الأخلاق .
ولأن عاش إمامنا الكاظم (علیه السلام)في أشد أيام الصراع وأصعب أوقات التقيّة وسرّية العمل ، فإن اختراق قصصه لحصار السلطات يعتبر معجزة ، وعلينا أن نستدل بما وصلتنا من قصصه وهي قليلة على ما لم تصل إلينا وهي الأكثر .

أ - عبادته وزهده :
من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد ، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلى اللـه تعالى ، وقد كان عصر الإمام الكاظم (علیه السلام)معروفاً بالعصر الذهبي ، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون ، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة ، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول : ( دخلت على أبي الحسن الأول علیه السلام في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة - الحضفة : الحيكة تعمل من الخوص للتمر ، وأيضاً يقال للثوب الغليظ جداً -
وسيف معلق ومصحف ) (1)
وكان (علیه السلام)يسعى إلى بيت اللـه الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله ، واجتهاده في العبادة ، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب ( 400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز ، عرفنا مدى تحمل الإمام للصعاب في سبيل اللـه .
يقول علي بن جعفر (علیه السلام): ( خرجنا مع أخي موسى بن جعفر (علیه السلام)في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً ، وأخرى خمسة وعشرين يوماً ، وأخرى أربعة وعشرين يوماً ، وأخرى واحداً وعشرين يوماً )(2)
أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقى الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي :
(روي أنه كان يصلي نوافل الليل ، ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس ، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ، وكان يدعو كثيراً فيقول : اللـهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرر ذلك ، وكان من دعائه (علیه السلام)عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك ، وكان يبكي من خشية اللـه حتى تخضلّ لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يفتقد فقراء المدينة )(3)
والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية ، هو السبب الذي بعثه اللـه به مقاما محموداً . وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّى بما لديه في سبيل تبليغها ، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة ، فهذا أحمد بن عبد اللـه ينقل عن أبيه فيقول : ( دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي : إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى ؟ فقلت : ثوباً مطروحا فقال : أنظر حسناً فتأملت فقلت : رجل ساجد ، فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه :
(اللـهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك ، اللـهم وقد فعلت فلك الحمد )(4)
أما قراءته للقرآن ، فيحدثنا عنها حفص ويقول : ( ما رأيت أحداّ أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (علیه السلام)ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً (5)
لقد علّمه القرآن الكريم أسمى القيم ، ومن أبرزها الإشفاق على نفسه ، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب ، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه .
بينما كان يرجو للناس كل خير ، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل ، بل كان (علیه السلام)يتقرب إلى اللـه بالإحسان إلى الناس ، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك ، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو)(6)

ب - جوده وكرمه :
بالتوكل على اللـه واليقين يعظم ثواب المحسنين عنده ، والثقة بأنه الرزاق ذو القوة المتين . يعطي المؤمن عطاءً لا يخشى الفقر ، وأئمة الهدى هم المثل الأسمى في الكرم والجود ، فهذا الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام)مع ما كان يعيشه من ظروف قاسية ، اشتهر بهذه الصفة في الآفاق .
جاء في التاريخ رواية مأثورة عن محمد بن عبد اللـه البكري ، قال :
(قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني ، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن (علیه السلام)فشكوت إليه ، فأتيته بنقمي في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف فيه قديد مجزع ، ليس معه غيره ، فأكل فأكلت معه ، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصَّتي ، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتى خرج إليّ فقال لغلامه : إذهب ثم مدّ يده إليّ فناولني صرة فيها ثلاثمائة دينار ، ثم قام فولى فقمت فركبت دابّتي وانصرفت )(7)
وروي عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين عن يحيى بن الحسن قال : ( كان موسى بن جعفر (علیه السلام)إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير ، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلاً )(8)
وجاء في حكاية تاريخية طريفة أن المنصور العباسي تقدم إلى موسى بن جعفر (علیه السلام)بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز ، وقبض ما يحمل إليه فقال (علیه السلام):(إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول اللـه (صلی الله عليه وسلم) فلم أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ اللـه أن نحيي ما محاه الإسلام ) .
فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك باللـه العظيم إلاّ جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه ، ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل ، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له : يا ابن بنت رسول اللـه إني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي (علیه السلام):
عجبـت لمصقول عــــلاك فرنده * يوم الهيــاج وقـد عــلاك غبــار
ولأسهم نفذتــــك دون حــــرائـر * يدعــون جدك والـدموع غــزار
ألا تغضغضت السَّهـام وعـاقهـا * عــن جسمــك الإجـلال والإكبار
قال : قُبلت هديتك ، إجلس بارك اللـه فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : إمضي إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به ، فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلّها هبة منّي له ، يفعل به ما أراد ، فقال موسى للشيخ : إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك ) (9)
وكان يلقى بكرمه عدوه فإذا به يصبح ولياً حميماً ، فهذا شخص من أولاد الخليفة الثاني كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (علیه السلام)ويسبه إذا رآه ، ويشتم عليّاً ، فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم ، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع ناحية من نواحي المدينــة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري لا توطىء زرعنا، فتوطأه (علیه السلام)بالحمار حتى وصل إليه ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار ، قال : فكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب ، قال له : إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟ قال : أرجو أن يجيء مائتا دينار .
قال : فأخرج له أبو الحسن (علیه السلام)صرة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال هذا زرعك على حاله ، واللـه يرزقك فيه ما ترجو ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف ، قال : وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال : اللـه أعلم حيث يجعل رسالاته قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا له : ما قضيتك ؟ قد كنت تقول غير هذا ، قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن (علیه السلام)فخاصموه وخاصمهم ، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : إيَّما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت ؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت به شره (10)

ج - علمــه (علیه السلام):
سبق الحديث عن علم الإمام ونعود هنا لنثبت رواية طريفة في علمه ، حيـث ينقل عن محمـد بن النعمان المعروف بأبي حنيفة إمام المذهب أنه قال :رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه ، فقلت : أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك ؟ فنظر إليّ ثم قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقَّى عن أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة ، والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع ذلك حيث شاء .
قال : فلما سمعت هذا القول منه ، نبل في عيني ، وعظم في قلبي فقلت له : جعلت فداك ممن المعصية ؟ فنظر إليّ ثم قال : إجلس حتى أخبرك ، فجلست فقال : إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً ، فإن كانت من اللـه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله ، وان كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار فقلت :
{ذريةً بعضها من بعض } (11)
وروي عنه الخطيب في تاريخ بغداد ، والسمعاني في الرسالة القومية ، وأبو صالح أحمد المؤذن في الأربعين ، وابو عبد اللـه بن بطة في الإبانة ، والثعلبي في الكشف والبيان ، وكان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت (علیه السلام)لما روي عنه قال : حدثني موسى بن جعفر قال : حدثني أبي جعفر بن محمد وهكذا إلى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ثم قال أحمد : ( وهذا إسناد لو قُرِأ على المجنون أفاق)

شجاعتــه واستقامتــه :
لقد حمل الإمام أعباء رسالات الأنبياء بذات العزيمة العظيمة التي كانت للنبيين (علیه السلام). لقد تحدى كل طغيان الإستكبار ، وكل تراكمات الفساد بثقة مطلقة برب العالمين .حينما يأتيه الفضل بن الربيع ويقول له : استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك اللـه فقال (علیه السلام): “ أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء اللـه “ وحينما يدخل على هارون الرشيد ذلك الطاغية الذي كان يخاطب مرة السحاب ويفتخر بسعة سلطانه ، فيقول : شرِّقي غرِّبي فأنّى ذهبت فخراجك إليّ .
يقول له هارون : ما هذه الدار ؟
فقال الإمام : هذه دار الفاسقين ، قال اللـه تعالى :
{ سَاَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}(12) فقال له هارون : فدار من هي ؟ قال : “ هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة “ .
قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟ فقال : “ أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلاّ معمورة “ .
قال فأين شيعتك ، فقرأ أبو الحسن (علیه السلام):
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }(13)
قال : فقال له : فنحن كفّار ؟ قال : لا .. ولكن كما قال اللـه :
{الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللـه كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } (14)
فغضب عند ذلك وغلّظ عليه (15)
ومن المعتقل حيث تحيط به جلاوزة السلطات المجرمون ، كتب رسالة إلى الرّشيد جاء فيها : “ إنه لن ينقضيَ عنّي يوم من البلاء إلاّ انقض عنك معه يوم من الرضاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له إنقضاء يخسر فيه المبطلون “ (16)

محنتــه وشهادتــه
بعد محنة أبي عبد اللـه الحسين (عليه السلام)، وأكثر من سائر أئمة الـهدى من أهل بيت الرسول ، كانت محنة أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام)شديدة وأليمة .
لقد كان الرّشيد يترصده ولا يقدر عليه ، ولعله كان يخشى من بعث جيش إليه خوف انقلابه وتحوله إلى صفِّه ، وكانت السرّية التي عمل بها الرساليون تجعل السلطات لا تثق بأقرب الناس إليهم ، فهذا علي بن يقطين وزير الرّشيد ، وذاك وزيره الآخر جعفر بن محمد بن الأشعث شيعيان ، كما كان من بين قيادات جيشه ، وأبرز ولاته على الأمصار من يخفي ولائه لآل البيت (عليه السلام)، فلذلك قرر الذهاب بنفسه إلى المدينة ، لإلقاء القبض عليه ، وأخذ معه قوّاته الخاصة ، بالإضافة إلى جيش من الشعراء ، وعلماء السلاطين ، والمستشارين و. و. كما أنه حمل معه الملايين مما سرقه من المحرومين ، فقسّمها بين الناس لشراء سكوتهم .وخص منهم رؤساء القبائل ووجوه وأعيان المعارضة .
هكذا ذهب الرّشيد إلى المدينة ليلقي القبض على أعظم معارضي سلطانه الغاصب ، لننظر ما فعل :
أولاّ : جلس عدة أيام يستقبل الناس ويأمر لهم بالصِّلات السخية ، حتى أشبع بطون المعارضين ، ممن كانت معارضتهم للسلطة لأسباب شخصية ومصالح خاصة .
ثانياً : بعث في البلد من يبث الدعايات ضد أعداء السلطان ، وأغرى الشعراء وعملاء السلطة من أدعياء الدين بمدح السلطان وإصدار الفتاوى بحرمة محاربته .
ثالثاً : استعرض قوّته لأهل المدينة لكي لا يفكر أحد بمقاومته في هذا الوقت بالذات .
رابعاً : وحينما أكمل استعداده قام شخصياً بتطبيق البند الأخير من خطته الإرهابية ، فدخل مسجد رسول اللـه ، ربما في وقت يجتمع الناس لأداء الفريضة ، ولا يتخلف عنهـم - بالطبـع - الإمام موسـى بن جعفـر (عليه السلام).
ثم تقدم إلى قبر الرسول وسلم عليه : وقال : السلام عليك يا رسول اللـه ، يا ابن عم .وكان هدفه إثبات شرعية خلافته لرسول اللـه ، لتكون سبباً وجيهاً لاعتقال الإمام (عليه السلام)، ولكن الإمام فوّت عليه هذه الفرصة ، وشق الصفوف حتى تقدمها وتوجه إلى القبر الشريف وقال في ذهول الجميع : السلام عليك يا رسول اللـه ، السلام عليك يا جدّاه .
فلإن كان رسول اللـه ابن عمك يا سلطان الجور ، وإنّك تدّعي شرعية سلطتك بانتمائك النسبي لرسول اللـه (صلی الله عليه وآله وسلم)، فإنه أقرب إليّ ، فهو جدي وأنا أحقَّ بخلافته منك .
ولكن الرّشيد استدرك الموقف وقال وهو يبرّر عزمه على اعتقال الإمام بالقول :
بأبي أنت وأمي يا رسول اللـه ، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه ، وإني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه ، لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم .
فلما كان اليوم التالي أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول اللـه ، فأمر بالقبض عليه وحبسه (17) .
وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما ، ووجّه مع كل واحدة منهما خيلاً فأخذ بواحدة على طريق البصرة ، والأخرى على طريق الكوفة ، ليعمي على الناس امره ، وكان الإمام في القبة التي مضت على البصرة ، وأمر الرسول أن يسلم إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان والياً يومئذ على البصرة فمضى به فحبسه عنده سنة .
ثم كتب إلى الرّشيد أن خذه منّي ، وسلّمه إلى من شئت ، وإلاّ خلّيت سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك ، حتى أني لأتسمّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه ، يسأله الرحمة والمغفرة ، فوجّه من تسلمه منه ، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد ، فبقي عنده مدة طويلة ، وأراده الرّشيد على شيء من أمره فأبى ، فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى ، فتسلّمه منه وأراد ذلك منه فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة .
فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وامره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر (عليه السلام)فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل منه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس (18).
وتمضي الرواية التاريخية لتقول : وبلغ يحيى بن خالد فركب إلى الرّشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه ، حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال : التفت إليّ يا أمير المؤمنين فأصغى إليه فزعاً ، فقال له : إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد ، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس فقال : إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه ، فقالوا له : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه . ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء ، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بامره ، فامتثله وسأل موسى (عليه السلام)السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله ، ففعــل ذلك ، قال : وسألتــــه أن يأذن لي أن أكفّنه فأبــى وقــال :
( إنا أهل البيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا ، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا ، وعندي كفني ) .
فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه ولا أثر به ، وشهدوا على ذلك وأخرج فوضع على الجسر ببغداد ، ونودي : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو (عليه السلام)ميت .
قال : وحدّثني رجل من بعض الطالبيّين أنه نودي عليه : هذا موسى بن جعفر الذي تَزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه ، فنظروا إليه .
قالوا : وحمل فدفن في مقابر قريش ، فوقع قبره ، إلى جانب رجل من النوفلِّيين يقال له عيسى بن عبد اللـه (19).
وتنقل الروايات التاريخية : أن الإمام (عليه السلام)كان يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها ، ويأمرهم بأمره ، كما انه كان يجيب عن مسائلهم السياسية ، والفقهية .
وقد نتساءل : كيف كان (عليه السلام)يتصل بهم ، لعله بطرق غيبية ، ولكن أحاديث كثيرة تبيّن لنا أن أكثر من سجن عندهم الإمام (عليه السلام)قالوا بإمامته ، بالرغم من أن السلطة كانت تختار سجّانه من بين أغلظ الناس وأكثرهم ولاءً لها ، لما كانوا يرونه فيه من شدة الإجتهاد في العبادة ، وغزارة العلم ومكارم الأخلاق ، ولما كانوا يرونه منه من كرامات .
وفي كتاب الأنوار قال العامري : إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفة ، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجـن ، فقـال قل له : { بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } (20).
لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ، قال : فاستطار هارون غضباً وقال : إرجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك ، واترك الجارية عنده وانصرف ، قال : فمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول : قدوس سبحانك سبحانك .
فقال هارون : سحرها واللـه موسى بن جعفر بسحره ، عليّ بها ، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني الشأن البديع ، إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح اللـه ويقدّسه قلت : يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها ؟ قال : وما حاجتي إليك ؟ قلت : إني أدخلت عليك لحوائجك قال : فما بال هؤلاء ؟ قالت : فالتفت فإذا روضة مزهــرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصفاء ووصائف لم أرَ مثل وجوههم حسناً ، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر ، والأكاليل والدرّ والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام ، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت .
قال : فقال هارون : يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في منامك ؟ قالت : لا واللـه يا سيدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك ، فقال الرّشيد : إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا منها أحد ، فأقبلت في الصلاة ، فإذا قيل لها في ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح (عليه السلام)، فسئلت عن قولها قالت : إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح ، حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، فما زالت كذلك حتى ماتت ، وذلك قبل موت موسى بأيام يسيرة .
هذه هي كرامة الإمام (عليه السلام)على اللـه ، وتلك هي عاقبة الرّشيد الظَّالم الطَّاغي .
نـسأل اللـه العلي العظيـم أن يجعلنا ممـن يتولى أوليائه ، ويتبرأ من أعدائه ، ويسير على نهجهم أئمة الهدى من آل محمد ( صلى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) والحمد لله رب العالمين .
المصادر :

1- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 100 )
2- بحار الأنوار الجزء 48ص100
3- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 102 )
4- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 107 ، 108 )
5- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 111 )
6- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 108 )
7- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 102 )
8- مقاتل الطالبيين ( ص 104 ) .
9- بحار الأنوار الجزء 48: ( ص 108 )
10- بحار الأنوار الجزء 48: ( ج 56 ، ص 102 - 103 )
11- آل عمران / 34
12- الاعراف/146
13- البَيِّنةِ/1
14- اِبراهيم/28
15- البحار : ج 56 ( ص 223 )
16- نفس المصدر : ( ص 148 )
17- نفس المصدر : ( ص 213 )
18- نفس المصدر : ( ص 233)
19- نفس المصدر : ( ص 234 ) نقلاً عن كتاب الغيبة للطوسي : ( ص 22 )
20- النَّـمْل/36


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

وصية الإمام الكاظم ( عليه السلام ) لهشام بن الحكم ...
الظروف السياسية في عصر الإمام الكاظم
السيّدة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليه السّلام
الإمام الكاظم سجين الحق وقائد المعارضة السلمية
ادعية الامام الکاظم عليه السلام
أدعية الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) لأيام ...
مناظرة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) مع هارون ...
إمامة الإمام الكاظم ( عليه السلام )
سیرة الامام موسی الکاظم(ع)
إمامة الإمام الكاظم ( عليه السلام )

 
user comment