عاش الإمام الصادق (عليه السلام) مع زوجته حميدة (1) حياة بيتية هادئة حافلة بالمودّة والمسّرات. وفي فترات تلك المدة السعيدة عرض لها حمل وسافر الإمام أبو عبد الله إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فحمل زوجته معه للاطمئنان على صحتها في تلك الفترة. وبعد الانتهاء من مراسم الحج قفلوا راجعين إلى المدينة المنورة، فلما انتهوا إلى الأبواء(2) أحست حميدة بالطلق، فأرسلت خلف الإمام (عليه السلام) تخبره بالأمر، وكان عند ذلك يتناول طعام الغذاء مع جماعة من أصحابه، فلما وافاه النبأ السعيد قام مبادراً إليها، فلم يلبث قليلاً حتى وضعت حميدة سيّداً من سادات المسلمين، وإماماً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
إنه يوم سعيد، يوم مشرق أشرقت به الدنيا بهذا المولود المبارك فكان باراً بالناس، عاطفاً على الفقراء منهم، لكنه كان أكثرهم عناءً وأكثرهم محنة في سبيل الله.بادر الإمام الصادق (عليه السلام) فتناول وليده الذي يأمل به أملاً باسماً فأجرى عليه مراسم الولادة الشرعيّة، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وما زالت هذه الطريقة تُحتذى عند جميع المسلمين المؤمنين.
لقد كانت أول كلمة طيّبة قرعت سمعه كلمة التوحيد التي تتضمن الإيمان بكل ما له من معنى.
عاد الإمام الصادق إلى أصحابه والبسمة تعلو ثغره، فبادره أصحابه قائلين: (سرّك الله، وجعلنا فداك، يا سيدنا ما فعلت حميدة؟) فبشّرهم بمولوده المبارك قائلاً لهم: (لقد وهب الله لي غلاماً، وهو خير من برأ الله).
أجل انه من أئمة أهل البيت المعصومين، وخير من برأ الله علماً وتقوى وصلاحاً في الدين، وهذا ما أحاط به الإمام الصادق أصحابه علماً بأنه الإمام الذي فرض الله طاعته على عباده قائلاً لهم:(فدونكم، فوالله هو صاحبكم)(3).
وكانت ولادته في الأبواء سنة 128هـ وقيل سنة 129هـ(4) وذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.
وقال الطبرسي رحمه الله: ولد أبو الحسن موسى (عليه السلام) بالأبواء، منزل بين مكة والمدينة لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة(5).
تكريم الوليد
بعد فترة وجيزة ارتحل أبو عبد الله عن الأبواء متجهاً إلى يثرب وفور وصوله مدّ المائدة، وأطعم الناس ثلاثة أيام تكريماً لوليده المبارك (الكاظم)(6) وبدأت وفود من شيعته تتوافد عليه لتهنئته بمولوده، وتشاركه في فرحته الكبرى.
طفولته زاكية مميّزة
تدرّج الإمام موسى بن جعفر في طفولة زاكية مميزة، فتربّى في حجر الإسلام، ورضع من ثدي الإيمان، وتغذى من عطف أبيه الإمام الصادق، حيث أغدق عليه أشعة من روحه الطاهرة وأرشده إلى عادات الأئمة الشريفة وسلوكهم النيّر، فالتقت في سنّه المبكر جميع عناصر التربية الإسلامية السليمة، حتى أحرز في صغره جميع أنواع التهذيب والكمال والأخلاق الحميدة، ومن شبّ على شيء شاب عليه. هذه الطفولة المميزة استقبلها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو ناعم البال بحفاوة وتكريم خاص؛ فأبوه أغدق عليه عطفاً مستفيضاً، وحمل له من الحب ما لا يحمله لغيره، حيث قدّمه على بقية ولده، فاندفع قائلاً: (الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء)(7) ونتيجة هذا الحب الأبوي المميز أخذت جماهير المسلمين تقابل الإمام موسى بالعناية والتكريم، وجماهير الشيعة بصورة خاصة، لأنّهم يعتقدون أن مقام الإمامة كمقام النبوة، بعيداً عن المحاباة، سوى ما يتصل بتأييد الفضيلة والإشادة بالإيمان، وعلى ضوء ذلك أعلن الإمام الصادق حبّه الكبير ومودته الوثيقة لولده الحبيب لأنه رأى فيه ملامح صادقة عنه، ومواهب مبكرة، وعبقرية خاصة، تؤهله لمنصب الإمامة على أمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله).
أوصافه
وصف رواة الأثر ملامح صورة الإمام موسى بن جعفر فقالوا: كان أسمر اللون(8)، وقالوا: كان ربع القامة، كثّ اللحية، حسن الوجه، نحيف الجسم(9).
أما عن صفاته الخلقية: فهو ابن الأوصياء، حاكي في هيبته ووقاره هيبة الأنبياء، فما رآه أحد إلا هابه وأكبره لجلالة قدره، وسموّ مكانته، وحسن سيرته، وكريم أخلاقه.
ومرّة التقى به شاعر البلاط العباسي أبو نواس فانبهر بأنواره فانطلق يصوّر هيبته ووقاره بأبيات قال فيها:
إذا أبـــــــصرتـــك العين من غير ريبة***وعارض فيك الشـك أثبتك القلب(10)
ولــــــو أن ركــــــباً أمـــــمـوك لقادهم*** نسيـــــمك حـــــتى يـــستدل بك الركب
جعــــــلتك حــــــسبي فـي أموري كلها***ومــا خاب من أضـحى وأنت له حسب
ولا يخفى أن هذه الأبيات كانت يقظة من يقظات الضمير، ونسمة علوية من نسيمات الروح، ذلك أن أبا نواس الذي كان يعيش على موائد بني العباس، والذي قضى معظم أيام حياته في اللهو المجون، قد انبرى إلى هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان يمدح أهل البيت ينال عقوبة كبرى قد تؤدي به إلى الموت! لكن مثالية الإمام وواقعيته التي لا ندّ لها في عصره، قد سيطرت على روح الشاعر العباسي وأنسته النتائج.
كنيته وألقابه
كان يكنّى بعدة أسماء أشهرها: أبو الحسن، قال الشيخ المفيد: كان يكنّى أبا إبراهيم، وأبا الحسن، وأبا علي، ويعرف بالعبد الصالح(11).. وقال ابن الصباغ المالكي: أما كنيته فأبو الحسن، وألقابه كثيرة أشهرها: الكاظم، ثم الصابر، والصالح، والأمين(12)، وألقابه تدل على مظاهر شخصيته، ودلائل عظمته، وهي عديدة منها: الزاهر، لأنه زهر بأخلاقه الشريفة، وكرمه الموروث عن جدّه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
قال ابن شهر آشوب عند ذكره لألقابه: (... والزاهر وسمي بذلك لأنه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التام)(13).
والكاظم: لقب بذلك لما كظمه عما فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق... ويقول ابن الأثير (إنه عرف بهذا اللقب لصبره ودماثة خلقه، ومقابلته الشرّ بالإحسان)(14).
والصابر: لأنه صبر على الخطوب والآلام التي تلقـــاها من حكـــام الجـــور والطغـــاة، الذين قابلوه بجميع ألوان الإساءة والمكروه(15).
والسيّد: لأنه من سادات المسلمين، وإمام من أئمتهم.
والوفي: لأنه أوفى الإنسان في عصره، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته، وبارّاً حتى بأعدائه والحاقدين عليه.
ذو النفس الزكية: لقّب بهذا اللقب اللطيف لصفاء ذاته، ونقاوة سريرته البعيدة كل البعد عن سفاسف المادة، ومآثم الحياة، نفس أبيّة زكيّة، طاهرة، كريمة، سمت وعلت حتى قلّ نظيرها.
باب الحوائج: هذا اللقب كان من أشهر ألقابه ذكراً، وأكثره شيوعاً، انتشر بين العام والخاص، حتى أنه ما أصاب أحدهم مكروه إلا فرّج الله عنه بذكره الإمام الكاظم، وما استجار بضريحه أحد إلا قضيت حوائجه، ورجع مثلوج القلب، مستريح الضمير ممّا ألّم به من طوارق الزمن التي لابدّ منها.
وقد آمن بذلك جمهور المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
يقول أبو علي الخلال شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي: (ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب)(16).
وقال الإمام الشافعي: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرّب)(17).
كان الإمام موسى الكاظم في حياته ملجأ لعموم المسلمين، كما كان كذلك بعد موته حصناً منيعاً لمن استجار به من عموم المسلمين، لأن الله سبحانه وتعالى عزّ اسمه منحه حوائج المسلمين المستجيرين بضريحه الطاهر في بغداد.
وقد روى الخطيب البغدادي قضية كان فيها شاهد عيان(18)، عندما شاهد امرأة مذهولة، مذعورة، فقدت رشدها لكثرة ما نزل بها من الهموم، لأنها أخبرت أن ولدها قد ارتكب جريمة، وألقت عليه السلطة القبض وأودعته في السجن ينتظر الحكم القاسي والظالم. فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام مستجيرة به، فرآها بعض الأوغاد، الذي لا يخلو الزمان منهم، فقال لها: إلى أين؟
ـ إلى موسى بن جعفر، فإنّه قد حُبِس ابني.
فقال لها بسخرية واستهزاء: (إنه قد مات في الحبس).
فاندفعت تقول بحرارة بعد أن لوّع قلبها بقوله:
(اللّهم بحق المقتول في الحبس أن تريني القدرة).
فاستجاب الله دعاءها، وأطلق سراح ابنها، وأودع ابن المستهزئ بها في ظلمات السجن بجرم ذلك الشخص.
فالله سبحانه وتعالى القادر العليم والقاهر العظيم قد أراها القدرة لها ولغيرها، كما أظهر كرامة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، فما خاب من دعاهم، وما فشل من استجار بهم. ثم يروي الخطيب البغدادي عن محنة ألّمت به فاستجار بالإمام موسى وكشف عنه الهمّ والغمّ. فيقول: (وأنا شخصيّاً قد ألّمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي، ففزعت إلى ضريح موسى بن جعفر بنيّة صادقة، ففرّج الله عنّي، وكشف ما ألّم بي.ولا يَشِكّ في هذه الظاهرة التي اختصّ بها الإمام إلا من ارتاب في دينه وإسلامه.
لقد آمن جميع المسلمين الأبرار بالأئمة الأطهار منذ فجر التاريخ ولم يزالوا يعتقدون اعتقاداً راسخاً في أن أهل البيت (عليهم السلام) لهم المقام الكريم عند الله، وإنه يستدفع بهم البلاء، وتستمطر بهم السماء.
روى الكليني عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: تقول ببغداد: (السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا حجة الله، السلام عليكَ يا نور الله في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا لله في شأنه، أتيتك عارفاً بحقك معادياً لأعدائك فاشفع لي عند ربّك) وادع الله وسلْ حاجتك، قال: وتسلّم بهذا على أبي جعفر (عليه السلام)(19).
ولا ننسى قصيدة الفرزدق العصماء التي ندرّسها لطلاّبنا في المدارس والجامعات التي مدح بها الإمام زين العابدين وقال فيها:
مـــــن مـــــعشر حـــبهم دين وبغضهم*** كفـــــر وقـــــــربهم منـــــجى ومعتصم
يســـــــتدفع الســـــوء والـبلوى بحبهم***ويــــــستزادُ بــــــه الإحــــسان والنعم
فالله عزّ وجلّ منح أهل البيت جميل ألطافه، وخصّهم بالمزيد من كراماته، أحياءً وأمواتاً.
ونذكر هنا كوكبة من الشعراء والأدباء قد أثقلت كواهلهم كوارث الدهر ففزعوا إلى ضريح الإمام متوسلين به إلى الله تعالى في رفع محنهم، وكشف ما ألّم بهم من المكروه، ففرّج الله عنهم ولو أردنا أن نذكر ما أثر عنهم في ذلك لبلغ مجلداً ضخماً.
لكنا نذكر بعضاً منهم الحاج محمد جواد البغدادي الذي سعى إلى ضريح الإمام في حاجة يطلب قضاءها فقال:
يــــــا ســـــميّ الكـــــليم جئــتك أسعى*** نحـــــــو مــــــغناك قـــاصداً من بلادي
ليــــــس تُــــــقضى لنـــــا الحـوائج إلا***عـــند بـــــاب الرجاء جد الجواد(20)
فجاء عباس البغدادي وخمسها بقوله:
لــــم تــــــزل لـــــلأنام تحــــسن صنعا***وتجــــــــير الــــــــذي أتــــاك وترعى
وإذا ضــــــاق الفــــــضا بــــــي ذرعـاً***يا ســــــميّ الكــــــليم جئـــــتك أسعى
والهــــــــوى مــــــــركبي وحبّك زادي
أنـــــت غـــــيث للمجــــــدبين ولــــولا***فــــــيض جــــــدواكم الوجود اضمحلا
قــــــسمـــاً بـــــــالذي تـــــعالى وجــلا*** ليـــــس تُـــــقضى لـــنا الــــحوائج إلا
عـــــــند بــــــاب الـــــرجاء جد الجواد
وممن نظم في ذلك الشاعر المرحوم السيد عبد الباقي العمري فقال:
لــــــذ واســــــتجر مــــــتــــوســــــــلاً***إن ضـــــــاق أمـــــــرك أو تـعـــــــسّر
بـــــأبي الــــــرضا جـــــــــد الجـــــــوا *** د مــــــحمد مــــوسى بــن جعفر(21)
نقش خاتمه
يدل نقش خاتمه على مدى تعلّقه بالله عزّ وجلّ، ومدى انقطاعه إليه سبحانه وتعالى فكان: (الملك لله وحده).
ويا ليت مجتمع عصره ومجتمع عصرنا اليوم يعقلون هذا الشعار، ويعملون به، لزال الطمع والجشع وحب التملك لهذه الدنيا الفانية، ولضعف وهج الأنانية، ووهنت جاذبيتها في نفوسهم.
أبناؤه
شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أنجب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ذرية طاهرة من نسل طيّب، فكانوا من خيرة أبناء المسلمين في عصره يتصفون بالتقوى والورع والخير والصلاح والابتعاد عن مآثم الحياة وأباطيلها.
لقد أنشأهم الإمام نشأة دينية خالصة، ووجّههم وجهة صحيحة سليمة، وسكب في نفوسهم الإيمان بالله، والتفاني في سبيل العقيدة، والعمل على قول كلمة الحق، والقيام بها مهما كلّف الثمن. قال ابن الصباغ: (إن لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضلاً مشهوداً)(22).
اختلف النسابون في عدد أولاد الإمام موسى الكاظم اختلافاً كثيراً منهم من قال: ثلاثة وثلاثون، الذكور منهم 16 والإناث 17.
ومنهم من قال: سبعة وثلاثون، الذكور 18 والإناث 19.
ومنهم من قال: ثمانية وثلاثون، الذكور 20 والإناث 18(23).
وقال الطبرسي: كان له سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى. علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم والعباس والقاسم من أمهات متعددة.
وأحمد، ومحمد، وحمزة من أم واحدة.
وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن من أم واحدة.
وعبد الله، وإسحاق، وعبيد الله، وزيد، والحسن، والفضل، وسليمان من أمهات متعددة.
وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، ومكية، وأم أبيها، ورقية الصغرى وكلثم، وأم جعفر، ولبانة، وزينب، وخديجة وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات متعددة.
وكان أحمد بن موسى كريماً ورعاً وكان الإمام يحبّه فوهب له ضيعته المعروفة باليسيرية، ويقال أنه أعتق ألف مملوك.
وكان محمد بن موسى (عليه السلام) شجاعاً كريماً، وتقلّد الإمرة على اليمن في عهد المأمون من قبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الذي بايعه أبو السرايا في الكوفة ومضى إليها ففتحها وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، وأخذ الأمان من المأمون.
ولكل واحد من أبناء أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضل ومنقبة وكان الرضا مشهوراً بالتقدم ونباهة القدر، وعظم الشأن، وجلالة المقام بين الخاص والعام(24).
إخوانه (عليهم السلام)
لقد ذكرت عن إخوانه (عليه السلام) في كتاب (الإمام الصادق عطرة النبوة ومنهج حياة) في باب أولاد الإمام الصادق، ولكن سوف نورد باختصار.
1ـ إسماعيل بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر أولاده، وكان الإمام الصادق يحبّه حباً جمّاً. قال الشيخ المفيد: إنه مات في حياة أبيه بالعريض، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن بالبقيع؛ روي أن أبا عبد الله حزن عليه حزناً شديداً، وأمر بوضع سريره على الأرض عدة مرات قبل دفنه، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه، ويريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنهم في حياته(25).
2ـ عبد الله بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر إخوانه بعد إسماعيل.
3ـ علي بن جعفر (عليه السلام): هو المحدث المشهور صاحب المسائل، عن أخيه موسى (عليه السلام)، عاش دهراً طويلاً حتى أدرك الإمام الجواد (عليه السلام).
قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رضوان الله عليه: علي بن جعفر أخو موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام)، جليل القدر، ثقة، له كتاب المناسك ومسائل لأخيه موسى الكاظم بن جعفر (عليهم السلام) سأله عنها(26).
4ـ إسحاق بن جعفر (عليه السلام): الملقب بالمؤتمن، زوج السيّدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن السبط (عليه السلام) صاحبة الروضة المشهورة بالقاهرة المعروفة بالست نفيسة؛ سافر مع زوجته إلى مصر وأقام بالفسطاط.
قال الشيخ المفيد: كان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد، قد روى عنه الناس الحديث والآثار وكان ابن كاسب يقول إذا حدث عنه: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)(27).
5ـ عباس بن جعفر: قال الشيخ المفيد: كان العباس بن جعفر رحمه الله فاضلاً نبيلاً(28).
6ـ محمد بن جعفر (عليه السلام): من الزهّاد والعبّاد، كان يسكن مكة ويروي بها الأحاديث، وفي أيام ظهور الفتنة بين الأمين والمأمون خرج في مكة وادعى الخلافة، أرسل إليه المأمون جيشاً بإمارة الجلودي، فلما وصل جيش المأمون مكة خلع نفسه وبايع المأمون. ثم سافر إلى خراسان وأقام بمرو، ولما وصل المأمون جرجان قتله بالسم وكان قبره معروفاً بجرجان في القرن الرابع الهجري.
بوّابه :هو محمد بن الفضل، وفي المناقب: المفضل بن عمر.
شاعره :السيد الحميري.
ملوك عصره:
1ـ المنصور 754م - 775م.
2ـ المهدي: 775م - 785م.
3ـ الهادي: 785م - 786م.
4ـ هارون الرشيد: 786م - 809م.
مدة إمامته : خمس وثلاثون سنة.
النص عليه بالإمامة :
أجمعت الروايات بالنص عليه بالإمامة من الله تعالى، كخبر اللوح، وأن الإمام لا يكون إلا الأفضل في العلم والزهد والعمل، وأنه معصوم كعصمة الأنبياء (عليهم السلام).
والنصوص المروية على إمامته عن أبيه أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قد رواها شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته، وثقاته الفقهاء الصالحون رضوان الله عليهم.
قال محمد بن الوليد: سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لجماعة من خاصته، وأصحابه: استوصوا بابني موسى خيراً، فإنه أفضل ولدي، ومن أخلّفه من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي(29).
وروى منصور بن حازم، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأبي أنت وأمي، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسي، وعبد الله بن جعفر جالس معنا)(30).
وقال سليمان بن خالد: دعا أبو عبد الله أبا الحسن يوماً، ونحن عنده، فقال لنا: عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي(31).
ومن الغريب ما يدعيه غير الشيعة من أن النبي (صلّى الله عليه وآله) مات ولم يوص إلى أحد من بعده يقوم مقامه ويسد فراغه، فترك الأمة من بعده بلا إمام يدير أمرها، ويجمع شملها، ويرشد ضالها، ويقيم لها الحدود، ويقوّم الاعوجاج، ويوضح السنن. وقد أجمعت الأمة على أنه (صلّى الله عليه وآله) كان يستخلف على المدينة إذا أراد سفراً، ولا يرسل جيشاً حتى يعيّن له قائداً، وربما عيّن لجيوشه أكثر من قائد(32).ولو أنصف الناس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لاكتفوا بنص الغدير وحده ـ دون غيره من النصوص الكثيرة ـ فقد شهد جل المسلمين بيعة يوم الغدير، وشاهدوا بأم أعينهم المراسم التي أجراها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم، وما نزل من القرآن الكريم.
ومن العجيب أيضاً أن تنسى الأمة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ذلك اليوم والعهد قريب، والرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد لما يقبر، والشهود حضور.
وكيفما كان فالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده المنصوص عليه بالخلافة من قبل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وكذلك أولاده عليهم أزكى الصلاة وأفضل السلام.
وقد التزم الأئمة (عليهم السلام) في نص بعضهم على بعض، السابق على اللاحق والوالد على ولده، إقامة للحجة، وإعذاراً للأمة(33).
هارون الرشيد يعترف بإمامة الكاظم (عليه السلام)
قال المأمون: كنت أجرأ ولد أبي عليه، وكان المأمون متعجباً من إكبار أبيه لموسى بن جعفر وتقديره له. قال: قلت: لأبي: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم(34).
مناقبه وفضائله (عليه السلام)
مناقب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بحر زاخر لا يمكن حصره أو الخوض فيه إلى النهاية، لكننا سوف نذكر بعض هذه المناقب الكريمة على سبيل الذكر لا الحصر؛ من هنا كان قول محمد بن صلحة:
(أما مناقبه فكثيرة، ولو لم يكن منها إلا العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة)(35).
1ـ العلم
فقد روى عنه العلماء أكثر فنون العلم من علم الدين وغيره ممّا ملأ بطون الكتب، وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنهم بالأسانيد المتصلة.جاء في تحف العقول عن الحسن بن علي بن شعبة قال أبو حنيفة(36):
حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز انتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت: يا غلام ممن المعصية؟ فقال: أن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث:
أ. إما أن تكون من الله وليست منه فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب.
ب. وإما أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف.
ج. وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته.
قال أبو حنيفة فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله، واستغنيت بما سمعت.
قال الشيخ المفيد في الإرشاد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): أكثر الناس في الرواية عنه، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتاً بتلاوة القرآن.
وقال علي بن شعبة الحراني في تحف العقول: سأل رجل موسى بن جعفر عن الجواد فقال: إن كنت تسأل عن المخلوقين فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه والبخيل من بخل بما افترض الله، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، أعطاك لأنه إن أعطاك ما ليس لك وإن منعك منعك ما ليس لك.
2ـ الحلم
جاء في مقاتل الطالبيين قال أبو الفرج بسنده عن يحيى بن الحسن: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين إلى المائة دينار. وكانت صرار موسى مثلاً شائعاً بين الناس.
وجاء في الإرشاد للشيخ المفيد: أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد عن جده عن غير واحد من أصحابه ومشايخه أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً. فقال له بعض أصحابه: دعنا نقتله. فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر. وسأل عن العمري فذكر له انه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا! فتوطأه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده، وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك؟ قال له: مائة دينار، قال الإمام: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: أنا لا اعلم الغيب. قال: إنما قلت لك كم ترجو إن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار فأعطاه الإمام (عليه السلام) ثلاثمائة دينار. وقال: هذا زرعك على حاله فقام العمري وقبل رأسه وانصرف. فراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته. فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قال كنت تقول خلاف هذا فخاصمهم وشاتمهم وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلما دخل وخرج، فقال أبو الحسن موسى لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار.
3ـ التواضع ومكارم الأخلاق
مر برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه، ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج؟ فقال (عليه السلام): عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه، ثم قال:
نــــواصل مــــــن لا يســــتحق وصالنا***مخــــــافة أن نــبقى بغير صديق(37)
وروي عن الحسن بن علي بن حمزة عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق.
فقلت جعلت فداك، أين الرجال؟!
قال: يا علي قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي.
فقلت: ومن هو؟
فقال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين(38).
4ـ عبادته (عليه السلام)
لقد شهدت له ألقابه على حسن عبادته، وشدة خوفه من الله تعالى، فمن زين المجتهدين، إلى العبد الصالح،والنفس الزكيّة، والصابر، إلى غير ذلك من الألقاب المشيرة إلى صفاته الموقرة، وعبادته المتواصلة؛ ولم يحدثنا التاريخ عن مسجون غير الإمام موسى بن جعفر كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرغ للعبادة بين جدران السجن، ويحسب ذلك نعمة، وجب بها عليه الشكر.
قال ابن الصباغ المالكي: إن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن، رفع إلى عيسى بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه: (اللّهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد)(39).
وعن أبي حنيفة انه دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ادعوا لي موسى، فدعوه، فقال له في ذلك. فقال: نعم يا أبة، إن الذي كنت أصلّي إليه كان أقرب إليّ منهم، يقول الله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فضمه أبو عبد الله إلى نفسه ثم قال: بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار(40).
وجاء في كشف الغمة: كان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع وكان إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته(41). ولكثرة سجوده كان له غلام يقص اللحم من جبينه، وعرنين أنفه، فقد نظم بعض الشعراء ذلك بقوله:
طــــــالت لطــــــول سجـــود منه ثفنته*** فـــــقرحت جــــــبهة مــــــنه وعـرنينا
رأى فــــــراغته فـــــي الســـجن منيته***ونـــــعمة شـكر الباري بها حينا(42)
5ـ كرمه وصدقاته
من أبرز خصائص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) البر والإحسان إلى الناس كافة، وبصورة خاصة الطبقة الضعيفة، فكانوا يخصّونهم بجزيل فضلهم، ونبل عطاياهم، حتى كان من منهجهم في الليالي المظلمة هو التطواف على بيوت الفقراء والمساكين بالأغذية والمال وهم لا يعرفونهم.قال ابن الصباغ المالكي: كان موسى الكاظم (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً وكان يتفقد فقراء المدينة ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلا بعد موته(43).
وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى فشكوت إليه، فأتيته في ضيعته، فذكرت له قضيّتي، فدخل ولم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليّ، فقال لغلامه: إذهب، ثم مدّ يده إليّ فرفع إليّ صرة فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي وانصرفت(44).
كما رووا عن عيسى بن محمد بن مغيث القرطبي قال: زرعت بطّيخاً وقثاءاً وقرعاً في موضع بالجوانية، على بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير، واستوى الزرع بغتني الجراد فأتى على الزرع كله، وكنت غرمت على الزرع وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمد، فسلّم ثم قال: أي شيء حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي.
قال (عليه السلام) وكم غرمت فيه؟ فقلت: مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين.
فقال (عليه السلام): يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً، فربحك ثلاثون ديناراً والجملان. فقلت يا مبارك ادخل وادع لي فيها بالبركة. فدخل ودعا وحدثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: تمسّكوا ببقايا المصائب، ثم علقت عليه الجملين وسقيت، فجعل الله فيها البركة وزكت، فبعث منها بعشرة آلاف(45).
وقال علي بن عيسى الأربلي(46): مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة تشهد أنه افترع قبة الشرف وعلاها، وسماها إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.طالت أصوله، فسمت إلى أعلى رتب الجلال، وسمت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال، يأتيه المجد من كل أطرافه، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.
فكان كما قال الشاعر:
أتــــــاه المـــــجـــد مـــــن هـــنا وهـنا*** وكـــــنا لــــــه كمــــــجتـــــمع السيول
السحاب الماطر قطرة من كرمه، والعباب الزاخر نغبة من نغبه، واللباب الفاخر من عد من عبيده وخدمه، كأن الشعرى علّقت في يمينه ولا كرامة للشعرى العبور، وكأن الرياض أشبهت خلائقه ولا نعمى لعين الروضة الممطور.
وهو (عليه السلام) غرّة في وجه الزمان وما الغرر والحجول، وهو أضوأ من الشمس والقمر، وهذا جهد من يقول: بل هو والله أعلى مكانة من الأوصاف وأسمى، وأشرف عرفاً من هذه النعوت وأنمى، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره، أو ترتقي همة البليغ إلى نعت فخاره، أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته؟
كاظم الغيظ، وصائم القيظ، عنصره كريم، ومجده حادث وقديم، وهو بكل ما يوصف به زعيم، الآباء عظام، والأبناء كرام، والدين متين، والحق ظاهر مبين، والكاظم في أمر الله قوي أمين، وجوهر فضله غالٍ ثمين وواصفه لا يكذب ولا يمين، قد تلقى راية الإمامة باليمين، فسما (عليه السلام) إلى الخيرات منقطع القرين، وأنا أحلف على ذلك فيه وفي آبائه وأبنائه (عليهم السلام) باليمين.
كم له من فضيلة جليلة، ومنقبة بعلو شأنه كفيلة، وهي وإن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة، ومهما عد من المزايا والمفاخر فهي فيهم صادقة، وفي غيرهم مستحيلة. إليهم ينسب العظماء، وعنهم يأخذ العلماء، ومنهم يتعلم الكرماء، وهم الهداة إلى الله فبهداهم اقتده وهم الأدلاء على الله فلا تحل عنهم ولا تنشده، وهم الأمناء على أسرار الغيب، وهم المطهرون من الرجس والعيب، وهم النجوم الزواهر في الظلام، وهم الشموس المشرقة في الأيام، وهم الذين أوضحوا شعائر الإسلام وعرفوا الحلال من الحرام، من تلق منهم تقل لاقيت سيداً، ومتى عددت منهم واحداً كان بكل الكمالات منفرداً، ومن قصدت منهم حمدت قصدك مقصدا، ورأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غداً، ومتى عدت إليه عاد كما بدا، المائدة والإنعام يشهدان بحالهم، والمائدة والإنعام يخبران بنوالهم، فلهم كرم الأبوة والنبوة، وهم معادن الفتوة والمروءة، والسماح في طبائعهم غريزة، والمكارم لهم شنشنة ونحيزة، والأقوال في مدحهم وإن طالت وجيزة، بحور علم لا تنزف، وأقمار عز لا تخسف وشموس مجد لا تكسف. مدح أحدهم يصدق على الجميع وهم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع. بذوا الأمثال طريفهم وتالدهم ولا مثيل، ونالوا النجوم بمفاخرهم ومحامدهم فانقطع دون شأوهم العديل ولا عديل. فمن الذي ينتهي في السير إلى أمدهم وقد سد دونه السبيل، أمن لهم يوم كيومهم أو غدٍ كغدهم، ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم صلى الله عليه وآله صلاة نامية الأمداد، باقية على الآباد مدخرة ليوم المعاد، إنه كريم جواد)(47).
كل ما صدر عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من وصايا ورسائل وخطب وشعر كان في سبيل الدعوة الإسلامية والحث على طاعة الله تعالى والدعوة إلى التحلّي بمكارم الأخلاق والتمسك بالفضائل. فكانوا (عليهم السلام) يعملون على تثقيف الأمة الإسلامية وتعليمها وتوعيتها، ويبذلون أقصى الجهود في تقويمها وهدايتها إلى الطريق السليم.
وموضع الشعر كان ينشد عند عامة الناس في التشبيب واللهو والمجون، أما أهل البيت فكانوا ينظمونه في الدعوة إلى الخير والعقيدة الإسلامية، والأخلاق والتحلّي بالفضائل النبيلة. وهذه هي الفوارق التي تميزهم عن غيرهم من الشعراء الآخرين.
جاء في البحار أنه دخل (عليه السلام) وهو طفل على أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) وبيده لوح فقال له أبوه يا بني اكتب ما سأمليه عليك:تنح عن القبيح ولا ترده.
ثم قال: اجزه.
فقال (عليه السلام): ومن أوليته حسناً فزده.
فتابع الإمام الصادق القول:ستلقى من عدوك كل كيد.
فقال الإمام الطفل (عليه السلام): إذا كان العدو فلا تكده.
فقال: (ذرية بعضها من بعض)(48).
وقال (عليه السلام) أيضاً في أفعال العباد:
لـــــم تــــــــخل أفـــــعالنا التي نذم بها*** إحـــــــدى ثــــــلاث حــــــين نــــبديها
إمــــــا تــــــفرّد بــــــارينا بصـــــنعتها*** فيــــــسقط الـــــلوم عــــنا حين نأتيها
أو كـــــــان يــــــشركنا فيـــــها فيلحقه***ما كـــان يلــــــحقنا مـــــن لائم فـــيها
أو لـــــم يـــــكن لآلـــــهي في جنايتها*** ذنــــب فما الذنب إلا ذنب جانيها(49)
وقال (عليه السلام) في اللجوء إلى الله:
أنــــــت ربـــــــي إذ ظــمئت إلى الماء***وقــــــوتي إذا أردت الــــطـــعاما(50)
والإمام الكاظم لم يكن شاعراً محترفاً بل كان نظمه للشعر قليلاً جداً. ذكر الشيخ المفيد أبياتاً له تلاها الإمام الرضا (عليه السلام) على المأمون ونسبها (عليه السلام) إلى أبيه:
كـــــــن للــــــمكاره بــــــالعزاء مدافعاً***فــــــــلعل يـــــــوماً لا تـــرى ما تكره
فـــــــلربما اســـــتتر الفــــتى فتنافست*** فـــــــيه العـــــــيون وانـــــه لمـــــموه
ولـــــــربما ابتــــسم الوقور من الأذى*** وضمـــــيره مـــــن حــــره يتأوّه(51)
كان (عليه السلام) يعلم كل شيء يدور حوله ولكن عيون المراقبين تترصده دائماً فلم يكن له إلا أن يموه ما يقول حذراً فيبتسم من الأذى المحدق به وضميره من حره يتأوه في صدره. وذكر ذو النون المصري أنه اجتاز أثناء سياحته على قرية تسمى بتدصر فرأى جداراً قد كتبت عليه هذه الأبيات:
أنـــــا ابــــن مــنى والمشعرين وزمزم*** ومـــكة والبـــــيت العتـــــيق المعــــظم
وجــــدّي النبي المصـــطفى وأبي الذي***ولايـــــــته فــــرض عـــلى كــل مسلم
وأمـــــي البــــتول المســتضاء بنورها***إذا ما عـــــددناهـــا عـــــديلة مـــــريم
وسبــــــطا رســــول الله عمي ووالدي***وأولاده الأطــــــهـــــار تســـــعة أنجم
متــــــى تــــــتعلق منـــــهم بحبل ولاية*** تـــــفز يـوم يجزى الفـــــائزون وتنعم
أئــــــمة هـــــذا الخـــــلق بعـــد نبــيهم*** فـــــإن كنــــت لم تــــعلم بــذلك فاعلم
أنـــــا الـــــعلوي الفاطمي الذي ارتمى*** بــــه الخـــوف والأيام بالمــرء ترتمي
فــــــالمحت بــــــالدار الــــتي أنا كاتب***علـــيها بشـــعري فاقران شئت والمم
وســـــلم لأمــــــر الله فــــي كــل حالة*** فلـــــيس أخـــو الإســـلام من لم يسلم
قال ذو النون فعلمت أنه علوي قد تخفى عن السلطة في خلافة هارون، واحتمل المجلسي أن تكون هذه الأبيات للإمام الكاظم (عليه السلام) ذهب إلى ذلك المكان وكتبها لإتمام الحجة على أعدائه(52).
وما نراه أن الإمام (عليه السلام) لم يتخف ولم يتهرّب من السلطة في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيماً ينكر على هارون وعلى غيره من ملوك عصره بكل جرأة وإقدام، وهذا الذي أوصل به إلى السجن.
ما قاله العلماء والعظماء في فضائله
أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على أفضلية أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأعلميتهم، ورفعة منزلتهم، وسموّ مقامهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كما تنافسوا في ذكر الكتابة عنهم وبيان سيرهم، وذكر أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيهم.
ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن الكريم ـ كما في حديث الثقلين ـ ووصفهم بسفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى... إلى كثير من الأحاديث التي له (صلّى الله عليه وآله) في بيان فضلهم، والتنويه بسموّ مقامهم.
1ـ قال هارون الرشيد لابنه المأمون: (هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده)(53).
2ـ وقال احمد بن يوسف الدمشقي القرماني:
هو الإمام الكبير القدر، الأوحد، الحجة، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين (كاظماً) وهو المعروف عند أهل العراق بـ(باب الحوائج) لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط... له كرامات ظاهرة، ومناقب باهرة، انتزع قمة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها...(54).
3ـ وقال عبد الله بن أسعد اليانعي:
الإمام موسى كان صالحاً عابداً، جواداً حليماً، كبير القدر، وهو أحد الأئمة الإثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية، وكان يدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده، وكان سخياً كريماً، كان يبلغه عن الرجل ما يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار(55).
4ـ وقال خير الدين الزركلي:
موسى بن جعفر الصادق بن الباقر، أبو الحسن، سابع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، كان من سادات بني هاشم، ومن أعبد أهل زمانه وأحد كبار العلماء الأجواد...)(56).
5ـ وقال محمد بن علي بن شهر اشوب:
(وكان الإمام أجلّ الناس شأناً، وأعلاهم في الدين مكاناً، وأسخاهم بناناً، وأفصحهم لساناً، وأشجعهم جناناً، قد خصّ بشرف الولاية، وحاز إرث النبوة، وتبوأ محل الخلافة، سليل النبوة، وعقدي الخلافة)(57).
6ـ وقال احمد بن حجر الهيثمي:
وموسى الكاظم، هو وارث أبيه علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً سمّي الكاظم لكثرة تجاوز وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم(58).
7ـ وقال الدكتور محمد يوسف موسى:
(ونستطيع أن نذكر أن أوّل من كتب في الفقه هو الإمام موسى الكاظم الذي مات سجيناً عام 183هـ وكان ما كتبه إجابة عن مسائل وجّهت إليه تحت اسم (الحلال والحرام)(59).
8ـ وقال علي بن عيسى الأربلي:
مناقب الكاظم (عليه السلام) وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة، ومخاتله تشهد أنه افترع قمة الشرف وعلاها وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها:
تــــــــركـــت والحــــــسن تـــــــأخـــذه*** تصـــــــطفي مـــــــــنه وتنـــــــتجــــب
فانتـــــــقــت منـــــه أحــــــاســــــنـــــه***واســـــتزادت فضـــــــل ما تهب(60)
9ـ وقال الشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان:
(موسى الكاظم هو وارث أبيه جعفر بن محمد، علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان عند أهل العراق معروفاً بباب قضاء الحوائج، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم)(61).
10ـ وقال النسابة احمد بن علي:
(كان موسى الكاظم عظيم الفضل، رابط الجأش، واسع العطاء، لقّب بالكاظم لكظمه الغيظ، وحلمه، وكان يخرج في الليل وفي كمه صرر من الدراهم فيعطي من لقيه ومن أراد برّه، وكان يضرب المثل بصرّة موسى وكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا القلّة)(62).
هذه بعض الآراء الموجزة التي دوّنها كبار العلماء والتي تحمل طابع الإكبار والتقدير للإمام، وهذه الصفات التي اتّصف بها هي السرّ في عظمته، والسرّ في إجماع العلماء على إكباره، وإجماع المسلمين على محبّته. وسوف نوجزها بما يلي:
1ـ أحلم الناس وأكظمهم للغيظ، يقابل الجاني عليه بالإحسان إليه.
2ـ أعلم أهل زمانه، وأفقههم، يحل مشاكلهم ويساعدهم في قضاء حاجاتهم.
3ـ أعبد أهل زمانه اجتهد في العبادة إلى حد لا يجاريه أحد.
4ـ كان من أجود الناس وأسخاهم وأنداهم كفّاً، يعطي بيمينه ولا تعرف به شماله، حتى أصبح يضرب به المثل فقالوا: (مثل صرر موسى).
5ـ أنه من أفصح الناس وأبلغهم، ورث الفصاحة من آبائه وأجداده.
6ـ هو باب الحوائج عند الله، قد خصّه تعالى بهذه الكرامة ومنحه بهذا اللطف، فضمن لمن توسّل به أن يقضي حاجته ولا يرجع من عنده إلا وهو مثلوج الفؤاد ناعم البال.
7ـ أوصل الناس لأهله ورحمه.
8ـ حافل بالتواضع والورع والزهد ودماثة الخلق.
9ـ إمام معصوم من أئمة المسلمين ومن حجج الله على خلقه.
هكذا كان الإمام الكاظم الإمام السابع من الأئمة الإثني عشر المعصومين يعالج بروحه الفوّاحة بالإيمان والتقوى النفوس المريضة التي اترعت بالآفات الاجتماعية والأنانية.
استجابة دعاء الإمام الكاظم (عليه السلام)
عاش أهل البيت (عليهم السلام) مظلومين مضطهدين طيلة الحكم الأموي الغاشم ولما انتقل الحكم إلى العباسيين باسم العلويين حسب الناس أن الحكم العباسي سوف يخفف عنهم الوطأة، ويرفع عنهم الحيف.
ولما جاءت رايات أبي مسلم الخراساني بانتصار العلويين، وللأخذ بثأرهم وظلامتهم، أصبح الأمر معكوساً، فإذا بالعباسيين يظلمون وينكّلون بأئمة أهل البيت، ويتتبعونهم قتلاً وسجناً وتشريداً حتى كانت مدة ملكهم أشد قسوة من بني أمية. فقال أحد الشعراء:
تــــــالله مـــــا فـــــعلت عـــــلوج أمية*** معــــــشار مـــــــا فـــعلت بنو العباس
وقال آخر:
يــــــا لـــــيت ظـــــلم بـني أمية دام لنا*** وليــــــت عـــدل بني العباس في النار
ولم يلجأ أئمة أهل البيت إلى الدعاء على ظالميهم إلا عندما يبلغ الظلم منتهاه، والجور غايته، ويطفح الكيل...
وجاء في كتاب عيسى بن جعفر للرشيد: (لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طوال هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه، فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا بسوء وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة..)(63).
إذا عرفنا هذا منه صلوات الله وسلامه عليه، نقدر شدة الظروف التي مرّت عليه فاضطرته للدعاء على ظالميه.
وسوف نذكر بعض ما ورد من استجابة دعائه (عليه السلام):
1ـ قال عبد الله بن صالح: حدثنا صاحب الفضل بن الربيع قال: كنت ذات ليلة في فراشي، مع بعض جواريي، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة، فراعني ذلك، فقالت الجارية: لعلّ هذا من الهواء، فلم يمض إلا يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ، فقال: أجب الرشيد، ولم يسلّم عليّ، فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور، ويدخل بلا إذن ولم يسلّم، ما هو إلا القتل؛ فقالت الجارية لما رأت تحيّري: ثق بالله عزّ وجلّ وانهض، فنهضت ولبست ثيابي، وخرجت معه حتى أتيت الدار، فسلمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده، فرد علي السلام فسقطت.
فقال: تداخلك رعب!
قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فتركني ساعة حتى سكنت ثم قال: صر إلى حبسنا فاخرج موسى بن جعفر بن محمد، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله على ثلاثة مراكب، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أي بلاد أحب.
فقلت له: يا أمير المؤمنين! تأمر بإطلاق موسى بن جعفر؟!
قال: نعم. فكررت ثلاث مرات.
فقال: نعم، ويلك! أتريد أن أنكث العهد؟!
فقلت: يا أمير المؤمنين! وما العهد؟!
قال: بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسد، ما رأيت من الأسود أعظم منه، فقعد على صدري وقبض على حلقي، وقال لي: حبست موسى بن جعفر ظالماً له.
فقلت: وأنا أطلقه، وأهب له، وأخلع عليه، فأخذ عليّ عهد الله عزّ وجلّ وميثاقه وقام عن صدري وقد كادت نفسي أن تخرج فقال: فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في حبسه، فرأيته قائماً يصلّي، فجلست حتى سلّم، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وإني قد أحضرت ما وصله به.
فقال: إن كنت أمرت بشيء غير هذا فأفعله.
فقلت: لا وحق جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أمرت إلا بهذا.
فقال: لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذا كانت فيه حقوق الأمة.
فقلت: ناشدتك الله أن لا تردّه فيغتاظ.
فقال: اعمل به ما أحببت.
وأخذت بيده (عليه السلام) وأخرجته من السجن، ثم قلت له: يا ابن رسول الله أخبرني ما السبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل فقد وجب حقّي عليك لبشارتي إيّاك، ولما أجراه الله تعالى من هذا الأمر؟
فقال (عليه السلام): رأيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي: يا موسى أنت محبوس مظلوم.
فقلت: نعم يا رسول الله محبوس مظلوم.
فكرّر علي ثلاثاً، ثم قال: (لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).
أصبح غداً صائماً، واتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار فصل اثنتي عشرة ركعة، تقرأ في كل ركعة: الحمد واثنتي عشرة قل هو الله أحد. فإذا صليت منها أربع ركعات فاسجد، ثم قال: (يا سابق الفوت، يا سامع كل صوت ويا محي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وعلى أهل بيته الطاهرين وأن تعجل لي الفرج ممّا أنا فيه). ففعلت فكان الذي رأيت(64).
2ـ ونقل صاحب كتاب نثر الدرر: أن موسى بن جعفر الكاظم ذكر له، أن الهادي قد هم بك، قال لأهل بيته ومن يليه: ما تشيرون به عليّ من الرأي؟
فقالوا: نرى أن تتباعد عنه، وأن تغيب شخصك عنه، فإنّه لا يؤمن عليك من شره. فتبسم ثم قال:زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب.ثم رفع يده إلى السماء فقال:
(الهي كم من عدو شحذ لي ظبة مديته، وأرهف لي شبا حدّه، وداف لي قواتل سمومه، ولم تنم عني عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن ملمّات الحوائج، صرفت ذلك عني بحولك وقوتك لا بحلوي وقوتي، وألقيته في الحفيرة التي احتفرها لي خائباً ممّا أمله في دنياه، متباعداً عما يرجوه في أخراه فلك الحمد على قدر ما عممتني فيه نعمك، وما توليتني من جودك وكرمك. اللّهم فخذه بقوتك، وافلل حده عني بقدرتك، واجعل له شغلاً فيما يليه، وعجزاً به عما ينويه. اللَّهُمَّ واعدني عليه عدوة حاضرة تكون من غيظي شفاءً، ومن حنقي عليه وفاءً، وصل اللّهم دعائي بالإجابة، وانظم شايتي بالتغيير، وعرفه عما قليل ما وعدت به من الإجابة لعبيدك المضطرين إنك ذو الفضل العظيم، والمن الجسيم).
ثم إن أهل بيته انصرفوا عنه، فلما كان بعد مدة يسيرة اجتمعوا لقراءة الكتاب الوارد على موسى الكاظم بموت الهادي، وفي ذلك يقول بعضهم:
وســـــارية لـــم تسر في الأرض تبغي***محـــــلاً ولــم يقطع بـها الأرض قاطع
3ـ وروى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير قال: حدثني أبو جعفر الشامي قال: حدثني رجل بالشام يقال له هلقام. قال: أتيت أبا إبراهيم (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك علمني دعاء جامعاً للدنيا والآخرة وأوجز، فقال: قل في دبر الفجر إلى أن تطلع الشمس: (سبحان الله العظيم وبحمده استغفر الله وأسأله من فضله).
قال هلقام: لقد كنت من أسوء أهل بيتي حالاً فما علمت حتى أتاني ميراث من قبل رجل ما ظننت أن بيني وبينه قرابة وإني اليوم من أيسر أهل بيتي وما ذلك إلا بما علمني مولاي العبد الصالح (عليه السلام))(65).
4ـ ومن دعائه (عليه السلام) عندما كان محبوساً يقلب خديه على التراب:
(يا مذل كل جبار ومعزّ كل ذليل وحقك بلغ مجهودي، فصلّ على محمد وآل محمد وفرّج عني)(66).
5ـ وقال داود بن زربي: سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول:اللّهم إني أسالك العافية، وأسألك جميل العافية، وأسألك شكر العافية، وأسألك شكر شكر العافية.
وكان النـــبي (صلّى الله عليه وآله) يدعـــو ويقول: أسألك تمام العافيـــة ثم قال: تمام العافـــية الفوز بالجنة، والنجاة من النار)(67).
ولا ريب أن الدعاء من قلب العبد الصالح المؤمن، التقي، الورع يستجاب من الله العزيز القدير. وجاء ذلك في القرآن الكريم:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(68).
منبع مقاله :
المصادر :
1- - حُمَيْدَة: وقيل أن اسمها نباتة، النفحات العنبرية، ص15، مخطوط بمكتبة الإمام كاشف الغطاء العامة، طبع مؤخرا
2- الأبواء: قرية من أعمال الفرع بالمدينة، وبه قبر الزاكية آمنة بنت وهب أم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله). وقال ثابت اللغوي سميت الأبواء لتبوء السيول بها. راجع معجم البلدان، ج1، ص92.
3- بحار الأنوار، ج11، ص230 دلائل الإمامة.
4- الطبقات الكبرى، ج1، ص33 - وتهذيب التهذيب، ج10، ص34 - وكشف الغمة، ج3، ص2 - والمناقب، ج4، ص323.
5- أعلام الورى، ص286.
6- أعيان الشيعة، ج4، ص9.
7- الفصول المهمة، ص112.
8- الفصول المهمة، ص112.
9- أعيان الشيعة، ج4، ص9.
10- المناقب، ج4، ص318.
11- الإرشاد، ص270.
12- الفصول المهمة، ص214.
13- المناقب، ج2، ص212.
14- نفس المصدر، ص212، ومختصر تاريخ العرب، ص209.
15- الفصول المهمة، ص214.
16- تاريخ بغداد، ج1، ص120.
17- تحفة العالم: 2 ص22.
18- المصدر نفسه.
19- الكافي، ج4، ص578.
20- باقر شريف القرشي حياة الإمام موسى بن جعفر، ج1، ص52
21- المصدر نفسه.
22- الفصول المهمة، ص256.
23- راجع الفصول المهمة، ص256، وكشف الغمة، ص243، وتذكرة الخواص، ص84.
24- أعلام الورى، ص301.
25- الإرشاد، ص267.
26- الفهرست، ص113
27- الإرشاد، ص469
28- المصدر نفسه
29- الإرشاد، ص310.
30- نفسه، ص270.
31- أعيان الشيعة، ج3، ص13.
32- أئمتنا لعلي محمد علي دخيل الذي يروي أن في حرب مؤتة أقر الرسول (صلّى الله عليه وآله) جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة وجعل القيادة لجعفر فإن أصيب فلزيد، فإن أصيب فلعبد الله.
33- نفس المصدر، ج1، ص10.
34- قادتنا كيف نعرفهم ج6، ص305، عن عيون أخبار الرضا، ج1، ص91.
35- مطالب السؤول، ص225.
36- راجع في رحاب أئمة أهل البيت، ج2، ص84.
37- تحف العقول، ص305.
38- بحار الأنوار، ج11، ص266.
39- الفصول المهمة، ص 222.
40- المناقب، ج2، ص372.
41- كشف الغمة، ص247.
42- حياة الإمام موسى بن جعفر.
43- الفصول المهمة، ص219.
44- أعيان الشيعة، ج3، ص42 وتاريخ بغداد، ج13، ص28.
45- كشف الغمة، ص243 وتاريخ بغداد، ج13، ص29.
46- كشف الغمة، ج2، ص253.
47- كشف الغمة، ج2، ص246.
48- البحار، ج11، ص264، والبحار، ج11، ص147.
49- البحار، ج11، ص285.
50- تذكرة الخواص، ص196.
51- الأمالي، ص150.
52- الأمالي، ص150.
53- أعيان الشيعة، ج3، ص71.
54- أئمتنا، ج1، ص66-67.
55- مرآة الجنان، ج1، ص394.
56- الأعلام، ج3، ص108.
57- المناقب، ج2، 383.
58- الصواعق المحرقة، ص121.
59- حياة الإمام موسى بن جعفر، ج1، ص175.
60- كشف الغمة، ص255.
61- ينابيع المودة، ص362.
62- حياة الإمام موسى بن جعفر، ج1، ص175.
63- أعيان الشيعة، ج3، ص61.
64- أئمتنا، ج2، ص59-61.
65- الكافي، ج2، ص550.
66- بحار الأنوار، ج94، ص313.
67- المصدر نفسه، ج95، ص362.
68- سورة غافر: الآية 60.
source : rasekhoon