مَن الذی یقبض روح الإنسان عند الـموت؟هل هو مَلَکُ الموت؟ کما فی سورة السجدة: ﴿قُلْ یَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إلى رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ﴾ ( 1) أو هی الملائکة؟کما فی سورة محمد: ﴿فَکَیْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ ( 2)، أو ان الذی یقبض الأرواح هو الله کما فی سورة الزمر: ﴿اللَّهُ یَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا وَالَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنَامِهَا فَیُمْسِکُ الَّتِی قَضَى عَلَیْهَا الْمَوْتَ وَیُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ( 3) فمن الأولى یتضح وجود ملک واحد للموت وعلى عکس الآیة الثانیة التی تنص على وجود ملائکة للموت؛ وقد یقول المسلمون ملک الموت هو أحد ملائکة الموت، ولکن ما ذا عن الله؟
الجواب:
معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ یَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ﴾ هو انَّ المکلَّف بإماتة الإنسان وقبض روحه هو ملَکٌ من الملائکة سمَّاه القرآن ملَکُ الموت، فمنشأُ إسناد التوفِّی والإماتة إلیه فی قوله تعالى: ﴿قُلْ یَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ﴾ هو انَّه المُوکَّل و المکلَّف من قِبَلِ الله عزوجل بهذه المهمَّة.
وأما منشأ إسناد التوفِّی والإماتة فی آیاتٍ عدیدة إلى الملائکة( 4) فهو لانَّهم المباشرون لعملیَّة الإماتة والتوفِّی، وذلک بتکلیفٍ وإیعازٍ من ملَک الموت الموکَّل بهذه المهمة من قِبَلِ الله تعالى، ثم إنَّ الأرواح تصیر إلیه بعد قبض ملائکة الموت لها.
فالمُصحِّح لنسبة الإماتة وقبض الأرواح لملائکة الموت هو أنَّهم المباشرون لهذا الفعل، وأما المُصحِّح لإسناد ونسبة التوفِّی والإماتة لملَک الموت فهو انَّه الآمر بذلک بإعتباره المخوَّل والمسئول عن هذه الوظیفة أمام ربِّ الکائنات ومدبِّرها جلَّ وعلا.
فالإسناد فی کلا الموردین حقیقیٌّ ومستعملٌ کثیراً فی العرف، فحین یُکلِّف السلطان صاحب الشرطة بمهمَّة القبض على المجرمین فُیکلِّف صاحب الشرطة أتباعه والموظَّفین عنده بذلک فیقومون بالقبض على بعض المجرمین فإنَّه یصحُّ دون ریب إسناد القبض علیهم إلى صاحب الشرطة نفسه کما یصحُّ إسناده ونسبته إلى أتباعه وموظَّفیه( 5).
ومن ذلک یتَّضح أیضاً منشأ إسناد التوفِّی لله سبحانه فی قوله تعالى: ﴿اللَّهُ یَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا﴾ فهو جلَّ وعلا مَن وکَّل وکلَّف ملَک الموت بهذه المهمَّة وهو مَن أقدره على إمتثالها، فملَکُ الموت حین یمتثلُ الأمرَ الإلهیَّ بنفسه أو بواسطة الموکَّلین من قِبله فإنَّ ما یصدر عنهم یکون لذلک مستندٌ حقیقةً للآمر، فمَلَکُ الموت وکذلک أتباعه من الملائکة لم یکونوا سوى أدواتٍ مسخَّرة لله تعالى تُنفِّذ أوامره فی هذا الشأن.
قال تعالى فی وصف ملائکته: ﴿یَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَیَفْعَلُونَ مَا یُؤْمَرُونَ﴾ ( 6) وقال جل وعلا: ﴿لَا یَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَیَفْعَلُونَ مَا یُؤْمَرُونَ﴾ ( 7).
هذا وقد أسندَ اللهُ تعالى بعضَ ما یفعله ملائکتُه بأمره إلى نفسه تارةً وإلى ملائکته تارةً أخرى فی مواطنَ عدیدة من القرآن الکریم:
منها: ما أوقعه على قوم لوطٍ من عذاب، حیثُ أمطرهم بحجارةٍ من السماء مسوَّمة، وقد أسند هذا الفعل لنفسه فی بعض الآیات وأسنده لملائکته الموکَّلین بذلک فی آیةٍ أخرى، فقال تعالى فی سورة هود: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِیَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَیْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّیلٍ مَنْضُودٍ / مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّکَ وَمَا هِیَ مِنَ الظَّالِمِینَ بِبَعِیدٍ﴾ ( 8) وقال جلَّ وعلا فی سورة الحجر: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِیَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَیْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّیلٍ / إِنَّ فِی ذَلِکَ لَآَیَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ﴾ ( 9) ففی هذین الموردین أسند اللهُ تعالى لنفسه ما وقع لقوم لوط فقال: ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾،
ومنها: ما حکاه القرآن عن البشارة الإلهیَّة لإبراهیم (ع) بإسحاق، فبعد أنْ کبرتْ سنُّه وشاخت زوجتُه جاءته البشارة بأنَّه سیُرزق بولدٍ إسمه إسحاق، وقد أسند القرآن الکریم هذه البشارة تارةً لله تعالى، وأخرى للملائکة الموکَّلین بذلک، قال تعالى: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِیًّا مِنَ الصَّالِحِینَ﴾ ( 10) فهنا أسند القرآن البشارة لله جل وعلا، وقال تعالى فی سورة هود: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِیمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِیذٍ / فَلَمَّا رَأَى أَیْدِیَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَیْهِ نَکِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِیفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ / وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ یَعْقُوبَ / قَالَتْ یَا وَیْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِی شَیْخًا إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عَجِیبٌ﴾ ( 11) وقال تعالى فی سورة الحجر: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَیْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْکُمْ وَجِلُونَ / قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُکَ بِغُلَامٍ عَلِیمٍ / قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِی عَلَى أَنْ مَسَّنِیَ الْکِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ / قَالُوا بَشَّرْنَاکَ بِالْحَقِّ فَلَا تَکُنْ مِنَ الْقَانِطِینَ﴾ (12) ففی هذین الموردین أسند البشرى بإسحاق للملائکة الموکَّلین بذلک.
ومنها: انَّ الله تعالى أسند کتابةَ أعمال العباد وأقوالهم إلى الملائکة الموکَّلین بذلک فی آیاتٍ عدیدة، وأسندها إلى نفسه فی آیاتٍ أخرى، قال تعالى: ﴿أَمْ یَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ﴾ ( 13) وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَکْرًا إِنَّ رُسُلَنَا یَکْتُبُونَ مَا تَمْکُرُونَ﴾ ( 14) ففی هذین الموردین أسند القرآنُ کتابةً الأقوال والأعمال إلى ملائکة الله المرسَلین لهذه المهمَّة فقال: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا یَکْتُبُونَ﴾، وأسندها فی سورة مریم إلى الله تعالى: ﴿کَلَّا سَنَکْتُبُ مَا یَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ ( 15) وکذلک أُسندتْ الکتابة لله تعالى فی سورة آل عمران: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِینَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِیرٌ وَنَحْنُ أَغْنِیَاءُ سَنَکْتُبُ مَا قَالُوا﴾ (16) ففی کلا الموردین قال الله تعالى: ﴿سَنَکْتُبُ﴾.
والمتحصَّل مما ذکرناه أنَّ المُصحِّح لإسناد الأفعال المذکورة لله جل وعلا هو انَّه الآمر بها وهو مَن أقدَرَهم على إمتثالها، وأما المُصحِّح لإسناد هذه الأفعال إلى الملائکة فهو أنَّهم المباشرون لفعلها .
المصادر :
1- سورة السجدة الآیة 11.
2- سورة محمد الآیة 27.
3- سورة الزمر الآیة 42.
4- ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ یَتَوَفَّى الَّذِینَ کَفَرُوا الْمَلَائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِیقِ﴾ سورة الأنفال الآیة 50، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا یُفَرِّطُونَ﴾ سورة الانعام الآیة 61، ﴿إِنَّ الَّذِینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِکَةُ ظَالِمِی أَنْفُسِهِمْ﴾ سورة النساء الآیة 97.
6- سورة النحل الآیة 50.
7- سورة التحریم الآیة 6.
8- سورة هود الآیتان 82-83.
9- سورة الحجر الآیتان 74-75.
10- سورة الصافات الآیة 112.
11- سورة هود الآیات 69-72.
12- سورة الحجر الآیات 52-55.
13- سورة الزخرف الآیة 80.
14- سورة یونس الآیة 21.
15- سورة مریم الآیة 79.
16- سورة آل عمران الآیة
source : rasekhoon