يجب أن نعرّف حقيقة العصمة قبل إثباتها، ونثبتها قبل أن نذكر الحكمة منها ولذلك كلامنا حول هذا الموضوع يقع في مقامات ثلاثة الأول في حقيقة العصمة، الثاني في إثباتها، الثالث في حكمتها.
القسم الأول: العصمة في تلقي الوحي من الله العلي القدير وبيانه للآخرين وهذه العصمة تختص بالأنبياء سلام الله عليهم أجمعين من لدن آدم (عليه السلام) إلى خاتم الأنبياء الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
و قد اتفقت كلمة المسلمين على أن النبي (صلى الله عليه وآله) معصوم في تلقي الوحي من السماء وبيانه للمكلفين بل المذاهب السماوية متفقة على ثبوت هذا القسم للأنبياء (عليهم السلام).
القسم الثاني: العصمة من الذنوب صغيرة وكبيرة وهذا القسم محل وفاق أكثر المذاهب السماوية وجميع فرق المسلمين إلا ما شذ وندر، وهي ثابتة لجميع الأنبياء والأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين فيفترق هذا القسم عن القسم الأول بأنه مشترك بين الأنبياء والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، والأمامية تعتقد أن العصمة من الذنوب ثابتة لجميع الأنبياء ولفاطمة الزهراء والأئمة الاثني عشر سلام الله عليهم أجمعين.
القسم الثالث: العصمة من السهو والخطأ والغلط في جميع التصرفات أعني العصمة من الخطأ والسهو والاشتباه في العمل أيِّ عمل كان سواء كان ذا علاقة بالشريعة وأحكام الدين أم لم يكن.
وهذا القسم ثابت للأنبياء والأئمة والزهراء (عليهم السلام) عند مذهب الأمامية ولكن سائر المذاهب الإسلامية لا تلتزم به في حق النبي (صلى الله عليه وآله) فضلاً عن الأئمة (عليهم السلام).
القسم الرابع : العصمة من السهو والخطأ والذنب في الفكر يعني أن المعصوم لا يفكر في المعصية ولا تخطر على قلبه، وهذا القسم أعلى مرحلة من العصمة ويدل على كمال عقل المعصوم.
وهذا القسم لا يعتقد أحد من علماء المسلمين بإثباته للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده إلا الإمامية وأصحاب مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ولهم أدلة عقلية ونقلية على إثباته في حقهم (عليهم السلام) في مجالها الخاص.
هذا تمام الكلام في المقام الأول.
هناك براهين كثيرة على إثباتها نذكر بعضها:
البرهان الأول: قوله تعالى في كتابه الكريم: (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً).
الاستدلال بهذه الآية الشريفة مبينٍ على تفسير كلمات ثلاث:
الأولى: كلمة الإرادة والمقصود منها الإرادة التكوينية التي لا يتخلف المراد فيها عن الإرادة بخلاف الإرادة التشريعية , والإرادة التكوينية كما قال العزيز في محكم كتابه: (إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).
الثانية: كلمة الرجس والمراد منها الرجس المعنوي والباطني فان الرجس الظاهري ليس متوهما هنا أصلاً فان أهل البيت (عليهم السلام) كسائر المسلمين لهم الطهارة الظاهرية والجسمية ولا حاجة إلى بيانها في القرآن إذ المقصود من الرجس العصمة وتطهير ذواتهم من كل نقص وعيب ودنس وخطأ وسهو.
الثالثة: ويطهركم تطهيرا فان هذه الكلمة تدل على طهارة نفوسهم من جميع شوائب الرذيلة والنقائص الخُلقية والنفسية فتعطي هذه الكلمة مقاماً ساميا لهم ومنزلة رفيعة، ولا يمكن تفسيرها إلا بالقسم الرابع من أقسام العصمة فهم معصومون من الذنوب والخطأ والسهو في العمل وفي الفكر سلام الله عليهم أجمعين.
وبعد بيان هذه الكلمات الثلاث نقول: قد وردت أحاديث كثيرة تقارب السبعين في مصادر الفريقين بأن المعني بهم في قوله تعالى (أهل البيت) أصحاب الكساء, النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين, وفاطمة الزهراء, والحسن, والحسين (عليهم السلام).
فهذه الآية المباركة تدل على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) لاسيما فاطمة الزهراء سلام الله عليها وتثبت العصمة لسائر الأئمة (عليهم السلام) بضميمة الإجماع القائم على أنه لا فرق بينهم وبين الخمسة أصحاب الكساء من حيث العصمة.
المقام الثالث: الحكمة في عصمة الزهراء (عليها السلام). هناك براهين عديدة على ذلك نشير إلى اثنين منها.
البرهان الأول: إكمال النعمة في حق الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فان النبي (صلى الله عليه وآله) اشرف المخلوقات لم يخلق الباري عز وجل إنسانا أكمل وأفضل منه (صلى الله عليه وآله) بل هو أفضل المخلوقات كما ورد في الحديث القدسي (لولاك لما خلقت الأفلاك) فهذا مقطوع به ومن جانب آخر الله تعالى حكيم مطلق وما ينبغي للحكيم المطلق أن يصدر منه إلا الحسن و لم يرزق نبيه الذي هو أعزّ الخلق وأقربهم لديه إلا بنتاً واحدة فلو لم يخلقها معصومة لم يكمل نعمته على نبيه (صلى الله عليه وآله) وهذا ينافي حكمته المطلقة فان الحكيم لا يصدر منه القبيح فينبغي له تعالى أن يكمل نعمته على نبيه (صلى الله عليه وآله) بإعطائه بنتاً معصومة وفريدة في كمالاتها الإنسانية كما قال (صلى الله عليه وآله):(( فاطمة سيدة نساء العالمين)).
البرهان الثاني: إن المشيئة الإلهية جرت على أن تستمر الإمامة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) باجتماع نور النبي (صلى الله عليه وآله) ونور علي (عليه السلام) حتى يكون الأمام بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) حاملاً لكمالات النبي (صلى الله عليه وآله) وكمالات علي (عليه السلام) وحمل نور النبي (صلى الله عليه وآله) وكمالاته الزهراء سلام الله عليها ولاسيما مع إلفات النظر إلى قانون الوراثة وعالم الجينات فكان مقتضى هذا الحمل أن تكون الزهراء سلام الله عليها معصومة بل لها كمالات أبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حتى تكون قابلة لانتقال تلك الكمالات إلى أولادها المعصومين.
ففي الواقع كمَّلت سلام الله عليها وجود النبي (صلى الله عليه وآله) وكمالاته الوجودية واجتمعت مع كمالات أمير المؤمنين (عليه السلام) في إبقاء خط الإمامة والوصاية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ومع إمعان النظر إلى قانون السنخية بين العلة والمعلول يجب أن نعتقد بان الزهراء سلام الله عليها لها من الفضائل والكمالات فوق حد العصمة حتى تكون لائقة لتمثلها للنبي (صلى الله عليه وآله) ونوره المقدس في استمرار وإبقاء الإمامة بعد علي (عليه السلام).
ومما يدل على هذا البرهان حديث جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت لِمَ سميت فاطمة, زهراء فقال:(( لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها وغشيت أبصار الملائكة وخرت الملائكة لله ساجدين وقالوا إلهنا وسيدنا ما هذا النور فأوحى الله إليهم هذا نور من نوري أسكنته في سمائي من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء واخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري يهدون إلى حقي واجعلهم خلفائي في ارضي بعد انقضاء وحيي)).
source : alhassanain