يمكننا أن نبرّر للقميّين ما اتّخذوه من مواقف ضدّ بعض المحدّثين ، لأنّ الشيعة في الغيبة الصغرى وما بعدها كانوا يعيشون تحت هجومَين : الهجوم العسكري المتمثّل بالحكومة العباسية.
والهجوم العلمي بقسميه ، الداخلي والخارجي ، فالهجوم العلمي الداخلي هو الهجوم من داخل المجموعة الشيعية ، اعني من قبل الزيدية ، والإسماعيلية ، ومن انصار الشلمغاني ، والحلاج ، والقرامطة ، وما كانوا يطرحونه من أفكار.
والهجوم العلمي الخارجي هو الهجوم من خارج المجموعة كشبهات وافكار القدرية والمرجئة والزنادقة.
فالقميّون ولحساسية المرحلة التي كانوا يعيشون فيها أرادوا تحصين المعرفة الإسلامية الخالصة حتّى لا تكون عرضةً للتلويث ، وذلك بالضغط على المحدّثين ، ومما يمكن قوله بهذا الصدد هو : أنّ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري قد يكون طرد البرقيَّ لا لروايته عن الضعفاء ولا لشيء آخر مما ذكر آنفا ، بل لِما كان يحيط به من أُمور سياسية والتي وضحنا بعضها سابقا ، وأنّه كان يريد غلق الأبواب التي يريدها أعداء الفكر الشيعي من مثل الشلمعاني وغيره ، حيث كان هؤلاء يريدون الطعن في الإسلام وتشو يه حقيقة التشيّع الصحيحة بواسطة الموضوعات والمكذوبات ، وقد لا نغالي إذا قلنا بأنّ الشيخ الطوسي قدسسره لو كان يعيش في قمّ تحت وطأة تلك الظروف التي رزح تحتها أحمد بن محمد بن عيسى أو الشيخ الصدوق رحمهما اللّه لما وسعه إلاّ التشدد حفظا على أحاديث المعصومين : من التحريف والدّس.
وعليه ، فالرواية عن الضعفاء واعتماد المراسيل ليست طعنا في الراوي ولا في الرواية ؛ لجريان سيرة المحدثين بنقل تلك الروايات وإمكان تصحيحها بشواهد ومتابعات من روايات أُخرى ، وهذا مما لا يخفى على مثل أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري.
فما يقوله المحدث : حدثني فلان ، لا يعني تصديقه لمن أخبره فيما يقول ، أو أنّه ملتزمٌ بما رواه ، بل غاية الأمر هو نقل قوله دون القبول أو الجرح وهذا جانب آخر ، والبحث فيه له مجال ثان ، فهو من قبيل قول اللّه سبحانه ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه ).
وكذا الحال بالنسبة إلى اعتماد المراسيل ؛ فإن أُريد العمل بها فتلك وظيفة الفقيه لا المحدّث ، وان أُريد نقله للرواية دون إسناد فهذا قد فعله الكثير من المحدّثين في مجاميعهم الحديثية ، ولا يعتبر ذلك جرحا لهم حسب قواعد الصناعة المتعارفة عند المحدّثين.
وبذلك نخلص من مجموع ما قلناه : أنّ القميّين من جهة ابتعادهم عما يجري في العراق والحركة العقلية فيها رسموا لانفسهم معايير علمية للتعامل مع الرواية والراوي ، وقد تكون بعض تلك الضوابط شديدة لا يومن بها غيرهم ، كما فعلوه بالبرقي لمجرّد روايته عن الضعفاء ، وهذا الموقف مخالفٌ في المبدأ لطريقة كلّ علماء الحديث في أُمة الإسلام ؛ فالحديثُ الضعيف لا يسوغ تركه لمجرّد ضعفه عند علماء الأُمة ، لاحتمال اعتباره بشاهد مثله يرفعه إلى درجة الحجّية ، وهذه النقطة كسابقتها تشكّكنا بحكم القميّين على الرواية والراوي ، كما أنّهما ناهضتان للتشكيك بسلامة حكم الشيخ الصدوق ; على أخبار الشهادة الثالثة بالوضع ، وبهذا فقد يمكن أن يكون ذلك تسرعا أو تشددا منه. غير متناسـين ما قلناه عن تشدد القميين بأ نّه كان لغلق الابواب بوجه المغرضين.
وعليه فتشدد القميين أما لابتعادهم جغرافيا عن الحركة العقلية في العراق أو خوفا من استغلال الجاهلين لبعض الحقائق التي لا تدركها افهام عامة الناس.
الغلو عند القميين ، نقل الفضائل أم ترك الضروريات؟
هناك رؤيتان عند الفقهاء والرجاليين ، فالبعض منهم كالوحيد البهبهاني يعتقد بأنّ القمّيّين كانوا يرمون الآخرين بالغلوّ لنقلهم المعاجز والكرامات العالية للأئمّة بحيث ينتزع من بعضها رائحة الغلوّ ، في حين لم يكن الأمر كذلك عند السَّبْرِ والتحقيق.
وذهب فريق آخر منهم إلى أنّ معيار الغلوّ عند القميّين هو ترك الفرائض والضروريّات ، كالصلاة والزكاة ، لقول الغلاة أنّ معرفة الإمام تكفي عن العمل ولا داعي للإتيان بالواجبات لو عرفنا الإمام حقَّ معرفته ، ومثّلوا لذلك بما فعله أهل قمّ مع محمّد بن أورمة ، الّذي امتحنوه بالصلاة ، وكذا امتُحِنَ المفضّل بن عمر بالصلاة (1) ، وعنون الكشي جمعا من الغلاة كان من بينهم علي بن عبداللّه بن مروان وقال أنّه سأَلَ العياشيَّ عنهم ، فقال : وأمّا علي بن عبداللّه بن مروان ، فإنّ القوم [ يعني الغلاة ] تُمتَحَنُ في أوقات الصلوات ، ولم أحضره وقت صلاة (2). وإليك الآن بعض النصوص عن الفريقين.
قال الوحيد البهبهاني في تعليقاته على منهج المقال :
اعلم أنّ الظاهر أنّ كثيرا من القدماء ـ سـيما القمّييّن منهم والغضائري ـ كانوا يعتقدون للأئمّة : منزلةً خاصة من الرفعة والجلالة ، ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم ، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها ، وكانوا يعدّون التعدّي عنها ارتفاعا وغلوّا على حسب معتقدهم ، حتّى أنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم : غلوّا ، بل ربّما جعلوا مطلق التفويض إليهم ـ أو التفويض الذي اختُلف فيه ، أو المبالغة في معجزاتهم ، ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم ، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنز يههم عن كثير من النقائص ، وإظهار كثير قدرة لهم ، وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ـ ارتفاعا أو مورثا للتهمة به ، سيّما من جهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مُدَلَّسين.
وبالجملة : الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفـين في المسائل الأُصولية أيضا ، فربّما كان شيء عند بعضهم فاسدا أو كفرا أو غلوّا أو تفويضا أو جبرا أو تشبيها أو غير ذلك ، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده ، أو لا هذا ولا ذاك.
وربّما كان منشأُ جرحهم بالأُمور المذكورة وجدانَ الرواية الظاهرة فيها منهم ـ كما أشرنا آنفا ـ أو ادّعاء أرباب المذاهب كونه منهم ، أو روايتهم عنه. وربما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه ، إلى غير ذلك.
فعلى هذا ربّما يحصل التأمّل في جرحهم بأمثال الأُمور المذكورة .. إلى أن يقول ; :
وللتفويض معان ، بعضها لا تأمّل للشيعة في فساده ، وبعضها لا تأمّل لهم في صحّته ، وبعضها ليس من قبيلهما ، والفساد كفرا كان أو لا ، ظاهر الكفر ية أو لا ... ثم ذكر الاقسام السبعة للتفويض (3).
وقال المامقاني في مقباس الهداية عند كلامه عن الفرق الضالّة من الغلاة :
ولكن لا يخفى عليك أنّه قد كثر رمي رجال بالغلو ، وليسوا من الغلاة عند التحقيق ، فينبغي التأمّل للاجتهاد في ذلك ، وعدم المبادرة إلى القدح بمجرّد ذلك ، ولقد أجاد المولى الوحيد حيث قال ـ ثم أتى بمقاطع من كلامه ; ـ ثمّ قال :
فظهر أنّ الرّمي بما يتضمّن عيبا فضلاً عن فساد العقيدة مما لا ينبغي الأخذ به بمجرّده ، بل لا يجوز لما في ذلك من المفاسد الكثيرة العظيمة ، إذ لعلّ الرّامي قد اشتبه في اجتهاده ، أو عوّل على من يراه أهلاً في ذلك ، وكان مخطئا في اعتقاده ، أو وجد في كتابه أخبارا تدلّ على ذلك وهو بريء منه ولا يقول به ، أو ادّعى بعض أهل تلك المذاهب الفاسدة أنّه منهم وهو كاذب ، أو روى أخبارا ربّما تُوهِمُ ـ من كان قاصرا أو ناقصا في الإدراك والعلم ـ أنّ ذلك ارتفاع وغلوُّ وليس كذلك ، أو كان جملة من الاخبار يرو يها ويحدّث بها ويعترف بمضامينها ويصدّق بها من غير تحاش واتّقاء من غيره من أهل زمانه ، بل يتجاهر بها لا تتحمّلها أغلب العقول فلذا رمي (4). هذا خلاصة الرأي الأوّل.
أمّا الراي الثاني فهو القائل بأنّ الغلوَّ عند القميّين هو ترك الضروريّات أو الإفراط فيها ، ولأجله تراهم يهمّون بقتل محمد بن أورمة ، ويأمرون بعدم الأخذ عن سهل بن زياد الآدمي ، إلى غير ذلك ، إذ الهمّ بالقتل وطرد المؤمن ، والأمر بعدم الأخذ عنه ، كلّها من الاُمور الجارحة والّتي يجب أن يكون لها مستند شرعي ، والقمّيّون هم أهل الورع والتُّقى ، وخصوصا مشايخهم كأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ; ، فلا يمكن حمل عملهم إلاّ على عدم اعتقاد الآخر بالضروريات ، لأنّ الافراط في حبّ آل محمد كان متفشّيا عند الشيعة في قمّ وغيرها ، وخصوصا بعد مقتل الإمام الحسين علیه السلام حيث ادّعى البعض منهم أنّ الإمام الحسين لم يقتل بل شُبِّه لهم ذلك (5) وغلت طائفة أُخرى في أخيه محمد ابن الحنفية وقالت فيه أنّه لم يمت بل غاب في جبل رضوى ، وأنّه سيظهر لاحقا (6).
وقد أكد الإمام زين العابدين لشيعته لزوم رعاية الاعتدال في طرح أفكار كهذه فقال علیه السلام : يا معشر أهل العراق ، يا معشر أهل الكوفة ، أحبّونا حب الإسلام ولا ترفعونا فوق حقّنا (7).
وفي آخر عنه علیه السلام : إنّ قوما من شيعتنا سيحبّونا حتّى يقولوا فينا ما قالت اليهود في عزير ، وما قالت النصارى في عيسى بن مريم ، فلا هم منّا ولا نحن منهم (8).
وقد تحقّق بالفعل ما تنبّأ به الإمام ، ففشت ظاهرة الغلوّ والكذب على الأئمّة بعد واقعة كربلاء ، فعن الإمام الرضا أنّه قال : كان بيان بن سمعان يكذب على علي بن الحسين ، والمغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر [ الباقر ] ، ومحمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى ، وأبو الخطّاب يكذب على أبي عبداللّه [ الصادق ] ، فأذاقهم اللّه حرَّ الحديد ، والذي يكذبُ عَلَيّ محمَّدُ بن فرات (9).
وروى الكشي بسنده عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبدالرحمن أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمد ما أشدَّكَ في الحديث وأكثر إنكارك لما يرو يه أصحابنا ، فما الّذي يحملك على ردِّ الأحاديث؟
فقال : حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبداللّه علیه السلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدِّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلی الله عليه وآله وسلم ، فإنّا إذا حدّثنا ، قلنا : قال اللّه عزّ وجلّ ، وقال رسول اللّه صلی الله عليه وآله وسلم.
وقال يونس : وافيتُ العراقَ فوجدتُ بها قطعةً من أصحاب أبي جعفر علیه السلام ، ووجدتُ أصحابَ أبي عبداللّه متوافر ين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبداللّه علیه السلام ، وقال لي : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبداللّه ، لعن اللّه أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الاحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبداللّه ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنّا عن اللّه ورسوله نحدِّث ، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا ، وكلام أوّلنا مصدِّقٌ لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردُّوه عليه ، وقولوا : أنت اعلم وما جئت به! فإنّ مع كلِّ قولٍ منّا حقيقة وعليه نورا ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان (10).
بلى حقّ للقميّين أن يخافوا على الشريعة ، وأن يحتاطوا في الدين ، وأن لا يأخذوا إلاّ ممّن يثقون به ، لكنّ ما يتجاوز عن حدّه ينقلب إلى ضده ، فنحن لا ننكر بأنّ المغيرة بن سعيد ، وبيان بن سمعان ، وأبا الخطّاب ، وامثالهم ، قد دسّوا أخبارا في روايات الأئمّة ، والأئمّة كانوا لا يرتضون ما يرو يه هؤلاء وأمثالهم.
لكنّ هذا لا يجيز لهم طعنهم في يونس بن عبدالرحمن ـ راوي الخبر الآنف الذكر وأمثاله ـ والذي قال عنه الرضا علیه السلام : يونس في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه (11) ، وهو الذي ضمن له علیه السلام الجنة ثلاث مرات (12).
قال أبو جعفر الجعفري : ادخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبدالرحمن على أبي الحسن العسكري فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثم قال : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحقّ كله (13) ، وعن أبي جعفر علیه السلام مثله (14).
وقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الكاظم قائلاً : من أصحاب أبي الحسن موسى ، مولى علي بن يقطين ، طعن عليه القميّون ، وهو عندي ثقة (15).
وعنون له في الفهرست قائلاً : مولى آل يقطين ـ إلى أن قال ـ وقال أبو جعفر بن بابويه [ محمد بن علي بن الحسين ] : سمعت محمد بن الحسن بن الوليد ; يقول : كُتب يونس بن عبدالرحمن التي هي بالروايات ، كلها صحيحة يعتمد عليها ، إلاّ ما يتفرّد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ولم يروه غيره ، فإنّه لا يُعتَمدُ عليه ولا يُفتَى به (16).
قال أبو عمرو الكشي : فلينظر الناظر فيتعجب من هذه الأخبار التي رواها القميّون في يونس ، وليعلم أنّها لا تصحّ في العقل ، وذلك أنّ أحمد بن محمد بن عيسى ، وعلي بن حديد ، قد ذكر الفضل من رجوعهما عن الوقيعة في يونس ، ولعلّ هذه الروايات كانت من أحمد قبل رجوعه ، ومن علي مداراةً لأصحابه ، فأمّا يونس بن بهمن : فمِمَّن كان أخذ عن يونس بن عبدالرحمن أن يُظهر له مثلبة فيحكيها عنه ، والعقل ينفي مثل هذا ، إذ ليس في طباع النّاس إظهار مساو يهم بألسنتهم على نفوسهم ، وأمّا حديث الحجّال الذي رواه أحمد بن محمد فإنّ أبا الحسن علیه السلام أجلّ خطرا وأعظم قدرا من أن يسبّ أَحدا صراحا ، وكذلك آباؤه : من قبله وولده من بعده ، لأنّ الرواية عنهم بخلاف هذا ، إذ كانوا قد نهوا عن مثله ، وحثّوا على غيره ممّا فيه الزين للدين والدنيا (17).
هذا ، وقد حدّث محمد بن عيسى بن عبيد عن أخيه جعفر بن عيسى ما كان يلاقيه يونس من الناس آنذاك ، فقال جعفر بن عيسى : كُنا عند أبي الحسن الرضا علیه السلام وعنده يونس بن عبدالرحمن إذ استاذن عليه قوم من أهل البصرة ، فأومئ أبو الحسن [ الرضا ] إلى يونس : ادخل البيت ـ فإذا بيت مسبل عليه ستر ـ وإيّاك أن تتحرّك حتّى يؤذنَ لك ، فدخل البصريّون وأكثروا من الوقيعة والقول في يونس ، وأبو الحسن مطرق ، حتّى إذا اكثروا وقاموا فودّعوا وخرجوا : أذن ليونس بالخروج ، فخرج باكيا فقال : جعلني اللّه فداك ، أنا أحامي عن هذه المقالة وهذه حالي عند أصحابي!! فقال له أبو الحسن علیه السلام : يا يونس ، وما عليك ممّا يقولون إذا كان إمامك عنك راضيا ، يا يونس حدّث الناس بما يعرفون ، واتركهم ممّا لا يعرفون ، كأ نّك تريد أن تكذب على اللّه في عرشه.
يا يونس وما عليك أن لو كان في يدك اليمنى درّة ثمّ قال الناس : بعرة ، أو بعرة فقال الناس : درة ، هل ينفعك ذلك شيئا؟
فقلت : لا.
فقال : هكذا أنت يا يونس ، إذا كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضيا لم يضرك ما قال الناس (18).
وعن أبي جعفر البصري ـ وكان ثقةً فاضلاً صالحا ـ قال : دخلت مع يونس بن عبدالرحمن على الرضا فشكى إليه ما يلقي من أصحابه من الوقيعة؟
فقال الرضا علیه السلام : دارِهِمْ فإنّ عقولهم لا تبلغ (19).
وعن الفضل بن شاذان ، قال : حدّثني عبدالعزيز بن المهتدي ـ وكان خيرَ قمّيٍّ رأيته ، وكان وكيل الرضا علیه السلام وخاصته ـ فقال : إنِّي سألته علیه السلام فقلت : إنِّي لا أقدر على لقائك في كلّ وقت ، فعن من آخذ معالم ديني؟ فقال : خذ من يونس بن عبدالرحمن (20).
وهذه منزلةٌ عظيمة ليونس ، ونحوه عند الكشّيّ عن الحسن بن علي بن يقطين (21).
فمن كان هذا حاله ، فهل من مُبَرِّر للتوقف فيما يرويه ، بدعوى ما يتفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس وأنّه غير صحيح؟! في حين عرفت حال محمد بن عيسى واعتباره عند الإمامين الهادي والعسكري ، وعرفت ما جاء من أخبار في يونس بن عبدالرحمن وأنّ ما عنده هو الحقِّ كلّه.
كان غرضنا من سرد هذه الأخبار التنبيه على حقيقة أنّ كثيرا من الشيعة قد لا تبلغ عقولهم مقاصد الأئمة : المطوية في أحاديثهم الشريفة ، ومن هنا يسهل للبعض رمي الآخرين بالغلوّ.
وقد يمكننا مرة أخرى تبرير تشدد علماء قم بالقول : إنهم كانوا يخافون على عقول بعض الشيعة من تلك الأخبار الصحيحة التي لا تدركها عقولهم ، وعلى سبيل المثال فإنّ بعض الطعون في محمد بن سنان قد قيلت في حقه من قبل القدماء ـ لا بسبب ضعفه ـ بل لأ نّه لم يلتزم بهذه القاعدة ؛ ويروي عن المعصومين أخبارا صحيحة صعبة ادراكها من بعض الشيعة وهذا منهي عنه في الشرع حسبما تقدم.
وبالجملة : فيمكن تبرير تشدد القميين هو خوفهم على عقول بعض الشيعة ، وان هذا كان أحد أسباب تشددهم علاوة على الأسباب الأخرى التي ذكرناها والظروف القاهرة التي كانوا يعيشون فيها ، وهذا التشدد قد أفرز افراطا سلبيا في الحكم على الرواية والرواة.
نماذج اخرى من تشدّد القمّيين :
والآن لنرجع تارة أُخرى إلى جروح القميّين وحال بعض من اتّهموا بالغلو ، لنرى هل حقّا أنَّ من اتُّهم بالغلوِّ هو غالٍ ، أم أنَّ ذلك قد ابتنى على مقدِّمات غير صحيحة.
قال ابن الغضائري : محمّد بن أورمة ، أبو جعفر القمّي ، اتَّهمه القميّون بالغلوّ وحديُثُه نقيُّ لا فساد فيه ، ولم أر شيئا ينسب إليه ، تضطرب في النفس إلاّ أوراقا في تفسير الباطن ، وما يليق بحديثه ، وأظنها موضوعة عليه ، ورأيت كتابا خرج من أبي الحسن علي بن محمد [ الهادي ] إلى القميين في براءته ممّا قذف به [ وحسن عقيدته ، وقرب ] منزلته ، وقد حدّثني الحسن بن محمد بن بندار القمّي ، قال : سمعت مشايخي يقولون : إنّ محمّد بن أورمة لمّا طعن عليه بالغلوّ [ اتّفقت ] الاشاعرة ليقتلوه ، فوجدوه يصلّي اللّيل من أوّله إلى آخره ليالي عديدة فتوقفوا عن اعتقادهم (22).
وقال النجاشي : محمد بن أورمة ، أبو جعفر القمي ، ذكره القميّون وغمزوا عليه ورموه بالغلوّ حتّى دُسَّ عليه من يفتك به ، فوجده يصلي من أوّل اللّيل إلى آخره ، فتوقفوا عنه ، وحكى جماعة من شيوخ القميّين عن ابن الوليد أنّه قال : محمد بن أورمة طعن عليه بالغلوّ ، وكلّ ما كان في كتبه مما وجد في كتب الحسين بن سعيد وغيره فَقُلْ بِهِ ، وما تفرّد به فلا تعتمده ، وقال بعض أصحابنا : أنّه رأى توقيعا من أبي الحسن الثالث إلى أهل قمّ في معنى محمد بن أورمة وبراءته ممّا قذف به ، وكتبه صحاح إلاّ كتابا ينسـب إليه ترجمته تفسير الباطن فإنّه مخلّط ... (23).
وقال الشيخ في الفهرست : ... قال محمد بن علي بن الحسين [ بن بابويه ] : محمد بن أورمة طعن عليه بالغلوّ ، فكلّ ما كان في كتبه ممّا يوجد في كتب الحسين بن سعيد وغيره فإنّه يعتمد عليه ويُفتى به ، وكلّ ما تفرّد به لم يجز العمل عليه ولا يعتمد (24).
فتأمّل في كلام القميّين فإنّهم كانوا يخافون أن يكون ابن أورمة من الغلاة الباطنية الذين يعتقدون ان الصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان ، كلُّ منها إنّما هو رجل ، بل كلّ فريضة فرضها اللّه تبارك وتعالى على عباده هو رجل ، وقد أشار الإمام الصادق علیه السلام إلى تلك الأفكار الباطلة في جواب كتابٍ للمفضل بن عمر ، فقال معترضاً : « وأن من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه من غير عمل ... وأنّهم ذكروا أنّ من عرف هذابعينه وثبت في قلبه جاز له أن يتهاون ، فليس عليه أن يجتهد في العمل ، وزعموا أنّهم إذا عرفوا ذلك الرجل فقد قبلت منهم هذه الحدود لوقتها وإن هم لم يعملوا بها ... ، فأُخبرك أنّه من كان يدين اللّه بهذه الصفة التي كَتَـبْتَ تسألُني عنها فهو عندي مشرك باللّه بيّن الشرك ، لا شك فيه (25).
بلى أنّ هناك روايات تشير إلى أنّ الأعمال متوقفة على الاعتقاد بإمامة الأئمة ، وأنّ الصلاة والصوم والحج لا تقبل إلاّ بولايتهم ، لكن هذا لا يعني أنّهم لو تولوا الأئمّة لسقطت عنهم الصلاة والصيام والحج ، فالولاية هو شرط قبول الأعمال لا سقوط الأحكام ، ومن خلاله يتضح الفرق بين الشيعي والمغالي.
فلو كان الغلوّ عندهم بهذا المعنى فلا اختلاف بين المسلمين في أنّه كفر ، قال المجلسي الأوّل : واعلم أنّ الظاهر أنّ ابن عيسى أخرج جماعة من قُمّ باعتبار روايتهم عن الضعفاء وإيراد المراسيل في كتبهم ، وكان اجتهادا منه في ذلك ، وكان الجماعة يروون للتأييد ، ولكنّها في الكتب المعتبرة ، والظاهر خطأ ابن عيسى في اجتهاده ، ولكن لمَا كان رئيسَ قمّ والناسُ مع المشهورين إلاّ من عصمه اللّه ... إلى آخر كلامه ; (26).
وعليه : فابن أورمة ومن على شاكلته من المؤمنين كانوا من المتعبّدين المتهجّدين الّذين يصلّون صلاة الليل ، فكيف يمكن أن يتصوّر بأنّ هؤلاء كانوا تاركين للفرائض ، وليس لنا إلاّ ان نقول بأن الأمر قد يرجع إلى اختلافهم مع الاخرين في معنى الايمان إذ يعتقد بعض المسلمين بأن الاعمال العبادية هي من لوازم الايمان لا أنه الايمان بعينه وقال بعض آخر من محدثي ومتكلمي المسلمين أنّه الإيمان بعينه ، وهذا يرشدنا إلى وجود اختلاف بين المدارس الإسلامية في ان الايمان هل هو اعتقاد في الجنان ، واقرار باللسان وعمل بالاركان ، أم أن العمل بالاركان ، هو من لوازمه لا من ماهيته؟ ولهذا ترى اختلاف في ذلك بين الشيخ المفيد وبنو نوبخت في هذه المسألة (27). وقد قال الصدوق ; ـ فيما املاه في دين الإمامية بالايجاز والاختصار ـ : بالقول الاول إذ قال : « والاقرار بالإسلام هو الاقرار بالشهادتين ، والإيمان هو اقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالجوارح ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا » (28).
فقد يحتمل أن يكون أمثال ابن أورمة من المعتقدين بأن الاعمال ليست من أصل الإيمان بل من لوازمه ـ خلافا لامثال الصدوق ـ وبذلك يكون تاخير الصلاة عن وقت فضيلته ، أو عدم اتيانه بالصلاة لا يعني انكاره لضروري من ضروريات الدين ، بحيث يوجب قتله. وهذا يعني بأنّ القميّين ـ أو بعضهم ـ كانوا يتسرّعون في إطلاق الأحكام بمجرّد ورود التهمة على شخص ، بأنه لا يصلي ، هذا ولا يخفى عليك بأن ابن اورمة اتهم بالغلوّ لِما نسب إليه من أوراق في تفسير الباطن والتي لا تليق بحديثه وحسب تعبير ابن الغضائري : ( واظنها موضوعة عليه )!!
ومثل هذا تراه في سهل بن زياد الآدمي ، فقد أخرجه أحمد بن محمد بن عيسى من قمّ ، وأظهر البراءة منه ، ونهى عن السماع منه والرواية عنه ؛ لأ نّه يروي المراسيل ويعتمد المجاهيل (29).
وقال النجاشي والشيخ في ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى : واستثنى ابن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى في جملة ما استثناه عن سهل بن زياد الآدمي ، وتبعه على ذلك الصدوق وابن نوح ، فلم يعتمدوا على رواية محمد بن أحمد بن يحيى عن سهل بن زياد (30).
وهذا التجريح آتٍ إمّا من غلوّه أو من روايته المراسيل واعتماده المجاهيل.
فأمّا نسبة الغلوّ فلا تخرج من احتمالين ، أحدهما روايته أخبارا غالية في الأئمّة ، وهذا ما لم نقف عليه في المعاجم الحديثيّة التي بين أيدينا اليوم ، أو لروايته أخبارا تدعو إلى إنكار الفرائض ، وكلاهما منقوض بالسيرة العلمية والعملية القطعية لسهل بن زياد ، لأن سهلاً كان يعلّم الاحكام الشرعية للمؤمنين فضلاً عن العمل بها.
وإذا راجعت الكافي والتهذيب تجد لسهل من أوّل كتاب الطهارة إلى كتاب الديات في أكثر الأبواب خبرا أو أزيد فيما يتعلّق بأحكام الدين ، أكثرها سديدة مقبولة ، وأخذها المشايخ عنه وضبطوها في الجوامع مثل الكافي الذي ذكر في أوله ما ذكر [ أنّ الآثار التي فيه صحيحة عن الصادقين (31)] ، ومع ذلك كله كيف يجوز نسبة الغلو إليه (32).
قال النجاشي عن سهل بن زياد : كان ضعيفا في الحديث غير معتمد فيه ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب وأخرجه من قمّ إلى الريّ وكان يسكنها ، وقد كاتب أبا محمد العسكري على يد محمد بن عبدالحميد العطار للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين ومائتين ، ذكر ذلك أحمد بن علي بن نوح وأحمد بن الحسن رحمهما اللّه ، له كتاب التوحيد ، رواه أبو الحسن .... (33).
وروى الصدوق في كتاب التوحيد عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار ; ، عن أبيه ، عن سهل بن زياد ، قال : كتبت إلى أبي محمد علیه السلام سنة خمس وخمسين ومائتين : قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد ، فمنهم من يقول هو جسم ، ومنهم من يقول صورة ، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولاً على عبدك ، فوقع علیه السلام بخطّه : سألتَ عن التوحيد ، وهذا عنكم معزول ، اللّه تعالى واحد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك ، ويصوَّر ما يشاء ، وليس بمصوَّرٍ ، جل ثناؤه وتقدّست أسماؤه وتعالى عن أن يكون له شبيه ، هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (34).
نحن لا نريد أن ندرس هذه الشخصيات بقدر ما نريد أن ندرس مواقف القميين منهم ، فقد ضعّف سهل بن زياد عند النجاشي وابن الغضائري ، وهو أحد قولي الشيخ والمفيد ، لكنّ الآخرين وثّقوه كالسيّد بحر العلوم ، حيث قال : والأصح توثيقه وفاقا لجماعة من المحقّقين ، لنص الشيخ على ذلك في كتاب الرجال [ في باب أصحاب الهادي علیه السلام ] ولاعتماد أجلاّء أصحاب الحديثكالصدوقين والكليني وغيرهم عليه ، واكثارهم الرواية عنه ، مضافا إلى كثرة رواياته في الأصول والفروع ، وسلامتها من وجوه الطعن والضعف ، خصوصا عمّا غُمِزَ به من الارتفاع والتخليط ، فإنّها خالية عنها ، وهي أعدل شاهد على براءته عمّا قيل فيه ، مع أنّ الأصل في تضعيفه ـ كما يظهر من كلام القوم ـ هو أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، وحال القميّين ـ سيما ابن عيسى ـ في التسرّع إلى الطعن والقدح والإخراج من قمّ بالتهمة والريبة ، ظاهر لمن راجع الرجال ، ولو كان الأمر فيه على ما بالغوا به من الضعف والغلوّ والكذب ، لورد عن الأئمّة : ذمّه وقدحه والنهي عن الأخذ عنه والرجوع إليه كما ورد في غيره من الضعفاء المشهورين بالضعف ، فإنّه كان في عصر الجواد والهادي والعسكري : وروى عنهم ، ولم نجد له في الأخبار طعنا ، ولا نقل ذلك أحد من علماء الرجال ، ولولا أنّه بمكانٍ من العدالة والتوثيق ، لما سلم من ذلك (35).
وهكذا غيره ممّن اتّهم بالغلوّ كمحمد بن سنان. قال المحدث النوري في المسـتدرك : إنّ الذي يظهر من تتبع الأخبار ـ خصوصا ما ورد في تراجم الغلاة وما ذكروه في مقالات ارباب المذاهب ، وصريح التوقيع المتقدم ـ : أنّ الغلاة لا يرون تكليفا ، ولا يعتقدون عبادة ، بل ولا حلالاً ولا حراما ، وقد مرّ في ترجمة محمد بن سنان أنّه لما سألَ الحسينُ بن أحمدَ عن أحمد بن هليل الكرخيّ : أخبرني عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلوّ؟ قال : معاذ اللّه ، هو واللّه علّمني الطهور ، وحبس العيال ، وكان متقشّفا متعبّدا (36).
قال السيّد بن طاووس في فلاح السائل عن الطعون التي وردت في محمد بن سنان : أقول : فمن جملة أخطار الطعون على الأخيار أن يقف الإنسان على طعن ولم يستوفِ النظر في أخبار المطعون عليه كما ذكرناه عن محمد بن سنان رحمة اللّه عليه ، فلا يعجل طاعن في شيء مما أشرنا إليه.
هذا وقد كان ; قد قال قبل ذلك : أقول : وسمعت من يذكر طعنا على محمد بن سنان لعله لم يقف على تزكيته والثناء عليه ، وكذلك يحتمل أكثر الطعون ... ثم أتى بخبر الشيخ المفيد في كتاب « كمال شهر رمضان » عن علي بن الحسين بن داود قال : سمعنا أبا جعفر علیه السلام يذكر محمد بن سنان ويقول : 2 برضائي عنه ، فما خالفني ولا خالف أبي قطّ (37).
وعليه : فإنّ الغلوَّ المعنيَّ في كلام القميّين كان هو الثاني ، وأنّهم كانوا يخافون ممن يعتقد أنّ معرفة الإمام مسقطةٌ للفرائض ، فكانوا يتبرّؤون منهم ، ويمتحنونهم بالصلاة وأمثالها من الضروريات ، فإن ادوها تركوهم كما رأيتهم مع ابن أورمة ، وما قاله أحمد بن هليل الكرخي في محمد بن سنان « معاذ اللّه ، هو واللّه علمني الطهور » ، وما حكاه الغضائري عن الحسين بن شاذويه بأنّه رأى له كتاباً في الصلاة سديداً ، لان الغلو لا يجتمع مع العبادة وتعليمها ، وهذه المواقف جديرة بالتقدير ، لأنّ الاعتقاد بمثل هذه الأمور تستوجب القتل أو الطرد ، وذلك لإنكارهم ضروريّات الدين الحنيف وهذا لا غبار عليه ، لكنّ الاشكالية التي كانت تؤخذ عليهم هي أنّهم كانوا يتسرّعون في إطلاق الأحكام على الأفراد بمجرّد التهمة ، وهذا ما لا نرتضيه.
أمّا دعوى أنّ القميّين اعتقدوا منزلة خاصّة من الرفعة أو أنّهم كانوا مقصّرين في حقّ الأئمّة فهو غير صحيح ، لأنّ أغلب المعارف الولو ية ( الولائية ) قد جاءت بأسانيدهم وفي كتبهم ، وأنّ حدود 70 % من رواتنا منهم ، فلو كان هؤلاء الرواة الاعاظم لا يدركون كلمات ومقامات الأئمّة فمن يدركها اذن؟ وكيف وصلت إلينا تلك المعارف عن الأئمة الم تكن بواسطتهم؟
فالزيارة الجامعة الكبيرة التي فيها عمدة مقامات الأئمّة وصفاتهم وكمالاتهم لم يروها أحد غير القميون ، والشيخ رواها عن الصدوق ; ، والصدوق رواها معتقدا بجميع فصولها ودلالاتها في « الفقيه » الذي صرّح في مقدّمته : « قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي ».
إذن معرفة القميّين بالأئمّة إن لم تكن أرسخ من معرفة البغداديين فهي ليست بأقل منها قطعا ، وإن ولائهم للأئمّة مما لا يمكن المزايدة عليه ، وهي حقيقة ثابتة ، نعم يمكن مؤاخذتهم في عدم التأنّي في صدور الأحكام والاستعجال برمي الآخرين بالوضع أو التفو يض ؛ إذ وقفت سابقا على كلام الصدوق ; تبعا لشيخه ابن الوليد بأن أصل زيد النرسي وضعه محمد بن موسى الهمداني في حين ثبت لك عكس ذلك.
أنّ ابن الغضائري رغم تجريحه لكثير من المحدّثين قد قوّى من ضعفه القميّون جميعا ؛ كأحمد بن الحسين بن سعيد ، والحسين بن شاذو يه ، وزيد الزّراد ، وزيد النرسي ، ومحمد بن أورمة ، لأ نّه رأى كتبهم وأحاديثهم صحيحة ، ويشهد على ذلك ما قاله في محمد ابن أُورمة وأنّه نظر في كتبه ورواياته كلّها فوجدها نقيّة لا فساد فيها ، إلاّ أوراقا في الباطن ظَنَّها مكذوبة عليه.
وهذا يشير إلى أنّ منهج ابن الغضائري ; كان يختلف عن منهج القميّين ؛ لأ نّه كان يلحظ أرجحيّة الرواية ، في حين كان القميّون ينظرون إلى وثاقة الراوي. وبذلك تكون توثيقات المتشدد من الرجاليين في أعلى مراتب الاعتبار ، وخصوصا من قِبَل ابن الغضائري لكونها قليلة ، والذي قال عنه المحقق الداماد : قلّ أن يسلم أحد من جرحه أو ينجو ثقةٌ من قدحه.
وكذا كلامه ; في اعتقاداته : من علائم التفو يض والغلوّ أنّهم يتّهمون علماء قمّ بالتقصير.
فإنّ هذين النصيّن وأمثالهما يؤكدان تَسرُّعَ القميين في إطلاق الأحكام على الآخرين وعلى رواياتهم تبعا لذلك ، وبمقايسة بسيطة بين كلامي الشيخ الصدوق القمّي في « الفقيه » وبين الشيخ الطوسي البغدادي في « المبسوط » حول في الشهادة الثالثة تقف بوضوح على ما قلناه من افتراق هذين المنهجين.
فالصدوق ; يرمي القائلين بالشهادة بالولاية بالغلوّ والتفويض بمحض الادّعاء ؛ إذ ليس في كلامهم ما يدل على ذلك ، لان الصيغ الثلاث التي أتى بها الصدوق ; ليس فيها ما يدلّ على التفويض والغلوّ ، لأنّ المؤذّن يشهد بالولاية لعلي وهو حقّ عند الصدوق ، فلا تراه يقول : اشهد ان عليا محي الموتى ورازق العباد ، حتّى يُنتزَع منه الغلوّ والتفو يض.
وسيأتي في بحوث لاحقة أنّ القائل بالشهادة الثالثة قد يدفعه لذلك أمرٌ آخر غير الجزئية ؛ فقد يكون القائل بها قالها لكي يبيّن للمفترين عليه أنّه لا يقول بِأُلوهيّة عليّ ، وكذا لا يقول بأنّ معرفته بالإمام تسقط عنه التكاليف الشرعية. لأ نّه يشهد للّه بالوحدانية ، وللنبي بالنبوة ، ولعلي بالولاية والإمامة داعيا المؤمنين لادى الفرض الالهي.
وفَرضُ سماعِ الشيخ الصدوق ، أو أحد مشايخه القول بالشهادة الثالثة في الأذان من أحد القائلين بها ، لا يعني أنّهم وضعوها إذ قد يكونون قالوها من باب القربة المطلقة ، أو لرفع ذكر علي ، أو لدفع تهم المتهمين للشـيعة بأ نّهم غلاة ، أو لغير ذلك من الأسباب المحتملة في مثل هذا الأمر .
وأمّا الشيخ الطوسي ; فلم يرمِ القائلين بالشهادة الثالثة بالوضع ، بل أخبرنا بوجود أخبار شاذة لا يُعمل بها عند الطائفة ، لكن لو فعلها انسان وعمل بها لم يأثم ، وهو منهج صحيح يقبله كل فقيه ـ أو متفقه ـ في بت الأحكام ، فهو قداعتبرها أخبارا صحيحة وفي نفس الوقت لم ير العمل بها ، لعدم عمل الطائفة بها ، لكن لو أتى بها آتٍ بنيّة رجاء الورود أو لمجرّد إظهار الاعتراف والإذعان بما يعتقده في خليفة رسول اللّه ، أو للعمومات وغيرها ، « فلا يأثم ».
ونحن بكلامنا هذا لا نريد أن نُخَطِّئَ شيخنا الصدوق ; ، بل نريد الإشارة إلى ان الاحكام الصادرة من قبله ; جاءت شديدة على الأفراد والمجاميع ، وكذا لا نريد أن نُبَرِّيءَ ذمّة الغلاة والمفوّضة الّذين دسوا أحاديث في الشريعة ، لكن في الوقت نفسه نقول أنّ الجزم بوضع المفوضة والغلاة لهذه الاخبار تطرف من الشيخ ; ، ولنا أن نقول كذلك : أنّ القائلين بالشهادة الثالثة إنّما قالوها دفاعا عمّا اتُّهموا به ، فقالوا بأنّ عليا ولي اللّه وهو حجّته وليس بإله ولا نبي ، وهذا أبعد عن الغلوّ والتفو يض.
وعليه فإن ثبت تَسَرُّعُه في الحكم بالوضع فيما حكم عليه ـ كما في الأمور التي مضت علاوة على أخبار الشهادة الثالثة ـ فيجب ترك كلامه والأخذ بالأمر المعتدل ، وهو مخرج تمسّك به بعض الفقهاء.
وإن ثبت صحّة كلامه وأنّ المفوّضة قد وضعوا في الأذان وزادوا من عند أنفسهم على نحو الجزئية فنحن مع أئمّتنا ومع شيخنا الصدوق قدسسره نلعن من يضع الأحاديث على لسان الأئمّة ويُدخِل في الدين ما ليس منه ، وهذا مما يجب بحثه في الفصول الثلاثة القادمة إن شاء اللّه تعالى.
المصادر :
من کتاب اشهد ان عليا ولي الله في الاذان / السید علي الشهرستاني
1- اكليل المنهج في تحقيق المطلب للكرباسي : 381 .
2- رجال الكشي 2 : 813 / الرقم 1014 ، وانظر قاموس الرجال 1 : 51 للتستري.
3- تعليقة الوحيد ( منهج المقال ) 1 : 130 ـ 132 ، والفوائد الرجالية : 38 ـ 42.
4- مقباس الهداية 2 : 397 ـ 402.
5- علل الشرائع 1 : 227 / باب 162 / ح 1 ، وانظر الاحتجاج 2 : 283.
6- الفرق بين الفرق : 27 مقالات الاسلاميين : 19.
7- حلية الاولياء 3 : 137 ، عن خلف بن حوشب ، مستدرك الحاكم 3 : 196 / ح 4825
8- رجال الكشي 1 : 336 / الرقم 191.
9- رجال الكشي 2 : 591 / الرقم 544 ، مسند الإمام الرضا 7 2 : 446 / ح 42.
10- رجال الكشي 2 : 489 / الرقم 401
11- رجال الكشي 2 : 781 / الرقم 919 ، 2 : 782 / الرقم 926.
12- رجال الكشي 2 : 779 / الرقم 911.
13- رجال الكشي 2 : 780 / الرقم 915.
14- رجال الكشي 2:780 / الرقم 916 .
15- رجال الشيخ : 368 / الرقم 5478.
16- الفهرست : 266 / الرقم 813.
17- رجال الكشي 2 : 788 / الرقم 954.
18- رجال الكشي 2 : 781 / الرقم 924.
19- رجال الكشي 2 : 783 / الرقم 929.
20- رجال الكشي 2 : 779 / الرقم 910.
21- رجال الكشي 2 : 784 / الرقم 935 ، معجم رجال الحديث 21 : 209.
22- رجال ابن الغضائري : 93 / ت 133 ، وانظر مجمع الرجال 5 : 160.
23- رجال النجاشي : 329 / الترجمة 891.
24- الفهرست : 202 / الترجمة 620.
25- بصائر الدرجات : 546 / ح 1./ دعائم الإسلام 1 : 45 ـ 56 / مستدرك الوسائل 1 : 138.
26- روضة المتقين 14 : 262 ، باختلاف يسير.
27- مصنفات الشيخ المفيد 4 : 83 ـ 84.
28- امالي الصدوق : 510 / المجلس الثالث والتسعون.
29- رجال العلاّمة : 229.
30- رجال النجاشي : 348 / الترجمة 939.
31- مقدمة الكافي 1 : 7.
32- خاتمة مستدرك الوسائل 5 : 245.
33- رجال النجاشي : 185 / الترجمة 490.
34- التوحيد ، للصدوق : 101 / ح 14.
35- رجال السيّد بحر العلوم 3 : 21 ـ 30.
36- خاتمة المستدرك 5 : 245.
37- فلاح السائل : 12 ـ 13 طبعة النجف.
source : rasekhoon