التحصين لابن فهدالحلي ص : 3
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تجلى لعباده فشغلهم عن الشهوات و أظهر لهم فيض نوره فهداهم به من الغفلات و لعقهم من شراب حبه فسكروا في غيه و تاهوا في الفلوات و وثقوا به فأغناهم و توكلوا عليه فكفاهم و صرف عنهم المحذورات و غسل ظواهرهم من دناسات الدنيا و جلى بواطنهم بأسرار المكاشفات. و الصلاة على أشرف المخلوقات الجامع لأشتات الكمالات محمد و آله الهداة و عترته السادات. و بعد فهذا كتاب مضمونه العزلة و الخمول بالأسانيد المتلقاة عن آل الرسول ع و سميته كتاب التحصين في صفات العارفين و مداره على ثلاثة أقطاب
التحصين لابن فهدالحلي ص : 4
القطب الأول في تصورها
فنقول العزلة هي الانقطاع إلى الله تعالى في كهف جبل أو ظل مسجد أو زاوية بيت. و قد يقال العزلة هي الفرار من الناس و الوحشة عن الخلق و الاستيناس بالحق و هو أعم من الأول و لا يتهيأ ذلك إلا لمن قويت نفسه على هجر فضول الدنيا و مشتهياتها و كانت نفسه و هواه من وراء عقله كما هو معلوم من أوصاف العارفين. قال بعضهم لبعض الأمجاد و قد قال له سلني حاجتك فقال أ و لي تقول هذا و لي عبدان هما سيداك قال و من هما قال الحرص و الهوى فقد غلبتهما و غلباك و ملكتهما و ملكاك. و قيل لذي النون المصري متى يصح لي عزلة الخلق قال إذا قويت على عزلة نفسك قال فمتى يصح لي طلب الزهد قال إذا كنت زاهدا في نفسك هاربا عن جميع ما يشغلك عن الله. أقول و لما كانت العزلة هي الفرار من الخلق و الإقبال على الحق فما لم يفرغ القلب عن شهوات الدنيا و يقطع علائق التعلقات بها لم يقبل على الله لشدة ما به من الكدورات و الحجب عن الوصول بل سلب لذة المناجاة و العبادة و لهذا ترى الصباغ يبالغ في تنقية الثوب من الوسخ و قلع الأثر الحاصل عليه من الدسم و غيره قبل صبغه ليصير قابلا لإشراق أنوار الصبغ عليه. فالتحلي بالفضائل مسبوق بالتخلي عن الرذائل.
التحصين لابن فهدالحلي ص : 5
و كذا الطبيب يبدأ بالإسهال لإخراج العفونات و إزالة الأخلاط المضرة ثم يبادر بعده بما يكون موجبا لصلاح البدن و قوة الأعضاء فما لم يخل البدن من العفونات لا ينفعه إصلاح الغذاء و ما لم ينق الثوب من الوسخ و الدسم لا يشرق عليه نور الصبغ. و كذلك القلب ما لم ينق من الحرص و سورة الغضب و تقاضي الشهوة لم يكن محلا لإشراق الأنوار الإلهية بل لم يصلح لخدمة الربوبية.
فقد روي فيما أوحى الله تعالى إلى موسى ع إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي و لم يتعظم على خلقي و قطع نهاره بذكري و ألزم نفسه خوفي و كف نفسه عن الشهوات من أجلي
بل لا يجد الإنسان مع هذه الرذائل من نفسه إقبالا على الحق فضلا عن إقبال الحق عليه بل ينفر عن وظائف الخدمة و يستنكرها بل ربما يسمع قارئا أو داعيا فاستوخمه و أحب سكوته كما يستوخم العين الرمدة ضوء الشمس و الفم السقيم طعم الماء العذب.
قال عيسى ع بحق أقول لكم كما نظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة و لا يجد حلاوتها مع ما يجد من حلاوة الدنيا. بحق أقول لكم كما أن الدابة إذا لم تركب و تمتهن تصعبت و تغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت و بنصب العبادة تقسو و تغلظ
التحصين لابن فهدالحلي ص : 6
و بحق أقول لكم إن الزق إذا لم ينخرق يوشك أن يكون وعاء العسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية الحكمة
و روي فيما أوحى الله تعالى إلى داود ع يا داود حذر و أنذر أصحابك من كل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عني
و في الحديث من أكل طعاما للشهوة حرم الله على قلبه الحكمة
و يحتاج صاحبها إلى ثلاثة أشياء الأول قطع الطمع عن الخلق. الثاني أن ييأس من كل شيء و يأنس بالله سبحانه كما سيجيء في صفاتهم حتى قال قائلهم
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى و صوت إنسان فكدت أطير
الثالث الهيبة بحيث لا يجرأ الراغب في الدنيا أن يذكر بين يديه شيئا منها فربما ثارت نفسه و انبعثت إرادته و انتعشت شهواته فيحتاج إلى قسرها و تأديبها و مجاهدتها و في ذلك شغل شاغل له.
و لقد كان رسول الله ص حين يدخل إلى إحدى زوجاته فيجد على بابها الستر و فيه التصاوير فيقول غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها
التحصين لابن فهدالحلي ص : 7
القطب الثاني في الإذن فيها
و الأخبار في ذلك لا تحصى كثرة فلنذكر ما يحضرنا
الأول روى أبو عبد الله عن ابن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن الوليد بن صبيح قال سمعت أبا عبد الله ع يقول لو لا الموضع الذي وضعني الله فيه لسرني أن أكون على رأس جبل لا أعرف الناس و لا يعرفوني حتى يأتيني الموت
الثاني روى ابن بكير عن فضيل بن يسار عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال قال لي أبو جعفر ع يا عبد الواحد ما يضرك أو ما يضر رجلا إذا كان على الحق ما قال له الناس و لو قالوا مجنون و ما يضره و لو كان على رأس جبل يعبد الله حتى يجيئه الموت
الثالث روى فضيل بن يسار عن أبي عبد الله ع قال ما يضر المؤمن أن يكون متفردا عن الناس و لو على قلة جبل فأعادها ثلاث مرات
الرابع عنه عن أبي جعفر ع ما يضر من عرفه الله الحق أن يكون
التحصين لابن فهدالحلي ص : 8
على قلة جبل يأكل من نبات الأرض حتى يجيئه الموت
الخامس روى ابن فضال عن رفاعة بن موسى عن عبد الله بن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد الله ع يقول ما يضر من كان على هذا الأمر أن لا يكون له ما يستظل به إلا الشجر و لا يأكل إلا من ورقه
السادس روى ابن عباس عن النبي ص أنه قال أ لا أخبركم بخير الناس منزلة رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله حتى يموت أو يقتل أ لا أخبركم بالذي يليه قالوا بلى يا رسول الله قال رجل في جبل يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يعتزل شرار الناس أ لا أخبركم بشر الناس منزلة الذي يسأل بالله فلا يعطى به
التحصين لابن فهدالحلي ص : 9
8- السابع الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ع قال طوبى لعبد نومة عرف الناس فصاحبهم ببدنه و لم يصاحبهم في أعمالهم بقلبه فعرفوه في الظاهر و عرفهم في الباطن
الثامن أبو عبد الله عن محمد بن سنان عن إسماعيل بن جابر و إسحاق بن جرير عن عبد الحميد بن أبي الديلم قال قال لي أبو عبد الله ع لا عليك أن لا يعرفك الناس ثلاثا يا عبد الحميد إن لله رسلا مشتغلين و رسلا مستخفين فإذا سألته بحق المشتغلين فاسأله بحق المستخفين
التاسع أبو عبد الله عن بكر بن محمد الأزدي عن أبي عبد الله ع قال قال الله تبارك و تعالى إن من أغبط أوليائي عبدا مؤمنا ذا حظ من صلاة أحسن عبادة ربه بالغيب و عبد الله في السريرة و كان غامضا في الناس و لم يشر إليه بالأصابع و كان رزقه كفافا فصبر عليه فعجلت به المنية فقل تراثه و قلت بواكيه
التحصين لابن فهدالحلي ص : 10
العاشر أبو عبد الله عن النضر بن سويد عن عاصم بن حميد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر ع قال قال رسول الله ص قال الله تبارك و تعالى إن أغبط أوليائي عندي رجل خفيف ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه في الغيب و كان غامضا في الناس جعل رزقه كفافا فصبر عليه حتى مات فقل تراثه و قلت بواكيه
الحادي عشر روى عكرمة عن عبد الله بن عمرو قال بينا نحن حول رسول الله ص إذ ذكر الفتنة أو ذكرت عنده الفتنة قال فقال إذا رأيت الناس مرجت عهودهم و حقرت أمانتهم و كانوا هكذا و شبك بين أصابعه قال فقمت إليه فقلت كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك قال ألزم بيتك و أمسك عليك لسانك و خذ ما تعرف و ذر ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك و ذر عنك أمر العامة
الثاني عشر عن النبي ص أحب الناس إلي منزلة رجل يؤمن بالله و رسوله و يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يعمر ماله و يحفظ دينه و يعتزل الناس
التحصين لابن فهدالحلي ص : 11
الثالث عشر روى أبو يوسف يعقوب بن يزيد عن جعفر بن الزبير عمن ذكره عن أبي عبد الله ع قال إن مما يحتج الله تبارك و تعالى به على عبده يوم القيامة أن يقول أ لم أخمل ذكرك
الرابع عشر روي عن الصادق ع أنه قال لحفص بن غياث في وصية له مطولة يا حفص كن ذنبا و لا تكن رأسا
الخامس عشر عنه ع للمعلى بن خنيس في كلام له من جملته يا معلى إن الله يحب أن يعبد في السر كما يحب أن يعبد في العلانية
السادس عشر عن أبي عبد الله ع أنه قال له المعروف الكرخي أوصني يا ابن رسول الله قال ع أقلل معارفك قال زدني قال أنكر من عرفت منهم قال زدني قال حسبك
السابع عشر عن النبي ص كفى بالرجل أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا
التحصين لابن فهدالحلي ص : 12
القطب الثالث في فوائدها و هي أمور
الأول أنها من حقائق الإيمان.
روي عن النبي ص أنه قال لا يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف و حتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته
الثاني السلامة من الرياء فقد قيل من استوحش من الوحدة و استأنس بالناس لم يسلم من الرياء.
روى أبو عبد الله و ابن فضال عن علي بن النعمان عن يزيد بن خليفة قال قال أبو عبد الله ع ما يضر أحدكم أن يكون على قلة جبل حتى ينتهي إليه أجله أ تريدون [تراءون] الناس إن من يعمل للناس كان ثوابه على الناس و من عمل لله كان ثوابه على الله إن كل رياء شرك
الثالث السلامة من الخلق و حفظ الدين بالهرب منهم
التحصين لابن فهدالحلي ص : 13
روي عن ابن مسعود قال قال رسول الله ص ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من يفر من شاهق إلى شاهق و من حجر إلى حجر كالثعلب بأشباله قالوا و متى ذلك الزمان قال إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي الله فعند ذلك حلت العزوبة قالوا يا رسول الله أمرتنا بالتزويج قال بلى و لكن إذا كان ذلك الزمان فهلاك الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته و ولده فإن لم يكن له زوجة و لا ولد فعلى يدي قرابته و جيرانه قالوا و كيف ذلك يا رسول الله قال يعيرونه لضيق المعيشة و يكلفونه ما لا يطيق حتى يوردونه موارد الهلكة
الرابع أنها توقر العرض و تستر الفاقة و ترفع ثقل المكافاة. مر أويس القرني براهب فقال يا راهب لم تخليت من الدنيا و لزمت الوحدة فقال يا فتى لو ذقت حلاوة الوحدة لأنست بها من نفسك يا فتى الوحدة رأس العبادة ما أنستها الفكرة فقال يا راهب ما أقل ما يجد العبد في الوحدة قال الراحة من مداراة الناس و السلامة من شرهم. و قال بعضهم جربت الناس منذ خمسين سنة فما وجدت لي أخا ستر لي عورة و لا غفر لي ذنبا فيما بيني و بينه و لا واصلني إذا قاطعته و لا أمنته إذا غضب فاشتغال بهؤلاء حمق كثير. الخامس السلامة من آثام الخلق و الوقوع فيهم و الخلاص من تبعاتهم و لهذا قيل إذا كانت الفضيلة في الجماعة فإن السلامة في العزلة. قيل لراهب في صومعته أ لا تنزل فقال من مشى على وجه الأرض عثر.
التحصين لابن فهدالحلي ص : 14
و قيل لراهب من رهبان الصين يا راهب قال لست براهب إنما الراهب من رهب الله في سمائه و حمده على نعمائه و صبر على بلائه و لا يزال فارا إلى ربه مستغفرا لذنبه و إنما أنا كلب عقور حبست نفسي في هذه الصومعة لئلا أعقر الناس. السادس أنها أقرب إلى السلامة و دليل قوة العقل.
قال الصادق ع عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت فإن طلبت في الصمت فلم توجد فيوشك أن تكون في التخلي فإن طلبت في التخلي و لم توجد فيوشك أن تكون في كلام السلف الصالح و السعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها
و ذكره في كشف الغمة عن سفيان الثوري.
و عنهم ع الصبر على الوحدة دليل قوة العقل
السابع أنها ترفه العمر و تحرسه عن الضياع و تقصره على مصالح الآخرة و رضى الرب من النظر و الفكر و الاعتبار و الذكر. قيل لراهب ما أصبرك على الوحدة قال أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتبه و إذا شئت أن أناجيه صليت. و قال بعضهم أتيت منقطعا فكأني رأيته ينقبض فقلت له كأنك تكره أن
التحصين لابن فهدالحلي ص : 15
تؤتي قال أجل قلت فما تستوحش قال و كيف أستوحش و هو يقول أنا جليس من ذكرني. و قال بعضهم مررت بصديق لي و هو خلف سارية وحدة فجئت فسلمت و جلست فقال ما أجلسك إلي قلت رأيتك وحدك فاغتنمت وحدتك. فقال أما إنك لو لم تجلس إلي لكان خيرا لي و خيرا لك فاختر إما أن أقوم عنك فهو و الله خير لك و لي و إما أن تقوم عني فقلت بل أقوم عنك فأوصني بوصية ينفعني الله بها. فقال يا عبد الله أخف مكانك و احفظ لسانك و استغفر الله لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات كما أمرك. و كتب حكيم إلى أخ له يا أخي إياك و الإخوان الذين يكرمونك بالزيارة ليغصبوك يومك فإذا ذهب يومك فقد خسرت الدنيا و الآخرة. و خرج قوم إلى السفر فجازوا عن الطريق فانتهوا إلى صومعة راهب فقالوا يا راهب أين الطريق فأومى برأسه إلى السماء فعلم القوم ما أراد فقالوا يا راهب إنا سائلوك فهل أنت مجيبنا فقال اسألوا و لا تكثروا فإن النهار لا يرجع و العمر لا يعود و الطالب حثيث فقالوا على ما [ذا] الخلق غدا عند مليكهم فقال على نياتهم فعجب القوم من كلامه. ثم قالوا أوصنا فقال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما بلغ البغية ثم أرشدهم الطريق و أدخل رأسه في صومعته. و قيل لراهب رؤي عليه مدرعة شعر سوداء ما الذي حملك على لبس السواد فقال هو لباس المحزونين و أنا أكبرهم فقيل له و من أي شيء أنت
التحصين لابن فهدالحلي ص : 16
محزون قال لأني أصبت في نفسي و ذلك أني قتلتها في معركة الذنوب فأنا حزين عليها ثم أسيل دمعه. فقيل له ما الذي أبكاك الآن قال ذكرت يوما مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي فبكائي لقلة الزاد و بعد المفازة و عقبة لا بد لي من صعودها ثم لا أدري أين مهبطها إلى الجنة أم إلى النار ثم أنشد يقول
يا باكيا يطوي المسافة عمره بالله هل تدري مكان نزولكا
شمر و قم من قبل حطك في الثرى في حفرة تبلى لطول حلولكا
و قال أمير المؤمنين ع في كلام له طويل في ذم الدنيا إنما الدنيا ثلاثة أيام يوم مضى بما فيه فليس بعائد و يوم أنت فيه يحق عليك اغتنامه و يوم لا تدري من أهله و لعلك راحل فيه فأما أمس فحكيم مؤدب و أما اليوم فصديق مودع و أما غدا فإنما في يديك منه الأمل فإن يكن أمس سبقك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته و إن يكن يومك هذا آنسك بقدومه فقد كان طويل الغيبة عنك و هو سريع الرحلة عنك فتزود منه و أحسن وداعه خذ بالثقة في العمل و إياك و الاغترار بالأمل و لا تدخل عليك اليوم هم غد يكفي اليوم همه و غدا إذا حل لتشغله إنك إن حملت على اليوم هم غد زدت في حزنك و تعبك و تكلفت أن تجمع في يومك ما يكفيك أياما فعظم الحزن و زاد الشغل و اشتد التعب و ضعف العمل للأمل و لو خليت قلبك من الأمل تجد ذلك العمل و الأمل منك في اليوم قد ضرك في وجهين سوفت به في العمل و زدت به في الهم و الحزن أ و لا ترى أن الدنيا ساعة بين ساعتين ساعة مضت و ساعة بقيت و ساعة أنت فيها فأما الماضية و الباقية فلست تجد لرخائهما لذة و لا لشدتهما ألما فأنزل الساعة الماضية و الساعة التي أنت فيها منزلة الضيفين نزلا بك فظعن الراحل عنك
التحصين لابن فهدالحلي ص : 17
بذمه إياك و حل النازل بك بالتجربة لك فإحسانك إلى الثاوي يمحو إساءتك إلى الماضي فأدرك ما أضعت باغتنامك لما استقبلت و احذر أن تجمع عليك شهادتهما فيوبقاك و لو أن مقبورا من الأموات قيل له هذه الدنيا أولها إلى آخرها تجعلها لولدك الذين لم يكن لك هم غيرهم أو يوم نرده إليك فتعمل فيه لنفسك لاختار يوما يستعتب فيه من سيئ ما أسلف على جميع الدنيا يورثها لولده و من خلفه فما يمنعك أيها المفرط المسوف أن تعمل على مهل قبل حلول الأجل و ما يجعل المقبور أشد تعظيما لما في يديك منك أ لا تسعى في تحرير رقبتك و فكاك رقك و وقاء نفسك
الثامن أنها عبادة بانفرادها. روى أبو بصير قال سمعت أبا عبد الله ع يقول العزلة عبادة إن أقل العتب على الرجل قعوده في منزله
و مر عيسى ع على رجل نائم فقال له قم فقال الرجل قد تركت الدنيا لأهلها فقال له نم مكانك إذن
و قيل لحكيم الدنيا لمن قال لمن تركها. فقيل له الآخرة لمن قال لمن طلبها. و قال حكيم الدنيا دار خراب و أخرب منها قلب من يعمرها. و قيل لعابد خذ حظك من الدنيا فإنك فان عنها قال الآن وجب أن لا آخذ حظي منها.
التحصين لابن فهدالحلي ص : 18
التاسع أنها عافية.
علي بن أسباط عن بعض رجاله رفعه قال قال أمير المؤمنين ع يأتي على الناس زمان يكون العافية فيه عشرة أجزاء تسعة منها في اعتزال الناس و واحدة في الصمت
و قيل لبعض العلماء لو تحركت فتذكر كما ذكر غيرك قال لما رأيت معالي الأمور مشفوعة بالتألف اقتصرت على الخمول ظنا مني بالعافية. العاشر أن المتصف بها أحسن الناس حالا.
روى محمد بن علي عمن ذكره عن أبي حمزة عن أبي جعفر ع قال كان أمير المؤمنين ع يقول يأتي على الناس زمان يكون فيه أحسنهم حالا من كان جالسا في بيته
الحادي عشر أن المتصف بها سالم.
قال أمير المؤمنين ع و ذلك زمان لا يسلم فيه إلا كل مؤمن نومة إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد أولئك مصابيح الهدى و أعلام السرى يفتح الله عليهم باب الرحمة و يرفع عنهم ضر النقمة ليسوا بالمساييح و لا بالمذاييع البذر
التحصين لابن فهدالحلي ص : 19
الثاني عشر أن المتصف بها من الأتقياء المحبوبين إلى الله تعالى.
قال النبي ص إن أحب العباد إلى الله الأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا و إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا خطبوا لم يزوجوا
الثالث عشر أن المتصف بها من أهل الجنة.
قال النبي ص أ لا أخبركم بأهل الجنة قالوا بلى يا رسول الله قال كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبر قسمه
الرابع عشر أنها آية الرضوان و المن من الله عز و جل.
محمد بن علي عن موسى بن سعدان عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله ع قال لا يزال المؤمن راغبا في الدنيا و نعيم أهلها حتى يمن الله عليه فإذا من عليه كانت الدنيا و أهلها حقيرة عنده كالجيفة يعافها من يراها
و روى بعض أصحابنا عن سعدان بن مسلم قال لا يزال العبد يرزقه الله الدنيا و بهجتها حتى يرتفع عنه الشك فيما عند ربه فإذا ارتفع عنه الشك كانت الدنيا عنده كالطوف في الجوف يشتهي كل إخراجه
الخامس عشر إن المتصف بها يرفع الله قدره و يعلى ذكره.
حفص بن غياث قال قال أبو عبد الله ع من أحب أن يذكر خمل و من أحب أن يخمل ذكر
التحصين لابن فهدالحلي ص : 20
السادس عشر أنها تقطع طريق الحق و توصل إليه.
روى الشيخ أبو محمد جعفر بن أحمد بن علي القمي نزيل الري في كتابه المنبئ عن زهد النبي ص قال حدثنا أحمد بن علي بن بلال قال حدثني عبد الرحمن بن حمدان قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا أبو الحسن بشر بن أبي بشر البصري قال أخبرني الوليد بن عبد الواحد قال حدثنا حنان البصري عن إسحاق بن نوح عن محمد بن علي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال سمعت النبي ص يقول و أقبل على أسامة بن زيد فقال يا أسامة عليك بطريق الحق و إياك أن تختلج دونه بزهرة رغبات الدنيا و غضارة نعيمها و بائد سرورها و زائل عيشها فقال أسامة يا رسول الله ما أيسر ما يقطع به ذلك الطريق قال السهر الدائم و الظمأ في الهواجر و كف النفس عن الشهوات و ترك اتباع الهوى و اجتناب أبناء الدنيا يا أسامة عليك بالصوم فإنه قربة إلى الله و ليس شيء أطيب عند الله من ريح فم صائم ترك الطعام و الشراب لله رب العالمين و آثر الله على ما سواه و ابتاع آخرته بدنياه فإن استطعت أن يأتيك الموت و أنت جائع و كبدك ظمآن فافعل فإنك تنال بذلك أشرف المنازل و تحل مع الأبرار و الشهداء و الصالحين يا أسامة عليك بالسجود فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا و ما من عبد سجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة و محا عنه سيئة و رفع له بها درجة و أقبل الله عليه بوجهه و باهى به ملائكته يا أسامة عليك بالصلاة فإنها أفضل أعمال العباد لأن الصلاة رأس الدين
التحصين لابن فهدالحلي ص : 21
و عموده و ذروة سنامه
و احذر يا أسامة دعاء عباد الله الذين أنهكوا الأبدان و صاحبوا الأحزان و أزالوا اللحوم و أذابوا الشحوم و أظمئوا الكبود و أحرقوا الجلود بالأرياح و السمائم حتى غشيت منهم الأبصار شوقا إلى الواحد القهار فإن الله إذا نظر إليهم باهى بهم الملائكة و غشاهم بالرحمة بهم يدفع الله الزلازل و الفتن ثم بكى رسول الله ص حتى علا بكاؤه و اشتد نحيبه و زفيره و شهيقه و هاب القوم أن يكلموه فظنوا أنه لأمر قد حدث من السماء ثم إنه رفع رأسه فتنفس الصعداء ثم قال أوه أوه بؤسا لهذه الأمة ما ذا يلقى منهم من أطاع الله كيف يطردون و يضربون و يكذبون من أجل أنهم أطاعوا الله فأذلوهم بطاعة الله ألا و لا تقوم الساعة حتى يبغض الناس من أطاع الله و يحبون من عصى الله فقال عمر يا رسول الله و الناس يومئذ على الإسلام قال و أين الإسلام يومئذ يا عمر إن المسلم يومئذ كالغريب الشريد ذلك زمان يذهب فيه الإسلام و لا يبقى إلا اسمه و يندرس فيه القرآن فلا يبقى إلا رسمه قال عمر يا رسول الله و فيما يكذبون من أطاع الله و يطردونهم و يعذبونهم فقال يا عمر ترك القوم الطريق و ركنوا إلى الدنيا و رفضوا الآخرة و أكلوا الطيبات و لبسوا الثياب المزينات و خدمتهم أبناء فارس و الروم فهم يغتذون في طيب الطعام و لذيذ الشراب و زكي الريح و مشيد البنيان و مزخرف البيوت و مجد المجالس يتبرج الرجل منهم كما تتبرج الزوجة لزوجها و تتبرج
التحصين لابن فهدالحلي ص : 22
النساء بالحلي و الحلل المزينة رأيتهم يومئذ بزي الملوك الجبابرة يتباهون بالجاه و أولياء الله عليهم العناء مشحبة ألوانهم من السهر و منحنية أصلابهم من القيام قد لصقت بطونهم بظهورهم من طول الصيام قد أذهلوا أنفسهم و ذبحوها بالعطش طلبا لرضى الله و شوقا إلى جزيل ثوابه و خوفا من أليم عقابه فإذا تكلم منهم متكلم بحق أو تفوه بصدق قيل له اسكت فأنت قرين الشيطان و رأس الضلالة يتأولون كتاب الله على غير تأويله و يقولون من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق و اعلم يا أسامة إن أكثر الناس عند الله منزلة يوم القيامة و أجزلهم ثوابا و أكرمهم مآبا من طال في الدنيا حزنه و كثر فيها همه و دام فيها غمه و كثر فيها جوعه و عطشه أولئك الأبرار الأتقياء الأخيار إن شهدوا لم يعرفوا و إن غابوا لم يفتقدوا يا أسامة أولئك تعرفهم بقاع الأرض و تبكي إذا فقدتهم محاريبها فاتخذهم لنفسك كنزا و ذخرا لعلك تنجو بهم من زلازل الدنيا و أهوال يوم القيامة و إياك أن تدع ما هم فيه و عليه فتزل قدمك و تهوى في النار فتكون من الخاسرين و احذر يا أسامة أن تكون من الذين قالوا سمعنا و هم لا يسمعون
و للحاجة إلى بعض هذه الوصية و لحسنها كرهت أن أحذف منها شيئا.
التحصين لابن فهدالحلي ص : 23
و لرسول الله ص كلام في مثل هذا في صفة أولياء الله سبحانه أحببت إيراده هنا.
من الكتاب المذكور مرفوعا إلى النبي ص أنه قال أ تدرون ما غمي و في أي شيء تفكري و إلى أي شيء أشتاق قال أصحابه لا يا رسول الله ما علمنا بهذه من شيء أخبرنا بغمك و تفكرك و تشوقك قال النبي ص أخبركم إن شاء الله ثم تنفس و قال هاه شوقا إلى إخواني من بعدي فقال أبو ذر يا رسول الله أ لسنا إخوانك قال لا أنتم أصحابي و إخواني يجيئون من بعدي شأنهم شأن الأنبياء قوم يفرون من الآباء و الأمهات و من الإخوة و الأخوات و من القرابات كلهم ابتغاء مرضات الله يتركون المال لله و يذلون أنفسهم بالتواضع لله لا يرغبون في الشهوات و فضول الدنيا مجتمعون في بيت من بيوت الله كأنهم غرباء محزونين لخوف النار و حب الجنة فمن يعلم قدرهم عند الله ليس بينهم قرابة و لا مال يعطون بها بعضهم لبعض أشفق من الابن على الوالد و من الوالد على الولد و من الأخ على الأخ هاه شوقا إليهم يفرغون أنفسهم من كد الدنيا و نعيمها بنجاة أنفسهم من عذاب الأبد و دخول الجنة لمرضاة الله و اعلم يا أبا ذر إن للواحد منهم أجر سبعين بدريا يا أبا ذر واحد منهم أكرم على الله من كل شيء خلق الله على وجه الأرض يا أبا ذر قلوبهم إلى الله و عملهم لله لو مرض أحدهم له فضل عبادة ألف سنة صيام نهارها و قيام ليلها و إن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر قال نعم يا رسول الله زدني
التحصين لابن فهدالحلي ص : 24
قال لو أن أحدا منهم مات فكأنما مات من في السماء الدنيا من فضله على الله و إن شئت أزيدك قال نعم يا رسول الله زدني قال يا أبا ذر لو أن أحدهم تؤذيه قملة في ثيابه فله عند الله أجر أربعين حجة و أربعين عمرة و أربعين غزوة و عتق أربعين نسمة من ولد إسماعيل ع و يدخل واحد منهم اثني عشر ألفا في شفاعته قال فقلت سبحان الله و قالوا مثل قولي سبحان الله ما أرحمه بخلقه و ألطفه و أكرمه على خلقه فقال النبي ص أ تعجبون من قولي و إن شئتم حتى أزيدكم قال أبو ذر نعم يا رسول الله زدنا فقال النبي ص يا أبا ذر لو أن أحدا منهم اشتهى شهوة من شهوات الدنيا فيصبر و لا يطلبها كان له من الأجر بذكر أهله ثم يغتم و يتنفس كتب الله له بكل نفس ألفي ألف حسنة و محا عنه ألفي ألف سيئة و رفع له ألفي ألف درجة و إن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر قال حبيبي رسول الله زدني قال لو أن أحدا منهم يصبر مع أصحابه لا يقطعهم و يصبر في مثل جوعهم و مثل غمهم كان له من الأجر كأجر سبعين ممن غزا معي غزوة تبوك و إن شئت حتى أزيدك قال نعم يا رسول الله زدنا قال لو أن أحدا منهم وضع جبينه على الأرض ثم يقول آه فتبكي ملائكة السماوات السبع لرحمتهم عليه قال الله تعالى يا ملائكتي ما لكم تبكون فيقولون يا إلهنا و سيدنا و كيف لا نبكي و وليك على الأرض يقول في وجعه آه فيقول الله يا ملائكتي
التحصين لابن فهدالحلي ص : 25
اشهدوا أنتم أني راض عن عبدي بالذي يصبر في الشدة و لا يطلب الراحة فتقول الملائكة يا إلهنا و سيدنا لا تضر الشدة بعبدك و وليك بعد أن تقول هذا القول فيقول الله يا ملائكتي إن وليي عندي كمثل نبي من أنبيائي و لو دعاني وليي و شفع في خلقي شفعته في أكثر من سبعين ألفا و لعبدي و وليي في جنتي ما يتمنى يا ملائكتي و عزتي و جلالي لأنا أرحم بوليي و أنا خير له من المال للتاجر و الكسب للكاسب و في الآخرة لا يعذب وليي و لا خوف عليه ثم قال رسول الله طوبى لهم يا أبا ذر لو أن أحدا منهم يصلي ركعتين في أصحابه أفضل عند الله من رجل يعبد الله في جبل لبنان عمر نوح و إن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر قال نعم يا رسول الله قال لو أن أحدا منهم يسبح تسبيحة خير له من أن يصير له جبال الدنيا ذهبا و نظرة إلى واحد منهم أحب إلي من نظرة إلى بيت الله الحرام و لو أن أحدا منهم يموت في شدة بين أصحابه له أجر مقتول بين الركن و المقام و له أجر من يموت في حرم الله و من مات في حرم الله آمنه الله من الفزع الأكبر و أدخله الجنة و إن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر قال نعم يا رسول الله قال يجلس إليهم قوم مقصرون مثقلون من الذنوب فلا يقومون من عندهم حتى ينظر إليهم فيرحمهم و يغفر لهم ذنوبهم لكرامتهم على الله ثم قال النبي ص المقصر منهم أفضل عند الله من ألف مجتهد من غيرهم
التحصين لابن فهدالحلي ص : 26
يا أبا ذر ضحكهم عبادة و فرحهم تسبيح و نومهم صدقة و أنفاسهم جهاد و ينظر الله إليهم في كل يوم ثلاث مرات يا أبا ذر إني إليهم لمشتاق ثم غمض عينيه و بكى شوقا ثم قال اللهم احفظهم و انصرهم على من خالف عليهم و لا تخذلهم و أقر عيني بهم يوم القيامة أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و قال رسول الله ص من عرف الله منع فاه من الكلام و بطنه من الطعام و عنى نفسه بالصيام و القيام قالوا بآبائنا و أمهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله قال إن أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكرا و نظروا فكان نظرهم عبرة و نطقوا فكان نطقهم حكمة و مشوا فكان مشيهم بين الناس بركة لو لا الآجال التي كتبت عليهم لم تقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب و شوقا إلى الثواب و قال أحب عباد الله إلي الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا شهدوا لم يعرفوا أولئك أئمة الهدى و مصابيح العلم و قال إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من هواء نفسه و شهوته فالصلاة كهفه و الصيام جنته و الصدقة فكاكه
و سئل عنه ص من أولياء الله قال الذين إذا رأوا ذكروا الله
و عنه ص قال قال الله تبارك و تعالى إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسألتي و مناجاتي فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلت بينه و بين أن يسهو أولئك أوليائي حقا أولئك الأبطال حقا أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال
التحصين لابن فهدالحلي ص : 27
و لنختم كتابنا هذا بذكر شيء من ذم الدنيا.
قال رسول الله ص حب الدنيا رأس كل خطيئة
و قال ص ما تعبد الله بشيء مثل الزهد في الدنيا
و أوحى الله إلى موسى ع أن يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتين بكبيرة هي أشد منها
و مر موسى ع برجل و هو يبكي ثم رجع و هو يبكي فقال موسى ع يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال يا ابن عمران لو نزل دماغه مع دموع عينيه و رفع يديه حتى تسقطا لم أغفر له و هو يحب الدنيا
و قال ابن عباس يؤتى يوم القيامة بالدنيا في صورة عجوز زرقاء شمطاء بادية أنيابها مشوهة خلقتها و تشرف على الخلائق فيقول تعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقول هذه الدنيا التي تفاخرتم عليها و بها تقاطعتم الأرحام و بها
التحصين لابن فهدالحلي ص : 28
تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم ثم تقذف في جهنم فتقول يا رب أتباعي و أشياعي فيقول الله عز و جل ألحقوا بها أتباعها و أشياعها
قال بعضهم بلغني أن رجلا عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحلي و الثياب و إذا لا يمر بها أحد إلا جرحته فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآها الناس و إذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رآها الناس عجوز شمطاء زرقاء عمشاء. قال قلت أعوذ بالله منك قالت لا و الله لا يعيذك الله مني حتى تبغض الدرهم قال قلت من أنت قالت أنا الدنيا.
و روي أن عيسى ع كشف له الدنيا فرآها في صورة عجوزة شمطاء عليها من كل زينة فقال لها كم تزوجت قالت لا أحصيهم قال فكلهم مات عنك أو طلقوك قالت بل كلهم قتلت قال عيسى ع بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين كيف أهلكتهم واحدا واحدا و لا يكونون منك على حذر
يا طالب الدنيا يغرك وجهها و لتندمن إذا رأيت قفاها
و روي أن عيسى ع اشتد به المطر و الرعد و البرق يوما فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه فرفعت له خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها
التحصين لابن فهدالحلي ص : 29
فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه فقال إلهي جعلت لكل شيء مأوى و لم تجعل لي مأوى فأوحى الله إليه مأواك في مستقر رحمتي و عزتي لأزوجنك يوم القيامة بمائة حوراء خلقتها بيدي و لأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام كل يوم منها كعمر الدنيا و لآمرن مناديا ينادي أين الزهاد في الدنيا هلموا إلى عرس الزاهد عيسى ع ويل لصاحب الدنيا كيف يموت و يتركها و يأمنها و تغره و يثق بها و تخذله ويل للمغترين كيف أتتهم ما يكرهون و فارقتهم ما يحبون و جاء بهم ما يوعدون ويل لمن كانت الدنيا همه و الخطايا عمله كيف يفتضح غدا عند الله
قيل أوحى الله إلى موسى ع يا موسى ما لك و لدار الظالمين أنها ليست لك بدار فأخرج منها همك و فارقها بعقلك فليست الدار هي إلا للعامل فيها فنعمت الدار هي يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ للمظلوم منه
و عن النبي ص الدنيا موقوفة بين السماء و الأرض منذ خلق الله الدنيا لا ينظر إليها و تقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك نصيبا اليوم فيقول اسكتي يا لا شيء إني لم أرضك لهم في الدنيا كيف أرضاك لهم اليوم
و قال ص ليجيئن أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار قالوا يا رسول الله مصلين قال نعم كانوا يصلون و يصومون
التحصين لابن فهدالحلي ص : 30
و يأخذون وهنا من الليل فإذا عرض لهم من الدنيا شيء وثبوا عليه
و توفي رسول الله ص و ما وضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة و رأى بعض أصحابه يبني بيتا من جص فقال ما أرى الأمر إلا أعجل من هذا و أنكر ذلك
و إلى هذا أشار عيسى ع حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها
و هو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر الآخرة فالمهد هو المثل الأول على القنطرة و اللحد هو المثل الثاني و بينهما مسافة محدودة. فمن الناس من قطع نصف القنطرة و منهم من قطع ثلثها و منهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة و هو غافل عنها و كيف كان فلا بد من العبور. و ليكن هذا آخر تعلقه في هذه الأوراق. و نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما أمليناه و يجعلنا من أهل الوصف بما ذكرناه إنه أحق مدعو و أمل مرجو هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ سورة الحديد آية 9- و صلى الله على أكرم المرسلين و أشرف الأولين و الآخرين محمد و آله الطيبين الطاهرين و سلم تسليما كثيرا كثيرا الحمد لله قد تم كتاب التحصين في العزلة لإمام المحققين الشيخ جمال الدين أحمد بن فهد الحلي طاب مرقده
source : دارالعرفان