العباس بن علی بن أبی طالب.ویکنى بالسید أبو الفضل العباس هو شخصیة محوریة ومهمة لدى المسلمین الشیعة، فأبوه هو الإمام علی ابن أبی طالب الإمام الأول لدى الشیعة، وأخوته هم الامامان الحسن و الحسین الملقبین فی الإسلام بسیدی شباب أهل الجنة، وأمه هی أم البنین واسمها فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربیعة الکلابیة. ولا تعتقد أی فرقة من فرق الشیعة بأن العباس أحد الأئمة، لکن اعتقاد الإثنی عشریة أَنَّهُ معصوم بالعصمة الصغرى، وقد اکتسب العباس أهمیة بسبب دوره فی معرکة کربلاء.(1)
ولادته
بعد أن توفیت فاطمة الزهراء سلام الله علیها الزوجة الأولى لعلی بن أبی طالب. توجه الامام علی لأخیه عقیل بن أبی طالب الذی کان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم، فسأله أن یختار له زوجة "قد ولدتها الفحولة من العرب"، وکما جاء نصاً:
«ابغِنی امرأة وقد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها لتلد لی غلاماً فارساً، فقال له(عقیل): أین أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الکلابیة فإنه لیس فی العرب أشجع من آبائها ولا أفرس»(2)
وقد وُصِفَ حزام (جد العباس لأمه) فی المصادر التاریخیة بأنه "من أعمدة الشرف فی العرب، ومن الشخصیات النابهة فی السخاء والشجاعة وقَرْی الأضیاف"، کما وُصِفَت أسرتها بأنها "من أجلّ الأسر العربیة، وقد عرفت بالنجدة والشهامة، وقد اشتهر منهم جماعة بالنبل والبسالة". فتزوجها علی بن أبی طالب، ووَلَدَت العباس فی الرابع من شعبان سنة 26 هـ (3)
الولید العظیم
وکان أوّل مولود زکیّ للسیّدة أمّ البنین هو سیّدنا المعظّم أبو الفضل العباس ( علیه السلام ) ، وقد ازدهرت یثرب ، وأشرقت الدنیا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بین أفراد الاَسرة العلویة ، فقد ولد قمرهم المشرق الذی أضاء سماء الدنیا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشمیین مجداً خالداً وذکراً ندیّاً عاطراً. وحینما بُشِّر الاِمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) بهذا المولود المبارک سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبیلاً ، وأجرى علیه مراسیم الولادة الشرعیة فأذّن فی أُذنه الیمنى ، وأقام فی الیسرى ، لقد کان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبیه رائد الاِیمان والتقوى فی الاَرض ، وأنشودة ذلک الصوت. « الله أکبر... ». « لا إله إلاّ الله ». وارتسمت هذه الکلمات العظیمة التی هی رسالة الاَنبیاء ، وأنشودة المتّقین فی أعماق أبی الفضل ، وانطبعت فی دخائل ذاته ، حتى صارت من أبرز عناصره ، فتبنى الدعوة إلیها فی مستقبل حیاته ، وتقطّعت أوصاله فی سبیلها. وفی الیوم السابع من ولادة أبی الفضل ( علیه السلام ) ، قام الاِمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساکین وعقّ عنه بکبش ، کما فعل ذلک مع الحسن والحسین ( علیهما السلام ) عملاً بالسنّة الاِسلامیة.
تسمیته
سمّى الاِمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) ولیده المبارک (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغیب انه سیکون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسیکون عبوساً فی وجه المنکر والباطل ، ومنطلق البسمات فی وجه الخیر ، وکان کما تنبّأ فقد کان عبوساً فی میادین الحروب التی أثارتها القوى المعادیة لاَهل البیت علیهم السلام ، فقد دمّر کتائبها وجندل أبطالها ، وخیّم الموت على جمیع قطعات الجیش فی یوم کربلاء ، ویقول الشاعر فیه:
عبست وجوه القوم خوف الموت***والعبّاس فیهـم ضاحـک متبسّم
کنیته
وکُنِّی سیّدنا العبّاس ( علیه السلام ) بما یلی:
1 ـ أبو الفضل
کُنّی بذلک لاَنّ له ولداً اسمه الفضل ، ویقول فی ذلک بعض من رثاه:
أبا الفضل یا من أسّس الفضل والاِبا ***أبى الفضل إلاّ أن تکون له أبا
وطابقت هذه الکنیة حقیقة ذاته العظیمة فلو لم یکن له ولد یُسمّى بهذا الاِسم ، فهو ـ حقّاً ـ أبو الفضل ، ومصدره الفیاض فقد أفاض فی حیاته ببرّه وعطائه على القاصدین لنبله وجوده ، وبعد شهادته کان موئلاً وملجأً لکل ملهوف ، فما استجار به أحد بنیّة صادقة إلاّ کشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.
2 ـ أبو القاسم
کُنّی بذلک لاَنّ له ولداً اسمه (القاسم) وذکر بعض المؤرّخین أنّه استشهد معه یوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدین الله ، وفداءً لریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) .
ألقابه
أمّا الاَلقاب التی تُضفى على الشخص فهی تحکی صفاته النفسیة حسنة کانت أو سیّئة ، وقد أضیفت على أبی الفضل ( علیه السلام ) عدّة ألقاب رفیعة تنمّ عن نزعاته النفسیة الطیبة ، وما اتصف به من مکارم الاَخلاق وهی:
1 ـ قمر بنی هاشم
کان العبّاس ( علیه السلام ) فی روعة بهائه ، وجمیل صورته آیة من آیات الجمال ، ولذلک لقّب بقمر بنی هاشم ، وکما کان قمراً لاَسرته العلویة الکریمة ، فقد کان قمراً فی دنیا الاِسلام ، فقد أضاء طریق الشهادة ، وأنار مقاصدها لجمیع المسلمین.
2 ـ السقّاء
وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إلیه ، أما السبب فی امضاء هذا اللقب الکریم علیه فهو لقیامه بسقایة عطاشى أهل البیت علیهم السلام حینما فرض الاِرهابی المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جیوشه على الفرات لتموت عطشاً ذریة النبیّ ( صلى الله علیه وآله ) ، محرّر الاِنسانیة ومنقذها من ویلات الجاهلیة... وقد قام بطل الاِسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البیت ، ومن کان معهم من الاَنصار .
3 ـ بطل العلقمی
أمّا العلقمی فهو اسم للنهر الذی استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس ( علیه السلام ) ، وکان محاطاً بقوى مکثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) وسیّد شباب أهل الجنّة ، ومن کان معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن یجندل الاَبطال ، ویهزم أقزام ذلک الجیش المنحطّ ، ویحتلّ ذلک النهر ، وقد قام بذلک عدّة مرّات ، وفی المرّة الاَخیرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمی.
4 ـ حامل اللواء
ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) وهو أشرف لواء انّه لواء أبی الاَحرار الاِمام الحسین ( علیه السلام ) ، وقد خصّه به دون أهل بیته وأصحابه ، وذلک لما تتوفر فیه من القابلیات العسکریة ، ویعتبر منح اللواء فی ذلک العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة فی الجیش وقد کان اللواء الذی تقلّده أبو الفضل یرفرف على رأس الاِمام الحسین ( علیه السلام ) منذ أن خرج من یثرب حتّى انتهى إلى کربلاء ، وقد قبضه بید من حدید ، فلم یسقط منه حتى قطعت یداه ، وهوى صریعاً بجنب العلقمی.
5 ـ کبش الکتیبة
وهو من الاَلقاب الکریمة التی تُمنح الى القائد الاَعلى فی الجیش ، الذی یقوم بحمایة کتائب جیشه بحسن تدبیر ، وقوّة بأس ، وقد اضفی هذا الوسام الرفیع على سیّدنا أبی الفضل ، وذلک لما أبداه یوم الطفّ من الشجاعة والبسالة فی الذبّ والدفاع عن معسکر الاِمام الحسین ( علیه السلام ) ، فقد کان قوّة ضاربة فی معسکر أخیه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجیوش الباطل.
6 ـ العمید
وهو من الاَلقاب الجلیلة فی الجیش التی تُمنح لاَبرز الاَعضاء فی القیادة العسکریة ، وقد قُلّد أبو الفضل ( علیه السلام ) بهذا الوسام لاَنّه کان عمید جیش أخیه أبی عبدالله ، وقائد قوّاته المسلّحة فی یوم الطفّ.
7 ـ حامی الظعینة
ومن الاَلقاب المشهورة لاَبی الفضل ( علیه السلام ) (حامی الظعینة). یقول السیّد جعفر الحلّی فی قصیدته العصماء التی رثاه بها:
حامى الظعینة أین منه ربیعة***أم أین من علیـاً أبیـه مکرم
وانّما اضفی علیه هذا اللقب الکریم لقیامه بدور مشرّف فی رعایة مخدرات النبوة وعقائل الوحی ، فقد بذل قصارى جهوده فی حمایتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فکان هو الذی یقوم بترحیلهنّ ، وانزالهنّ من المحامل طیلة انتقالهنّ من یثرب إلى کربلاء.
ومن الجدیر بالذکر أن هذا اللقب اطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربیعة بن مکرم ، فقد قام بحمایة ظعنه ، وأبلى فی ذلک بلاءً حسناً.
8 ـ باب الحوائج
وهذا من أکثر ألقابه شیوعاً ، وانتشاراً بین الناس ، فقد آمنوا وأیقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنیة خالصة إلاّ قضى الله حاجته ، وما قصده مکروب إلاّ کشف الله ما ألمّ به من محن الاَیام ، وکوارث الزمان .
إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسیلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظیم ، وذلک لجهاده المقدّس فی نصرة الاسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقیامه بنصرة ریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) حتى استشهد فی سبیله هذه بعض ألقاب أبی الفضل ، وهی تحکی بعض معالم شخصیته العظیمة وما انطوت علیه من محاسن الصفات ومکارم الاَخلاق.
مع أمیر المؤمنین
کان الاِمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) یرعى ولده أبا الفضل فی طفولته ، ویعنى به کأشدّ ما تکون العنایة فأفاض علیه مکوّنات نفسه العظیمة العامرة بالاِیمان والمثل العلیا ، وقد توسّم فیه أنه سیکون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسیسجّل للمسلمین صفحات مشرقة من العزّة والکرامة.
کان الاِمام أمیر المؤمنین ( علیه السلام ) یوسع العباس تقبیلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ویقول المؤرّخون: إنّه أجلسه فی حجره فشمّر العبّاس عن ساعدیه ، فجعل الاِمام یقبّلهما ، وهو غارق فی البکاء ، فبهرت أمّ البنین ، وراحت تقول للاِمام:
« ما یبکیک ؟ »
فأجابها الاِمام بصوت خافت حزین النبرات:
« نظرت إلى هذین الکفّین ، وتذکّرت ما یجری علیهما.. »
وسارعت أمّ البنین بلهفة قائلة:
« ماذا یجری علیهما »..
فأجابها الاِمام بنبرات ملیئة بالاَسى والحزن قائلاً:
« إنّهما یقطعان من الزند.. »
وکانت هذه الکلمات کصاعقة على أمّ البنین ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهی مذهولة قائلة:
« لماذا یقطعان »..
وأخبرها الاِمام ( علیه السلام ) بأنّهما انّما یقطعان فی نصرة الاِسلام والذبّ عن أخیه حامی شریعة الله ریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) ، فأجهشت أمّ البنین فی البکاء ، وشارکنها من کان معها من النساء لوعتها وحزنها.
وخلدت أمّ البنین إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى فی أن یکون ولدها فداءً لسبط رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) وریحانته.
نشأته
نشأ أبو الفضل العبّاس ( علیه السلام ) نشأة صالحة کریمة ، قلّما یظفر بها إنسان فقد نشأ فی ظلال أبیه رائد العدالة الاجتماعیة فی الاَرض ، فغذّاه بعلومه وتقواه ، وأشاع فی نفسه النزعات الشریفة ، والعادات الطیّبة لیکون مثالاً عنه ، وانموذجاً لمثله ، کما غرست أمّه السیّدة فاطمة سلام الله علیها فی نفسه ، جمیع صفات الفضیلة والکمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظیم فجعلته فی أیّام طفولته یتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلک ملازماً له طوال حیاته.
ولازم أبو الفضل أخویه السبطین ریحانتی رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) الحسن والحسین سیّدی شباب أهل الجنّة فکان یتلقّى منهما قواعد الفضیلة ، وأسس الآداب الرفیعة ، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الاِمام الحسین ( علیه السلام ) فکان لا یفارقه فی حله وترحاله ، وقد تأثّر بسلوکه ، وانطبعت فی قرارة نفسه مُثُله الکریمة وسجایاه الحمیدة حتى صار صورة صادقة عنه یحکیه فی مثله واتجاهاته ، وقد أخلص له الاِمام الحسین علیه السلام کأعظم ما یکون الاِخلاص وقدّمه على جمیع أهل بیته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
انّ المکونات التربویة الصالحة التی ظفر بها سیّدنا أبو الفضل العبّاس ( علیه السلام ) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحین الذین غیّروا مجرى تاریخ البشریة بما قدّموه لها من التضحیات الهائلة فی سبیل قضایاها المصیریة ، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودیة.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحیة والفداء من أجل إعلاء کلمة الحقّ ، ورفع رسالة الاِسلام الهادفة إلى تحریر إرادة الاِنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة ، والاِیثار ، وقد تأثر العباس بهذه المبادىَ العظیمة وناضل فی سبیلها کأشدّ ما یکون النضال ، فقد غرسها فی أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه الاِمام أمیر المؤمنین وأخواه الحسن والحسین علیهم السلام ، هؤلاء العظام الذین حملوا مشعل الحریة والکرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجمیع شعوب العالم وأُمم الاَرض من أجل کرامتهم وحرّیتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقیم الکریمة بین الناس.
سیرته
یقول السیّد عبد الرزاق المقرّم : « هذه الفضائل کلها وان کان القلم یقف عند انتهاء السلسلة إلى أمیر المؤمنین فلا یدری الیراع ما یخط من صفات الجلال والجمال وأنه کیف عرقها فی ولده المحبوب ؟ قمر الهاشمیین »(4).
کما یقول أیضاً: « وقد ظهرت فی أبی الفضل (العباس) الشجاعتان الهاشمیة التی هی الأربى والأرقى فمن ناحیة أبیه سیّد الوصیین، والعامریة فمن ناحیة أمه أم البنین »(5).
وروی عن الإمام جعفر الصادق "کان عمنا العباس بن علیّ نافذ البصیرة، صلب الإیمان، جاهد مع أبی عبد الله علیه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهیداً"(6).
وروی أیضا عن علی بن الحسین السجاد : « رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه »
وقد عاصر العباس الحروب التی خاضها أبوه ومقتل عثمان بن عفان، ثم بیعة أبیه ، ثم معرکة الجمل، ومعرکة صفین، ومعرکة النهروان.
لیس العباس بطلا فحسب انما کان عالماً فاهماً لشرع الله وسیرة رسول الله
صفاته
ان العباس رجلاً وسیماً جسیماً، یرکب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان فی الأرض. وقال الإمام الصادق علیه السّلام : «کان عمُّنا العباس بن علی نافذ البصیرة، صلب الإیمان، جاهد مع أبی عبد الله علیه السّلام، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهیداً» وقد کان صاحب لواء الحسین علیه السّلام، واللِّواء هو العلم الأکبر، ولا یحمله إلاّ الشجاع الشریف فی المعسکر.
فی کربلاء
کان صاحب لواء الحسین فی معرکة کربلاء واللواء هو العلم الأکبر ولا یحمله إلاّ الشجاع الشریف فی المعسکر.
و لما طلب الحسین من أصحابه الرحیل قام إلیه العباس فقال: " ولِمَ نفعل ذلک ؟ لنبقى بعدک ؟ لا أرانا الله ذلک أبداً."
ومن أشهر مواقفه فی کربلاء لما أخذ عبد الله بن حزام ابن خال العباس أماناً من ابن زیاد للعباس واخوته من أمه قال العباس وإخوته: لا حاجة لنا فی الأمان، أمان الله خیر من أمان ابن سمیة.
ومن شجاعته أنه فی کربلاء حین حوصر أربعةُ رجال بین الأعداء ندب إلیهم الحسین أخاه العباس فحمل على القوم وضرب فیهم بسیفه حتى فرّقهم عن أصحابه ووصل إلیهم فسلموا علیه وأتى بهم ولکنهم کانوا جرحى... » یقال لما ادخلت الرایات على دعی بنی أمیة یزید ورأى رایة العباس ومابها من طعن وضرب من جمیع انحائها إلا من جهة المقبض سأل لمن هذه الریة فقیل له للعباس فقام یزید ثلاث مرات وجلس من حیث لایعلم((إبراهیم العامری))
واشتهر بالسقاء لأنه استشهد وهو یحاول احضار الماء للعطاشى من آل البیت فی کربلاء وعندما عاد بالقربة غال به القوم وأوقعوه من فرسه وقطعو کفیه ومزقوا القربة.
استشهاده
عند استشهاده تروی المصادر أن الامام الحسین علیه السلام وقف عند رأس أخیه وقال "الآن انکسر ظهری، وقلّت حیلتی، وشمت بی عدوی" وحاول حمله إلا أن العباس رفض معللا أنه یستحی من الأطفال ومن سکینة بنت الحسین لأنه لم یحضر الماء وکذلک قام بمواساة أخیه الحسین حیث قال العباس :"أنت تمسح الدم والتراب عنی وتواسینی وتنقلنی إلى الخیم بعد ساعة وعند سقوطک من سیمسح الدم والتراب عن وجهک " وبقی الامام الحسین علیه السلام ورأس أخیه العباس فی حجره حتى فاضت روحه فی الیوم العاشر من محرم الحرام من العام الحادی والستین للهجرة النبویة. و من أهم ما قیل بحق العباس بن علی بن ابی طالب من أقوال الشعراء فیه
1 ـ قال السیّد راضی القزوینی:
أبا الفضل یا من أسّس الفضل والإبا ** أبى الفضل إلا أن تکون له أبا
تطلّبت أسباب العلى فبلغتها ** وما کلّ ساعٍ بالغ ما تطلّبا
ودون احتمال الضیم عزّ ومنعة ** تخیّرت أطراف الأسنّة مرکبا
2 ـ قال السیّد جعفر الحلّی:
وقع العذاب على جیوش أُمیّة ** من باسلٍ هو فی الوقائع معلم
عبست وجوه القوم خوف الموت ** والعباس فیهم ضاحک یتبسّم
قلب الیمین على الشمال وغاص فی ** الأوساط یحصد للرؤوس ویحطم
ما کرّ ذو بأسٍ له متقدّماً ** إلّا وفرّ ورأسه المتقدّم
صبغ الخیول برمحه حتّى غدا ** سیان أشقر لونها والأدم
ما شدّ غضباناً على ملمومه ** إلّا وحلّ بها البلاء المبرم
بطل تورّث من أبیه شجاعة ** فیها أنوف بنی الضلالة تُرغم
3 ـ قال حفیده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبید الله بن العباس:
إنّی لأذکر للعباس موقفه ** بکربلاء وهام القوم یختطف
یحمی الحسین ویحمیه على ظمأ ** ولا یولی ولا یثنی فیختلف
ولا أرى مشهداً یوماً کمشهده ** مع الحسین علیه الفضل والشرف
أکرم به مشهداً بانت فضیلته ** وما أضاع له أفعاله خلف
مدفنه
للعباس بن علی مشهد کبیر فی مدینة کربلاء بجوار مشهد الحسین تعلوه قبة ذهبیة، وتحث المصادر الشیعیة على زیارة قبره وأن زیارته مستحبة مع زیارة أخیه الحسین. کما ویوجد فی لبنان فی بلدة النبی شیت (علیه السلام)- البقاعیة, (بلدة الشهید السید عباس الموسوی) یوجد مزار موجود منذ القدم فی هذه البلدة ویسمى المزار (مزار أبو الفضل العباس)کما ویوجد ضریح فی هذا المزار، ویقال أنه أثناء السبی من کربلاء إلى الشام قد مروا من بلدة النبی شیت وقبلها من بعلبک حیث وجود حالیا مقام وضریح السیدة خولة بنت الحسین التی استشهدت على الطریق مع عمتها زینب وهم فی طریقهم إلى الشام ومعها کفین العباس علیه السلام. کما ویوجد فی بلدة حورتعلا القریبة من بلدة النبی شیت ضریح ومقام (عبد الله ابن الامام الحسن علیهما السلام) استشهد أثناء رحلة السبی من بعلبک إلى النبی شیت, ودفن فی بلدة حورتعلا وله من الفضل والکرامات الکثیرة.
احتلّ أبو الفضل ( علیه السلام ) قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار أنشودة الاَحرار فی کلّ زمان ومکان ، وذلک لما قام به من عظیم التضحیة تجاه أخیه سیّد الشهداء ، الذی ثار فی وجه الظلم والطغیان ، وبنى للمسلمین عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً.
وفیما یلی بعض الکلمات القیّمة التی أدلى بها بعض الشخصیات الرفیعة فی حقّ أبی الفضل ( علیه السلام ) .
1 ـ الاِمام زین العابدین:
أمّا الاِمام زین العابدین فهو من المؤسسین للتقوى والفضیلة فی الاِسلام ، وکان هذا الاِمام العظیم یترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ویذکر بمزید من الاِجلال والاِکبار تضحیاته الهائلة لاَخیه الحسین وکان مما قاله فی حقّه هذه الکلمات القیّمة:
رحم الله عمّی العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قُطعت یداه ، فأبدله الله بجناحین ، یطیر بهما مع الملائکة فی الجنّة ، کما جعل لجعفر بن أبی طالب ، وان للعبّاس عند الله تبارک وتعالى منزلة یغبطه علیها جمیع الشهداء یوم القیامة.. ».
وألمّت هذه الکلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحیات تجاه أخیه أبی الاَحرار الاِمام الحسین ( علیه السلام ) ، فقد أبدى فی سبیله من ضروب الاِیثار وصنوف التضحیة ما یفوق حدّ الوصف ، وما کان به مضرب المثل على امتداد التاریخ ، فقد قطعت یداه الکریمتان یوم الطفّ فی سبیله ، وظلّ یقاوم عنه حتى هوى إلى الاَرض صریعاً ، وان لهذه التضحیات الهائلة عند الله منزلة کریمة ، فقد منحه من الثواب العظیم ، والاَجر الجزیل ما یغبطه علیه جمیع شهداء الحقّ والفضیلة فی دنیا الاِسلام وغیره.
2 ـ الاِمام الصادق:
أمّا الاِمام الصادق ( علیه السلام ) فهو العقل المبدع والمفکّر فی الاِسلام فقد کان هذا العملاق العظیم یشید دوماً بعمّه العبّاس ، ویثنی ثناءً عاطراً وندیّاً على مواقفه البطولیة یوم الطفّ ، وکان مما قاله فی حقّه:
« کان عمّی العبّاس بن علی ( علیه السلام ) نافذ البصیرة ، صُلب الاِیمان ، جاهد مع أخیه الحسین ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهیداً.. ».
وتحدّث الاِمام الصادق ( علیه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتی کانت موضع إعجابه وهی:
أ ـ نفاذ البصیرة:
أمّا نفاذ البصیرة ، فانها منبعثة من سداد الرأی ، وأصالة الفکر ، ولا یتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سریرته ، ولم یکن لدواعی الهوى والغرور أی سلطان علیه ، وکانت هذه الصفة الکریمة من أبرز صفات أبی الفضل فقد کان من نفاذ بصیرته ، وعمق تفکیره مناصرته ومتابعته لاِمام الهدى وسیّد الشهداء الاِمام الحسین ( علیه السلام ) ، وقد ارتقى بذلک إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظیمة على امتداد التأریخ ، فما دامت القیم الاِنسانیة یخضع لها الاِنسان ، ویمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.
ب ـ الصلابة فی الاِیمان:
والظاهرة الاَخرى من صفات أبی الفضل ( علیه السلام ) هی الصلابة فی الاِیمان وکان من صلابة إیمانه انطلاقه فی ساحات الجهاد بین یدی ریحانة رسول الله مبتغیاً فی ذلک الاَجر عند الله ، ولم یندفع إلى تضحیته بأی دافع من الدوافع المادیة ، کما أعلن ذلک فی رجزه یوم الطفّ ، وکان ذلک من أوثق الاَدلة على إیمانه.
ج ـ الجهاد مع الحسین:
وثمّة مکرمة وفضیلة أخرى لبطل کربلاء العباس ( علیه السلام ) أشاد بها الاِمام الصادق ( علیه السلام ) وهی جهاده المشرق بین یدی سبط رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) ، وسیّد شباب أهل الجنّة ، ویعتبر الجهاد فی سبیله من أسمى مراتب الفضیلة التی انتهى إلیها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً یوم الطفّ لم یشاهد مثله فی دنیا البطولات.
د ـ زیارة الاِمام الصادق:
وزار الاِمام الصادق ( علیه السلام ) أرض الشهادة والفداء کربلاء ، وبعدما انتهى من زیارة الاِمام الحسین وأهل بیته علیهم السلام والمجتبین من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زیارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزیارة التالیة التی تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظیم مکانته ، وقد استهلّ زیارته بقوله:
سلام الله ، وسلام ملائکته المقرّبین ، وأنبیائه المرسلین ، وعباده الصالحین ، وجمیع الشهداء والصدّیقین والزاکیات الطیّبات فیما تغتدی وتروح علیک یا ابن أمیر المؤمنین.. ».
لقد استقبل الاِمام الصادق عمّه العباس بهذه الکلمات الحافلة بجمیع معانی الاِجلال والتعظیم ، فقد رفع له تحیات من الله وسلام ملائکته ، وأنبیائه المرسلین ، وعباده الصالحین ، والشهداء ، والصدّیقین ، وهی أندى وأزکى تحیّة رفعت له ، ویمضی سلیل النبوّة الاِمام الصادق ( علیه السلام ) فی زیارته قائلاً:
وأشهد لک بالتسلیم ، والتصدیق ، والوفاء ، والنصیحه لخلف النبیّ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدلیل العالم ، والوصی المبلّغ والمظلوم المهتضم.. »
وأضفى الاِمام الصادق ( علیه السلام ) بهذا المقطع أوسمة رفیعة على عمّه العبّاس هی من أجلّ وأسمى الاَوسمة التی تضفى على الشهداء العظام ، وهی:
أ ـ التسلیم:
وسلّم العباس ( علیه السلام ) لاَخیه سیّد الشهداء الاِمام الحسین ( علیه السلام ) جمیع أموره ، وتابعه فی جمیع قضایاه حتّى استشهد فی سبیله ، وذلک لعلمه بإمامته القائمة على الاِیمان الوثیق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأی وسلامة القصد ، والاِخلاص فی النیّة.
ب ـ التصدیق:
وصدّق العبّاس ( علیه السلام ) أخاه ریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) فی جمیع اتجاهاته ، ولم یخامره شکّ فی عدالة قضیّته ، وانّه على الحق ، وان من نصب له العداوة وناجزه الحرب کان على ضلال مبین.
ج ـ الوفاء:
من الصفات الکریمة التی أضافها الاِمام الصادق ( علیه السلام ) على عمّه أبی الفضل ( علیه السلام ) ، الوفاء ، فقد وفى ما عاهد علیه الله من نصرة إمام الحق أخیه أبی عبدالله الحسین ( علیه السلام ) ، فقد وقف إلى جانبه فی أحلک الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم یفارقه حتى قطعت یداه ، واستشهد فی سبیل الله بین یدیه.
لقد کان الوفاء الذی هو من أمیز الصفات الرفیعة عنصراً من عناصر أبی الفضل وذاتیاً من ذاتیاته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقریب والبعید.
د ـ النصیحة:
وشهد الاِمام الصادق بنصیحة عمّه العبّاس لاَخیه سیّد الشهداء ( علیه السلام ) ، فقد أخلص له فی النصیحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الکفر والضلال ، وشارکه فی تضحیاته الهائلة التی لم یشاهد العالم مثلها نظیراً فی جمیع فترات التاریخ... ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزیارة الکریمة ، یقول ( علیه السلام ) :
« فجزاک الله عن رسوله ، وعن أمیر المؤمنین ، وعن الحسن والحسین صلوات الله علیهم أفضل الجزاء بما صبرت ، واحتسبت ، وأعنت فنعم عقبى الدار ... ».
وحوى هذا المقطع على إکبار الاِمام الصادق ( علیه السلام ) لعمّه العبّاس وذلک لما قدّمه من الخدمات العظیمة ، والتضحیات الهائلة لسیّد شباب أهل الجنّة ، وریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) الاِمام الحسین ( علیه السلام ) فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه فی سبیله من المحن والشدائد مبتغیاً فی ذلک الاَجر عند الله ، فجزاه الله عن نبیّه الرسول الاَعظم ( صلى الله علیه وآله ) وعن باب مدینته الاِمام أمیر المؤمنین ، وعن الحسن والحسین أفضل الجزاء على عظیم تضحیاته.
ویستمرّ مجدّد الاِسلام الاِمام الصادق ( علیه السلام ) فی زیارته لعمّه العبّاس ، فیذکر صفاته الکریمة ، وما له من المنزلة العظیمة عند الله تعالى ، فیقول بعد السلام علیه:
« أشهد ، وأُشهد الله أنّک مضیت على ما مضى به البدریون والمجاهدون فی سبیل الله ، المناصحون له فی جهاد أعدائه ، المبالغون فی نصرة أولیائه ، الذابّون عن أحبّائه ، فجزاک الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفی ببیعته ، واستجاب لدعوته ، وأطاع ولاة أمره... ».
لقد شهد الاِمام الصادق العقل المفکّر والمبدع فی الاِسلام ، واشهد الله تعالى على ما یقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس ( علیه السلام ) قد مضى فی جهاده مع أخیه أبی الاَحرار الاِمام الحسین ( علیه السلام ) ، على الخطّ الذی مضى علیه شهداء بدر الذین هم من أکرم الشهداء عند الله فهم الذین کتبوا النصر للاِسلام ، وبدمائهم الزکیة ارتفعت کلمة الله عالیة فی الاَرض وقد استشهدوا وهم على بصیرة من أمرهم ، ویقین من عدالة قضیّتهم ، وکذلک سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لاِنقاذ الاِسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوک بنی أمیّة حفید أبی سفیان أن یمحو کلمة الله ، ویلف لواء الاِسلام ، ویعید الناس لجاهلیتهم الاَولى ، فثار أبو الفضل بقیادة أخیه أبی الاَحرار فی وجه الطاغیة السفّاک ، وتحققت بثورتهم کلمة الله العلیا فی نصر الاِسلام وإنزال الهزیمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
ویستمرّ الاِمام الصادق ( علیه السلام ) فی زیارته لعمّه العباس فیسجّل ما یحمله من إکبار وتعظیم ، فیقول:
« أشهد أنّک قد بالغت فی النصیحة ، وأعطیت غایة المجهود فبعثک الله فی الشهداء ، وجعل روحک مع أرواح السعداء ، وأعطاک من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذکرک فی علّیین وحشرک مع النبّیین ، والصدیقین والشهداء ، والصالحین ، وحسن أُولئک رفیقاً.
أشهد أنّک لم تهن ولم تنکل ، وانّک مضیت على بصیرة من أمرک ، مقتدیاً بالصالحین ، ومتبعاً للنبیّین ، فجمع الله بیننا ، وبینک وبین رسوله وأولیائه فی منازل المخبتین ، فانّه أرحم الراحمین.. ».
ویلمس فی هذه البنود الاَخیرة من الزیارة مدى أهمیّة العبّاس ، وسموّ مکانته عند إمام الهدی الاِمام الصادق ( علیه السلام ) ، وذلک لما قام به هذا البطل العظیم من خالص النصیحة ، وعظیم التضحیّه لریحانة رسول الله ( صلى الله علیه وآله ) الاِمام الحسین ( علیه السلام ) ، کما دعا الاِمام له ببلوغ المنزلة السامیة عند الله التی لا ینالها إلاّ الاَنبیاء ، واوصیائهم ، ومن أمتحن الله قلبه للاِیمان.
3 ـ الاِمام الحجّة:
وأدلى الاِمام المصلح العظیم بقیّة الله فی الاَرض قائم آل محمد ( صلى الله علیه وآله ) بکلمة رائعة فی حقّ عمّه العبّاس ( علیه السلام ) جاء فیها :
« السلام على أبی الفضل العبّاس ابن أمیر المؤمنین ، المواسی أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادی له ، الواقی ، الساعی إلیه بمائه ، المقطوعة یداه ، لعن الله قاتلیه یزید بن الرقاد ، وحکیم بن الطفیل الطائی.. »
وأشاد بقیّة الله فی الاَرض بالصفات الکریمة الماثلة فی عمّه قمر بنی هاشم وفخر عدنان ، وهی:
1 ـ مواساته لاَخیه سیّد الشهداء ( علیه السلام ) ، فقد واساه فی أحلک الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاریخ.
2 ـ تقدیمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلک بتقواه ، وشدّة تحرّجه فی الدین ، ونصرته لاِمام الهدى.
3 ـ تقدیم نفسه ، واخوته ، وولده فداءً لسیّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسین ( علیه السلام ) .
4 ـ وقایته لاَخیه المظلوم بمهجته.
5 ـ سعیه لاَخیه وأهل بیته بالماء حینما فرضت سلطات البغی والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبیّ ( صلى الله علیه وآله ) .
مصارع اخوة العبّاس
واستجاب السادة اخوة العباس إلى نداء أخیهم فهبّوا للجهاد ، ووطّنوا نفوسهم على الموت دفاعاً عن أخیهم ریحانة رسول الله صلى الله علیه وآله ، فقد برز عبدالله ابن أمیر المؤمنین علیه السلام والتحم مع جیوش الامویین وهو یرتجز:
شیخی علی ذو الفخار الاَطول***من هاشم الخیر الکریم المفضل
هذا حسین بـن النبی المرسل***عنه نحامـی بالحسام المصقل
تفدیه نفســی من أخ مبجّل*** یا رب فامنحنـی ثواب المنزل
لقد أعرب بهذا الرجز عن اعتزازه وافتخاره بأبیه الامام أمیر المؤمنین علیه السلام باب مدینة علم النبیّ صلى الله علیه وآله ووصیه ، کما اعتزّ بأخیه سیّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسین علیه السلام ، وقد أعلن أنّه انّما یدافع عنه لاَنّه ابن النبیّ صلى الله علیه وآله ویلتمس بذلک أن یمنحه الله الدرجات الرفیعة.
ولم یزل الفتى یقاتل أعنف القتال وأشدّه حتى شدّ علیه رجس من أرجاس أهل الکوفة وهو هانی بن ثبیت الحضرمی فقتله.
وبرز من بعده أخوه جعفر ، وکان له من العمر تسعة عشر سنة فجعل یقاتل قتال الاَبطال فبرز إلیه قاتل أخیه فقتله.
وبرز من بعده أخوه عثمان وهو ابن إحدى وعشرین سنة فرماه خولی بسهم فأضعفه ، وشدّ علیه رجس من بنی دارم وأخذ رأسه لیتقرّب به إلى ابن الاَمة الفاجرة عبیدالله بن مرجانة.
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفیق الاَعلى ، وهی أنضر ما تکون تفانیاً فی مرضاة الله ، وأشدّ ما تکون إیماناً بعدالة تضحیتهم التی هی من أنبل التضحیات فی العالم.
ووقف أبو الفضل على اشقّائه الذین مزّقت أشلاءهم سیوف الاَعداء فجعل یتأمّل فی وجوههم المشرقة بنور الاِیمان ، وأخذ یتذکّر وفاءهم ، وسموّ آدابهم ، وأخذ یذرف علیهم أحرّ الدموع ، وتمنّى أن تکون المنیّة قد وافته قبلهم ، واستعدّ بعد ذلک إلى الشهادة ، والفوز برضوان الله.
مصرع أبی الفضل
ولما رأى أبو الفضل علیه السلام وحدة أخیه ، وقتل أصحابه ، وأهل بیته الذین باعوا نفوسهم لله انبرى إلیه یطلب الرخصة منه لیلاقی مصیره المشرق فلم یسمح له الاِمام ، وقال له بصوت حزین النبرات:
«أنت صاحب لوائی..».
لقد کان الاِمام یشعر بالقوّة والحمایة ما دام أبو الفضل فهو کقوة ضاربة إلى جانبه یذبّ عنه ، ویردّ عنه کید المعتدین ، وألحّ علیه أبو الفضل قائلاً:
« لقد ضاق صدری من هؤلاء المنافقین ، وأرید أن آخذ ثأری منهم..».
لقد ضاق صدره ، وسئم من الحیاة حینما رأى النجوم المشرقة من أخوته ، وأبناء عمومته صرعى مجزرین على رمضاء کربلاء فتحرّق شوقاً للاَخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الاِمام منه أن یسعى لتحصیل الماء إلى الاَطفال الذین صرعهم العطش فانبرى الشهم النبیل نحو أولئک الممسوخین الذین خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة فجعل یعظهم ، ویحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه بعد ذلک إلى ابن سعد:
«یا بن سعد هذا الحسین بن بنت رسول الله صلى الله علیه وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بیته ، وهؤلاء عیاله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد احرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلک یقول: « دعونی أذهب إلى الروم أو الهند ، وأخلّی لکم الحجاز والعراق..».
وساد صمت رهیب على قوّات ابن سعد ، ووجم الکثیرون ، وودّوا أن الاَرض تسیخ بهم ، فانبرى إلیه الرجس الخبیث شمر بن ذی الجوشن فردّ علیه قائلاً:
یا بن أبی تراب ، لو کان وجه الاَرض کلّه ماءً ، وهو تحت أیدینا لما سقیناکم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا فی بیعة یزید . . .
لقد بلغت الخسّة ، ولؤم العنصر ، وخبث السریرة بهذا الرجس إلى مستوى ما له من قرار... وقفل أبو الفضل راجعاً إلى أخیه فأخبره بعتوّ القوم وطغیانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الاَطفال ، وهم یستغیثون ، وینادون:
«العطش العطش..».
ورآهم أبو الفضل قد ذبلت شفاهم ، وتغیّرت ألوانهم ، وأشرفوا على الهلاک ، من شدّة العطش ، وفزع أبو الفضل ، وسرى الاَلم العاصف فی محیّاه ، واندفع ببسالة لاِغاثتهم ، فرکب فرسه ، وأخذ معه القربة ، فاقتحم الفرات ، فانهزم الجیش من بین یدیه ، واستطاع أن یفکّ الحصار الذی فرض على الماء ، فاحتلّه ، وکان قلبه الشریف کصالیة الغضا من شدّة العطش ، فاغترف من الماء غرفة لیشرب منه ، إلاّ أنه تذکّر عطش أخیه ، ومن معه من النساء والاَطفال ، فرمى الماء من یده ، وامتنع أن یروی غلیله ، وقال:
یا نفس من بعد الحسین هونی**وبعده لا کنت أن تکونی
هذا الحسیـن وارد المنـون**وتشربیـن بارد المعین
تالله ما هذا فعال دینی
ان الاِنسانیة بکل إجلال واحترام لتحیّی هذه الروح العظیمة التی تألّقت فی دنیا الفضیلة والاِسلام وهی تلقی على الاَجیال أروع الدروس عن الکرامة الاِنسانیة.
ان هذا الاِیثار الذی تجاوز حدود الزمان والمکان کان من أبرز الذاتیات فی خلق سیّدنا أبی الفضل ، فلم تمکّنه عواطفه المترعة بالولاء والحنان أن یشرب من الماء قبله ، فأی إیثار أنبل أو أصدق من هذا الاِیثار ، ... واتجه فخر هاشم مزهواً نحو المخیم بعدما ملاَ القربة ، وهی عنده أثمن من حیاته ، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشریة التحاماً رهیباً فقد أحاطوا به من کلّ جانب لیمنعوه من إیصال الماء إلى عطاشى آل النبیّ صلى الله علیه وآله ، وأشاع فیهم القتل والدمار وهو یرتجز:
لا أرهـب الموت اذ المـوت زقا***حتى أواری فی المصالیت لقى
نفسی لسبط المصطفى الطهر وقا***إنی أنا العبـاس أغـدو بالسقا
ولا أخاف الشرّ یــوم الملتقى
لقد أعلن بهذا الرجز عن شجاعته النادرة ، وانّه لا یخشى الموت ، وانّما یستقبله بثغر باسم دفاعاً عن الحق ، وفداءً لاَخیه سبط النبیّ صلى الله علیه وآله .. وانه لفخور أن یغدو بالسقاء مملوءً من الماء لیروی به عطاشى أهل البیت.
وانهزمت الجیوش من بین یدیه یطاردها الفزع والرعب ، فقد ذکرهم ببطولات أبیه فاتح خیبر ، ومحطّم فلول الشرک ، إلاّ ان وضراً خبیثاً من جبناء أهل الکوفة کمن له من وراء نخلة ، ولم یستقبله بوجهه ، فضربه على یمینه ضربة غادرة فبراها ، لقد قطع تلک الید الکریمة التی کانت تفیض برّاً وکرماً على المحرومین والفقراء ، والتی طالما دافع بها عن حقوق المظلومین والمضطهدین ، ولم یعن بها بطل کربلاء وراح یرتجز:
والله ان قطعتـم یمینی***انّی أحامی أبداً عن دینی
وعن إمام صادق الیقین***نجل النبیّ الطاهر الاَمین
ودلل بهذا الرجز على الاَهداف العظیمة ، والمثل الکریمة التی یناضل من أجلها فهو انّما یناضل دفاعاً عن الاِسلام ، ودفاعاً عن إمام المسلمین وسیّد شباب أهل الجنّة.
ولم یبعد العباس قلیلاً حتى کمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشریة وهو الحکیم بن الطفیل الطائی فضربه على یساره فبراها ، وحمل القربة بأسنانه ـ حسبما تقول بعض المصادر ـ وجعل یرکض لیوصل الماء إلى عطاشى أهل البیت علیهم السلام وهو غیر حافل بما کان یعانیه من نزف الدماء وألم الجراح ، وشدّة العطش ، وکان ذلک حقّاً هو منتهى ما وصلت إلیه الاِنسانیة من الشرف والوفاء والرحمة... وبینما هو یرکض وهو بتلک الحالة إذ أصاب القربة سهم غادر فأریق ماؤها ، ووقف البطل حزیناً ، فقد کان إراقة الماء عنده أشدّ علیه من قطع یدیه ، وشدّ علیه رجس فعلاه بعمود من حدید على رأسه الشریف ففلق هامته ، وهوى إلى الاَرض ، وهو یؤدّی تحیّته ، ووداعه الاَخیر إلى أخیه قائلاً:
«علیک منّی السلام أبا عبدالله...».
وحمل الاَثیر محنته إلى أخیه فمزّقت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، وانطلق نحو نهر العلقمی حیث هوى إلى جنبه أبو الفضل ، واقتحم جیوش الاَعداء ، فوقف على جثمان أخیه فألقى بنفسه علیه ، وجعل یضمخه بدموع عینیه ، وهو یلفظ شظایا قلبه الذی مزّقته الکوارث قائلاً:
«الآن انکسر ظهری ، وقلّت حیلتی ، وشمت بی عدویّ...».
وجعل إمام الهدى یطیل النظر إلى جثمان أخیه ، وقد انهارت قواه ، وانهدّ رکنه وتبددت جمیع آماله ، وودّ أن الموت قد وافاه قبله ، وقد وصف السیّد جعفر الحلّی حالته بقوله:
فمشى لمصرعه الحسین وطرفه***بیـن الخیـام وبینـه مـتقسم
ألفـاه محجـوب الجمال کـأنّه***بـدر بمنحطـم الـوشیج ملثم
فأکب منحنیـاً علیـه ودمعـه***صبـغ البسیط کأنّما هـو عندم
قـد رام یلثمه فلم یـر موضعاً***لـم یدمه عـضّ السلاح فیلثم
نـادى وقد ملاَ البوادی صیحة***صـم الصخـور لهولهـا تتألّم
أأخـی یهنیک النعیم ولـم أخل***ترضى بأن أرزى وأنت مـنعم
أأخی مـن یحمی بنـات محمد***اذ صرن یسترحمن من لا یرحم
مـا خلت بعدک أن تشلّ سواعدی***وتکف بـاصرتی وظهری یقصم
لسـواک یـلطم بـالاَکف وهـذه***بیض الضبا لک فـی جبینی تلطم
ما بین مصرعک الفضیع ومصرعی***إلاّ کمـا أدعـوک قبـل وتنعـم
هـذا حسامک من یذلّ بـه العـدا***ولـواک هـذا مـن بـه یتقـدم
هونت یا باابن أبی مصارع فتیتی***والجـرح یسکنـه الذی هـو آلم
وهو وصف دقیق للحالة الراهنة التی حلّت بسیّد الشهداء بعد فقده لاَخیه ووصف شاعر آخر وهو الحاج محمد رضا الاَزری وضع الاِمام علیه السلام بقوله:
وهـوى علیـه مـا هنـالک قائلاً***الیوم بان عـن الیمیـن حسـامها
الیـوم سـار عـن الکتائب کبشها***الیوم بـان عـن الهـداة امـامها
الیـوم آل إلـى التفـرق جمعنـا***الیـوم حلّ عـن البنود نـظامها
الیوم نـامت أعیـن بـک لـم تنم***وتسهّـدت أخـرى فعـز منامها
اشقیق روحی هل تراک علمت ان***غـودرت وانثالت علیک لئـامها
قد خلت اطبقت السماء على الثرى***أو دکـدکت فـوق الربى أعلامها
لکـن أهـان الخطب عندی اننی***بک لاحق أمـراً قضـى علامهـا
ومهما قال الشعراء والکتّاب فانهم لا یستطیعون أن یصفون ما ألمّ بالاِمام من فادح الحزن ، وعظیم المصاب ، ووصفه أرباب المقاتل بأنّه قام من أخیه وهو لایتمکّن أن ینقل قدمیه ، وقد بان علیه الانکسار ، وهو الصبور ، واتجه صوب المخیّم ، وهو یکفکف دموعه ، فاستقبلته سکینة قائلة:
«أین عمّی أبو الفضل ، ..».
فغرق بالبکاء ، واخبرها بنبرات متقطّعة من شدّة البکاء بشهادته ، وذعرت سکینة ، وعلا صراخها ، ولما سمعت بطلة کربلاء حفیدة الرسول صلى الله علیه وآله بشهادة أخیها الذی ما ترک لوناً من ألوان البرّ والمعروف إلاّ قدّمه لها أخذت تعانی آلام الاحتضار ، ووضعت یدها على قلبها المذاب ، وهی تصیح:
«وا أخاه ، واعبّاساه ، وا ضعیتنا بعدک...».
یالهول الفاجعة.
یالهول الکارثة.
لقد ضجّت البقعة من کثرة الصراخ والبکاء ، وأخذت عقائل النبوة یلطمن الوجوه وقد أیقن بالضیاع بعده ، وشارکهنّ الثاکل الحزین أبو الشهداء فی محنتهنّ ومصابهنّ ، وقد علا صوته قائلاً:
«واضیعتنا بعدک یا أبا الفضل...».
لقد شعر أبو عبدالله علیه السلام بالضیعة والغربة بعد فقده لاَخیه الذی لیس مثله أخ فی برّه ووفائه ومواساته ، فکانت فاجعته به من أقسى ما مُنی به من المصائب والکوارث.
وداعاً یا قمر بنی هاشم.
وداعاً یا فجر کل لیل.
وداعاً یا رمز المواساة والوفاء.
سلام علیک یوم ولدت ، ویوم استشهدت ، ویوم تُبعث حیّاً.
المصادر :
1- العباس والعصمة الصغرى. محمد الحسینی الشیرازی
2- أعیان الشیعة. محسن الأمینی. (7/924)
3- العباس بن علی علیهما السلام. باقر شریف القرشی - دار الکتاب الإسلامی
4- العباس بن أمیر المؤمنین - عبد الرزاق المقرم - قم ص 28
5- العباس بن أمیر المؤمنین / عبد الرزاق المقرم
6- أعیان الشیعة. محسن الأمینی. (
source : rasekhoon