يكشف لنا هذا الحديث التاريخي عن سياسة المنصور الخشنة مع العلويين، والتي أراد بها الايحاء لابنه المهدي بأن الخلافة لا تستقيم الاّ بهذه الطريقة، ثم تكشف لنا هذه الرواية عن معاناة الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) لانه كان بالتأكيد على علم بهذه الاعداد المؤمنة الخيّرة من أبناء الشيعة وهي تساق الى السجون لتقتل بعد ذلك صبراً، وهذا الحديث مليء بالشجون والأسى فقد ملأ خزانة برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالا وأوصى ريطة زوج المهدي أن لا تفتحها للمهدي ولا يطلع عليها إلاّ بعد هلاكه، وقد دوّنها الطبري في تاريخه وهذا نصها :
«لمّا عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد»، وعهد اليها ودفع اليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم اليها وأحلفها ووكّد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً إلاّ المهدي، ولا هي إلاّ أن يصح عندها موته، فاذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الري الى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته أنه تقدم إليها أن لا تفتحه ولا تُطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته فلما انتهى الى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فاذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكاناً» (1) .
عبد الله الافطح
ومن المشاكل التي اثيرت في مطلع تسلّم الإمام موسى(عليه السلام) لمسؤولية الإمامة ، والتي كانت تهدف لتمزيق الطائفة الشيعية وإثارة البلبلة والتخريب في صفوفها، هي التشكيك في مسألة القيادة فانها لمن تكون بعد الإمام الصادق(عليه السلام) بسبب ما ادّعاه (عبدالله الافطح) أخوالإمام موسى الاكبر بعد اسماعيل، وهذا بطبيعة الحال يُضيف معاناة أُخرى للامام، لان أجهزة المنصور العدوانيّة كانت تعدّ عليه الانفاس وتشك في أيّ حركة تصدر منه (2) .
وعّاظ السلاطين
ومن الاساليب التي استخدمتها السلطات العبّاسية عامة والمنصور بشكل خاص، سياسة اتّخاذ (وعّاظ السلاطين) بعد أن غيّب الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) عن المسرح السياسي والفكري ، وظاهرة وعّاظ السلاطين هى بديل يرعاه الخليفة ويدعمه بما أوتي من قوة ليغطّي له الفراغ من جانب وتؤيد له سياسته من جانب آخر اذ يوحي للاُمة بأنه مع الخط الإسلامي السائر على نهج السنة النبويّة، ووجد من (مالك بن أنس ) وأمثاله ممن تناغم معه في الاختيار العقائدي الذي لا يصطدم مع سياسته، ووجد من تجاوب مع رغبته وكال له ولاسرته المديح والثناء، الأمر الذي دفع بالمنصور أن يفرض (الموطأ) على الناس بالسيف ثم جعل لمالك السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام وحينما وفد الشافعي عليه فشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه فقال له الوالي: اني أمشي من المدينة الى مكة حافياً راجلا أهون عليّ من أن أمشي الى باب مالك. ولست أرى الذل حتى أقف على باب داره (3).
فرق منحرفة
انتشرت في هذه المرحلة عقائد خاطئة وتأسّست فرق منحرفة من الالحاد والزندقة والغلوّ، والجبرية، والارجاء عقائد خاطئة ذات اصحاب تدافع عنها ولم تكن كل هذه الإعتقادات وليدة هذاالظرف بالذات، وانما نشطت في هذا الجوّ المساعد لنموها، حيث كان بعض الخلفاء يتبنى بعضاً منها ويسمح لانتشار البعض الآخر .
فالغلاة يعتقدون بنبوّة الأئمة، وبعده بالهية جعفر بن محمد الصادق والهية آبائه، وهؤلاء قد تبرّأ منهم الإمام الصادق ولعنهم لعناً مشدداً.
لكن السلطات شجعت من جانب ، والصقت التهمة بهم من جانب آخر بهدف التشويه لحقيقة الشيعة، كما استخدموا هذه التهمة فيما بعد ذريعة ومادّة حكم تبرر لهم اضطهاد الشيعة تحت هذا الاسم فأطلقوا على الشيعة اسم زنادقة ويحق للدولة أن تطاردهم.
لقد عاصر الإمام الكاظم (عليه السلام) تيّاراً آخر كان خطيراً على الاُمة حاضراً ومستقبلا وكان قد وقف بوجهه الإمام الصادق(عليه السلام) وحذّر منه الشباب خاصة ألا وهم المرجئة الذين يقولون بتأخير وارجاء صاحب المعصية الكبيرة الى يوم القيامة فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار.
ويحاول أصحاب هذا الإعتقاد أن يخلطوا الأوراق ويدمجوا بين سلوك الخير وسلوك الشر فلا يفرّق بين سلوك الإمام علي(عليه السلام) وسلوك معاوية ولا بين موقف الحسين(عليه السلام) وموقف يزيد; لان الحكم عليهم في الدنيا ليس من شؤوننا وانما يترك الأمر ليوم القيامة.
ثم تبنّت هذه الفرقة اعتقاداً آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه اذ تكمن خطورته على الشباب خاصة لان هذا الإعتقاد يفسّر معنى الايمان المراد عند الله بأنه الايمان القلبي لا السلوك الخارجي، لان السلوك الخارجي قد يخادع به الانسان فالايمان الذي ينظر إليه الله تعالى هو الايمان القلبي أمّا الممارسات الخارجية فلا اعتبار لها، فإذا زنا الانسان أو شرب الخمر أو قتل نفساً فهذه تصرفات خارجية والمهم أن الانسان يعتقد قلبياً بالله تعالى.
كما روّج في هذه الفترة لفكرة الجبر والتي نشأت في زمن معاوية واستفاد منها بنو العبّاس حيث تقول بأنا لسنا مخيّرين في أفعالنا فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربنا وهكذا.
الملاحظ في كل هذه العقائد والافكار وأصحابها أنّها تخدم السلطة كل واحدة بطريقتها حيث تبرّر للحكّام تصرفاتهم البعيدة عن الاسلام بأفكار وأحكام اعتقادية وتهدّئ الجمهور الإسلامي حين توجّهه بهذه الافكار.
من هنا ندرك السبب الذي جعل من الحكام أن يسمحوا بالانتشار لهذه التيّارات الناشئة من أفكار منحرفة جاء بها اليهود وغيرهم الى العالم الإسلامي.
هذا هو عرض مختصر للظواهر والاحداث السياسية والثقافية والفكرية، التي برزت في عصر المنصور وكان الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) معاصراً لها.
منهج الإمام وأساليبه ومواقفه
أمّا ما هو منهج الإمام وأساليبه ومواقفه في خضم هذه الاجواء المملؤة بالشبهات والتهم والتضييق ؟ !
إنّ حركة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى ان الإمام(عليه السلام) قد مارس اُموراً في سنوات حكم المنصور العشرة بعد استشهاد الإمام الصادق(عليه السلام) .
وقد انتقينا بعض ممارسات الإمام(عليه السلام) التي لا تتعارض مع هذه الفترة وتنسجم مع ظروفها. ثم حاولنا بعد ذلك التركيز على الخط الذي سلكه الإمام بشكل عام تاركين التعرض للتفاصيل.
كما أنّ الخط العام والنهج الذي اتّخذه الإمام في هذه الفترة يتضمّن ما كان يهدف إليه من اُسلوب علاجي لبعض الظواهر الانحرافية، كما يتضمّن ما كان يريد أن يؤسّس فيه لثوابت مستقبلية. من هنا يقع الكلام في هذا البحث ضمن عدّة اتجاهات:
الاتّجاه الأوّل : الإمام الكاظم (عليه السلام) وإحكام المواقع ونتناول في هذا الاتجاه دور الإمام(عليه السلام) في إبرازه للقدرات الغيبية التي تميّز الإمام عن غيره من الادعياء وزعماء الفرق والطوائف الضالّة في زمانه، وبهذا قد لفت أنظار الاُمة وأعطاها حسّاً تقارن وتحاكم به هذه التيّارات وتفرز بين الحق والباطل بماامتلكته من مقاييس مستلهمة من مشاهد مثيرة حسية كان قد حققها الإمام(عليه السلام) .
وهذا ينبئ عن محاولات إسقاط الحيرة الفكرية السائدة في هذه الفترة. والنشاطات التي قام بها الإمام (عليه السلام) في هذا الاتجاه هي كما يلي :
النشاط الأول : إخبار الإمام موسى(عليه السلام) لعامة الناس ببعض الغيبيات التي لا يمكن للانسان العادي أن يتوصّل اليها، والروايات التي تتضمّن هذا النوع من الإخبار كثيرة جداً ننقل بعضاً منها:
المثال الأول : عن اسحاق بن عمار قال: «سمعت العبد الصالح(عليه السلام) ينعى الى رجل من شيعته نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ! فالتفت اليّ شبه المغضَب فقال: يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك، ثم قال: يا اسحاق اصنع ما أنت صانع فإنّ عمرك قد فنى وقد بقي منه دون سنتين... فلم يلبث اسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات»(4).
المثال الثاني: قال خالد بن نجيح: قلت لموسى(عليه السلام) إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة وذكروا أن المفضّل شديد الوجع، فادع الله له. فقال(عليه السلام): «قد استراح»، وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام(5).
المثال الثالث: قال ابن نافع التفليسي: خلّفت والدي مع الحرم في الموسم وقصدت موسى بن جعفر(عليه السلام) فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه فأقبل عليّ بوجهه وقال: «برّ حجك ياابن نافع، آجرك الله في أبيك فإنّه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه، فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلّفته وما به علّة، فقال: ياابن نافع أفلا تؤمن؟ فرجعت فاذا أنا بالجواري يلطمن خدودهنّ فقلت: ما وراكنّ؟ قلن: أبوك فارق الدنيا، قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عمّا أخفاه ورائي فقال لي: أبداً ما أخفاه وراءك، ثم قال: يا ابن نافع ان كان في اُمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه فأنا جنب الله وكلمته الباقية وحجته البالغة»(6).
النشاط الثاني : ومن قدرات الإمام(عليه السلام) الخارقة للعادة والتي تميّزه أيضاً عن غيره هي تكلّمه بعدّة لغات من غير أن يتعلّمها بالطرق الطبيعية للتعلّم، وإنّما بالالهام. وفي هذا المجال تطالعنا مجموعة من الشواهد :
الشاهد الأول : عن أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن الماضي(عليه السلام)، ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلّم الخراساني بالعربية، فأجابه هو بالفارسية.
فقال له الخراساني : أصلحك الله ما منعني أن اكلّمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن فقال: «سبحان الله! إذا كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك؟!»
ثم قال : «يا أبا محمد إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه روح. بهذا يعرف الامام، فاذا لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام»(7).
الشاهد الثاني : روي عن أبي حمزة أنه قال : كنت عند أبي الحسن موسى(عليه السلام) اذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اُشتروا له، فتكلم غلام منهم ـ وكان جميلا ـ بكلام فأجابه موسى (عليه السلام) بلغته فتعجّب الغلام وتعجّبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم.
فقال له موسى(عليه السلام): «اني أدفع اليك مالا، فادفع الى كل (واحد) منهم ثلاثين درهماً».
فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: «إنّه أفصح منا بلغتنا، وهذه نعمة من الله علينا.
قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول الله! رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ! قال: نعم . وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟
قال: نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً وأن يُعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنّه لمّا تكلم كان أعلمهم، فانه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم، وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق.
ثم قال: لعلك عجبت من كلامي ايّاهم الحبشية ؟ قلت: اي والله.
قال(عليه السلام): لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب»(8).
الشاهد الثالث : قال بدر ـ مولى الإمام الرضا(عليه السلام) ـ : «إنّ اسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفر (عليه السلام) فجلس عنده اذ استأذن عليه رجل خراساني يكلّمه بكلام لم يسمع مثله قطّ كأنه كلام الطير.
قال اسحاق : فأجابه موسى(عليه السلام) بمثله وبلغته الى أن قضى وطره في مساءلته، فخرج من عنده، فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام.
قال: هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله .
ثم قال: أتعجب من كلامي بلغته؟ قلت: هو موضع التعجب.
قال(عليه السلام): أُخبرك بما هو أعجب منه انّ الإمام يعلم منطق الطير، ومنطق كلّ ذي روح، وما يخفى على الإمام شيء»(9).
المصادر :
1- الطبري : 6 / 343 و 344 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات .
2- سيرة الأئمة الاثني عشر: 2/325 فصل حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) /الارشاد: 2/209.
3- الأئمة الأربعة لمصطفى الشكعة: 2/100، حياة مالك بن أنس، الفصل الخامس، باب 6 مهابة مالك، سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني: 2/326.
4- اُصول الكافي: 1/484، ح 7، وفي الخرائج والجرائح: 1/310، ح 3: اسحاق بن منصور، وفي اثبات الهداة: 5/541، ح 78: اسماعيل بن منصور عن أبيه. وفي بحار الأنوار: 48/68، ح 90 ـ 91 عن الكافي والخرائج.
5- بصائر الدرجات: 264 ح 10، واخبار معرفة الرجال: 329 ح 597، والخرائج والجرائح: 2/715 ح 13.
6- مناقب آل أبي طالب: 4/311 وعنه في بحار الأنوار: 48/72 .
7- قرب الاسناد : 265، ح 1263 وعنه في بحار الأنوار: 25/133، ح 5، واثبات الهداة: 5/535 ح 72.
8- قرب الاسناد: 262، ح 1257 ودلائل الإمامة: 169، والخرائج والجرائح: 1/312، ح 5 .
9- دلائل الإمامة: 171 وعنه في مدينة المعاجز: 438 ح 38، والخرائج والجرائح : 1 / 313، ح 6
source : rasekhoon