عربي
Saturday 23rd of November 2024
0
نفر 0

من کرامات الامام الهادي عليه السلام

هذا العنوان ينفّر بعض سامعيه قبل أن يطّلعوا على تفاصيله وحقيقة أمره. ولكنهم حين يعلمون أنّ مصدر الآيات كلّها واحد، وهو الله سبحانه وتعالى - سواءً أنزلها للرّحمة أم للنقّمة، فإن المستغربين حينئذٍ لا يعجبون..
من کرامات الامام الهادي عليه السلام

هذا العنوان ينفّر بعض سامعيه قبل أن يطّلعوا على تفاصيله وحقيقة أمره. ولكنهم حين يعلمون أنّ مصدر الآيات كلّها واحد، وهو الله سبحانه وتعالى - سواءً أنزلها للرّحمة أم للنقّمة، فإن المستغربين حينئذٍ لا يعجبون..
وما زالت الخوارق والمعاجز بإذنه تعالى، وبقدرته ومشيئته، فلا عجب إذاً - إذا أجراها على يد النبيّ، والوصيّ، والعبد الصالح.. ولا ينبغي أن تنفر النفوس من ذكر الآيات والمعاجز وخوارق الطبيعة لمجرّد أن العقول لا تستوعب حدوثها ولا يقدر الآخرون على القيام بمثلها. فالأمر - بحدّ ذاته - يدور - إذاً - بين أنّ الله تعالى قادر على أن ينزّلها، أو أنّه - والعياذ به سبحانه - غير قادر!.
أما هو تبارك وتعالى فيقول في محكم كتابه: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)(1). ويقول عزّ من قائل: (إنّما الآيات عند الله)(2). وقال تعالى أيضاً: (وما كان لرسولٍ أن يأتي بآيةٍ إلاّ بإذن الله)(3). فمن صدّق به - تعالى وعزّ قائلاً - وآمن بأنها من عنده سبحانه، وأنّه قادر على إنزالها متى شاء لمصلحة العباد والحكمةٍ تقتضيها مشيئته ولزوم الأمر، صدّق بحدوثها. ومن كذّب بذلك فله مكان في حظيرة الملحدين والمكابرين يأوي إليها يوم الدّين، ولا شأن لنا معه ما زال سيكون لجهنّم حطباً.
فالآيات من عنده سبحانه.. ولا تصدر إلاّ عن أمره وبقدرته التي تفوق ما ألفه النّاس عرفاً وعادةً، فتنزل على يد الرّسول لمصلحة أمّته.. وعلى يد وصيّ رسوله - لأنه وليّه على الخلق - لإثبات وصايته وولايته، فتكشف للناس على يد كلٍّ منهما - صدّق دعوته وكونه على الحق.. ولا غرابة في نزولها حين نؤمن بحكمة الله تعالى، ولا تجفل نفوسنا من اسمها بمقدار ما تجفل حين وقوعها وصدورها.
وهي إنّما تنزل لتهزّ ضمائر الناس وتوقظها بعد إثارة إعجابهم.. ولتفتح عليهم باب التفكّر.. والتدبّر.. والاختيار بين طريق الحقّ، وطريق الباطل.. وإن هي نزلت فإنّما تنزل في مناسباتٍ يكون لا مناص منها، ولا مخرج إلاّ بها، إذ تكون تلك المناسبات عظيمةً يبارز الله تعالى فيها - علناً وعناداً - في قدرته، وتتحدّى فيها مشيئته.. فيظهر قدرته الفائقة الوصف..
فالنبيّ، والوصيّ، بلا آياتٍ - وبلا معاجز - يكونان منتدبين للأمر العظيم - الذي أقلّه حرب الكفر وأهل العناد - بلا سلاحٍ ولا عدّة.. ويكونان سفيرين لله تعالى مجرّدين من أهمّ عوامل القوّة للوقوف في وجه التكذيب، وللثبات في ساحة الدفاع عن أمره عزّ وعلا.. فالآيات والمعاجز سلاح سفير السماء في الأرض حين لا تنفع الحسنى ولا الموعظة ولا الإنذار. وهي رأس ماله الربّانيّ الذي يطرحه كرصيدٍ كلّما كشّر الضلال في وجهه وتحدّى الكفر قدرة ربّه!.
أمّا أن يرسل الله نبيّاً ويكله إلى نفسه، أو أن يختار حجةً على الناس ويصرف وجهه الكريم عنه ولا يمنحه التسديد والتأييد، فأمران من المحال، إذ لا يعقل أن أبعث مندوباً عنّي يضارب في السوق التجاريّ - أو في البورصة والحرب الماليّة - صفر اليدين ومن غير مال، كما أنّ الدولة لا تلقي بالجنديّ في ساحة الحرب والدفاع عن الوطن دون سلاح.
فاستهجان الآيات قائم في نفوس الناس من جهة أنّ الآتين بها هم (بشر) من البشر ويبدون كسائر الناس - وإن فاقوهم في المزايا الكريمة والخلق الرفيع - ثم يقومون بالخوارق ويأتون بما لا يستطيع الناس أن يأتوا بمثله.. أما لو كانت الخوارق تأتي عن أيدي أفرادٍ من غير جنس البشر، فإنه يكون للبشر منها موقف آخر. ولذا نرى أنه ما من أناسٍ جاءهم أنبياء يبشّرون وينذرون، إلاّ (قالوا ما أنتم إلاّ بشر مّثلنا)(4). فلا نؤمن لبشر.. (أبشر يهدوننا)(5) (فكفروا وتولّوا)(6). لهذا السبب أولاً وبالذات.
فلو مسحنا من أذهاننا هذه الأفكار الموروثة الصدئة، لرأينا الأمر أبسط ممّا نتوهّم، ولآمنّا بالآيات والمعجزات والخوارق التي يأتي بها النبيّ أو الوصيّ الذي تجهّزه دولة السماء بكلّ ما تشاء له من قوّةٍ بعد أن جعلته (منتدباً عنها فوق العادة) وذا حصانةٍ لا يرفعها إلاّ خالقها عزّ وجلّ.
وعلى كلّ حالٍ، قد مررنا بالكثير الكثير من آيات إمامنا (عليه السلام) عبر فصول هذا الكتاب منذ عهد ولادته وحتى هذا الفصل، ونشفع ذلك الذي مرّ، بهذه الطائفة التي نوردها فيما يلي، مستفتحين ذلك بقصّتين مختصرتين تعبّران عن معنى الآية الخارقة للعادة والعرف أوضح تعبير:
أولاهما رواها محمد بن الفرج الذي قال:
(قال عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام): إذا أردت أن تسأل مسألةً فاكتبها وضع الكتاب تحت مصلاّك ودعه ساعةً، ثم أخرجه وانظر.
ففعلت، فوجدت جواب ما سألته عنه موقّعاً فيه)(7).
وهذه من العجائب حقّاً!. ولا تحدث بحسب العادة والمألوف، ولا تكون حتى بالسّحر.. إذ كيف انتقلت المسألة من تحت المصلّى فاطّلع عليها الإمام (عليه السلام) وأجاب عنها ووقّع الجواب، ثم أعيدت إلى مكانها؟!.
إنها آية تتحدّى المألوف.. وتضرب العرف والعادة.. وهي معجزة تكشف عن سرٍّ مكنونٍ عند أمين الله في أرضه!. ولو استطعنا تفسيرها وتحليلها لبطل كونها خارقةً يعجز غير الإمام عن الإتيان بها، لأن الإمام - وحده - يعمل بين يديه ملائكة مسخّرون لأمره، بأمر ربّه عزّ وجلّ..
والثانية أعجب وأكثر غرابة. وهي ما رواه السيد ابن طاووس في كشف المحجّة بإسناده، من كتاب الرسائل للكليني عمّن سمّاه، قال:
(كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): إنّ الرجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربّه.
قال: فكتب: إن كان لك حاجة فحرّك شفتيك، فإنّ الجواب يأتيك)(8).
فهل استغربتها وعجبت مثل عجبي منها؟ إذن هي معجزة لا تصدر إلاّ عن إمام.. ولا تقع إلاّ مع وليّ مخلصٍ امتحن الله تعالى قلبه بالإيمان. وهي والتي سبقتها دلالتان على إمامة الإمام وحجيّته بين عباد الله. ولو كانتا غير عجيبتين لفقدتا قيمتهما ولكان الآتي بهما إنساناً عاديّاً.. وليس إماماً.. ومثلهما آيات نوحٍ، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم، فإنها كانت خوارق للعادة.. عجيبةً، مدهشةً.. صدرت بإذن الله وبتقديره وتدبيره.. وعينه وحكمته.
وآيتا الإمام اللتان ذكرناهما، هما - بحدّ ذاتهما - أسهل استساغةً من سفينة نوحٍ وطوفانه، ونار النمرود التي زجّ فيها نبيّ الله إبراهيم، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى، ومعاجز محمدٍ الذي سبّح الحصى بيده ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وكلّمه الطير والوحش!.
فإذا أردت أن تسمع عجيباً وغريباً يقول عنه المنافقون: سحر وتخييل، وهو بالحقيقة من منح الربّ الجليل، فامح من قلبك النّكتة السوداء، ونظّف نفسك من أدران رواسب الجاهلية العمياء، واستقبل آيات هذا الإمام الكريم على الله سبحانه بقلبٍ نقيّ ونفسٍ صافيةٍ، واستمع إلى ما ذكره أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري الذي قال:
(حدثنا سفيان عن أبيه، قال: رأيت عليّ بن محمدٍ ومعه جراب ليس فيه شيء. فقلت أتراك ما تصنع بهذا؟
فقال: أدخل يدك.
فأدخلت يدي، وليس فيه شيء.
ثم قال لي: عد.
فعدت فإذا هو مملوء دنانير!.)(9).
ما أشبهها بلعبة (الكلا كلا) والسّحر والشعوذة.. لولا أنها حقيقة لا تخييل فيها ولا تضليل.. فالجراب مملوء بالدنانير واقعاً.. ولو كنت حاضرها لنالك من الدنانير نصيب.. وقد مررت بنظائر لها من معاجز إمامنا (عليه السلام)، وستمرّ بكثيرٍ من أمثالها.
فكيف امتلأ ذلك الجراب بالدنانير، لولا القدرة الخفيّة التي تفيض الوجود من كتم العدم بمشيئة الربّ القدير؟!. إنّ تلك القدرة الهائلة لم يعجزها إيجاد الكائنات بأنواعها، مع خصائصها، وأحجامها، وأبعادها، وأنظمتها الأزليّة التي تمسك السماء أن تقع على الأرض.. وتنير الشمس فلا يطفئها طول الزمان.. وتحمل الكواكب في الأفق اللامتناهي فلا تضطرب ولا تتناثر ولا تحول ولا تزول!!! ولا تعجز عن إيجاد دنانير، تملأ الجراب الصغير.. ولا هي عجزت عن خلق ناقة صالح (عليه السلام) من بطن الصخرة الصّماء: وبراء، عشراء، ذات حياةٍ ورغاء.. وإحداث آيات مذهلات..

ومثلها ما ذكره الطبريّ عن عمارة بن يزيد الذي قال:

قلت لعليّ بن محمد بن الرّضا: هل تستطيع أن تخرج من هذه الأسطوانة رمّانة؟
قال: نعم، وتمراً، وعنباً، وموزاً.
ففعل ذلك، وأكلنا وحملنا(10).
ولو كان غير حقيقيّ - كالسّحر والشعوذة - لما أكلوا، ولما حملوا..
وهذه الآيات يقف الفكر أمامها حائراً، ويحرن العقل تجاهها مزورّاً، فلا تدخل إليه إلاّ بعسرٍ شديد.. لأنه لا يستطيع فلسفة الآية التي تقلب العصا حيّةً تلقف حبال سحرة فرعون، وتجعل نار النمرود برداً وسلاماً على إبراهيم، وتنقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى القدس بأقلّ من طرفة عين!.
أجل، إنها معاجز يعجز أمام تحليلها الفكر، ولا يؤمن بها إلاّ من قد آمن بربّه ربّاً قادراً لا يعجزه شيء، وبالملائكة والرّسل والكتب.. ولا يأتي بها إلاّ نبيّ، أو وصيّ بإذن ربّه وقدرته الفائقة.. وهي لا تقع بدون مناسبةٍ هامّةٍ يترتّب عليها أثر هام، لأن الإمام لا يجمع الناس في الساحات ليتفرّجوا على آياته وبيّناته، ولا من شأنه عرض ذلك كما يفعل السّحرة والمشعوذون.
وقال محمد بن يزيد: (كنت عند عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، ولاذ به قوم يشكون الجوع. فضرب يده إلى الأرض، وكال لهم بُراً ودقيقاً)(11).
فبوركت يد تجعل التراب مرّةً بُرّاً، وأخرى دقيقاً، وتحيل الرمل ذهباً مرةً ثالثةً بإذن ربّها!. وإنّها ليد مباركة تحرّكها إرادة الرحمن، فتفعل بقدرته ما يبهر الإنسان، ويدفع البهتان، ويدع العقل يعمل بسّرعة الكهرباء ليقف في مصافّ المؤمنين المصدّقين، أو في عداد المنافقين الذين تأخذهم العزّة بالإثم.. فالإنسان أمام هذه الظواهر المدهشة إمّا أن يهضمها بإيمان.. وإمّا أن يصعّر خدّه عنها بكبر وبنفثة شيطان.. ولا حال بين الحالين.. ونحن ننقلها إلى الأخوة الأحبّة من القرّاء بأمانةٍ، ليتفكّروا ويتدبّروا ويختاروا التصديق أو التكذيب.
وذكر القطب الراوندي أنّ جماعةً من أهل أصفهان - منهم أبو العباس، أحمد بن النضر، وأبو جعفر، محمد بن علويّة - قالوا:
(كان بأصفهان رجل يقال له عبد الرحمن، وكان شيعيّاً. فقيل له: ما السبب الذي أوجب عليك القول بإمامة عليّ النقيّ دون غيره من أهل الزمان؟
فقال: شاهدت ما أوجب عليّ ذلك. وذلك أني كنت رجلاً فقيراً وكان لي لسان وجرأة، فأخرجني أهل أصفهان سنةً من السنين مع قومٍ آخرين فجئنا إلى باب المتوكل متظلّمين.
وكنّا بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإحضار عليّ بن محمدٍ الرّضا (عليه السلام). فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره)؟
فقيل: هذا رجل علويّ تقول الرافضة بإمامته. ثم قيل: ونقدّر أنّ المتوكل يحضره للقتل.
فقلت: لا أبرح من هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو.
فأقبل راكباً على فرسٍ وقد قام الناس صفّين يمنة الطريق ويسرَتها ينظرون إليه.
فلمّا رأيته وقفت فأبصرته، فوقع حبّه في قلبي، فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شرّ المتوكل.
فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابّته لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً، وأنا أكرّر في نفسي الدعاء له.. فلمّا صار بإزائي أقبل بوجهه عليّ وقال: قد استجاب الله دعاءك، وطوّل عمرك، وكثّر مالك وولدك.
قال: فارتعدت من هيبته، ووقعت بين أصحابي..
فسألوني: ما شأنك؟
قلت: خير.. ولم أخبرهم بذلك.
فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان، ففتح الله عليّ وجوهاً من المال حتى أنّي اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري!. ورزقت عشرةً من الأولاد، وقد بلغت الآن من عمري نيّفاً وسبعين سنةً، وأنا أقول بإمامة هذا الرجل الذي علم ما في قلبي، واستجاب الله دعاءه فيّ ولي)(12).
ونأسف أن عبد الرحمن هذا، قد مات برغم طول عمره، وليس في يدنا ولا في مقدورنا أن نسأله عن كيفيّة تأثير كلام الإمام (عليه السلام) في نفسه لدرجةٍ بلغ معها مبلغاً ارتعدت منه فرائصه ووقع على وجهه مغشيّاً عليه بين أصحابه!. ولكننا نقف ذاهلين أمام علم الإمام الذي نفذ إلى ضمير عبد الرحمن فاطّلع على ما في نفسه، وقرأ غيرته عليه، ووقوع حبه في قلبه، ودعاءه له خفيةً عن غيره!.
وفي كلّ حالٍ لا ينقضي عجبنا من انكشاف سريرة (واحدٍ) يقف بين (آلاف المتفرّجين) علي يمين الشارع العامّ ويساره، وهم جميعاً يختلسون النظر إلى (رجلٍ) أمر الخليفة بإحضاره لقتله.. ولا يمنعنا من التساؤل:
كيف سمع الإمام وسوسة صدر عبد الرحمن وما دار في خاطره وما حدّثته به نفسه؟!. وكيف وعى ما يجول في فكره من دعاء وتمنيّات!.
ثم ما هذه الثقة بالله عند الإمام الذي يقول لرجل لا يعرفه ولا رآه سابقاً، ولا سمع له قولاً: قد استجاب الله دعاءك، وطوّل عمرك، وكثّر مالك وولدك؟!.
إنّ كلّ التساؤلات التي تخطر في البال حول مآتي الإمام، تنمحي ولا تدور في فكر من كان في قلبه إيمان.. ويحل محلّها تقديس الله وتسبيحه والإقرار بعظمته وقدرته.. ويريح الإنسان من الضياع والسيّر في الفراغ..
قال أبو الحسن، محمد بن إسماعيل بن أحمد القهقلي، الكاتب بسرّ من رأى سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة ومائتين:
(حدّثني أبي، قال: كنت بسرّ من رأى أسير في درب الحصى، فرأيت (يزداد) الطبيب النصرانيّ، تلميذ بختيشوع، وهو منصرف من دار موسى بن بغا، فسايرني وأفضى الحديث إلى أن قال لي: أترى هذا الجدار.. تدري من صاحبه؟
قلت: ومن صاحبه؟
قال: هذا الفتى العلوي الحجازيّ - يعني عليّ بن محمد بن الرّضا (عليهم السلام) وكنّا نسير في فناء داره.
قلت ليزداد: نعم، فما شأنه؟
قال: إنه كان مخلوق يعلم الغيب!
قلت: فكيف ذلك؟!
قال: أخبرك عنه بأعجوبةٍ لن تسمع بمثلها أبداً ولا غيرك من الناس!. ولكن لي الله عليك كفيل وراعٍ أن لا تحدّث بها أحداً، فإنّي رجل طبيب ولي معيشة أرعاها عند السلطان، وبلغني أنّ الخليفة استقدمه من الحجاز فرقاً منه لئلاًّ ينصرف إليه وجوه الناس، فيخرج هذا الأمر عنهم - يعني عن بني العباس - .
قلت: عليّ ذلك، فحدّثني به وليس عليك بأس. إنّما أنت رجل نصراني لا يتّهمك أحد فيما تحدّث به عن هؤلاء القوم.
قال: نعم، أعلمك.. إنّي لقيته منذ أيامٍ وهو على فرسٍ أدهم، وعليه ثياب سود، وعمامة سوداء، وهو أسود اللون. فلمّا بصرت به وقفت إعظاماً له وقلت في نفسي - لا وحقّ المسيح ما خرجت من فمي إلى أحدٍ من الناس - قلت في نفسي: ثياب سوداء، ودابّة سوداء، ورجل أسود؟!!
فلمّا بلغ إليّ نظر إليّ وأحدّ النظر وقال: قلبك أسود ممّا ترى عيناك من سوادٍ في سوادٍ في سواد.
قال أبي (رحمه الله) (للطبيب): فقلت له: أجل فلا تحدّث به أحداً. فما صنعت، وما قلت؟!.
قال - أي الطبيب -: أسقط في يدي، فلم أحر جواباً.
قلت له: فما أبيضّ قلبك لما شاهدت؟!.
قال: الله أعلم.
قال أبي: فلمّا اعتلّ (يزداد) بعث إليّ فحضرت عنده، فقال: إنّ قلبي قد ابيضّ بعد سواده، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ عليّ بن محمّدٍ حجة الله على خلقه، وناموسه الأعظم. ثم مات في مرضه ذلك، وحضرت الصلاة عليه رحمه الله)(13).
وقبل أن نقف مع قصة (يزداد) نورد للقارئ قصةً أخرى ذكرها هبة الله بن أبي منصور الموصلي الذي قال:
(كان بديار ربيعة كاتب لها نصرانيّ، وكان من (كفرتوثا) - القرية الكبيرة الواقعة بين دجلة والفرات - يسمّى يوسف بن يعقوب. وكان بينه وبين والدي صداقة، فوافانا فقال له والدي: فيم قدمت في هذا الوقت؟
قال: دعيت إلى حضرة المتوكل، ولا أدري ما يراد منّي. إلاّ أنّي اشتريت نفسي من الله بمائة دينار، وقد حملتها لعليّ بن محمدٍ الرّضا (عليهما السلام) معي.
فقال له والدي: قد وفّقت في هذا.
قال: وخرج إلى حضرة المتوكل، وجاءنا بعد أيام قلائل فرحاً مسروراً مستبشراً.
فقال له والدي: حدّثني حديثك.
قال: صرت إلى سرّ من رأى وما دخلتها قطّ - أي أنه لم يدخلها قبلئذٍ - فنزلت في دار وقلت: يجب أن أوصل هذه المائة دينار إلى ابن الرّضا قبل مصيري إلى باب المتوكل، وقبل أن يعرف أحد قدومي.
وعرفت أنّ المتوكل قد منعه من الرّكوب وأنّه ملازم داره - أي بالإقامة الجبريّة - فقلت: كيف أصنع؟!. رجل نصرانيّ يسأل عن ابن الرّضا!، لا آمن أن يُنذر بي، فيكون ذلك زيادةً في ما أحاذره.
قال: ففكّرت ساعةً في ذلك، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد، فلا أمنعه حيث يذهب، لعلّي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل أحداً.. فجعلت الدنانير في كاغذٍ - ورقة، أو كيس من ورق - وجعلتها في كمّي وركبت. وكان الحمار يتخرّق في الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء، إلى أن صرت إلى باب دارٍ، فوقف الحمار.. فجهدت أن يزول فلم يزل!. فقلت للغلام: سل لمن هذه الدار؟، فقيل: دار ابن الرّضا (عليه السلام).. فقلت: الله أكبر!. دلالة والله مقنعة.
قال: فإذا خادم أسود قد خرج فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟
قلت: نعم.
قال: فأنزل.. فنزلت فأقعدني في الدهليز ودخل. فقلت في نفسي: هذه دلالة أخرى. من أين عرف هذا الغلام اسمي واسم أبي وليس في البلد من يعرفني ولا دخلته قطّ؟!!
فخرج الخادم فقال: المائة دينار التي في كمّك في الكاغد، هاتها.
فناولته إيّاها؛ وقلت: هذه ثالثة.
ثمّ رجع فقال: ادخل..
فدخلت وهو في مجلسه وحده، فقال: يا يوسف ما آن لك؟! - أي ما آن أن تسلم بعد هذه الدلائل الغيبيّة العجيبة - .
فقلت: يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى.
فقال: هيهات، إنّك لا تسلم؛ ولكن سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا. يا يوسف، إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم، كذبوا والله، إنّها لتنفع أمثالك. امض فيما وافيت له فإنك سترى ما تحب. وسيولد لك ولد مبارك.
قال: فمضيت إلى باب المتوكل فنلت كلّ ما أردت، وانصرفت.
قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد هذا وهو مسلم حسن التشيّع، فأخبرني أنّ أباه مات على النصرانيّة، وأنّه أسلم بعد موت أبيه، وكان يقول: أنا مؤمن ببشارة مولاي (عليه السلام)(14).
والعجيب في هذه القصة أنّ الحمار اهتدى للدار من دون دليل.. وراكب الحمار - يوسف بن يعقوب - لم يهتد إلى الحقّ مع دلالاتٍ ثلاثٍ قويّة البرهان لمسها بنفسه وعدّها واحدةً بعد واحدة!.
والأعجب في أمره أنه اشترى نفسه من الهلاك الذي كان ينتظره بمائة دينار نذرها للإمام (عليه السلام) إن نجّاه الله تعالى من يدي الخليفة الذي أرسل بطلبه. وأنّه لم ينشئ النّذر إلاّ عن إيمان بأن المنذور له ذو دعاءٍ مستجابٍ وصاحب كراماتٍ عند ربّ الأرباب، وأنّه حار في أمر إيصال النّذر إليه لجهله بمنزله فدلّه الحمار على المنزل، ثم لمّا حرن الحمار أمام باب الدار نودي باسمه وباسم أبيه من غلام أسود لا يعرفه، وأنّه خوطب باسمه من قبل الإمام (عليه السلام)، وعوتب على عدم اقتناعه بالبراهين السابقة وعدم إظهار التسليم والإسلام.. وأنّه - بالأخير - اعترف بكفاية البراهين والدلائل لمن أراد أن يكتفي - أقول: والأعجب في أمره أنّه لم يسلم، ولم يؤمن!!!
ولكنّ هذا العجب ينتهي بعد أن ينفتح الباب عمّا هو أعجب منه وأعظم، وهو قول الإمام (عليه السلام) له: هيهات، إنّك لا تسلم!. ثم يبشّره بمولودٍ مبارك يكون من شيعته!.
فلا عتب على من كان دليله حماراً.. إذا بقي على جهله!. لأنّ من كان دليله عقله - كيزداد، الطبيب - آمن وصدّق وأيقن.. وكان من الفائزين.
ومرحى لك يا (يزداد) إذا جعل الله تعالى خير أيّامك ما ولي آخر عمرك، وكان أفضل أيام حياتك خواتيمها، حيث ختم لك بخير لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله. فستبعث بريئاً نظيفاً كيوم ولدتك أمّك.. وقد أبيضّ قلبك الأسود قبل فراق هذه الدنيا الزائلة إلى الآخرة الباقية الخالدة.. فما أحسن ما استهلّيت به أول يوم من أيّام آخرتك.. وكان الحقّ معك حين طلبت من صاحبك أن يكتم أمرك لأنّ سلطان زمانك كان يستلّ لسانك من فمك إن هو سمع ما فهت به يومذاك.. وإذ أهنّئك بنهايتك السعيدة، لا لآسى على أولئك السلاطين المتربّبين على النّاس، فقد أعماهم التسلّط على رقاب العباد، وأطغاهم إمهال الله تعالى لهم، فعاثوا في الأرض فساداً وانصبّ همّهم واهتمامهم على عداوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكيده في عترته الطاهرة.. ثم لم يفرغوا من ذلك إلى شيءٍ غيره..
فكيف يقابل وجه الله أولئك السلاطين.. حين تنصب الموازين؟!.
وكيف يلاقون رسوله الكريم وأيديهم ملطّخة بدماء ذرّيته وأهل بيته؟!
وعن محمد بن داود القمي، ومحمد بن طلحة، قالا: (حملنا مالاً من خمسٍ ونذرٍ وهدايا وجواهر اجتمعت في قمّ وبلادها، وخرجنا نريد بها أبا الحسن الهادي (عليه السلام)، فجاءنا رسوله في الطريق أن ارجعوا فليس هذا وقت الوصول.. فرجعنا إلى قمّ وأحرزنا ما كان عندنا.
فجاءنا أمره بعد أيام أن قد أنفذنا إليكم إبلاً وعيراً فاحملوا عليها ما عندكم وخلّوا سبيلها.
قالا: فحمّلناها وأودعناها الله..
فلمّا كان من قابل قدمنا عليه، فقال: انظروا إلى ما حمّلتم إلينا.
فنظرنا فإذا المنائح كما هي)(15) - والمنائح هي الهدايا والعطايا - .
هذه العير والإبل سارت وحدها ما بين قمّ في إيران، وسامرّاء في العراق وعلى ظهورها الأموال والجواهر والثياب.. فمن كان دليلها وحاديها وحارسها عبر ذلك السفر الطويل؟!!
ومن جنّبها الوقوع في قبضة جلاوزة السلطان، وأوصلها إلى مكان قصدها بأمان؟!!
ولماذا أتى الإمام (عليه السلام) بهذه الآية بين طرفي دولة بني العباس شرقاً وغرباً؟!.
إنه سلام الله عليه وتحيّاته وبركاته، قد تعمّدها لتتحدّث بها الرّكبان.. وليغطّي ذكرها آفاق دولة السلطان، فتكون آيةً بيّنة تتناقل من شفةٍ إلى لسان، فشفةٍ فلسانٍ.. حتى تصلنا في أيامنا هذه فيقوى بها إيمان الوليّ، وتكون قذى في عين عدوّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعدوّ ذرّيته..
وقال الفحّام: (حدّثني المنصوري عن عمّ أبيه، وحدّثني عمّي، عن كافور الخادم الذي قال:
(كان في الموضع مجاور الإمام من أهل الصنائع صنوف من الناس، وكان الموضع كالقرية. وكان يونس النّقّاش يغشى سيّدنا الإمام (عليه السلام) ويخدمه.
فجاءه يوماً يرعد، فقال: يا سيّدي أوصيك بأهلي خيراً.
قال: وما الخبر؟
قال: عزمت على الرحيل.
قال: ولم يا يونس؟ وهو (عليه السلام) متبسّم.قال: موسى بن بغا وجّه إليّ بفصٍّ ليس له قيمة - أي أنه ثمين لا تقدّر قيمته - أقبلت أن أنقشه فكسرته باثنين، وموعده غداً.. وهو موسى بن بغا، إمّا ألف سوطٍ، وإمّا القتل!.
قال: امض إلى منزلك إلى غدٍ، فما ترى إلاّ خيراً.
قال: وما أقول له يا سيّدي؟!.
قال: فتبسّم وقال: امض إليه واسمع ما يخبرك به، فلن يكون إلاّ خيراً.
قال: فمضى، وعاد يضحك، وقال. قال لي يا سيّدي: الجواري اختصمن، فيمكنك أن تجعله فصّين حتى نغنيك.
فقال سيّدنا الإمام (عليه السلام): اللّهم لك الحمد إذ جعلتنا ممّن يحمدك حقّاً، فأيش قلت له؟ - وهي لغة تعني: أيّ شيء؟ - .
قال: قلت له: أمهلني حتى أتأمّل أمره كيف أعمله.
فقال: أصبت)(16).
(فبأيش) نعلّق على هذا الغيب من غيبك يا ربّ؟!. وهل نملك أكثر من القول بأن الإمام (عليه السلام) علم بما يكون في اختلاف الجواري بشأن ذلك الحجر الكريم، والاتفاق على جعله نصفين؟!. وإذا قلنا ذلك، ورد السؤال: من أين له علم ذلك.. وورد سؤال بعد سؤال، وإشكال بعد إشكال.. إننا إذا أردنا التعليق وجب أن يكون تعليقنا كفاء علم الإمام (عليه السلام).. ومن أين لنا ذلك ونحن أطفال كلامٍ في معايير التحليل والتعليق!
إنّه لا يغلب الناس إلاّ من يقول: أعطاني ربّي.. والأئمة (عليهم السلام) أعطاهم ربّهم عزّ وعلا، وأنالهم وأنال، حتى يعيا المكيال وينقطع النفس..

قال أحمد بن يحيى الأوديّ:

(دخلت مسجد الجامع لأصلّي الظّهر. فلمّا صلّيت رأيت حرب بن الحسن الطحّان وجماعةً من أصحابنا جلوساً، فملت إليهم فسلّمت عليهم وجلست. وكان فيهم الحسن بن سماعة - من شيوخ الواقفة - فذكروا الحسن بن عليّ (عليه السلام) وما جرى عليه، ثم من بعد زيد بن عليّ وما جرى عليه، ومعنا رجل لا نعرفه، فقال:
يا قوم، عندنا رجل علوي بسرّ من رأى من أهل المدينة ما هو إلاّ ساحر أو كاهن.
فقال له ابن سماعة: بمن يعرف؟
قال: عليّ بن محمد بن الرّضا.
فقال له الجماعة: فكيف تبيّنت ذلك منه؟
قال: كنّا جلوساً معه على باب داره، وهو جارنا بسرّ من رأى نجلس إليه كلّ عشيّةٍ نتحدّث معه، إذ مرّ بنا قائد من دار السلطان ومعه خلع ومعه جمع كثير من القوّاد والرجّالة والشاكريّة - أي الأجراء والمستخدمين - وغيرهم، فلمّا رآه عليّ بن محمدٍ وثب إليه وسلّم عليه وأكرمه.
فلمّا أن مضى قال لنا: هو فرح بما هو فيه، وغداً يدفن قبل الصّلاة!.
فعجبنا من ذلك، فقمنا من عنده فقلنا: هذا علم الغيب!. فتعاهدنا ثلاثةً إن لم يكن ما قال أن نقتله ونستريح منه.
فإنّي في منزلي وقد صلّيت الفجر إذ سمعت جلبةً فقمت إلى الباب فإذا خلق كثير من الجند وغيرهم، وهم يقولون: مات فلان القائد البارحة. سكر وعبر من موضع إلى موضع فوقع واندقّت عنقه!.
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وخرجت أحضره وإذا الرجل - كان كما قال أبو الحسن - ميت؛ فما برحت حتى دفنته ورجعت!. فتعجبنا جميعاً من هذا الحال)(17).
فلا تغلط أيّها الضّيف السامرّائيّ في تفسير آيات الله ودلائل عظمته!. ولا تخلط بين الآيات وبين السّحر والشعوذة! فليس الرجل الذي رأيته ساحراً ولا كاهناً كما زعمت، ولكنه عالم أهل بيت النبوّة صلوات الله عليهم، وهو لا يرجم بالغيب، بل ينطق عن علم ثابتٍ محفوظٍ في صدره استقاه عن آبائه عن جدّه (صلّى الله عليه وآله) عن جبرائيل (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى.. وتعاهدك مع رفيقيك على قتل الإمام إذا لم يقع ما وعد به للاستراحة منه، تعاهد سفَه أريح لك من الوفاء به لأنه تعاهد كفرٍ ونفاق كتعاهد كفّار قريش ورؤوس الضلال من أكابر مكّة حين تواطئوا على قتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فإنّ ما يقوله الإمام لا بدّ أن يقع إذ هو من المحتوم الذي أطلعه عليه الحيّ القيّوم!. ولذا فإنّ إجلاب الجند وضجيجهم قد طرق سمعك مع صلاة الفجر ليؤذنك بصدق الإمام (عليه السلام)، وبموت القائد الفرح المرح.. فاهمس في أذني رفيقيك أنّك وإيّاهما كنتم في ضلالٍ عن الحقّ كأكثر المعاصرين لكم إذ استحوذ عليهم الشيطان وأنساهم أنّهم على دين نبيّ عظيم لم يعملوا بما أمر ولم ينتهوا عمّا نهى عنه وزجر، بل وجدوا آباءهم على طريق ضلال فسلكوه، وخالفوا أوامر ربّهم ونواهيه، وما أغنت عنهم الآيات ولا النّذر.. فأدّى بهم غرورهم إلى مصير وبيل، بعد أن رضوا بالعيش - صرفاً - بين المعتلف والنّثيل!.
وعن الحسن بن إسماعيل، عن شيخٍ من أهل النهرين، قال:
(خرجت أنا ورجل من أهل قريتي إلى أبي الحسن بشيءٍ كان معنا، وكان بعض أهل القرية قد حمّلنا رسالةً ودفع إلينا ما أوصلناه وقال: تقرئونه منّي السلام وتسألونه عن بيض الطائر الفلانيّ من طيور الآجام هل يجوز أكله أم لا؟
فسلّمنا ما كان معنا إلى جاريةٍ، وأتاه رسول السلطان فنهض ليركب، وخرجنا من عنده ولم نسأله عن شيء.. فلمّا صرنا في الشارع لحقنا (عليه السلام) وقال لرفيقي بالنبطيّة: أقرئه منّي السلام وقل له: بيض الطائر الفلانيّ لا تأكله فإنه من المسوخ)(18).
فمن أين له باللغة النبطية ومن علّمه إياها؟ ولم اختار التكلم بها؟!. وهل كان على إمامنا (عليه السلام) أن يخاطب أهل عصره باللّغة (النبطيّة) حتى يسمعوا ويعوا؟!! لا، أبداً،. ولقد استعمل معهم كل وسيلة، وسلك كلّ طريقةٍ يمكن أن تؤدّي إلى الهدى للولاية الرّبانية، فما ازدادوا إلاّ بعداً وضلالاً وتمسّكاً بما ورثوه عن أجدادهم وآبائهم من التنكّر للحق، وما زادهم دعاؤه لهم إلاّ فراراً، ركضاً وراء شهوات الدّنيا ولذائذ العيش التي حرمتهم من إيمانٍ ما كان ليحرّم عليهم شهوةً محلّلةً، ولا لذّةً مباحة مسوّغةً!.
فيا ليتهم كانوا يسمعون، ويعقلون.. لينزعوا من عقولهم الصدئة أنّ الإمام واحد عاديّ كسائرهم، أو إنّما كان أفقه وأحسن أخلاقاً منهم.. فقط!. جاهلين مرتبته الربّانية، وسرّه الإلهيّ وأنّ قوله مُنزل من المنزل وليسوا بمخيّرين بين قبوله أو رفضه، ولا صدقه موقوف على اعترافهم التافه الذي لا يحتاج إليه ظهور حقّه وصدقه.
والآن انظر إلى ما أصاب محمداً بن عبد الله القميّ - الشيعيّ - من مكروهٍ حين خالف أمر مولاه مخالفةً جزئيّة لا تمسّ جوهر العمل الدينيّ بمعناه الأصيل، بالرغم من أنّه قد تجشم وعثاء السفر فيما بين إيران والعراق ليتشرّف برؤية إمامه صلوات الله عليه والاجتماع بخدمته.. فقد قال ذلك المسكين:
(لمّا حملت ألطافاً من قمّ إلى سيّدي أبي الحسن (عليه السلام)، إلى سرّ من رأى، وصلتها واستأجرت بها منزلاً، وجعلت أروم الوصول إليه ومن يوصل تلك اللطائف التي حملتها، فتعذّر عليّ ذلك.
فكلّفت عجوزاً كانت معي في الدار أن تلتمس لي امرأةً أتمتّع بها.
فخرجت العجوز في طلب حاجتي، فإذا أنا بطارقٍ قد طرق بابي وقرعه. فخرجت إليه فإذا أنا بصبيّ منحولٍ؛ فقلت له: ما حاجتك؟
فقال لي: سيّد ومولاي يقول لك: قد شكرنا برّك وألطافك التي حملتها تريدنا بها. فاخرج إلى بلدك وأردد ألطافك معك. وأحذر الحذر كلّه أن تقيم بسرّ من رأى أكثر من ساعة؟ فإنّك إن خالفت وأقمت عوقبت.. فانظر لنفسك!.
فقلت: والله إنّي أخرج ولا أقيم.
فجاءت العجوز ومعها المتيعة.. فمتّعت بها، وبتّ ليلتي وقلت: أخرج غداً.
فلمّا تولّى الليل طرق باب دارنا ناس وقرعوه قرعاً شديداً. فخرجت العجوز إليهم، فإذا، أنا بالطّائف والحارس وشرطةٍ معهما، ومشعلٍ وشمعٍ فقالوا لها: أخرجي إلينا الرجل والمرأة من دارك!. فجحدتهم.. فهجموا عليّ الدار فأخذوني والمرأة ونهبوا كلّ ما كان معي من اللطائف وغيرها.. فرفقت - أي شدّ عضداه بحبل - وأقمت في الحبس بسرّ من رأى ستّة أشهر.
.. ثم جاءني بعض مواليه فقال لي: حلّت بك العقوبة التي حذّرتك منها. فاليوم تخرج من حبسك، فصرْ إلى بلدك!.
فأُخرجت في ذلك اليوم، وخرجت هائماً حتى وردتُ قُم فقلت: إني بخلافي لأمره نالتني تلك العقوبة)(19).
فقد رجع المسكين خائباً لم يتشرّف برؤية سيّده ومولاه رغم أنه قطع المسافات الشاسعة الشاقة، وما أوصل له ألطافاً ولا قضى من مآربه غير وطر المتعة التي قضت عليه بالانتشال من حضن المتيعة والإلقاء في غياهب السجن ستّة أشهرٍ حين لم ينفّذ أمر إمامه الذي محضه النّصح فلم ينتصح.. وثق أنّنا لا تتسنّى لنا معرفة الإمام حقّاً وحقيقةً إلاّ حين نعتقد اعتقاداً جازماً لا يخامره ريب أنّه حجّة الله تعالى على العباد وسفيره في البلاد، يخفي سبحانه عنه شيئاً ممّا قدّر وأراد.. وإلاّ فإننا نضيع عنه مع الضائعين، ونظنّه واحداً كسائر العالمين، ونبوء بإثم تكذيب ما جاء به رسولنا العظيم (عليه السلام) عن ربّه عزّ وجلّ بخصوص عترته الطاهرة الفاخرة صلوات الله وسلامه عليهم.
وقال الحسين بن عليّ: إنّه أتى النقيّ (عليه السلام) رجل خائف وهو يرتعد ويقول: إنّ ابني أخذ بمحبّتكم، والليلة يرمونه من موضع كذا ويدفنونه تحته!.
قال: فما تريد؟
قال: ما يريد الأبوان.
فقال: لا بأس عليه، اذهب فإنّ ابنك يأتيك غداً.
فلمّا أصبح أتاه ابنه، فقال: يا بنيّ ما شأنك؟
قال: لمّا حفروا القبر وشدّوا لي الأيدي، أتاني عشرة أنفسٍ مطهرة معطّرة وسألوا عن بكائي، فذكرت لهم:
فقالوا: لو جعل الطالب مطلوباً؛ تجرّد نفسك وتخرج وتلزم تربة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؟
قلت: نعم.
فأخذوا الحاجب فرموه من شاهق الجبل ولم يسمع أحد جزعه ولا رأوا الرّجال!. وأوردوني إليك وهم ينتظرون خروجي إليهم. وودّع أباه وذهب..
فجاء أبوه إلي الإمام وأخبره بحاله. فكان الغوغاء تذهب وتقول: وقع كذا وكذا والإمام (عليه السلام) يبتسم ويقول: إنّهم لا يعلمون ما نعلم!)(20).
أي والله، ونعم، وبلى.. فإنّ الغوغاء - وهم سفلة الناس والمتسرّعون إلى الشرّ - هم أبعد ما يكون عن علم ما تعلم يا سيّدي يا أبا الحسن!. بل أنت في المنظر الأعلى وهم أقصى ما يكون عن فهم علمك ومعرفة قدرك!، بل إن العلماء والعقلاء يقصّرون عن ذلك ولا يدركون إلاّ جزءاً يسيراً ممّا حباك به ربّك سبحانه حين انتجبك لسياسة خلقه.. فعلمك من علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، من علم الله تعالى علام الغيوب الذي يسمع النّجوى ويطّلع على السرّ وأخفى، ولا يفوته ما توسوس به النفوس، ولا ما تجيش به الصّدور و(وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السّماء)(21)..
فكيف يصل هذا الخلق القاصر إلى معرفة ما أنت عليه من القدرة والتمكّن وقد اختصّك الله عزّ وجلّ بما اختصّ به أنبياءه السابقين وسخّر لك الملائكة يعملون بين يديك بإذنه لتتمّ بك حجّته على الناس؟!.
لا والله إنّهم لا يعلمون ما تعلم.. ولا كانوا يريدون أن يعلموا.. بل ركبوا العناد وخانهم السداد.

وقد روى الفحّام عن عمّه عمر بن يحيى، عن كافور الخادم، قال:

(قال لي الإمام عليّ بن محمدٍ (عليه السلام): اترك لي السطل الفلانيّ في الموضع الفلانيّ لأتطهّر منه للصّلاة، وأنفذني في حاجةٍ وقال: إذا عدت فافعل ذلك ليكون معدّاً إذا تأهبت للصّلاة.
واستلقى (عليه السلام) لينام، ونسيت ما قال لي، وكانت ليلة باردة.. فأحسست به وقد قام إلى الصّلاة وذكرت أنّني لم أترك السطل!. فبعدت عن الموضع خوفاً من لومه، وتألّمت له حيث يشقى بطلب الإناء..
فناداني نداء مغضب، فقلت: إنّا لله!. أيش - أي شيءٍ - عذري أن أقول نسيت مثل هذا؟!.
ولم أجد بدّاً من إجابته، فجئت مرعوباً، فقال: يا ويلك، أما عرفت رسمي أنّني لا أتطهّر إلاّ بماءٍ باردٍ، فسخّنت لي ماءٍ فتركته في السطل؟!.
فقلت: والله يا سيّدي ما تركت السطل ولا الماء.
قال: الحمد لله. والله لا تركنا رخصةً، ولا رددنا منحة.. الحمد لله الذي جعلنا من أهل طاعته، ووفّقنا للعون على عبادته.. إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يقول: إنّ الله يغضب على من لا يقبل رخصته)(22).
أفأنت يا قارئي العزيز سخّنت له الماء ليتطهّر في تلك الليلة الباردة؟!.
لا، ولا أنا، ولا كافور الخادم..
وإذاً.. (أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين)(23). بأن الإمام يكون دائماً في عين الله عزّ وعلا بعد أن انتجبه وحمّله كلمته إلى الناس. (فأبي أكثر النّاس إلاّ كفوراً)(24)؟

وقال محمد بن علي: (أخبرني زيد بن علي بن الحسين بن زيد، قال:

مرضت فدخل عليّ الطبيب ليلاً ووصف لي دواءً آخذ في السّحر كذا وكذا يوماً، فلم يمكنّي تحصيله من الليل. ولم يخرج الطبيب من الباب، حتى ورد عليّ نصر، صاحب أبي الحسن (عليه السلام) في الحال بقارورةٍ فيها ذلك الدواء بعينه، فقال لي: أبو الحسن (عليه السلام) يقرئك السلام ويقول لك: خذ هذا الدواء كذا وكذا يوماً. فأخذته، وشربته فبرئت)(25). فلم يمرّ الطبيب بالإمام (عليه السلام)، ولا أخبره بمرض زيد المذكور، ولا بما وصف له من الدواء.. ولا كان الإمام يحوز صيدليّة عقاقير مختلفةٍ اختار من بينها العلاج الناجع لصاحبه!. فهل علم ذلك بغير قدرة الله الّتي ذلّ لها كلّ شيءٍ وخضع لها كلّ شيءٍ؟!، لا.. وقد أعلم الله سبحانه وليّه بما كان.. بل لم يحجب عنه علم ما يكون لأنه جعله عيبة علمه ومستودع سرّه، والناطق بأمره.. فهيّأ له المعرفة، والحصول على الدواء المقرّر، بلطفه الخفيّ، وأقدره على ما يعجز عنه الآخرون ليكشف لهم عن سرّه المكنون الذي هو من سرّه عزّ وجلّ.. ولولا ذلك لكان إنساناً عاديّاً كما كان يظنّ أهل عصره ومن تلاهم..

وقال أبو هاشم الجعفري:

(ظهر برجلٍ من سرّ من رأى برص فتنغّص عليه عيشه. فجلس يوماً إلى أبي عليّ الفهري فشكا إليه حاله، فقال له: لو تعرّضت لأبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام)، فسألته أن يدعو لك، لرجوت أن يزول عنك.
فجلس له يوماً في الطريق وقت منصرفه من دار المتوكل. فلمّا رآه قام إليه ليدنو منه فيسأله عن ذلك، فقال (عليه السلام): تنحّ، عافاك الله - وأشار إليه بيده - تنحّ، عافاك الله، تنحّ عافاك الله!.
فابتعد الرجل ولم يجسر أن يدنو منه، وانصرف..
ولقي الفهريّ وعرّفه الحال وما قال.. فقال: قد دعا لك قبل أن تسأله، فاذهب فإنّك ستعافى.
فذهب الرجل إلى بيته، فبات تلك الليلة.. ولمّا أصبح لم ير على بدنه شيئاً من ذلك)(26).
وقبل أن يأخذك العجب تذكّر معي: (إذ قال الله لعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتّك بروح القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلاً وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني فتنفنخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الّذين كفروا منهم إن هذا إلاّ سحر مّبين)(27) تذكّر قوله هذا تر أنّ كلّ ذلك يتمّ بإذن الله سبحانه وتعالى لا بقدرة مخلوق.
فلم يكلّم عيسى (عليه السلام) الناس في المهد إلاّ بإذن ربّه عزّ وجلّ، ولا خلق ما هو بهيئة الطّير إلاّ بمشيئة تعالى، وكذلك لم يبرئ الأكمه ولا شفى البرص إلاّ بإذن ربّه القادر تبارك وتعالى.. وإذنه هذا الذي منحه للمسيح (عليه السلام)، لم يبخل به ولا بأكثر منه على رسوله محمدٍ (صلّى الله عليه وآله)، ولا بخل به على أوصيائه الذين هم مواضع سرّه وورثة أنبيائه وحملة وحيه، صلوات الله وسلامه عليهم.. أمّا شكّنا وتوقّفنا عند هذه النّقاط من آثارهم فيدلاّن على نقصٍ في إيماننا، وإنكار لشيءٍ موجود لا يجعله الإنكار معدوماً. بل هو في الواقع إنكار لقدرة الله سبحانه، واعتراض على مشيئته، وعناد وتحدّ لإرادته!.
فهل نحن شركاء له تعالى فيما قسم بين عباده بمقتضى حكمته وعلمه حتى نقف بالمرصاد لكلّ ما يصدر عن أوليائه وأهل الزّلفى لديه، فنبادر ما يأتون به من العجائب بالتكذيب والاستنكار؟!. طبعاً، لا.. ولكنها وقاحة العبد القاصر الذي كلّما عرض له ما لا يستوعبه عقله وفكره قال: هذا سحر مبين!.
فإمامنا (عليه السلام) قد عرف بغية الرجل المصاب بالبرص منذ وقع نظره عليه في الطريق، فدعا له بالبرء قبل أن يطلب ذلك - وربّه سميع مجيب - ؛ ثم أشار إليه بيده الكريمة قائلاً: تنحّ، عافاك الله، بقصد الدّعاء أو بقصد الإخبار إنّه قد حقّت له العافية فإذن الله بعد دعاء وليّه الأمين.. فأدرك ذلك صاحبه الفهريّ الذي قال للرجل بكامل الاطمئنان: اذهب فإنك ستعافى.. وقد صرنا على بيّنةٍ من أن الإمام (عليه السلام) يعلم ما في النفوس، كما كان معاصروه على بينةٍ من أن الإمام (عليه السلام) يعلم ما في النفوس، كما كان معاصروه على بينةٍ من ذلك وبقينٍ ومعرفةٍ تامّةٍ بأنه يأتي بالآيات الباهرة والمعاجز المدهشة كلّما لزم الأمر أو عاند المعاند وكاد المكايد.
وأسرّ في أذنك يا قارئي الكريم - للمرة الثانية أن هذه (البضاعة) لم تكن عند الأئمة (عليهم السلام) مطروحة في الشوارع والأسواق، بل كانت مرصودة لوقت الحاجة والحجة.. ولفائدة الناس وانتشالهم من براثن الجهل المؤدّي إلى سخط الله تعالى وغضبه.. فقط.. لأن الآية المعجزة لا تقع بلا سببٍ هام.

قال محمد القاسم بن العلا:

(حدّثنا خادم لعليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، قال: (استأذنته في الزيارة إلى طوس - أي للتشرف بزيارة قبر جدّه الإمام الرّضا (عليه السلام) - فقال لي:
يكون معك خاتم فصّه عقيق أصفر عليه: ما شاء الله، لا قوّة إلاّ بالله، أستغفر الله. وعلى الجانب الآخر: محمد وعليّ، فإنّه أمان من القطع، وأتمّ للسلامة، وأصون لدينك.
قال: فخرجت وأخذت خاتماً على الصّفة التي أمرني بها، ثم رجعت إليه لوداعه، فودعته وانصرفت. فلمّا بعدت عنه أمر بردّي، فرجعت إليه.
فقال: يا صافي.
قلت: لبّيك يا سيّدي.
قال: ليكن معك خاتم آخر فيروزج. فإنّه يلقاك في طريقك أسد بين طوس ونيسابور، فيمنع القافلة من المسير، فتقدّم إليه، وأره الخاتم، وقل له: مولاي يقول لك: تنحّ عن الطريق.. ثم قال: ليكن نقشه: الله الملك، وعلى الجانب الآخر: الملك لله الواحد القهّار، فإنّ خاتم أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عليه: الله الملك، فلمّا ولي الخلافة نقش على خاتمه: الملك لله الواحد القهّار.. وكان فصّه - من - فيروزج، وهو أمان من السّباع خاصةً، وظفر في الحروب.
قال الخادم: فخرجت في سفري فلقيني والله السّبع، ففعلت ما أمرت.
ورجعت فحدّثته (عليه السلام) فقال لي: بقيت عليك خصلة تحدّثني بها؛ إن شئت حدّثتك بها! فقلت: يا سيّدي، لعلّي نسيتها.
فقال: نعم، بتّ ليلةً بطوس عند القبر، فصار إلى القبر قوم من الجنّ لزيارته، فنظروا إلى الفصّ في يدك فقرأوا نقشه، فأخذوه من يدك وصاروا إلى عليلٍ لهم وغسلوا الخاتم بالماء وسقوه ذلك الماء فبرىْ، وردّوا الخاتم إليك. وكان الخاتم في يدك اليمنى فصيّروه في يدك اليسرى، فكثر تعجّبك من ذلك ولم تعرف السبب فيه. ووجدت عند رأسك حجر ياقوتٍ فأخذته وهو معك. فاحمله إلى السوق فإنّه ستبيعه بثمانين ديناراً.
فحملته إلى السوق وبعته بثمانين ديناراً كما قال سيّدي(28).
أول هذه القصة نصائح يقصد بها اليمن والبركة، أسداها إمام كريم لخادمه الأمين ووليّه الحميم.. ولكن أنه سيلقى القافلة أسد عيّن له زمان لقائه ومكانه، فأمر عجيب!. وأعجب منه أن ذلك الأسد يأتمر بأمر الإمام لمجرّد رؤية الخاتم وسماع أمره له بالتنحّي عن الطريق!
وليس بأقلّ عجباً وغرابة تذكير الإمام (عليه السلام) لخادمه بما نسي ذكره من نقل الخاتم من يدٍ إلى يدٍ أثناء نومه الذي عيّن زمانه ومكانه، وذكر الياقوتة التي وجدها تحت رأسه والتي عرف ثمنها بالدقّة المدهشة!
ونحن إذا استقصينا آيات علمه صلوات الله عليه، وما ظهرت من معاجزه في هذه الحادثة لطال بنا المقام وكثر الكلام. ولكن حين نسلّم بقدرة الخالق عزّ اسمه المطلقة، وبقوّته المهيمنة على كلّ شيءٍ من الذّرّة إلى المجرّة، نؤمن بأنه سبحانه لا يمنع مننه عن عبده الصالح المقرّب المختار، ثم نقنع بأنّ القادر على أيجاد جميع الكائنات وفق نظام دقيق أزليّ، قادر على أن ينتجب من خلقه عباداً مكرمين (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)(29) يزوّدهم بما لا مزيد عليه من التوفيق والتسديد، ويؤيّدهم بملائكةٍ يحملون إليهم بريد القدرة الإلهيّة ومستجدّات الأقضية السماويّة ساعةً بعد ساعة..

ومن ذلك ما رواه محمد بن عيسى، عن أبي عليّ بن راشد - وكيل إمامنا ومعتمده - حين قال:

(قدمت عليّ أحمال - أي أموال وحقوق وهدايا للإمام من مواليه - فأتاني رسوله قبل أن أنظر في الكتب أن أوجّه بها إليه: (سرّح إليّ بدفتر كذا).. ولم يكن عندي في منزلي دفتر أصلاً.. فقمت أطلب ما لا أعرف - بالتصديق له - فلم أقع على شيء.
فلمّا ولّى الرسول قلت له: مكانك.. فحللت بعض الأحمال فتلقّاني دفتر لم أكن علمت به!. إلاّ أنّي علمت أنّه لم يطلب إلاّ حقّاً، فوجّهت به إليه)(30).
وتلاحظ أنه (عليه السلام) قد علم بوصول الأحمال إلى وكيله، وعلم أمر الدفتر المخبّأ في بعض الأكياس. ثم أرسل بطلب ذلك كلّه قبل أن يعرف وكيله بشيءٍ من تلك التفصيلات..
فمن أين للإمام (عليه السلام) ذلك؟
.. لا من أين؟ ولا كيف؟ ولا لماذا؟ فإن آيات الأئمة (عليهم السلام) ودلالاتهم أكثر من أن يحاط بها؛ ولولاها لضلّ كثيرون لشدّة ما حصل عليهم وعلى أوليائهم من ضيق السّلطات الدّنيويّة، فثبتوا على الحق.. وقد هلك بإنكارها عليهم الأكثرون..

وروى الحسين بن محمد - معنعناً - عن إسحاق الجلاّب الذي قال:

(اشتريت لأبي الحسن (عليه السلام) غنماً كثيرةً، فدعاني فأدخلني من اصطبل داره - حظيره حيواناته - إلى موضعٍ واسعٍ لا أعرفه، فجعت أفرّق تلك الغنم في من أمرني به.
فبعثت إلى أبي جعفر - ابنه الكبير - وإلى والدته وغيرهما ممّن أمرني به، ثم استأذنت في الانصراف إلى بغداد إلى والدي، وكان ذلك يوم التّروية - أي قبيل عيد الأضحى المبارك - فكتب إليّ: تقيم غداً عندنا، ثم تنصرف.
قال: فأقمت.. فلمّا كان يوم عرفة أقمت عنده، وبتّ ليلة الأضحى في رواقٍ له. فلمّا كان يوم عرفة أقمت عنده، وبتّ ليلة الأضحى في رواق له. فلمّا كان في السّحر أتاني فقال لي: يا إسحاق، قم.
فقمت ففتحت عينيّ فإذا أنا على باب داري ببغداد. فدخلت على والدي، وأتاني أصحابي فقلت لهم: عرّفت بالعسكر - أي قضيت يوم عرفة - وخرجت إلى العيد ببغداد)(31).
وإنّك لسعيد يا إسحاق الجلاّب إذ (عرّفت) بخدمة إمامك الكريم في سامرّاء، وخرجت إلى العيد صباحاً في بغداد دون أن تشعر بوعثاء السفر في طريقٍ طولها قرابة مائة وعشرين كيلومتراً!.فقد طويت لك الأرض كما تطوى للأولياء والصّلحاء بقدرة الله عزّ اسمه، وببركة إمامك العظيم الذي لم يحمّلك هذه (الرسالة المعجزة) إلاّ ليشدّ بها قلوب مواليه من شيعته في بغداد.. بل عبر الأجيال حيث يتناقلها النّاس منذئذٍ حتى أيامنا هذه.
وقد أدّيتها بأمانةٍ وبمنتهى البساطة.. وأنا أنقلها إلى إخواني من خلالك ولك أجرها وفخرها.
وسعيد مثلك من سمع فوعي.. وفكّر وقدّر، فأمن واستعبر!. وأيقن أنه سبحانه تنفتح باسمه الأعظم مغالق أبواب السماوات والأرض، ويسهل كلّ صعب.

وقد روي عن يحيى بن زكريّا الخزاعي، عن أبي هاشم الجعفري، أنّه قال:

(خرجت مع أبي الحسن (عليه السلام) إلى ظاهر سرّ من رأى يتلقّى بعض الطالبيين، فأبطأ.
فطرحت له غاشية السّرج فجلس عليها، ونزلت فجلست بين يديه وهو يحدّثني. فشكوت له قصور يدي وضيق عيالي، فأهوى إلى رملٍ كان عليه جالساً، فناولني منه أكفّاً، وقال: اتّسع بهذا يا أبا هاشم، واكتم ما رأيت.
فخبّأته معي ورجعنا، فأبصرته فإذا هو يتّقد كالنيران ذهباً أحمر!.
فدعوت صائغاً إلى منزلي، وقلت له: اسبك لي هذا سبيكة.
فسبكه وقال، ما رأيت ذهباً أجود من هذا!. وهو كهيئة الرّمل. فمن أين لك هذا؟ فما رأيت أعجب منه!.
فقلت: هذا شيء عندنا قديم تدّخره لنا عجائزنا على طول الأيام(32).
أمّن يمسكون الرّمل والتّراب فينقلب بأيديهم الشريفة إلى نضار من ذهبٍ وهّاج إذا لزم الأمر، ويسدّون به حاجات أصحابهم ومواليهم: أسأل الله من فضله أن يثبّتنا على ولايتكم والاعتراف بحقّكم، وأن يعجّل فرج غائبكم المنتظر ليقيم العدل في المعمور بعد أن غرقت في الظّلم والجور، وليهدي الناس إلى سواء السبيل، فلا يعبد طواغيت المال وجواليت بيع السّلاح وفراعنة التسلّط والاستعمار، وأهل الاستكبار، من دون الله، فيحق الحقّ ويزهق الباطل..ثم قال أبو هاشم الجعفريّ ذاته: (دخلت عليه بسرّ من رأى وأنا أريد الحج، لأودّعه، فخرج معيٍ. فلمّا انتهى إلى آخر الحاجز نزل ونزلت معه. فخطّ بيده الأرض خطّةً شبيهةً بالدائرة ثم قال لي: يا عمّ، خذ ما في هذه؛ يكون في نفقتك، وتستعين به على حجّك.
فضربت بيدي فإذا سبيكة من ذهبٍ، فكان فيها مائتا مثقال(33).
وتفسير وجود هذه السبيكة في الأرض، وفي تلك البقعة بالذّات، وضمن الدائرة التي خطّها الإمام (عليه السلام) بالتأكيد، لا يتيسّر شرحه بالمعقول الذي يستسيغه الفكر وتركن إليه النفس.. وما هو إلاّ معجز في المعاجز التي لا يأتي بها إلاّ أمناء الله وصفوته من بريّته!. ولو فرضنا أنّ أحدنا طمر هذه السبيكة في ذلك الموضع في يوم من الأيام، لضلّ عن مكان وجودها بالدّقة التي حدّدها إمامنا الكريم (عليه السلام) في تلك اللحظة حين خطّ الدائرة التي هي في وسطها بالذات!.
وقد كانت للإمام سلام الله عليه عناية خاصّة بأبي هاشم هذا، لأنه كان من ثقات أصحابه المخلصين ومن رجاله الثابتين على الحق، إلى جانب كونه شيخاً جليلاً طاعناً في السّن، وكونه من أولاد عمّه المنحدرين من جعفر - الطيّار - بن أبي طالب (عليه السلام)(34).
وقد حدّث عنه أبو القاسم، عبد الله بن عبد الرحمن الصالحي، قائلاً:
(إنّ أبا هاشم الجعفريّ شكا إلى مولانا أبي الحسن ما يلقى من الشوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد، وقال له: يا سيّدي ادع الله لي، فربّما لم أستطع ركوب الماء فسرت إليك على الظّهر. ومالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه. فادع الله أن يقوّيني على زيارتك.
فقال: قوّاك الله يا أبا هاشم، وقوّى برذونك.
قال - المحدّث -: فكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد، ويسير على ذلك البرذون، فيدرك الزّوال - الظّهر - من يومه ذلك عسكر سرّ من رأى، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على ذلك البرذون بعينه!. فكان ذلك من أعجب الدلائل التي شوهدت(35).
وما أكثر دلائل إمامتك يا مولاي، وما أوضح برهانك وأعظم شأنك!.
لم تكن مجهول المقام عند الخاصّ والعام.. و(إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم مّن بعدما تبيّن لهم الهدى الشّيطان سوّل لهم وأملى لهم)(36).
ولكنّ قول (الصالحيّ) حقّ.. فإنّ قضيّة البرذون لمن أدلّ الدلائل على كرامتك عند خالقك العظيم الّذي أمدّك بالعظمة الروحانيّة المنقطعة النّظير!. فأن يقطع البرذون ما يقرب من مائتين وخمسين كيلو متراً في جزءٍ من بياض النهار - ذهاباً وإياباً - فهذا يعني أنّ سرعة ذلك الحيوان كانت فائقة الوصف ولا تتيسّر لدابّة في الأرض إلاّ إذا كان ذلك آيةً من آيات الله تبارك وتعالى، لأن السيارة تقضي قريباً من هذا الوقت ذهاباً وإياباً إذا استثنينا وقت صلاة الظهر وتناول طعام الغداء وأخذ قسطٍ من الراحة قبل استئناف المسير للعودة!.
أفلم ير الناس يومئذ ذلك، ولم يسمعوا به (فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور)(37).

وقال أبو هاشم الجعفريّ، المذكور آنفاً:

(أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، فأذن لي. فلمّا جلست قال: يا أبا هاشم، أيّ نعم الله عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟!.
قال أبو هاشم: فوجمت، فلم أدر ما أقول له.
فابتدأني (عليه السلام)، فقال: رزقك الإيمان فحرّم به بدنك على النّار، ورزقك العافية فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل.. يا أبا هاشم، إنّما ابتدأتك بهذا نّي ظننتك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا. وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها(38).
فهل أدركت النّكتة الخفيّة التي استثارها الإمام (عليه السلام) في نفس صاحبه الحبيب وابن عمّه القريب، حين أمسك بقلبه وردّه إلى ساحة الإيمان الرّحبة لمّا علم أنّه جاء يريد أن يشكو له من قدّر عليه ضيق العيش والحاجة؟! فقد عدّد له نعم الله التي متّعه بها طيلة عمره، وجعل في جملتها صونه عن التبذّل والسؤال.. ثم رفده بالمال من غير منّ، فرجع حامداً شاكراً جميع أنعم ربّه تعالى عليه.. ذلك أنّ المؤمن يلجأ إلى الله أوّل ما يلجأ، ويسأل الله من فضله أوّل ما يسأل، والله تعالى أعلم بالعبد من نفسه وأرأف به من أمّه وأبيه، فقد يعطيه آناً حيث يصلحه العطاء، وقد يحرمه آناً آخر حين يصلحه الحرمان..

وننتقل من هذا النوع من الدلائل إلى نوعٍ آخر فيه بيان وتبيان

فقد روى الفحّام، عن المنصوريّ، عن عمّ أبيه، فقال:
(قال يوماً الإمام عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام): أخرجت إلى سرّ من رأى كرهاً؛ ولو أخرجت عنها أخرجت كرهاً.
قلت: ولم يا سيّدي؟
قال: لطيب هوائها، وعذوبة مائها، وقلّة دائها.
ثم قال (عليه السلام): تخرب سرّ من رأى حتى يبقى فيها خان ويقّال للمارّة!. وعلامة خرابها تدارك العمارة في مشهدي من بعدي)(39).
وقوله الأخير من أعلام الغيب المحتوم ومن دلائل سفارته الإلهيّة وآيات إعجازه، لأن سرّ من رأى خربت كما وصف - عسكريّاً، وكدار للخلافة والسلطان - وذهب عزّها الباذخ حين ارتفعت قباب مشهده ومشهد ابنه العسكريّ (عليهما السلام)، ولمّا سمقت مآذن مشهدهما في الأجواء وعكف الزّوار على قصده فأمّته الشيعة من أطراف الأرض، وبدأ عمران البلدة منذئذٍ لخدمة الزائرين والاستفادة منهم.. فلم تعد تسرّ من رأى بعد قوله الكريم بأعوام إذ ذهب ببنيانها الحدثان وذهب معها عصاة الرحمن من سلاطين ذلك الزمان..

وقال أحمد بن عيسى الكاتب:

رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما يرى النائم، كأنّه نائم في حجري، وكأنّه دفع إليّ كفّاً من تمر عدده خمس وعشرون تمرة.
قال: فما لبثت إلاّ وأنا بأبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليهما السلام) ومعه قائد، فأنزله في حجرتي - أي أنزل القائد الإمام (عليه السلام) سجيناً في غرفة كاتب القصر المذكور - .
وكان القائد يبعث ويأخذ من العلف من عندي، فسألني يوماً: كم لك علينا؟
قلت: لست آخذ منك شيئاً.
فقال لي: هل تحبّ أن تدخل إلى هذا العلويّ فتسلّم عليه؟ - أي على الإمام المحبوس - .
قلت: لست أكره ذلك..
فدخلت فسلّمت عليه وقلت له: إنّ في هذه القرية كذا وكذا من مواليك، فإن أمرتنا بحضورهم فعلنا.
قال: لا تفعلوا.
قلت: فإنّ عندنا تموراً جياداً، فتأذن لي أن أحمل لك بعضها؟
فقال: إن حملت شيئاً يصل إليّ، ولكن احمله إلى القائد فإنّه سيبعث إليّ منه.
فحملت إلى القائد أنواعاً من التمر، وأخذت نوعاً جيّداً في كمّي، وسكرُّجة - صفحةً - من زبدٍ فحملته إليه، ثم جئت. فقال لي القائد: أتحب أن تدخل على صاحبك؟
قلت: نعم.
فدخلت فإذا قدّامه من ذلك التّمر الذي بعثت به إلى القائد. فأخرجت التّمر الذي كان معي والزّبد فوضعته بين يديه.
فأخذ كفّاً من تمرٍ ودفعه إليّ وقال: لو زادك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لزدناك!.
فعددته فإذا هو كما رأيت في النّوم لم يزد ولم ينقص)(40).
فيا ربّ، من أتى الإمام بخبر ما رآه أحمد بن عيسى في المنام حين أعطاه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خمساً وعشرين تمرة؟!! فأعطاه الإمام بعددها دون زيادة ودون نقصان؟!
الله وحده تبارك وتعالى يعلم تفصيل ذلك.. ولكنّنا نحن - أيضاً - نعلم إجماله، فإنّه سبحانه لا يخفي عن وليّه شيئاً من الأمور سوى ما استأثر به لنفسه من علم الساعة وقيام القيامة.
فصدّق، أو لا تصدّق ذلك، فإنّ الكثيرين لا يزالون ينكرون كرويّة الأرض ودورانها على نفسها حول الشمس، وينكرون الطّلوع إلى القمر وغزو الكواكب، ويتنكّرون لأشياء كثيرةٍ أصبحت من البديهيات.. وإن كان إنكارهم لا يغيّر شيئاً من تلك الوقائع.
(وكتب إليه (عليه السلام) محمد بن الحسين بن مصعب المدائني يسأله عن السجود على الزجاج - وقال -:
فلمّا نفذ الكتاب حدّثت نفسي أنّه ممّا أنبتت الأرض وأنّهم قالوا: لا بأس بالسجود على ما أنبتت الأرض.
قال: فجاء الجواب: لا تسجد عليه وإن حدّثت نفسك أنّه ممّا أنبتت الأرض، فإنّه من الرمل والملح، والملح سبخ)(41).
فهل باستطاعة أحدٍ من الناس معرفة ما تحدّث به نفوس الآخرين حتى ولو فصلت بينه وبينهم المسافات؟!.
لا؛ ولو أردنا استقصاء ما جرى مع أئمتنا (عليهم السلام) ممّا ابتدأوا به النّاس من كشفٍ عمّا يجول في نفوسهم ويعتمل في ضمائرهم، وتتحدّث به خواطرهم قبل أن يفوهوا به، لأحصينا رمل البحار قبل ذلك ولبقينا نروي أحداثاً ليس لها نهاية..
فقد قال محمد بن شرف:
(كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) أمشي في المدينة، فقال لي: ألست ابن شرف؟
قلت: بلى..
وأردت أن أسأله عن مسألة، فابتدأني من غير أن أسأله فقال: نحن على قارعة الطريق، وليس هذا موضع مسألة)(42).
وقال أحمد بن محمد بن عبد الله: (كان عبد الله بن هليل - وقيل ابن هلال - يقول بعبد الله - أي يقول بإمامه عبد الله الأفطح - فصار إلى العسكر - سامرّاء - فرجع عن ذلك.
فسألته عن سبب رجوعه فقال: إنّي عرضت لأبي الحسن (عليه السلام) أن أسأله عن ذلك - أي تعرّض له - فوافقني في طريقٍ ضيّقٍ، فمال نحوي حتى إذا حاذاني أقبل نحوي بشيءٍ من فيه، فوقع على صدري.
فأخذته فإذا هو رقّ فيه مكتوب: ما كان هنالك، ولا كذلك)(43).
أي ما كان عبد الله الأفطح في مقام الإمامة، ولا كان كذلك مستحقّاً لها.. وقد صرت تعرف كيف علم هذا الإمام الهاشميّ العظيم ما دار في نفس المدائنيّ بعد أن أنفذ إليه الكتاب سائلاً على صحّة السجود على الزّجاج، وكيف ابتدأ محمد بن شرف بالقول قبل أن يسأله، وكيف أجاب أحمد بن محمدٍ - من غير أن يسأله -: أنّ صاحبه الذي يتولاّه ليس أهلاً للولاية ولا هو كفء لأن يكون حجةً على البشر.. ولم يعد مستهجناً عندك علم الإمام بما في النفوس، ولا مستغرباً أن يكون الله تعالى مع حجته على العالمين في كلّ حين، يمنحه علماً يثبت كونه الحجة والإمام بلا منازع.
ونطوي هذه الصفحة أيضاً لنستعرض نوعاً آخر من أنواع الدلالات التي لا تكون إلاّ لوليّ الله على العباد مهما تنكّر لها أهل المروق والعناد والكفر بكلّ ما ينزل من فوق، وبما ينسب إلى السماء!.
قال أحمد بن هارون: (كنت جالساً أعلمّ غلاماً من غلمانه في فازة داره - أي في مظلّةٍ ذات عمودين كالخيمة - إذ دخل علينا أبو الحسن (عليه السلام) راكباً على فرسٍ له.فقمنا إليه، فسبقنا قبل أن ندنو منه، فأخذ عنان فرسه بيده فعلّقه في طنبٍ من أطناب الفازة.
ثم دخل فجلس معنا، فأقبل عليّ وقال: متى رأيك أن تنصرف إلى المدينة؟
فقلت: الليلة.
قال: فأكتب إذاً كتاباً معك توصله إلى فلان التاجر.
قلت: نعم.
قال: يا غلام، هات الدواة والقرطاس.
فخرج الغلام ليأتي بهما من دارٍ أخرى..
فلمّا غاب الغلام، صهل الفرس وضرب بذنبه، فقال له بالفارسيّة: ما هذا القلق؟ - أي ما هذا الضجر؟ - .
فصهل الثانية فضرب بيده، فقال له بالفارسيّة، أقلع - أي اخلع رسنك - فامض إلى ناحية البستان وبل هناك ورث وارجع فقف هناك مكانك.
فرفع الفرس رأسه وأخرج العنان من موضعه، ثم مضى إلى ناحية البستان حتى لا نراه في ظهر الفازة فبال وراث وعاد إلى مكانه.
فدخلني من ذلك ما الله به عليم!. فوسوس الشيطان في قلبي.. فقال: يا أحمد، لا يعظم عليك ما رأيت، إنّ ما أعطي الله محمداً وآل محمدٍ أكثر ممّا أعطى داود وآل داود.
فقلت: صدق ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فما قال لك، وما قلت له، فقد فهمته.
فقال: قال لي الفرس: قم فاركب إلى البيت حتى تفرغ عنّي.
قلت: ما هذا القلق؟
قال: قد تعبت.
قلت: لي حاجة، أريد أن أكتب كتاباً إلى المدينة فإذا فرغت ركبتك.
قال: إنّي أريد أن أبول وأروث، وأكره أن أفعل ذلك بين يديك.
فقلت: اذهب إلى ناحية البستان فافعل ما أردت، ثم عد إلى مكانك. ففعل الذي رأيت.
ثم أقبل الغلام بالدواة والقرطاس وقد غابت الشمس. فوضعهما بين يديه، فأخذ في الكتابة حتى أظلم الليل فيما بيني وبينه فلم أر الكتاب، وظننت أنّه أصابه الذي أصابني فقلت للغلام: قم فهات شمعةً من الدار حتى يبصر مولاك كيف يكتب. فمضى..
فقال للغلام: ليس إلى ذلك حاجة.
ثم كتب كتاباً طويلاً إلى أن غاب الشفق. ثم قطعة فقال للغلام: أصلح - أي اطوه وغلّفه - وأخذ الغلام الكتاب وخرج إلى الفازة ليصلحه ثم عاد إليه وناوله ليختمه، فختمه من غير أن ينظر إلى الخاتم مقلوباً أو غير مقلوب.. فناولني، فقمت لأذهب فعرض في قلبي قبل أن أخرج من الفازة أن أصلّي قبل أن آتي المدينة.
قال: يا أحمد، صلّ المغرب والعشاء في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واطلب الرجل في الرّوضة فإنك توافقه إن شاء الله. فخرجت مبادراً، فأتيت المسجد وقد نودي العشاء الآخرة. فصلّيت المغرب، ثم صلّيت معهم العتمة وطلبت الرجل حيث أمرني، فوجدته فأعطيته الكتاب.
وأخذه وفضّه ليقرأه فلم يستبن قراءته في ذلك الوقت. فدعا بسراجٍ فأخذته وقرأته عليه في السراج في المسجد، فإذا خطّ مستوٍ ليس حرف ملتصقاً بحرف، وإذا الخاتم مستوٍ ليس بمقلوب.
فقال الرجل: عد إليّ غداً حتى أكتب جواب الكتاب.. فغدوت، فكتب الجواب.
فجئت إليه (عليه السلام) فقال: أليس قد وجدت الرجل حيث قلت لك؟
فقلت: نعم.
قال: أحسنت)(44).
ويظهر واضحاً أنّ الفازة المذكورة كانت في دار الإمام (عليه السلام) في صُريا بظاهر المدينة المنوّرة. وفي القصة أشياء لا يجوز أن تتجاوز دون تدوين.
فالإمام (عليه السلام) يكلّم حصانه كما يكلّم حصانه كما يكلّم العقلاء!. ويتلقّى الجواب، ويردّ عليه.. ويأمره بفعلٍ فيباشر تنفيذه ويعود ممتثلاً أمر صاحبه.. كالعقلاء.. في حوارٍ جرى باللّغة الفارسية دهش منه صاحبه أحمد بن هارون فقال (عليه السلام): لا يعظم عليك ما رأيت.. ثم ذكر له النبيّ داود (عليه السلام) وآل داود مشيراً إلى أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أوتوا (كلّ شيءٍ) في حين أنّ آل داود (عليهم السلام) أوتوا (من كلّ شيءٍ) ولم يؤتوا (كلّ شيء) كما نصّ على ذلك القرآن الكريم..
ثم كتب كتاباً طويلاً كما يدل وقت استغراق كتابته، وحرّره في العتمة، لأنّ الإمام الذي يرى من الخلف كما يرى من الأمام، والذي له عينان يخترق بصرهما الكثافات والجدران والمسافات، لا تعجزه العتمة ولا الظّلمة.
وعرف أيضاً مراد صاحبه بأن يصلّي قبل السفر إلى المدينة، فأمره أن يصلّي هناك في مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ثم عيّن له مكان الصلاة، ومكان اجتماعه بالتاجر الذي وجّه الكتاب إليه من غير أن يكون على موعد مع التاجر زماناً ومكاناً!!
فكيف تؤوّل هذه الأمور العجيبة؟
لا تأويل لها يرتضيه الأرضيون المماحكون.. ولا تبديل لكلمات الله مهما جحدها المغضوب عليهم والضالون.. وقد سبق أن ذكرنا أن نبينا (صلّى الله عليه وآله)، وجميع أئمتنا (عليهم السلام)، يتكلمون بكل لغة، وبكل لسان، وبكل لهجة، وذكرنا أمثلة كافية على ذلك.
ونذكر منها أيضاً ما حكاه محمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن الطيّب الهادي (عليه السلام)، إذ قال:
(دخلت عليه فكلّمني بالفارسية)(45).
ونردف بما حكاه علي بن مهزيار نفسه إذ قال:
(أرسلت غلاماً لي إلى أبي الحسن في حاجة، وكان سقلابياً، فرجع الغلام إليّ متعجباً، فقلت له: ما لك يا بني؟!
فقال لي: وكيف لا أتعجب! ما زال يكلمني بالسقلابية كأنه واحد منا، فظننت أنه دار بينهم!)(46).
وقد أورد المجلسي رحمه الله في سفره النفيس (بحار الأنوار) كثيراً من القصص التي رُوي فيها أنه (عليه السلام) تكلّم بغير العربية، يطول بنا المقام إذا ذكرناها. ومثل هذه الحوادث ليس بعجيب على الإمام ولا على آبائه وأبنائه المعصومين صلوات الله عليهم، بل العجيب الغريب ما رواه الثقة الجليل أبو هاشم الجعفري الذي قال:
(دخلت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فكلمني بالهندية، فلم أحسنُ أن أردّ عليه.
وكان بين يديه ركوة ملأى حصىً، فأخذ حصاةً ووضعها في فمه ومصّها ثلاث مصّات - ملياً - ودفعها إليّ، فوضعتها في فمي.
فوالله ما برحتُ من عنده حتى تكلّمت بثلاثة وسبعين لساناً أولها الهندية)(47).
فإن يتكلم الإمام (عليه السلام) بكل لسان ويعرف كل لغة، ليس بمستهجن مطلقاً لأنه مخلوق هكذا من عند ربه الذي رصده سبحانه لصالح عباده أجمعين، وآتاه ذلك خلقاً وإنشاءً كما آتى آدم الأسماء كلها دفعةً واحدةً - خلقاً وإنشاءً - فأنبأ بها الملائكة الذين لم يعلّمهم سبحانه إياها.. فلا يجوز إلا أن يتكلم الإمام بكل لغة ولسان، كما أن الحكومة لا تنتدب إلى القيام بأعمالها لدى حكومة أخرى، إلا من كان يعرف لغة تلك الحكومة أو لغة أجنبية على الأقل فيرافقه مترجم يتقنها.. ولكن المستهجن الغريب هو أن من حظي برشف شيء من ريق الإمام الشريف - وأراد له الإمام أن يتكلم بإذن الله بكل اللغات - تكلم بإذن ربه! فهنا تكمن الآية الخارقة التي هي من سيرهم الممنوح لهم من سرّ الله تعالى، وقدرته وعطائه.. ولا تستقص ذلك أكثر فأكثر فتضلّ لأنّك إمّا أن تكفر بذلك فتكون من الخاسرين.. وإمّا أن تضع الأئمة فوق ما هم فيه فتكون من المشركين.. فابق النمرقة الوسطى التي تؤمن بهم أولياء قادرين بقدرة الله عزّ وعلا، عاملين بأمره لا يتعدّون ما يرضاه إلى ما لا يرضاه.. و(الله أعلم حيث يجعل رسالته)(48).
.. ثم تزوّد مائدتنا الذهنيّة هذه، بألوان من آيات إمامنا (عليه السلام) ومعجزاته التي بهرت معاصريه فأمسكت بقلوب الأولياء ورفعتهم إلى مرتبة الصدّيقين، وأغاظت قلوب الأعداء وملأت صدورهم حسداً وغلاًّ وحقداً، تأثّراً بما أملى لها الشيطان فأبعدها عن التصديق بكلّ ما نزل من عند الرحمن الديّان.

قال عليّ بن محمدٍ الحجّان:

(كتبت إلى أبي الحسن: أنا في خدمتك، وأصابتني علّة في رجلي لا أقدر على النهوض والقيام بما يجب. فإن رأيت أن تدعو الله أن يكشف علّتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك، ويجعلني من تقصيري - من غير تعمّدٍ منّي، وتضييع ما لا أتعمّده من نسيان يصيبني - في حلّ، ويوسّع عليّ. وتدعو لي بالثبات على دينه الذي ارتضاه لنبيّه (صلّى الله عليه وآله).
فوقّع (عليه السلام): كشف الله عنك وعن أبيك.
قال: وكان بأبي علّة ولم أكتب فيها، فدعا له ابتداءً)(49)!.
فالحجّال لم يذكر علّة أبيه قط.. ولكنّ الإمام (عليه السلام) لم ينس أن يدعو له كما دعا لابنه.. فكيف عرف مرض الأب وحاجته إلى الدّعاء وهو بعيد عنه؟
قد صار ذلك غير خافٍ على القارئ الكريم بعد ما مرّ الكثير من هذا القبيل.. فإنّ ملائكة موكّلين بإعلامه جميع ما يكون، هم مسخّرون إعلامه، يعملون بين يديه بأسرع من لمح البصر وسرعة النّور، وبأدقّ من السرعة الإلكترونيّة..

وقال محمد بن الريّان بن الصّلت:

(كتبت إلى أبي الحسن أستأذنه في كيد عدوّ لم يمكن كيده. فنهاني عن ذلك وقال كلاماً معناه: تكفاه.
فكفيته والله أحسن كفاية: ذلّ وافتقر، ومات أسوأ الناس حالاً في دنياه ودينه)(50).
وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك العدو كان ناصبيّاً شديد التعصّب يكايد محمد بن الريّان لأنّه من خيرة الموالين وأجلّ الأصحاب وأوثقهم عند أئمّة عصره (عليهم السلام).. وأنّ محمد بن الريّان قد كابد من ذلك العدوّ كثيراً من الأذى والضرر، وضاق به ذرعاً حتى لجأ إلى استشارة الإمام (عليه السلام) بشأن مكايدته وكابدته.. ولكن كيف انكشف الغيب للإمام فعرف أنه يكفاه: فيذلّ، ويفتقر، ويموت أسوأ ما يكون دنياً وديناً؟!.
قد كشف له ذلك مقدّر الأمور سبحانه وتعالى، ليكون آيةً دالّةً على قدرة الله الواحد الأحد..
ومثلها ما ذكره أيوب بن نوح - وهو أحد المؤمنين الأبدال كما ترى في فصل آخر من هذا الكتاب - إذ قال:
(كتبت إلى أبي الحسن: قد تعرّض لي جعفر بن عبد الواحد القاضي، وكان يؤذيني بالكوفة؛ أشكو إليك ما ينالني منه من الأذى.
فكتب إليّ: تكفى أمره إلى شهرين.
فعزل عن الكوفة في شهرين، واسترحت منه!)(51).
ألا إن مرسوم عزل فضلة القاضي الساخر الماكر لم يكن بيد الإمام (عليه السلام)، ولا وضع بناءً على اقتراحه عند حاكم الزمان!. ومع ذلك عيّن وقت صدروه بعزل ذلك القاضي وخذلانه قبل وقوع ذلك!. وكان الأمر كما عيّن وحدّد.. فهلاًّ فكّرت معي دقيقتين - لا شهرين - كيف يعلم هذا الإمام العظيم ما يحدث في المستقبل من أمورٍ كبيرةٍ وصغيرةٍ، ثم يتحدّث عنها بترسّل وكأنّه سينفّذها بيده وبكامل إرادته؟!.
إذا تفكّرت وتدبّرت، علمت أنّ للأئمّة (عليهم السلام) بريداً إلهيّاً دبلوماسيّاً لا يطّلع عليه إلاّ الملائكة الموكّلون به، وأنّهم مسدّدون مؤيّدون تحدّثهم الملائكة وتلقي في أسماعهم، ويلهمون فيقولون.. فلا يكون إلاّ ما يقولون بعلمٍ علّمهم الله تعالى إيّاه.

وكذلك قال أيوب بن نوح المذكور رحمه الله تعالى:

(كتبت إلى أبي الحسن أنّ لي حملاً، فادع الله أن يرزقني ابناً.
فكتب إليّ: إذا ولد فسمّه محمداً.
قال: فولد لي ابن فسمّيته محمداً.. وكان ليحيى بن زكريّا حمل فكتب إليه إنّ لي حملاً فادع الله أن يرزقني ابناً. فكتب إليه: ربّ ابنةٍ خير من ابن. فولدت له ابنة)(52).
وليس هذا من حساب الجمّل، ولا هو ضرب بالرّمل، ولا من التنجيم.. بل هو من علم الله الكريم الوهّاب الذي يعطي أولياءه ما لا يعطيه لغيرهم من العلم والفضل والحكمة، والعصمة عن خطل القول وهجر الكلام، فلا تسأل بعد ذلك: كيف؟ ولم؟ ولماذا؟ ولا تتعجّب، ولا تقل كيف كان هذا؟ فالله سبحانه من وراء ذلك كلّه (ولا يحيطون بشيء مّن علمه إلاّ بما شاء..)(53).

وفي روايةٍ عن أبي محمدٍ الطبريّ أنه قال:

(تمنّيت أن يكون لي خاتم من عنده (عليه السلام)، فجاءني نصر الخادم بدرهمين فصنعتهما خاتماً.
ودخلت على قوم يشربون الخمر، فتعلّقوا بي فشربت قدحاً وقدحين.
وكان - الخاتم - ضيّقاً في إصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء. فأصبحت وقد افتقدته.. فتبت إلى الله تعالى)(54).
فقد تمنّى الطبريّ - فيما بينه وبين نفسه - أن يكون له خاتم من الإمام (عليه السلام).. فاطّلع الإمام على منيته وحقّق له رغبته من دون أن يطلب ومن غير أن يبوح لأحد بذلك، إذا اختصّه بالدّرهمين لهذه الغاية، ومن أجل أن يخلّصه من شرب المسكر خصوصا، لأنّه سلام الله عليه علم ما سيفعله من صنع الخاتم، وشر الخمر، وعلم أنّ الخاتم سينتزع من إصبعه رغم ضيقه ودون أن يحسّ ليكون ذلك آية تفتح له باب التوبة عن الشراب المحرّم.. فخلّصه الإمام صلوات الله عليه بهذه الطريقة الفريدة.

وقال محمد بن الفضل البغدادي:

(كتبت إلى أبي الحسن: إنّ لي حانوتين - دكانين - خلّفهما لنا والدنا رضي الله عنه، وأردنا بيعهما وقد عشر علينا ذلك. فادع لنا يا سيّدنا أن ييسّر الله لنا بيعهما بإصلاح الثمن، ويجعل لنا الخيرة. فلم يجب بشيء.وانصرفنا إلى بغداد، والحانوتان قد احترقا)(55).
فقد علم الإمام (عليه السلام) بحرق الحانوتين لمّا طلب صاحبهما الدعاء، فلم يدع له ولا أجابه على كتابه كيلا يزعجه بخبر الحقر. فمن فسر سكوته عن الجواب أدرك علمه اللّدنيّ الذي يتلقّاه عن ربّه عزّ وعلا الذي (لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السّماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر..)(56).

وقال داود الضرير - داود الصّرمي -:

(أردت الخروج إلى مكّة فودّعت أبا الحسن بالعشيّ وخرجت، فامتنع الجمّال تلك الليلة.
وأصبحت فجئت أودّع القبر - مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - فإذا رسوله يدعوني. فأتيته واستحييت، وقلت: جعلت فداك إنّ الجمّال تخلّف أمس.. فضحك وأمرني بأشياء وحوائج كثيرة - ولعلّه قال، ولم أحفظ ما قال لي - .
فقال: كيف تقول؟ - أي سأله أن يكرّر ذكر ما أوصاه به لأنه سلام الله عليه أحسّ بعدم حفظه للوصايا - .
فلم أحفظ ما قال لي. فمدّ الدواة وكتب: بسم الله الرّحمن الرّحيم، أذكر، إن شاء الله، والأمر بيدك.
فتبسّمت، فقال لي: ما لك؟
قلت له: خير.
فقال: أخبرني.
فقلت له: ذكرت حديثاً حدّثني رجل من أصحابنا أنّ جدّك الرّضا كان إذا أمر بحاجةٍ كتب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، أذكر إن شاء الله.
فتبسّم وقال: يا داود، لو قلت لك إنّ تارك التقيّة كتارك الصّلاة، لكنت صادقاً)(57).
ويلاحظ أنه (عليه السلام) قد ذكر هنا لصاحبه أمراً هامّاً يتعلّق بالتقيّة لأنّ لسان حاله كلسان حال جدّه الإمام (عليه السلام) الذي قال: التقيّة ديني وديني آبائي.. ولكن، ما دخل التقيّة هنا، وما الموجب لذكرها؟!.
الجواب أنه عرض لها في ختام حواره مع صاحبه بسبب أنّ الحوائج التي أوصاه بها لم يكتبها لئلاّ تقع في يد من لا أمانة له من عملاء السلطان وأدوات الاستخبارات والتجسّس في ذلك العهد الذي أذاق العلويّين أمرّ العيش وأضيقه.. ولذلك - فإنه بعد أن كرّر ذكرها على مسمع الرجل - طلب إليه أن يعيد تعدادها حتى لا يغيّر فيها ولا يبدّل، كما رأيت.

وقال إسحاق بن عبد الله العلويّ العريضيّ:

(ركب أبي وعمومتي إلى أبي الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، وقد اختلفوا في الأيام الأربعة التي تصام في السنة، وهو مقيم بصريا، قبل مسيره إلى سرّ من رأى.
فقال (عليه السلام): جئتم تسألوني عن الأيام التي تصام في السنة.
فقالوا: ما جئنا إلاّ لهذا.
فقال: اليوم السابع عشر من ربيع الأول وهو اليوم الذي ولد فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واليوم السابع والعشرون من رجب وهو اليوم الذي بعث فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة وهو اليوم الذي دحيت فيه الأرض، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم الغدير)(58).
فقد أجابهم قبل أن يسألوه!. وإنّك لتحسب كأنّه كان معهم حين اختلفوا في الموضوع قبل المجيء إليه (عليه السلام)، فأعدّ لهم الجواب وفجأهم به فور وصولهم ليريهم أنّ الإمام لا تخفى عليه أمورهم أينما كانوا، بقدرة الله تعالى ومنّه عليه بالكرامة والزّلفى.
ومن مكارم أخلاقه وجميل تصرّفه، ما حكاه عنه محمد بن طلحة - كما روى الإربليّ - حيث قال: (إنّه كان يوماً قد خرج من سرّ من رأى إلى قريةٍ لمهمّ عرض له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له: قد ذهب إلى الموضع الفلانيّ.
فقصده، فلمّا وصل قال (عليه السلام): ما حاجتك؟
فقال: أنا رجلّ من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاء جدّك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد ركبني دين فادح أثقلني حمله، ولم أر من أقصده لقضائه سواك.
فقال له أبو الحسن (عليه السلام): طب نفساً، وقرّ عيناً، ثم أنزله.
فلمّا أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن (عليه السلام): أريد منك حاجةً، الله الله أن تخالفني فيها!.
فقال الأعرابي: لا أخالفك.
فكتب أبو الحسن (عليه السلام) ورقةً بخطّه، معترفاً فيها أنّ للأعرابيّ مالاً عيّنه فيها، يرجح على دينه، وقال: خذ هذا الخطّ، فإذا وصلت إلى سرّ من رأى احضر إليّ وعندي جماعة فطالبني به وأغلظ القول عليّ في ترك إيفائك إيّاه.. الله الله في مخالفتي!.
فقال: أفعل.. وأخذ الخط.
فلمّا وصل أبو الحسن (عليه السلام) إلى سرّ من رأى، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم، حضر ذلك الرجل، وأخرج الخطّ وطالبه وقال كما أوصاه.. فألان له أبو الحسن (عليه السلام) القول، ورفقه وجعل يعتذر إليه، ووعده بوفائه وطيبة نفسه.
فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكل، فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن (عليه السلام) ثلاثون ألف درهم.
فلمّا حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل، فقال: خذ هذا المال فاقض به دينك، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك، واعذرنا.
فقال الأعرابي: يا بن رسول الله، والله إنّ أملي كان يقصر عن ثلث هذا، ولكنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته، وأخذ المال وانصرف)(59).
وهذه من مناقب الأوصياء والأولياء الصالحين يضربون المثل الأعلى في الغيريّة ليعلّموا الناس كرم الخلق والبرّ ونفع الآخرين ولو تنازلوا عن شيءٍ من مراتبهم السامية وتواضعوا ليوصلوا الحقّ إلى مستحقّة بحسن التدبير الذي إن خطر ببالك أنّه يحطّ من كرامتهم، كان بالحقيقة من مآثرهم التي ترفع شأنهم وتجعلهم سادةً في الأنام يعملون لرضى الله بإشاعة العدل، وتبريد غُلل ذوي الحاجات من قلوب عباده المحتاجين.
فالإمام يعلم أن الدسّاسين يشون به آنذاك و يتّهمونه بجمع الأموال والسلاح لينقضّ على الحكم بثورةٍ محرقةٍ مغرقةٍ.. ويعلم أن مجلسه في سرّ من رأى - حين مقابلة الأعرابي - سيضمّ بعض هؤلاء المنافقين.. في حين أنّه لا مال لديه، ولا سلاح.
وهذا الأعرابيّ لا حول له ولا طول.. ولا يصرف له حقّ من بيت مال المسلمين لأنه من المتشيّعين لعليّ وبنيه (عليهم السلام)، وهو مستغلّ يقيناً من ذوي الإقطاع والأطماع وولاة العرش الذين يتعمّدون ظلمه وتجويعه.. وخير طريقةٍ لسدّ حاجته هو أن ينال حقّه الذي كتب الله تعالى له من بيت المال أسوة بغيره من المعاصرين.. ولا يوصله إلى ذلك الحقّ إلاّ هذه الطريقة الفذّة التي ابتدعها - يومئذ - أبو الحسن (عليه السلام) ليكذّب بها دعوى من يدّعي أنّ الأموال تجبى إليه، والأسلحة تتجمع في منزله وما حواليه.
ولهذه المنقبة الشريفة نظيرة لها، رواها الديلميّ عن أبي أمامة الذي قال:
(إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال ذات يوم لأصحابه: ألا أحدّثكم عن الخضر؟
قالوا: بلى، يا رسول الله.
قال: بينا هو يمشي في سوقٍ من أسواق بني إسرائيل، إذ بصر به مسكين فقال: تصدّق عليّ بارك الله فيك.
قال الخضر (عليه السلام): آمنت بالله.. ما يقضي الله يكون.. ما عندي من شيءٍ أعطيكه.
قال المسكين: بوجه الله لما تصدّقت عليّ. إنّي رأيت الخير في وجهك، ورجوت الخير عندك.
قال الخضر (عليه السلام): آمنت بالله.. إنّك سألتني بأمر عظيم!. ما عندي من شيءٍ أعطيكه إلاّ أن تأخذني فتبيعني.
قال المسكين: وهل يستقيم هذا؟
قال (عليه السلام): الحقّ أقول لك، إنّك سألتني بأمر عظيم!. سألتني بوجه ربّي عزّ وجلّ.. أما إنّي لا أخيّبك في مسألتي بوجه ربّي فبعني.
فقدّمه إلى السوق، فباعه بأربعمائة درهم!. فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيءٍ. فقال الخضر (عليه السلام): إنّما ابتعتني التماس خدمتي، فمرني بعمل.
قال: إنّي أكره أن أشقّ عليك. إنّك شيخ كبير.
قال: لست تشقّ عليّ.
قال: فقم فانقل هذه الحجارة - قال: وكان لا ينقلها دون ستّة نفرٍ في يوم - .
فقام: فنقل الحجارة في ساعته، فقال له: أحسنت وأجملت، وأطقت ما لم يطقه أحد.
ثم عرض للرجل سفر فقال: إنّي أحسبك أميناً، فاخلفني في أهلي خلافةً حسنة. وإنّي أكره أن أشقّ عليك.
قال: لست تشقّ عليّ.
قال: فاضرب من اللّبن شيئاً حتى أرجع إليك - أي أصنع من الطّين ما يشبه الحجارة للبناء - .
فخرج الرجل لسفره، ورجع وقد شيّد بناءً!. فقال له الرجل: أسألك بوجه الله ما حسبك وما أمرك؟!.
قال: إنّك سألتني بأمر عظيم، وجه الله عزّ وجلّ، ووجه الله أوقعني في العبوديّة، وسأخبرك من أنا.. أنا الخضر الذي سمعت به. سألني مسكين صدقةً ولم يكن عندي شيء أعطيه. فسألني بوجه الله عزّ وجلّ، فجعلت نفسي عبداً له حتى باعني وانتفع بثمني.. ومن ردّ سائله وهو قادر على ذلك، وقف يوم القيامة ليس لوجهه جلد ولا لحم ولا عظم إلاّ يتقعقع - أي يحدث صوتاً عند التحريك! - .
قال الرجل: شققت عليك، ولم أعرفك.
قال: لا بأس، اتّقيت وأحسنت.
قال: بأبي أنت وأمي، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عزّ وجلّ، أمّ أخيّرك فأخلي سبيلك؟
قال (عليه السلام): أحبّ إليّ أن تخلي سبيلي، فأعبد الله.
فأخلى سبيله، فقال الخضر (عليه السلام): الحمد لله الذي أوقعني في العبوديّة فأنجاني منها)(60).
فهؤلاء صفوة من الناس، قد جبلهم الله سبحانه من طينة علّيّين ففاقوا جميع العالمين.. ولذا يستعصي على الباحث تحليل شخصيّاتهم الفذّة، وإدراك مغازي أفعالهم، إذ جعلهم خالقهم عزّ اسمه نماذج عليا من الخلق والطّيبة، تمثّل الحقّ والعدل والبرّ والرّحمة، وبرأهم على شاكلة النّاس، وهم على غير شاكلتهم بمعنى اصطفائهم وعطائهم الربّانيّ وكونهم القدوة المثلى للبشر على الأرض.
المصادر :
1- الأنعام: 37.
2- الأنعام: 109.
3- الرعد: 38 والمؤمن: 78.
4- يس: 15.
5- التغابن: 6.
6- التغابن: 6.
7- كشف الغمة: ج 3 ص 185 وبحار الأنوار: ج 50 ص 155.
8- المصدر السابق.
9- مدينة المعاجز: ص 543.
10- المصدر السابق.
11- مدينة المعاجز: ص 554.
12- كشف الغمة: ج 3 ص 189 - 180 وبحار الأنوار: ج 50 ص 142 / الخرائج والجرائح: ص 209/ الأنوار البهية: ص 249 - 250 ومدينة المعاجز: ص 547 وحلية الأبرار: ج 2 ص 464 - 465.
13- بحار الأنوار: ج 50 ص 161 - 162 ومدينة المعاجز: ص 548.
14- كشف الغمة: ج 3 ص 182 - 183 / مختار الخرائج والجرائح: ص 210 وهو في الأنوار البهية: ص 251 - 252.
15- بحار الأنوار: ج 50 ص 185 / وهو في مدينة المعاجز: ص 547.
16- بحار الأنوار: ج 50 ص 126 ومدينة المعاجز: ص 542 - 543.
17- بحار الأنوار: ج 50 ص 186 - 187 ومدينة المعاجز: ص 543.
18- بحار الأنوار: ج 50 ص 185 - 186. ومدينة المعاجز: ص 546.
19- مدينة المعاجز: ص 559
20- بحار الأنوار: ج 50 ص 174 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 416 - 417 ومدينة المعاجز: ص 554.
21- إبراهيم: 38.
22- مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 414 وبحار الأنوار: ج 50 ص 126 - 127 ومدينة المعاجز: ص 542 والأنوار البهية: ص 246 - 247 وحلية الأبرار: ج 2 ص 455 - 456 نقلاً عن الأمالي: ص 187
23- يونس: 99.
24- الإسراء: 89 والفرقان: 50.
25- الإرشاد: ص 312 - 313 وكشف الغمة: ج 3 ص 171 - 172 وبحار الأنوار: ج 50 ص 150 - 151 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 408 والكافي: م 1 ص 502 ومدينة المعاجز: ص 541.
26- كشف الغمة: ج 3 ص 183 وبحار الأنوار: ج 50 ص 145 - 146 ومدينة المعاجز ص 548 - 549.
27- المائدة:110.
28- الأنوار البهية: ص 252 - 253.
29- الأنبياء: 27.
30- بحار الأنوار: ج 50 ص 130 نقلاً عن بصائر الدرجات: ص 249.
31- بصائر الدرجات: ص 406 /مناقب أل أبي طالب: ج 4 ص 411 والكافي: م 1 ص 498 - 499 ومدينة المعاجز: ص 540.
32- كشف الغمة: ج 3 ص 188 وإعلام الورى: ص 343 وبحار الأنوار: ج 50 ص 138 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح والجرائح: ص 238 وهو في مدينة المعاجز: ص 545 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 باختصار شيءٍ من آخره.
33- بحار الأنوار: ج 50 ص 172 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 ومدينة المعاجز: ص 554.
34- أبو هاشم الجعفري هو داود، بن القاسم، بن إسحاق، بن عبد الله، بن جعفر، بن أبي طالب (عليهما السلام)، البغداديّ الثقة. وكان عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام)، عالي القدر. وهو من أصحاب الرّضا، والجواد، والهادي، والعسكري، والإمام الحجة المنتظر (عليهم السلام) جميعاً، ويكفيه بذلك توفيقاً وشرفاً وكرامة..
35- 35 - إعلام الورى: ص 345 وبحار الأنوار: ج 50 ص 137 - 138 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 237 وهو في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 409 والأنوار البهية: ص 247 - 248 ومدينة المعاجز: ص 545.
36- محمد: 25.
37- الحج: 46.
38- بحار الأنوار: ج 50 ص 129 نقلاً عن أمالي الصدوق: ص 412 وهو في الأنوار البهية: ص 262 دون آخره.
39- بحار الأنوار: ج 50 ص 129 - 130 ومدينة المعاجز: ص 555 ومناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417 مع زيادة بيت من الشّعر، هو: دخلنا كارهين لها، فلمّا ألفناها خرجنا مكرهينا.
40- بحار الأنوار: ج 50 ص 153.
41- كشف الغمة: ج 3 ص 174 - 175 وبحار الأنوار: ج 50 ص 176 - 177 ومدينة المعاجز: ص 543.
42- الكافي: م 1 ص 355 وبحار الأنوار: ج 50 ص 184 - 185 ومدينة المعاجز: ص 54.
43- الكافي: م 1 ص 355 وبحار الأنوار: ج 50 ص 184 - 185 ومدينة المعاجز: ص 54.
44- بحار الأنوار: ج 50 من ص 153 إلى ص 155 / مختار الخرائج والجرائح: ص 211 وهو في مدينة المعاجز: ص 550.
45- بحار الأنوار: ج50 ص130 وص131 نقلاً عن بصائر الدرجات: ص333، وهو في مدينة المعاجز: ص554.
46- كشف الغمة: ج3 ص179 / بصائر الدرجات: ص333 وانظر مناقب آل أبي طالب: ج4 ص408 - 409.
47- كشف الغمة: ج3 ص187 وإعلام الورى: ص343 وبحار الأنوار: ج50 ص136 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص237 وهو في مناقب آل أبي طالب: ج4 ص408 ومدينة المعاجز: ص545.
48- سورة الأنعام: 124.
49- كشف الغمة: ج 3 ص 178 - 179 وبحار الأنوار: ج 50 ص 180 - 181.
50- كشف الغمة: ج 3 ص 174 و ص 176 وبحار الأنوار: ج 50 ص 177.
51- المصدر السابق.
52- كشف الغمة: ج 3 ص 175 و ص 176 وبحار الأنوار: ج 50 ص 177.
53- البقرة: 255.
54- كشف الغمة: ج 3 ص 184 - 185.
55- بحار الأنوار: ج 50 ص 176 - 177 وكشف الغمة: ج 3 ص 175.
56- سبأ: 3.
57- بحار الأنوار: ج 50 ص 181 وكشف الغمة: ج 3 ص 179 وتحف العقول: ص 483.
58- مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 417 وبحار الأنوار: ج 50 ص 157 - 158 ومدينة المعاجز: ص 555.
59- الأنوار البهية: ص 255 - 256 وكشف الغمة: ج 3 ص 164 - 165 وبحار الأنوار: ج 50 ص 175 والصواعق المحرقة: ص 217 باختلافٍ يسيرٍ في اللفظ، وهو في حلية الأبرار: ج 2 ص 459 - 460.
60- الأنوار البهية: ص 256 - 257.


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

كيف نصر الله أنبيائه؟
الكميت بن زيد الأسدي وإخلاصه في أهل البيت عليهم ...
السيد محمد ابن الإمام الهادي (ع)
فاطمةالمعصومة علیها السلام
من فضائل الإمام علي (عليه السلام) في كتب أهل السنة
الحديث الفني
استشهاد الامام علي عليه السلام
طفولته وصباه
اهل البیت فی کلام النبی (ص)
إمامة الإمام الكاظم ( عليه السلام )

 
user comment