عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

ايام الامام العسکري علیه السلام

عاصر الامام العسكري علیه‌السلام ثلاثة من خلفاء بني‌العباس، هم: المعتز، و المهتدي، و المعتمد. فقد كانت في سني امامته بقية ملك المعتز ابن‌المتوكل، ثم ملك المهتدي ابن‌الواثق أحد عشر شهرا و ثمانية و عش
ايام الامام العسکري علیه السلام

عاصر الامام العسكري علیه‌السلام ثلاثة من خلفاء بني‌العباس، هم: المعتز، و المهتدي، و المعتمد. فقد كانت في سني امامته بقية ملك المعتز ابن‌المتوكل، ثم ملك المهتدي ابن‌الواثق أحد عشر شهرا و ثمانية و عشرين يوما، ثم ملك المعتمد ابن‌المتوكل عشرين سنة و أحد عشر شهرا! و بعد مضي خمس سنين من ملك المعتمد .
قام هذا الخليفة و من كان حوله من قراصنة الأمة في العصر الظالم بدس السم للامام علیه‌السلام في أول شهر ربيع الأول من سنة ستين و مائتين (1)، فقبضه الله تعالی اليه شهيدا، و أعد لظالميه ما يستحقونه من جزاء تلك الجريمة النكراء!. و لا أدري ما هو الجواب الذي اعدوه لجده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يوم يلقونه بدم ابنه الزكي علیه‌السلام!. و قد علل امامنا علیه‌السلام سبب قتله قبل قتله، اذ قال يوما لبعض أصحابه: «وضع بنوأمية و بنوالعباس سيوفهم علینا، لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون أن تستقر في مركزها؛ و سعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ابادة نسله طمعا في الوصول الي منع تولد القائم علیه‌السلام أو قتله، فأبي الله أن يكشف أمره لواحد منهم الا أن يتم نوره ولو كره المشركون».
فماذا جني أولئك الحاقدون علی الله تعالی اذ فضل غيرهم علیهم! و ماذا اجتني المحاربون لرسوله صلی الله علیه و آله و سلم اذ بلغ ما جاءه عن ربه، سوي أنهم حملوا أوزار تلك الآثام العظمي ليقابلوا بها الله و رسوله يوم الوقفة الكبري؟!. و لا أعلم كيف وافق معاصروهم من المسلمين، علی ما ادعوه من خلافة نبيهم بعد أن رأوهم يحكمون بخلاف دينه، و ينكلون بذريته و بأصحابه و أتباعه من المؤمنين؟!. و اذا افترضنا أن خلفاء ذلك الزمان: كانوا ملحدين في دين الله من أجل السلطان، فما بال غيرهم من حملة الدين و ذوي العمائم و اللحي من المتفقهين؟!. انه لا عجب أن يضل بعض الناس في الأمة.. و لكن أن تضل الأكثرية بضلال الأقلية فذلك أعجب!. و أن يسكت البعض عن الأمر بالمعروف، فذلك شي‌ء مألوف.. أما أن يسكت جميع ذوي الألباب فذلك أمر يدعو الی الارتياب!. و اذا مر هؤلاء - جميعا - في هذه الدنيا بدون عقاب، فلن ينفلتوا - جميعا - في الآخرة دون حساب... و عقاب!.
و لمستفهم أن يقول: لم يشرب الامام السم اذا دس اليه من أعدائه، مازال يعلم ما كان و ما يكون؟. و كيف يلقي بنفسه الی التهلكة، و هو يأمر الناس بعدم جواز ذلك؟!. و هذا الاستفهام في محله.. و لكن نجيب علیه بأمرين تيسرا لنا: أولهما: أن الامام لا يقاس بالبشر العاديين، فان له أحكاما تختلف عن أحكامهم؛ وهي خاصة به كسفير لله في أرضه، مرتبط بأوامر السماء حين ابتداء سفارته و حين انتهائها. و لذلك فانه يستسلم لقضاء الله تعالی و قدره بعد اتمام دوره الريادي و انتهاء أمد وظيفته.
و بهذا لا يكون قد ألقي بنفسه الي التهلكة، بل علم سبب موته - كما يعلم أسباب موت الآخرين - كما قدره الله سبحانه له، في حين أن الآخرين يجهلون أسباب موتهم عند حدوثها، حتي ولو كانت تلك الأسباب ناتجة عن رغباتهم، كأن يأكل الواحد أكلة يتسمم منها، أو أن يشرب الثاني علی عطش شديد فيشرق بالماء و يموت، أو أن يتناول الآخر عنبا بشره الي العنب فتسقط حبة في مجري نفسه وتخنقه... أو كأن يهدي أب لابنه سيارة يوم عرسه، فيقودها جذلا فرحا فيصدمها بعمود أو بجدار فيعجنها مع لحمه و دمه و لحم عروسه ودمها.. فيموت هؤلاء - و غيرهم - بقضاء الله تعالی و قدره الذي يجهلونه تمام الجهل، في حين أن الامام يعرف سبب منيته، و لكنه يمتثل أمر مولاه، و يغادر دنياه و أوضارها، الي آخرته ونعيمها و رضوانها، و هو علی بينة من أمره من أوله الي منتهاه في حين أن الآخرين لا يعلمون من ذلك الا قليلا. وكذلك كان شأن أميرالمؤمنين، و شأن ابنه الحسين علیه‌السلام‌هما اللذين برزا الي مضجع القتل امتثالا لقضاء الله تعالی وقدره، و هو شأن أولياء الله تعالی و أصفيائه جميعا، بل ان في المروي عندنا أن المؤمن لا يقبضه الله تعالی اليه، حتي يرضي هو بالموت ويتمناه و يطلبه بعد أن يقابل جحيم الدنيا بنعيم الآخرة، و بعد أن يدرك أن الدنيا سجن المؤمن، و جنة الكافر.
و ثانيهما: أن الامام علیه‌السلام أوضح لنا هذه النكتة الدقيقة، و جلا بعض غوامضها التي يوقفنا عندها شيطان الجهل بأوامر الغيب. فقد قال أحمد بن محمد بن ابراهيم بن أبي‌محمود: «قلت: الامام يعلم متي يموت؟. قال - علیه‌السلام -: نعم. فقلت: بحيث ما بعث اليه يحيي بن خالد - البرمكي - برطب و ريحان مسمومين، علم به؟!. قال: نعم. قلت: فأكله و هو يعلم؟! فكيف يكون معينا علی نفسه؟!! فقال: لا يعلم قبل ذلك ليتقدم فيما يحتاج اليه. فاذا جاء الوقت ألقي الله علی قلبه النسيان ليقضي فيه الحكم» (2) .
و هكذا يهون الأمر علی المتعجب، اذا أضاف الي ما قلناه بمقالة النسيان التي ذكرها الامام علیه‌السلام في رده علی استهجان صاحبه، مضافا الي أن ذلك يكون قرار انتهاء سفارته علی الخلق، فليس للسفير أن يعترض علی انهاء مدته. و في كل حال لا يجوز أن ينصب لومنا علی القتيل، لئلا نلهو عن القاتل و نكتب في تقريرنا: فر القاتل، و قبضنا علی القتيل!. فبذلك نعذر القتلة و المجرمين: من قابيل، الي يزيد بن معاوية، الي يزيدي كل عصر.. نعم عرف امامنا علیه‌السلام موعد اغتياله لأنه أمر محتوم صادر مبرما من عند ربه عز و علا، فان سفارته الالهية لا بد أن تنتهي في وقت معين لا ينخرم.. تماما كما تنتهي سفارة كل سفير لأية دولة اذا بلغ سن التقاعد و الاعفاء من العمل. و قد أعلم امامنا علیه‌السلام بذلك - أول من أعلم - أمه رضي الله تعالی عنها. فقد روي محمد بن أبي‌الزعفران أنها قالت: «قال لي أبومحمد يوما من الأيام: تصيبني في سنة ستين حزازة - أي غيظ - أخاف أن أنكب فيها نكبة. فان سلمت منها فالي سنة سبعين. فأظهرت الجزع و بكت. فقال - علیه‌السلام.. لا بد من وقوع أمر الله، فلا تجزعي. فلما كان أيام صفر، أخذها المقيم المقعد - أي الحزن الشديد - و جعلت تقوم و تقعد، و تخرج في بعض الأحايين الي الجبل، و تجسس الأخبار، حتي ورد علیها الخبر» (3) .
و يبدو لك اللين و الرحمة في كلام الامام علیه‌السلام مع والدته حين لا يفجأها بالأمر فيفجعها بمصيبة واقعة في وقت معين بدقة، بل يترك لها فسحة ينتعش فيه أملها ما بين سنة الستين، و سنة السبعين.. و في الوقت نفسه يورد لنا عبارة: لابد من وقوع أمر الله، التي تحمل كل المعاني التي يمكن أن يدور حولها تفكيرنا لتبرير قبول الامام بالموت و بملاقاة وجه ربه الذي انتدبه لأمره. ثم اختار له جواره في مقعد الصدق بساحة رضوانه. و كذلك قال أحمد بن اسحاق بن مصقلة - في حديث -: «.. ثم أمر أبومحمد علیه‌السلام والدته بالحج في سنة تسع و خمسين و مائتين، و عرفها ما يناله في سنة ستين. ثم سلم الاسم الأعظم و المواريث و السلاح الي القائم الصاحب علیه‌السلام، و خرجت أم أبي‌محمد مع الصاحب» علیه‌السلام‌هما الي مكه: و كان أحمد بن مطهر، أبوعلی، المتولي لما يحتاج اليه الوكيل. فلما بلغوا بعض المنازل من طريق مكة، تلقي... الفوافل فأخبروهم بشدة الخوف و قلة الماء فرجع أكثر الناس، الا من كان في الناحية - أي في قافلة الامامة - فانهم تقدموا... علیهم أمره علیه‌السلام بالنفوذ» (4) .
و من الطبيعي أن تنفذ أسرة الامام سلمة لأن علی رأسها ابنه الميمون الطلعه الذي حمل اسم الله الأعظم ومواريث السماء. و يلاحظ أن الامام علیه‌السلام كان بتهيأ للأمر العظيم.. الذي هو لقاء وجه ربه الكريم، و يعد لذلك و يستعد، و يرتب أمور والدته و ابنه قبل أن يرحل عن دار سوء و قرنا، سوء يعلم أنهم سيخيفون نساءه و حواريه بعد تنفيذ مؤامرتهم الخبيثة. و من بعد اخبار أمه رضي الله تعالی عنها بمجمل ما يجري علیه، نوه بذلك لأصحابه في مناسبات شتي. فعن أبي‌غانم، قال: «سمعت أبامحمد علیه‌السلام يقول: في سنة مائتين و ستين تفترق شيعتي. و فيها قبض أبومحمد علیه‌السلام، و تفرقت شيعته و أنصاره. فمنهم من انتهي الي جعفر - أخيه - الذي ادعي الولاية العامة، ومنهم من أتاه و شك، و منهم من وقف علی الحيرة، و منهم من ثبت علی دينه بتوفيق الله عزوجل» (5) .
وكان علیه‌السلام قد قال لشيعته في تلك السنة بالذات: «أمرناكم بالتختم في اليمين و نحن بين ظهرانيكم؛ و الآن نأمركم بالتختم في الشمال لغيبتنا عنكم، الي أن يظهر الله أمانا و أمركم، فانه من أدل دليل علیكم في ولايتنا أهل البيت. فخلعوا خواتيمهم من أيمانهم بين يديه، و لبسوها في شمائلهم. و قال علیه‌السلام: حدثوا بذلك شيعتنا» (6) . فما أجمل أن يتميز شيعته عن غيرهم بعلامة فارقة - كالتختم بالشمال - ليعرف بعضهم بعضا دون سؤال و جواب في ذلك الظرف العصيب الذي كانوا يمرون به من ظلم الحكام و غشمهم!. و من البديهي أن من يعرف آجال الناس لا يخفي علیه موعد أجله، فان الأئمة علیهم‌السلام أوتوا علم المنايا و البلايا فيما أوتوه من المواهب الربانية التي اختصهم الله تعالی بها.
و كانوا يخبرون الكثيرين بمواعيد موتهم، أو موتمن يخصهم، أو موت أحد أعدائهم، لارجما بالغيب، بل قطعا و جزما، لأن ذلك في أيديهم، و في كتاب لديهم مسطور و محفوظ في الصدور، اذ لا يغيب عنهم شي‌ء باذن ربهم عز اسمه، الا الذي لا شأن به لغير الخالق العظيم عزوعلا. .. وبالفعل قد اعتل الامام علیه‌السلام فجأة في أول شهر ربيع الأول من سنة مائتين و ستين، و توفي ليلة الجمعة لثمان خلون منه، متأثرا بالسم الذي جعله خليفة الزمان من جنده كما جعله آباؤه السمامون من قبله.. و دفن في البيت الذي دفن فيه أبوه من دارهما بسر من رأي، بعد أن كان عمره أقل من ثمان و عشرين سنة (7) ، و مقامهما الشريف مزار مقدس الي اليوم، ترتفع قبابه المذهبة في الآجواء، و يؤمه في السنة مئات ألوف المؤمنين الذين يطلبون بذلك البركة و الزلفي لدي سادة الخلق و رواد الحق. و كان مقامه مع أبيه علیه‌السلام ثلاثا و عشرين سنة و أشهرا، و عاش بعده ست سنين، و قيل خمس سنين و ثمانية أشهر و ثلاثة عشر يوما بالضبط، و الله أعلم. قال ابن‌الأثير في تاريخه «الكامل»: «في سنة 260 هجرية توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسی بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي‌طالب علیه‌السلام» .
ثم - بعد أن ذكره و عرف بنسبه الشريف تفصيلا كما تري - أعمي الشيطان قلبه عن معرفته بالذات، فقل بعد هذا الكلام بقليل: «و فيها توفي أبومحمد العلوي العسكري، و هو أحد الأئمة الاثني عشر علی مذهب الامامية، و هو والد محمد الذي يعتقد أنه المنتظر بسرداب سامراء» (8) . فقد رأي بنظره الأحوال - المائل عن الحق - أن المتوفيين اثنان: أحدهما الحسن بن علی... الخ، و ثانيهما أبومحمد العلوي!. ثم لفرط تجاهله للحق - رمي الشيعة بفرية انتظار خروج امامهم من السرداب بدافع من عصبية أبي‌جهل و أبي‌لهب و بقية الفجار من ذلك الجيش الجرار الذي نافق علی نفسه و علی غيره، فضل وأضل.. و قريب - جدا - هو ذلك اليوم الذي يخرج فيه الامام المنتظر لدولة الحق، ليدمر السراديب و الأنفاق و الملاجي‌ء التي يختبي‌ء فيها من سيفه أولئك المنافقون!. و كذلك قال المسعودي في مروج الذهب: «و في سنة ستين و مائتين قبض أبومحمد، الحسن بن علي علیه‌السلام، في خلافة «المعتمد»، و هو ابن‌تسع و عشرين سنة. و هو أبوالمهدي المنتظر، الامام الثاني عشر، بعد القطيعة من الامامية و هم جمهور الشيعة. و قد تنازع هؤلاء في المنتظر من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم بعد وفاة الحسن بن علي علیه‌السلام‌هما، وافترقوا عشرين فرقة» (9) .
و جاء في كتاب «كمال‌الدين» ما نصه: «وجدت مثبتا في بعض الكتب المصنفة في التواريخ، عن محمد بن الحسين بن عباد، أنه قال: مات أبومحمد علیه‌السلام يوم الجمعة مع صلاة الغداة، و كان في تلك الليلة قد كتب كتبا كثيرة الي المدينة... و لم يحضره الا صقيل الجارية - أي أم‌الحجة عجل الله تعالی فرجه - و عقيد الخادم، و من علم الله غيرهما. قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي، فجئنا به. فقال: أبدأ بالصلاة. جيئوني به - أي بالماء للوضوء -. فجئنا به، و بسطنا في حجره المنديل، و أخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه و ذراعيه مرة مرة، و مسح علی [رأسه] وقدميه مسحا.
و صلی صلاة الصبح علی فراشه. و أخذ القدح ليشرب، فأخذ القدح يضرب ثناياه، و يده ترتعش!. فأخذت صقيل القدح من يده، و مضي من ساعته صلی الله علیه.... الخ...» (10)و الحديث طويل تجده في غير هذا المكان، جزءا من حادثة هي احدي تمثيليات قصر الحكم و الظلم. و اذا أردت أن تشاهد تمثيلية القصر، التي تمت بها عملية الغدر، فسأترك خشبة المسرح ليظهر علیها عدو كاره للامام علیه‌السلام، يروي لك ترتيب المكيدة المحبوكة من قبل الخليفة مع وزرائه، ومستشاريه، وأطبائه، و قواد عسكره، و قضاة الشرع في قصره، ليمثل كل منهم دوره بدقة و اهتمام، و ليوهموا الناس أنهم كانوا حريصين - كل الحرص - علی راحة الامام و سلامته و بقائه حيا!. أجل، يظهر لك علی المسرح خصم للعلويين عنيد، و كاره للامام شديد، فيقدم شهادته التي توضح معالم صورة ما جري يومئذ، بعد مقدمة يبين فيها عظمة الامام علیه‌السلام التي كان يعرفها الموالي و المعادي علی حد سواء.. فقد روي محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد الأشعري، و محمد بن يحيي، وغيرهما ، أنهم قالوا: «كان أحمد بن عبيدالله بن خاقان علی الضياع و الخراج في قم - أي مديرا للدخل و الضرائب و المال في الناحية، و معتمدا لاستيفاء ذلك - فجري في مجلسه ذكر العلوية و مذاهبهم.
و كان شديد النصب و الانحراف عن أهل‌البيت علیهم‌السلام، فقال: ما رأيت و ما عرفت بسر من رأی رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه و سكونه، و عفافه، و نبله، و كرمه، وكبرته عند أهل بيته و السلطان و جميع بني‌هاشم، و تقديمهم اياه علی ذوي السن منهم و الخطورة و كذلك كانت حاله عند القواد و الوزراء و الكتاب و عامة الناس. فأذكر أني كنت يوما قائما علی رأس أبي - أي يحيي بن خاقان، الوزير المقرب - و هو يوم مجلسه للناس، اذ دخل علیه حجابه فقالوا: أبومحمد، ابن‌الرضا بالباب!. فقال بصوت عال: ائذنوا له. فتعجبت مما سمعت منهم، و من جسارتهم أن يكنوا رجلا بحضرة أبي، و لم يكن يكني عنده الا خليفة، أو ولي عهد، أو من أمر السلطان أن يكني عنده. فدخل رجل أسمر اللون، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة و هيبة حسنة!. فلما نظر اليه أبي‌قام فمشي اليه خطي؛ و لا أعلمه فعل هذا بأحد من بني‌هاشم و لا القواد و لا بأولياء العهد!.
فلما دنا منه عانقه و قبل وجهه و صدره، و أخذ بيده فأجلسه علی مصلاه الذي كان علیه، و جلس الی جنبه مقبلا علیه بوجهه؛ و جعل يكلمه و يكنيه و يفديه بنفسه، و أنا متعجب مما رأي منه، اذ دخل علیه الحاجب فقال: «الموفق» قد جاء. و كان «الموفق» اذا دخل أبي‌تقدم حجابه و خاصة قواده فقاموا بين مجلس أبي و بين باب الدار سماطين - أي صفين - الي أن يدخل و يخرج. فلم يزل أبي‌مقبلا علی أبي‌محمد يحدثه حتي نظر الي غلمان الخاصة، فقال حينئذ: اذا شئت فقم جعلني الله فداك يا أبامحمد!. ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتي لا يراه هذا. - يعني «الموفق» -. فقام، و قام أبي‌فعانقه و قبل وجهه، ومضي.
فقلت لحجاب أبي و غلمانه: ويلكم، من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي، و فعل أبي به هذا الفعل؟!. فقالوا: هذا رجل علوي يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن‌الرضا. فازددت تعجبا، و لم أزل يومي ذاك قلقا متفكرا في أمره و أمر أبي، وما رأيت فيه، حتي كان الليل و كانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس و ينظر فيما يحتاج اليه من المؤامرات - أي المشاورات - و ما يرفعه الي السلطان. فلما صلی و جلس ونظر، جئت فجلست بين يديه، و ليس عنده أحد. فقال لي: يا أحمد، لك حاجة؟. قلت: نعم يا أبه، فان أذنت لي سألتك عنها. فقال: قد أذنت يا بني، فقل ما أحببت. قلت: يا أبه، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاجلال و الاكرام و التبجيل، و فديته بنفسك و أبويك؟!. فقال: يا بني، ذاك امام الرافضة.
ذلك الحسن بن علي، المعروف بابن‌الرضا. و سكت ساعة، و أنا ساكت، ثم قال: يا بني، لو زالت الخلافة عن خلفاء بني‌العباس، ما استحقها أحد من بني‌هاشم غيره!. فانه يستحقها لفضله، و عفافه، و هديه، و صيانته لنفسه، و زهده، و عبادته، و جميل أخلاقه، و صلاحه!. ولو رأيت أباه لرأيت رجلا جليلا نبيلا، فاضلا. فازددت قلقا و تفكرا، و غيظا علی أبي مما سمعت منه فيه، و رأيت من فعله و قوله فيها ما قال.. فلم يكن عندي همة بعد ذلك الا السؤال عن خبره، و البحث عن أمره!. فما سألت أحدا من بني‌هاشم، و القواد، و الكتاب، و القضاة، و الفقهاء، و سائر الناس، الا وجدته عندهم في غاية الاجلال و الاعظام، و المحل الرفيع، و القول الجميل، و التقديم له علی جميع أهل بيته و مشايخهم و غيرهم، و كل يقول: هذا امام الرافضة!. فعظم قدره عندي، اذ لم أر وليا، و لا عدوا، الا و هو يحسن القول فيه و الثناء علیه! (11) .
فقال له بعض من حضره في مجلسه من الأشعريين: يا أبابكر، ما حال أخيه جعفر؟. فقال: و من جعفر فيسأل عن خبره؟!. أو يقرن بالحسن؟!. ان جعفرا معلن الفسق، فاجر، ماجن، شريب للخمور، أقل من رأيت من الرجال، و أهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه!. [و فيما يلي يبدأ عبيدالله بن خاقان برسم صورة الغدر السلطاني المدبر بليل لاغتيال الامام علیه‌السلام و قتله، فيقول:] لقد ورد علی السلطان و أصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي علیه‌السلام ما تعجبت منه، و ما ظننت أنه يكون منه!. و ذلك أنه لما اعتل بعث - أي السلطان - الي أبي أن ابن‌الرضا علیه‌السلام قد اعتل - و ذلك حين أخبره جواسيسه أن سمه قد فعل فعله -. فركب من ساعته فبادر الي دار الخلافة، ثم رجع مستعجلا و معه خمسة من خدام أميرالمؤمنين، كلهم من ثقاته و خاصته، و فيهم «نحرير» فأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي و تعرف خبره و حاله!. و بعث الي نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف اليه و تعاهده صباحا و مساء!. - و هنا تبدو دقة الحبك في المؤامرة النكراء، اذا بدأ دار الخلافة يجمع شهود الزور من كل الفئات! -.
فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، جاءه من أخبره أنه قد ضعف، فركب حتي بكر اليه، ثم أمر المتطببين بلزوم داره، و بعث الي قاضي القضاة - شاهد الزور الأكبر في قصره - فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه، و أمانته، و ورعه -! - فأحضرهم و بعث بهم الي دار الحسن و أمرهم بلزومه ليلا و نهارا؛ فلم يزالوا هناك حتي توفي علیه‌السلام. فلما ذاع خبر وفاته، صارت سر من رأی ضجة واحدة: مات ابن‌الرضا!! و عطلت الأسواق، و ركب بنوهاشم، و القواد، و الكتاب، و المعدلون، و سائر الناس، الي جنازته. و بعث السلطان الي داره من فتشها و فتش حجرها و ختم علی جميع ما فيها!. و طلبوا أثر ولده، و جاؤوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن علی جواريه فنظرن اليهن. فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حبل، فأمر بها فجعلت في حجرة، و وكل بها «نحرير» الخادم و أصحابه و نسوة معهم!. - يريد خليفة الزمان أن يطفي‌ء بذلك نور الله، و يقتل وليه في أرضه ارصادا لما جاء عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و حيا من ربه تبارك و تعالی!! -. ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، و كانت سر من رأی يومئذ شبيهة بالقيامة!. فلما فرغوا من ذلك، بعث السلطان الي أبي‌عيسي، ابن‌المتوكل، فأمره بالصلاة علیه فلما وضعت الجنازة للصلاة علیه، دنا أبوعيسي منه، فكشف عن وجهه فعرضه علی بني‌هاشم من العلوية و العباسية، و القواد، و الكتاب، و القضاة، و المعدلين، و قال: هذا الحسن بن علی بن محمد بن الرضا، مات حتف أنفه علی فراشه.
حضره من حضر من خدم أميرالمؤمنين و ثقاته: فلان و فلان، و من القضاة فلان و فلان، و من المتطببين فلان و فلان!!! - و تم بذلك اعلان شهادة الزور العظمي -. ثم غطي وجهه، و قام فصلی علیه وأمر بحمله. و حمل من وسط داره، و دفن في البيت الذي دفن فيه أبوه.. - ثم أكمل عبيدالله بن خاقان سرد الرواية قائلا: - فجاء جعفر بعد ذلك الي أبي و قال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأوصل اليك في كل سنة عشرين ألف دينار. فزبره أبي - أي زجره و انتهره - وأسمعه كلاما خشنا كريها، و قال له: يا أحمق، ان السلطان جرد سيفه و سوطه في الذين يزعمون أن أباك وأخاك أئمة لردهم عن ذلك!. وجهد أن يزيل أباك و أخاك عن تلك الرتبة فلم يقدر و لا تهيأ له ذلك!. فان كنت عند شيعة أبيك وأخيك اماما، فلا حاجة بك الي سلطان أن يرتبك مراتبهما و لا غير سلطان. و ان لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا!. و استقله أبي عند ذلك و استضعفه، وأمر أن يحجب عنه. فلم يأذن له بالدخول علیه حتي مات أبي.. .. وخرجنا و الأمر علی تلك الحال، و السلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي حتي اليوم، و هو لا يجد الي ذلك سبيلا، و شيعته مقيمون علی أنه مات و خلف ولدا يقوم مقامه بالامامة» (12) .
وبهذه الشهادة المفصلة يظهر لك كيف هب سلطان القصر و من فيه، حين علموا بسريان سمهم في جسم الامام صلوات الله علیه.. فركب الوزير، و أخبر الأمير، و صدرت الأوامر المعجلة، فخرجت فرق الوزراء، و القواد، والكتاب، و القضاة و المعدلين، والمتطببين.. ليكذبوا - جميعا - علی الناس و يقولوا لهم: مات الامام علی فراشه!. فيا ويلهم من الله، في يوم الله!!! ... و لما مات علیه‌السلام غسله ابنه صاحب الزمان عجل الله تعالی فرجه - و حضر غسله عثمان بن سعيد العمري رضي الله عنه وأرضاه، و تولي جميع أمره في تكفينه و تحنيطه و تقبيره. و قال الشيخ علی السيد آبادي في المقنع: «ان الحسن بن علي نص علی ولده الخلف الصالح علیه‌السلام، و جعل وكيله أبامحمد، عثمان بن سعيد العمري، الوسيط بينه و بين شيعته في حياته. فما أدركته الوفاة أمره فجمع شيعته و أخبرهم أن لولده الخلف الصالح الأمر من بعده، و أن أبامحمد، عثمان بن سعيد العمري وكيله، و هو بابه و السفير بينه و بين شيعته، فمن كانت له حاجة قصده كما كان يقصده في حال حياته، و سلم اليه جواريه. فلما قبض علیه‌السلام، تكلم أخوه جعفر و ادعي الامامة لنفسه، و بذل للمعتمد بذلا شاع ذكره، فقال له وزير المعتمد: قد كان «المتوكل» و غيره، يروم مسخ ناموس أخيك فلم يصح لهم. فاستمل أنت شيعته بما تقدر علیه.
فلما لم يبلغ غرضه سعي بجواري أخيه و قال: في جملة الجواري جارية اذا ولدت ولدا يكون ذهاب دولتكم علی يده!. فأنفذ «المعتمد» الي عثمان بن سعيد، و أمره أن ينقلهن الي دار القاضي و بعض الشهود - من النساء - حتي يستبرئهن بالوضع.
فسلمهن الي ذلك العدل ؟؟ فأقمن عنده سنة، ثم ردهن الي عثمان بن سعيد، لأن الولد المطلوب كان قد ولد قبل ذلك بست سنين، و أظهره أبوه الحسن علیه‌السلام لخاصة شيعته، و أراهم شخصه، و عرفهم بأنه الذي يقصد اليه منه. فلما تسلم عثمان بن سعيد الجواري، و فيهن أم صاحب الأمر علیه‌السلام، نقلهن الي مدينة السلام. وكانت الشيعة تقصده من كل بلد بقصص و حوائج، وكانت الأجوبة تخرج اليهم علی يده» (13) . و قد قال عثمان بن سعيد قدس الله نفسه الزكية لعبد الله بن جعفر الحميري: «ان الأمر عند السلطان أن أبامحمد علیه‌السلام مضي ولم يخلف ولدا، و قسم ميراثه و أخذه من لا حق له به، و صبر علی ذلك. و هو ذا عياله يجولون، و ليس أحد يجسر أن يتعرف اليهم، أو ينبئهم شيئا!» (14) .
ذلك أن جعفر بن علي - الكذاب - استولي علی تركة أخيه، و شنع علی أهله و كافة أصحابه بعد أن رفضوا ادعاءه الامامة و لم يجتمع علیه اثنان، فأغري بهم السلطة و جر علیهم و علی عائلة أخيه كل عظيمة من اعتقال و حبس و تهديد و تشريد (15)كما رأيت.. فليعد بنوالعباس وثائق الدفاع عن أنفسهم أمام الله في يوم العدل، حيث يبعثون و في رقابهم أمثال هذه الجرائم الكبري!. فانه (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ، فاليوم لا تظلم نفس شيئا و لا تجزون الا ما كنتم تعملون) (16). و قال أبوالحسن،علي بن محمد بن حباب: حدثنا أبوالأديان، قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسی بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي‌طالب علیهم‌السلام، و أحمل كتبه الي الأمصار. فدخلت اليه في علته التي توفي فيها صلوات الله علیه، فكتب معي كتبا، و قال: تمضي الي المدائن؛ فانك ستغيب خمسة عشر يوما، فتدخل الي سر من رأی يوم الخامس عشر و تسمع الواعية - أي صراخ الباكية النادبة - في داري، و تجدني علی المغتسل. فقلت: يا سيدي، فاذا كان ذلك، فمن؟! - أي من الامام بعدك؟!. فقال: من طالبك بجواب كتبي فهو القائم بعدي. فقلت: زدني. [فقال: من يصلي علی فهو القائم بعدي. فقلت: زدني. فقال: من أخبر ما في الهميان فهو القائم بعدي. ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان، و خرجت بالكتب الي المدائن. وأخذت جواباتها، و دخلت سر من رأی يوم الخامس عشر كما قال لي علیه‌السلام، فاذا أنا بالواعية في داره، و اذا أنا بجعفر بن علي، أخيه، بباب الدار، و الشيعة يعزونه و يهنئونه! فقلت في نفسي: اذا كان هذا الامام فقد حالت الامامة - أي انحرافت عن قصدها - لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ، و يقامر في الجوسق - أي القصر - و يلعب بالطيور. فتقدمت فعزيت و هنأت فلم يسألني عن شي‌ء.
ثم خرج عقيد - الخادم - فقال: يا سيدي قد كفن أخوك، فقم للصلاة علیه. فدخل جعفر بن علي و الشيعة من حوله، يقدمهم السمان ، و الحسن بن علي قتيل «المعتصم» المعروف بسلمة. فلما صرنا بالدار اذا نحن بالحسن بن علي علیه‌السلام علی نعشه مكفنا. فتقدم جعفر بن علي ليصلي علی أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، و بشعره قطط، و بأسنانه تفليج فجبذ رداء جعفر بن علي - أي جذبه و شده - و قال: تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة علی أبي!. فتأخر جعفر و قد اربد وجهه - أي صار أغبر أسود! - فتقدم الصبي فصلی علیه، و دفن الي جانب قبر أبيه. ثم قال: يا بصري، هات جوابات الكتب التي معك. فدفعتها اليه و قلت في نفسي: هذه اثنتان - أي صار عنده علامتان: الصلاة و طلب الكتب -. و بقي الهميان.
ثم خرجت الي جعفر بن علي و هو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي، من الصبي؟!. ليقيم الحمية علیه. - كأنه كان ينكر ولادته علیه‌السلام -. فقال: و الله ما رأيته قط، و لا عرفته. فنحن جلوس اذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن علي، فعرفوا موته، فقالوا: فمن؟. فأشار الناس الي جعفر بن علي. فسلموا علیه و عزوه و هنأوه، و قالوا: معنا كتب و مال، فتقول ممن الكتب؟. و كم المال؟. فقام ينفض أثوابه و يقول: يريدون منا أن نعلم الغيب!. فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان و فلان، و هميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلسة - أي ذهب أثر نقشها -. فدفعوا اليه الكتب و المال، و قالوا: الذي وجه بك لأجل ذلك هو الامام. فدخل جعفر بن علي علی «المعتمد» وكشف له ذلك. فوجه «المعتمد» خدمه فقبضوا علی صقيل الجارية و طالبوها بالصبي، فأنكرته وادعت حملا بها لتغطي علی حال الصبي، فسلمت الي ابن أبي‌الشوارب القاضي.
و جعلت نساء «المعتمد» و خدمه، ونساء القاضي المذكور، يتعاهدن أمرها في كل وقت و يراعونه، الي أن دهمهم أمر «الصفار» . و بغتهم موت عبيدالله بن يحيي بن خاقان فجأة، و خروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم و الحمد لله رب العالمين» (17) . و كذلك قال ابراهيم بن محمد التبريزي: «دخلت دار أبي‌محمد، الحسن بن علي علیه‌السلام بسر من رأی يوم توفي و أخرجت جنازته، و وضعت و نحن تسعة و ثلاثون رجلا قعود ننتظر - و هؤلاء من الشيعة الأبدال الثقات - حتي خرج علینا غلام عشاري القد - كأن عمره عشر سنين - علیه رداء قد تقنع به. فلما خرج قمنا هيبة له من غير أن نعرفه. فتقدم و قام من الناس و اصطفوا خلفه فصلی علیه. و مشي فدخل بيتا غير الذي خرج منه» (18) .
فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي ألبس عبده المختار لأمره رداء علیه مسحة من جلاله و عظمته و هيبته، فصار يهاب و يعظم من غير أن يعرف، بل بدافع نفسي ينبعث من العقل الباطني الذي يعمل بمعزل عن ارادة صاحبه!. وأخيرا نضع بين يدي القاري‌ء العزيز روايتين فيهما أسمي معاني المفارقات بين الحق و الباطل، و أوضح البراهين علی أن الله تعالی يتولي أمر أهل بيت الوحي و التنزيل الذين ميزهم عن سائر خلقه بأن جعلهم أمناءه علی كلمة السماء لأهل الأرض. و أعطاهم الجاه و العظمة اللتين لم يستطع أعداؤه و أعداؤهم محوهما في الحياة، و لا طمس آثارهما عند الممات. الرواية الأولي: هي ما حكاه أبوهاشم الجعفري الذي قال: «قال أبومحمد «الحسن بن علي علیه‌السلام: قبري بسر من رأی أمان لأهل الخافقين» (19).
و في قوله صلوات الله علیه أمران لن نتجاوز ذكرهما: الأول: أنه كيف أطلق هذا الكلام المؤكد أن قبره سيكون في سر من رأي، و هو ما يزال في ريعان شبابه و أيام أمله في الحياة (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ علیمٌ خَبِيرٌ) (20) . و الثاني: أنه كيف ضمن لمقامه الشريف هذه الوجاهة عند الله ليؤمه الخائفون المستجيرون فيجدوا عنده الراحة النفسية و الأمن و الاطمئنان الي ما يرضي الخالق عزوجل؟. و بالفعل فان مقامه ومقام أبيه علیه‌السلام‌هما لكذلك!. فهو أمان لأهل الشرق و الغرب، و محجة لمئات ألوف الزوار في كل عام، ومطاف لهم، يقصدونه للتشرف به و ليطلبوا البركة و الزلفي لدي رب الأرباب بتقبيل تلك الأعتاب المقدسة (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله)(21) .
فالله سبحانه أولي بآل الله!. و لا سلطان لغيره تعالی علیهم. لأنه تبارك و تعالی قال: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (22) . وأئمتنا علیهم‌السلام علی رأس الذين آمنوا به. فتأكد نصرهم من عنده عزوجل: في الحياة الدنيا، و في الآخرة، بموجب قوله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه..
و الرواية الثانية: هي ماحكاه علي بن عيسي الاربلي رحمه الله الذي قال: «حكي لي بعض الأصحاب أن «المستنصر» - الخليفة العباسي - رحمه الله تعالی مشي مرة الي سر من رأی وزار العسكريين علیه‌السلام‌هما ، و خرج فزار التربة التي دفن فيها الخلفاء من آبائه و أهل بيته و هم في قبة خربة يصيبها المطر و درق الطيور - سلحها -، و أنا رأيتها في هذه الحال!. فقيل له: أنتم خلفاء الأرض و ملوك الدنيا، و لكم الأمر في العالم، و هذه قبور آبائكم بهذه الحال، لا يزورها زائر و لا يخطر بها خاطر، و ليس فيها أحد يميط عنها الأدي - أي يزيل الوسخ -!. و قبور هؤلاء العلويين كما ترونها بالستور، و القناديل، و الزوالي - السجاجيد - و الفراشين - الخدم - و الشمع، و البخور، و غير ذلك!!! فقال - «المستنصر» -: هذا أمر سماوي، لايحصل باجتهادنا!. ولو حملنا الناس علی ذلك ما قبلوا و لا فعلوا» (23) . لا و الله لا يقبلون، و لا يفعلون، كما قلت يا «مستنصر»!. ذاك أن خلفاء أسرتك استنصروا بغير الله علی عباد الله و ظلموهم.. و الظلم مرتعه وخيم!. و ان ديار الظالمين خراب.. و قبورهم يباب، ومطارح للأقذار، و مسارح للذباب!. فاني بني‌أمية و بني‌العباس ملكوا الأرض شرقها و غربها قرابة خمسمائة سنة، و كانت سلطتهم ممتدة علی العالمين، و الخطب تستفتح علی المنابر بأسمائهم و بالدعاء لهم، ثم انتهي أمرهم و لم يشد أحد من الخلق الرحال لزيارة قبر من قبورهم - التي أصبح أكثرها مجهولا - و لا نشط لها واحد بقصد بركة أو قربي لله عزوجل، و لا خطر ذلك في خاطر قريب و لا بعيد، و لا محب و لا عدو منذ أيامهم الي أيامنا هذه!. لقد ظهر الفرق.. و (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (24).
هو وصي أبيه
الحسن العسكري هو الامام بعد أبيه علي الهادي علیه‌السلام، و رواة النص علیه كثيرون، منهم: يحيي بن بشار القنبري، و علي بن عمرو النوفلي، و عبدالله بن محمد الأصفهاني، و علي بن جعفر، و مروان الأنباري، و علي بن مهزيار، و علي بن عمرو العطار، و محمد بن يحيي، و أبوهاشم الجعفري، و أبوبكر الفهفكي، و شاهويه بن عبدالله، و غيرهم (25).. و هؤلاء جميعا من الثقات الأعلام الذين يشار اليهم بين أهل الفضل بالبنان. و ها نحن نعرض لجملة نصوص بهذا الخصوص، رواها جماعة من الأبدال في فترات متفاوتة بعد ايراد أقوال جماعة من ذوي الرأي: قال الشيخ المفيد رحمه الله: «و كان الامام بعد أبي‌الحسن: علي بن محمد علیه‌السلام‌هما، ابنه أبامحمد، الحسن - بن علی علیه‌السلام - لاجتماع خلال الفضل فيه، و تقدمه علی كافة أهل عصره فيما يوجب له الامامة. و يقتضي له الرئاسة في العلم و الزهد، و كمال العقل و العصمة، و الشجاعة و الكرم، و كثرة الأعمال المقربة الي الله جل اسمه، ثم لنص أبيه علیه، و اشارته بالخلافة اليه»(26) .
و قال المسعودي: «و اعتل أبوالحسن علته التي مضي فيها صلی الله علیه، في سنة أربع و خمسين و مائتين، فأحضر أبامحمد، ابنه علیه‌السلام، فسلم اليه النور و الحكمة ومواريث الأنبياء، و السلاح، و أوصي اليه، و نص علیه»(27). و قال أيضا - بعد ايراد أخبار تتعلق بالموضوع -: «و نشأ أبومحمد علیه‌السلام، و قد نص علیه بهذه الأخبار و غيرها عند الخاصة، فقام بأمر الله عزوجل، و سنه ثلاث و عشرون سنة، فظهر من دلائله في اليوم الذي مضي فيه أبوالحسن علیه‌السلام، و هو مثبت في باب الحسن صلی الله علیه»(28).
و قال علي بن عيسي الاربلي عفا الله عنه: «مناقب سيدنا أبي‌محمد، الحسن بن علي العسكري، دالة علی أنه السري بن السري، فلا يشك أحد في امامته و لا يمتري؛ و اعلم أنه اذا بيعت مكرمة، أو اشتريت، فسواه بائعها و هو المشتري.. [هو] واحد زمانه غير مدافع، و نسيج وحده غير منازع، و سيد عصره، و امام أهل دهره، فالسعيد من وقف عند نهيه وأمره.. أقواله سديدة، و أفعاله رشيدة، و سيرته حميدة، و جهوده في ذات الله وكيدة.. [فهو] فارس العلوم الذي لا يجاري، و مبين غوامضها فلا يجادل ولا يماري!. كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب. المطلع بتوفيق الله علی أسرار الكائنات، المخبر بتوفيق الله عن الغائبات، المحدث في سره بما مضي و بما هو آت، الملهم في خاطره بالأمور الخفيات، الكريم الأصل و النفس و الذات، صاحب الدلائل و الآيات و المعجزات!. مالك أزمة الكشف و النظر، مفسر الآيات مقرر الخبر، وارث السادة الخير، ابن الأئمة أبوالمنتظر.
و والله أقسم قسما برا، أن من عد محمدا جدا، و علیا أبا، و فاطمة أما، و الأئمة آباء، و المهدي ولدا، لجدير أن يطول السماء علاء و شرفا، و الأملاك سلفا و ذاتا و خلفا!. والذي ذكرته من صفاته دون مقداره، فكيف لي باستقصاء نعوته و أخباره، و لساني قصير، و طرف بلاغتي عسير؟!. يفني الزمان و لا يحيط بوصفهم أيحيط ما يفني، بما لا ينفد؟!» (29).
و صدقت يا ابن‌عيسي الاربلي، فان ما اختصرناه من سجعك الجميل، يبقي دون معني الامام الذي لا ينال غر صفاته الكلام!. والسجع غالبا ما يبدو ثقيلا لما فيه من التعمل و الصناعة. و لكن هذا السجع ذو رجع يلج القلوب بدون اذن، و تستسيغه النفوس لأنه جاء سهلا ممتنعا، بليغا بديعا بمبانيه ومعانيه، و بمن قيل فيه!. و ان خصال أهل بيت النبي صلی الله علیه و علیهم لا يحيط بها وصف مهما تطاولت البلاغة و تأنق القائل في حسن البيان و الصياغة، لأنهم قد جعلهم الخلاق القدير علی غير مثال، فلا حدود لحسن القول فيهم كما أنه لا مجال لبلوغ وصف قدرة الله الكبير المتعال!. و بخصوص النص علی امامته بعد أبيه علیه‌السلام‌هما قال أحمد بن محمد بن رجا، صاحب الترك: «قال أبوالحسن علیه‌السلام: الحسن ابني، هو القائم من بعدي» (30).
و هذه شهادة واحد من قواد جيش القصر، الذي كان من غير العرب، و ممن لا يدور في فلك الامامة و الامام، و لا يعيش في تلك الأجواء.. و لكنه كان موفقا للقول بالولاية رغم وجوده علی رأس حماة سلطان الزمان. و قال يحيي بن يسار العنبري - و قيل: ابن‌بشار القنبري - و هما واحد: «أوصي أبوالحسن: علي بن محمد، الي ابنه الحسن علیه‌السلام، قبل مضيه بأربعة أشهر، و أشار بالأمر اليه من بعده، و أشهدني علی ذلك و جماعة من الموالي»(31).
و قال الصقر بن أبي‌دلف: «سمعت علی بن محمد علیه‌السلام يقول: الامام بعدي الحسن - ابني -. و بعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت جورا و ظلما» (32). و روي عن علي بن ابراهيم مثله، و قال الصقر بن أبي‌دلف أيضا: «سمعت أباجعفر، محمد بن علي الهادي علیه‌السلام يقول: ان الامام بعدي ابني علي، أمره أمري، و قوله قولي، و طاعته طاعتي؛ و الامامة بعده في ابنه الحسن»(33) .
و قال عبدالله بن محمد الأصفهاني: «قال لي أبوالحسن علیه‌السلام: صاحبكم بعدي، الذي يصلي علي. و لم نكن نعرف أبامحمد قبل ذلك. فخرج أبومحمد فصلی علیه» (34) . و قال ناصح البادودي: «كتبت الي أبي‌محمد علیه‌السلام أعزيه بأبي‌الحسن، و قلت في نفسي وأنا أكتب: لو قد خبر ببرهان يكون حجة لي!. فأجابني عن تعزيتي، و كتب بعد ذلك: من سأل آية أو برهانا فأعطي، ثم رجع عمن طالب منه الآية، عذب ضعف العذاب!. و من صبر أعطي التأييد من الله. و الناس مجبولون علی جبلة ايثار الكتب المنتشرة؛ فاسأل الملأ - أي السواد و سائر الناس - فانما هو التسليم أو العطب!. و لله عاقبة الأمور».
أي اسأل الناس تجد أن كل من سألته يقول: فلان هو الامام. و الظاهر أن السائل كان علی جانب من العناد فاستعمل معه الامام علیه‌السلام هذه القساوة الظاهرة في جوابه ليخوفه من المخالفة و يرده الي الصواب، بعد أن أخبره عن شي‌ء جال في نفسه و لم يصرح به. فعلمه الامام و أجابه عنه. و عن سعد بن عبدالله، عن هارون بن مسلم، قال: «كتبت الي أبي‌محمد علیه‌السلام بعد مضي أبي‌الحسن علیه‌السلام، أنا و جماعة، نسأله عن وصي أبيه؟. فكتب: قد فهمت ما ذكرتم. و ان كنتم الي هذا الوقت في شك فانها المصيبة العظمي!. أنا وصيه و صاحبكم بعده علیه‌السلام، بمشافهة من الماضي - يقصد أباه -. أشهد الله و ملائكته و أولياءه علی ذلك، فان شككتم بعد ما رأيتم خطي و سمعتم مخاطبتي، أخطأتم حظ أنفسكم و غلطتم الطريق» (35) .
و اشهاد الله سبحانه ذوخطر عظيم!. و هو كالقسم يقطع كل نزاع و يفض كل خصام. فكيف به و قد جاء عن امام عقبه باشهاد ملائكة الله تعالی و أوليائه؟!. و هو علیه‌السلام لم يفعل ذلك مع هؤلاء السائلين، الا ليخلصهم من أرجحة علمها منهم فأحب أن يثبتهم علی القول الثابت. و قال المسعودي أيضا: «حدثنا جماعة، كل واحد يحكي أنه دخل الدار - حين وفاة الامام الهادي علیه‌السلام - و قد اجتمع فيها جملة بني‌هاشم من الطالبيين و العباسيين، و اجتمع خلق من الشيعة، و لم يكن ظهر عندهم أبومحمد علیه‌السلام، و لا عرف خبره الا الثقات الذين نص أبوالحسن عندهم علیه، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة و حيرة.. فهم في ذلك اذ خرج من الدار الداخلة خادم، فصاح بخادم آخر: يا رياش، خذ هذه الرقعة و امض بها الي دار أميرالمؤمنين، و ادفعها الي فلان و قل له: هذه رقعة الحسن بن علی فاستشرف الناس!!. ثم فتح من صدر الرواق باب، و خرج خادم أسود، ثم خرج بعده أبومحمد علیه‌السلام حاسرا مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، و علیه مبطنة بيضاء. و كان وجهه وجه أبيه علیه‌السلام لا يخطي‌ء منه شيئا.
و كان في الدار أولاد «المتوكل» و بعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد الا قام علی رجليه!. و وثب اليه أبومحمد «الموفق» فقصده أبومحمد علیه‌السلام، و عانقه ثم قال: مرحبا يابن العم. و جلس بين بابي الرواق، و الناس كلهم بين يديه. و كانت الدار كالسوق بالأحاديث؛ فلما خرج و جلس أمسك الناس، فما كنا نسمع شيئا الا العطسة و السعلة!. و خرجت جارية تندب أباالحسن علیه‌السلام، فقال أبومحمد: ما هاهنا من يكفي مؤنة هذه الجارية؟!. فبادر الشيعة اليها، فدخلت الدار. ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي‌محمد علیه‌السلام، فنهض صلی الله علیه، و أخرجت الجنازة، و خرج يمشي حتي أخرج بها الي الشارع الذي بازاء دار موسی بن بغا، و قد كان أبومحمد صلی علیه قبل أن يخرج الي الناس، ثم صلی علیه لما أخرج «المعتمد».
و اشتد الحر علی أبي‌محمد علیه‌السلام و ضغطة الناس في طريقه و منصرفه من الشارع بعد الصلاة علیه، فصار في طريقه الي دكان لبقال رآه مرشوشا - بالماء - فسلم و استأذنه في الجلوس فأذن له و جلس، و وقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك اذ أتاه شاب حسن الوجه، نظيف الكسوة، علی بغلة شهباء، علی سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه. فسأله أن يركب، فركب حتي أتي الدار فنزل. و خرج في تلك العشية الي الناس، ما كان يخرم عن أبي‌الحسن علیه‌السلام، حتي لم يفقدوا الا الشخص. و تكلمت الشيعة في شق ثيابه، و قال بعضهم: رأيتم أحدا من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال؟!. فوقع علیه‌السلام الي من قال ذلك: يا أحمق، ما يدريك ما هذا؟. قد شق موسی علی هارون علیه‌السلام. و قام أبومحمد، الحسن بن علي، مقام أبيه علیه‌السلام‌هما» (36) .
أما الذي انتقد شق الامام لثوبه يوم وفاة أبيه، فهو واحد لا أكثر، و قد سماه أبوهاشم الجعفري الذي قال: «خرج أبومحمد في جنازة أبي‌الحسن و قميصه مشقوق، فكتب اليه أبوعون، قرابة نجاح بن سلمة: من رأيت أو بلغك من الأئمة شق ثوبه في مثل هذا؟!. فكتب اليه أبومحمد: يا أحمق، و ما يدريك ما هذا؟!. لقد شق موسی علی هارون» (37). فكم و كم يخطي‌ء الحق من يحاول انتقاد قول الامام، أو الاعتراض علی فعله!. ان أقل ما يقال فيه أنه أحمق حق الحمق، لأن الامام لا يفعل شيئا غير مباح محلل، و لايعمل ما هو بخلاف الأولي، بل - في كل حال - لا يقوم بالشي‌ء المستهجن الذي يمقته الله تبارك و تعالی. فأقواله نقل عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم و أفعاله صورة طبق سنته، و من يعترض علیه يكن اعتراضه صادرا عن حمق من جهة، أو عن جهل بما هو علیه الامام من جهة ثانية، لأنه ينظر اليه نظره الي واحد عادي من البشر.
و من الدلائل العظمي علی كونه الوصي السماوي المنتدب من لدن رب الأرباب ليكون حامل كلمته لخلقه، و ناقل أمره و نهيه لعباده، ما حكاه عنه داود بن القاسم، أبوهاشم الجعفري الذي قال: «كنت عند أبي‌محمد علیه‌السلام، فاستؤذن لرجل من أهل اليمن، فدخل علیه رجل جميل، طويل جسيم، فسلم علیه بالولاية، فرد علیه بالقبول، و أمره بالجلوس، فجلس الي جنبي. فقلت في نفسي: ليت شعري من هذا؟. فقال أبومحمد علیه‌السلام: هذا من ولد الأعرابية، صاحبة الحصاة التي طبع آبائي فيها. ثم قال: هاتها. فأخرج حصاة، و في جانب منها موضع أملس. فأخذها، و أخرج خاتمه فطبع فيها، فانطبع!.
و كأني أقرأ الخاتم الساعة: الحسن بن علي!. فقلت لليماني: ما رأيته قط قبل هذا؟!. قال: لا والله، و اني منذ دهر لحريص علی رؤيته حتي كان الساعة، أتاني شاب لست أراه فقال: قم فادخل، فدخلت.. ثم نهض و هو يقول: رحمة الله و بركاته علیكم أهل‌البيت (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ علیمٌ) (38)أشهد أن حقك لواجب كوجوب حق أميرالمؤمنين و الأئمة من بعده صلوات الله علیهم أجمعين، و اليك انتهت الحكمة و الامامة، و انك ولي الله الذي لا عذر لأحد في الجهل به.
فسألت عن اسمه؟. فقال: اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان، بن غانم ابن أم‌غانم. و هي الأعرابية اليمانية، صاحبة الحصاة التي ختم فيها أميرالمؤمنين علیه‌السلام. فقال أبوهاشم الجعفري في ذلك: بدرب الحصا مولي لنا يختم الحصا له الله أصفي بالدليل، و أخلصا و أعطاه رايات الامامة كلها كموسی، و فلق البحر، واليد، و العصا! و ما قمص الله النبيين حجة و معجزة، الا الوصيين قمصا فمن كان مرتابا بذاك، فقصره من الأمر أن يتلو الدليل و يفحصا.. في أبيات رقيقة تزيد علی هذا المقدار. و قال أبوعبدالله بن عياش: هذه أم غانم صاحبة الحصاة، غير صاحبة الحصاة التي هي أم الندي، حبابة بنت جعفر الوالبية. و هي غير صاحبة الحصاة الأولي التي طبع فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أميرالمؤمنين، فانها أم‌سليم، و كانت وارثة الكتب. فهن ثلاث، و لكل واحدة منهن خبر»(39).
و ليس كل من طبع خاتمه علی حصاة انطبع خاتمه فيها!. فان ذلك لا يكون الا بتقدير من الله تعالی لنبي أو وصي كمعجزة دالة علی صدقه في دعوته. و انما أوردنا هذا الحديث هنا لدلالته علی ذلك و لبرهنته علی كون هذه الآية تدل علی امامة الامام؛ و كان الأحري به أن يكون في موضوع عظمة سفير الله. و في هذا الحديث محطات لا بد أن نقف عندها أهمها: أن الامام علیه‌السلام عرف القادم علیه مع حال كونه لم يره في حياته مطلقا. وأنه علم حاجة الزائر من غير أن يذكرها له. و أنه أدرك ما يخطر بنفس أبي‌هاشم، فعرفه بالأعرابي. و كذلك علم بوجود الحصاة مع الأعرابي، و بأن آباءه طبعوا أختامهم الشريفة علیها، ثم طلبها منه قائلا له هاتها، و كأنه علی موعد معه!. وما في ذلك شي‌ء من الضرب بالرمل.. ولا من السحر!. فتأمل، قبل أن تظن بقولي فندا، و احكم، و اقبل بحكم ضميرك و لا تستفت من الناس أحدا. و علی كل حال، فانه يدل علی امامته علیه‌السلام طريق الاعتبار و التواتر الساريين في اثبات امامة من سبقه من آبائه سلام الله علیهم. و قد أوردنا من الأخبار المعتبرة ما يقنع المنصفين.
و نحن نختم ما ذكرناه بخبر أخير يحتوي مثلا رائعا للايمان الذي ينبغي أن يكون علیه الناس، حدث به عبدالعظيم بن عبدالله الحسني رضوان الله علیه، و هو - أيضا - يحمل نصا علی امامة سيدنا أبي‌محمد و امامة الخلف من بعده علیه‌السلام فقال: «دخلت علی سيدي علی بن محمد - الهادي - علیه‌السلام. فلما بصر بي قال لي: مرحبا بك يا أباالقاسم، أنت ولينا حقا. فقلت له: يابن رسول الله، اني أريد أن أعرض علیك ديني، فان كان مرضيا ثبت علیه حتي ألقي الله عزوجل. فقال علیه‌السلام: هات يا أباالقاسم. فقلت: اني أقول: ان الله تبارك و تعالی واحد ليس كمثله شي‌ء، خارج عن الحدين: حد الابطال، و حد التشبيه. و الله ليس بجسم و لا صورة، و لا عرض و لا جوهر؛ بل هو مجسم الأجسام، ومصور الصور، وخالق الأعراض و الجواهر؛ و رب كل شي‌ء، و مالكه، و جاعله، و محدثه.
و أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم عبده و رسوله، خاتم النبيين، و لا نبي بعده الي يوم القيامة. و أن شريعته خاتمة الشرائع و لا شريعة بعدها الي يوم القيامة، و أقول: ان الامام، و الخليفة بعده، أميرالمؤمنين، علي بن أبي‌طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسی بن جعفر، ثم علي بن موسی، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي. فقال علیه‌السلام: و من بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟!. فقلت: فكيف ذلك يا مولاي؟!. قال: لأنه لا يري شخصه، و لا يحل لكم ذكره باسمه، حتي يخرج فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما. فقلت: أقررت، و أقول: ان وليهم ولي الله، و عدوهم عدو الله، و طاعتهم طاعة الله، و معصيتهم معصية الله. و أقول: ان المعراج حق، و المساءلة في القبر حق؛ و ان الجنة حق، و النار حق، و الصراط حق، و الميزان حق، و أن الساعة آتية لا ريب فيها، و أن الله يبعث من في القبور.
و أقول: ان الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة، و الزكاة، و الصوم، و الحج، و الجهاد، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فقال علي بن محمد علیه‌السلام: يا أباالقاسم: هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده. فاثبت علیه: ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا و الآخرة» (40) .
و قسم الامام علیه‌السلام قسم لو تعلمون عظيم!. و اليمين تقبل من السوقة و العوام... فكيف باليمين من الامام؟!. فمن جاء ربه يوم القيامة بمثل هذا الايمان - المذكور في الخبر السابق - رجحت حسناته في الميزان.. و من أنقص فيه، أو زاد فيه، خسرت صفقته بين يدي الرب الديان.. وكان لامامنا العسكري أخ أكبر منه سنا، هو محمد المكني بأبي‌جعفر. و قد بلغ مبلغ الشباب و كان علی جانب عظيم من التدين و الورع، و الهدي و الخلق السمح و غر الصفات. فتوهم الكثيرون من الشيعة أنه سيكون وصي أبيه من بعده، و لكن الله سبحانه اختاره الي جواره الكريم و ثوابه العظيم في ريعان شبابه، لأنه تعالی اختار في سابق علمه أخاه الحسن لأمر الولاية و السفارة.. و نحن هنا نعرض لطائفة من الأخبار التي وردت بهذا الخصوص لعلاقتها بالنص علی الوصية للحسن علیه‌السلام دون غيره. فعن أحمد بن عيسي العلوي - الذي هو من ولد علي بن جعفر الصادق علیه‌السلام، و من أقرب الناس نسبا للامام - قال: «دخلت علی أبي‌الحسن علیه‌السلام بصريا [صريا: مزرعة له علیه‌السلام بظاهر المدينة المنورة] ، فسلمت علیه فاذا نحن بأبي‌جعفر و أبي‌محمد قد دخلا. فقمنا الي أبي‌جعفر نسلم علیه .
فقال أبوالحسن علیه‌السلام: ليس هذا صاحبكم. علیم بصاحبكم، و أشار الي أبي‌محمد علیه‌السلام» (41). فالامام لا يكتم الحق الذي أنزله الله، و لايدع شيعته الا علی هدي من ربهم. و قال علی بن عمر النوفلي: «كنت مع أبي‌الحسن علیه‌السلام في صحن داره، فمر بنا أبوجعفر، فقلت له: جعلت فداك، هذا صاحبنا بعدك؟. فقال: لا، صاحبكم بعدي - ابني - الحسن» (42) .
و قد اشتبه علی بن عمر العطار في ختام رواية قال فيها: «دخلت الي أبي‌الحسن العسكري علیه‌السلام، و أبوجعفر ابنه في الأحياء، و أنا أظن أنه الخلف من بعده. فقلت له: جعلت فداك، من أخص من ولدك!. فقال علیه‌السلام: لا تخصوا أحدا حتي يخرج اليكم أمري. فكتبت اليه بعد - أي بعد وفاة أبي‌جعفر -: في من يكون هذا الأمر؟. فكتب الي: في الكبير من ولدي» . «وقال - أي العطار -: و كان أبومحمد أكبر من أبي‌جعفر» (43) .
و الظاهر أن العبارة الأخيرة ليست من الرواية أصلا. و ان جواب الامام علیه‌السلام لابن‌العطار كان بعد وفاة ابنه الأكبر: محمد، حيث صار أخوه الحسن الكبير من ولد أبيه الباقين. فاذا حذفت العبارة الأخيرة ظهر الواقع الذي كان. و ها نحن نستعرض ما جري أثناء وفاة أبي‌جعفر و ما بعدها لنعطي صورة عما حدث حينئذ و بعدئذ: فقد حدث ابن أبي‌الخطاب، عند محمد بن أبي‌الصهبان، فقال: «لما مات أبوجعفر، محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسی، وضع لأبي الحسن، علی بن محمد، كرسي فجلس علیه، و كان أبومحمد، الحسن بن علی قائما في ناحية. فلما فرغ من غسل أبي‌جعفر التفت أبوالحسن الي أبي‌محمد فقال: يا بني أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا» (44). وقال علی بن جعفر: «كنت حاضرا أباالحسن علیه‌السلام لما توفي ابنه محمد، فقال للحسن - علیه‌السلام -: يا بني أحدث لله شكرا، فقد أحدث لك أمرا» (45).
و كذلك قال علي بن عبدالله بن مهران الأنباري: «كنت حاضرا عند مضي أبي‌جعفر، محمد بن علی، فجاء أبوالحسن علیه‌السلام فوضع كرسيا فجلس علیه و حوله أهل بيته، و أبومحمد علیه‌السلام قائم في ناحية. فلما فرغ من أمر أبي‌جعفر التفت الي أبي‌محمد علیه‌السلام فقال: يا بني، أحدث لله تبارك و تعالی شكرا، فقد أحدث فيك أمرا» (46).
و مثلهم قال أحمد بن محمد الحصيبي: «كنت بحضرة أبي‌الحسن علیه‌السلام، و أبومحمد بين يديه، فالتفت اليه فقال: يا بني، أحدث لله شكرا، فقد أحدث فيك أمرا»(47) . و معني هذه العبارة في ذلك الاجتماع الحافل أنها اعلان من الامام علیه‌السلام يلفظه علی الملا بخلافة ابنه الحسن علیه‌السلام من بعده، اذ جدد الله تعالی فيه لطفا و نعمة و اختاره لأمره بعد موت أخيه الذي قبله، لأن المعروف عند الشيعة الامامية كان - بنص الامام الباقر علیه‌السلام - أن الامامة في الولد الأكبر. فلو لم يمض أبوجعفر الذي هو الأكبر لوقع الخلاف بين الشيعة في امامته و امامة الحسن أخيه، كما اختلفوا بعد الامام الصادق علیه‌السلام في امامة ابنيه: اسماعيل، و موسی الكاظم علیه‌السلام. و لكن اسماعيل توفي قبل أخيه قطعا للنزاع.
أما جعل الامامة للامام فهو من الله تبارك و تعالی الذي أخذ ميثاق كل واحد منهم علیهم‌السلام في عالم الذر، و ليس للامام الماضي أية ارادة في تنصيب الامام التالي مطلقا كما لا يخفي. و لهذا المعني أشار حديث أبي‌هاشم الجعفري الذي قال: «كنت عند أبي‌الحسن علیه‌السلام بعد مضي ابنه أبي‌جعفر، و اني لأفكر في نفسي، أريد أن أقول: كأنهما - أعني أباجعفر، و أبامحمد علیه‌السلام - في هذا الوقت، كأبي الحسن، موسی الكاظم علیه‌السلام و اسماعيل أخيه، ابني جعفر بن محمد علیه‌السلام، فان قصتهما كقصتهما. اذ كان أبومحمد علیه‌السلام المرجي بعد أبي‌جعفر. فأقبل علی أبوالحسن علیه‌السلام، قبل أن أنطق، فقال: نعم يا أباهاشم، بدا لله في أبي‌محمد بعد أبي‌جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا لله في موسی بعد مضي اسماعيل ما كشف به عن حاله. و هو كما حدثتك به نفسك و ان كره المبطلون. و أبومحمد هو الخلف من بعدي، عنده علم مايحتاج اليه، و معه آلة الامامة و الحمد لله» (48).
و في هذا الحديث ثلاثة أشياء لا يجوز اهمالها، بل تجب الاشارة اليها لأنها ذات علاقة هامة بالامامة: أولها: أن البدو لله، الذي صرح به الامام هنا: لا يعني أنه بدو في الامامة عن أخ لأخيه بعد أن كانت مقررة له، بدليل أنه سبحانه هو الخالق، و هو الأعلم بما خلق، و بقرينة قول الامام: كما بدا لله فيه ما كشف عن حاله، أي ما أظهر أمره الذي كان خافيا علی الآخرين. و ثانيها: أن الامامة يكون فيها علم خاص واسع شامل لكل ما يحتاج اليه في عصر امامة الامام، بحيث لا يعيا عن جواب في أي موقف كان، لأنه يمنحه علم ما كان و علم ما يكون و لا يحجب عنه علم شي‌ء الا ما استأثر به تعالی لنفسه عزت قدرته. و ثالثها: أن للامامة آلة خاصة و تجهيزات لمركز السفارة، يعطيها الله سبحانه للمختارين من عنده لولاية أمور الناس: كأن يؤيده بلوازم السفارة الربانية من ملائكة يعملون بين يديه و يسددونه و يلهمونه و يحدثونه و كالكشف، و ازالة الحجب، و تقصير المسافات وما أشبه ذلك مما يسهل عمل السفير الالهي و يجعله علی مستوي هذه الوظيفة التي هي سفارة السماء التي لا تضاهيها سفارة مهما بلغت الأجهزة و الآلات التي تعطيها الدولة لسفيرها، من جهة أخري. و في موضوع النص و الوصية بالذات روي أن محمد بن يحيي بن درياب قال: دخلت علی أبي‌الحسن علیه‌السلام بعد مضي أبي‌جعفر - ابنه - فعزيته عنه و أبومحمد علیه‌السلام جالس، فبكي أبومحمد علیه‌السلام، فأقبل علیه أبو الحسن علیه‌السلام فقال: ان الله تبارك و تعالی قد جعل فيك خلفا منه، فاحمد الله». و كذلك جاء عن محمد بن يحيي و غيره .
و عن سعد بن عبدالله كما عن جماعة من بني‌هاشم، منهم الحسن بن الحسن الأفطس، أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علی بن محمد، في دار أبي‌الحسن يعزونه. و قد بسط له في صحن داره، و الناس جلوس حوله. فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي‌طالب و بني‌هاشم - و بني‌العباس - و قريش، مائة و خمسون رجلا، سوي مواليه و سائر الناس، اذ نظر الي الحسن بن علی علیه‌السلام قد جاء مشقوق الجيب حتي قام عن يمينه و نحن لانعرفه. فنظر اليه أبوالحسن علیه‌السلام بعد ساعة و قال: يا بني، أحدث لله شكرا، فقد أحدث - الله - فيك أمرا. فبكي الحسن علیه‌السلام، و استرجع و قال: الحمد لله رب العالمين، و اياه أسأل تمام نعمه علینا فيك، و انا لله و انا اليه راجعون. فسألنا عنه؟. فقيل: هذا الحسن ابنه. و قدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح، فيومئذ عرفناه و علمنا أنه قد أشار اليه بالامامة، و أقامه مقامه»(49).
ومثل ذلك المجلس الذي حوي القاصي و الداني، من ذوي القربي و الأبعدين، و الموالين و المخالفين هو خير مجلس تناسبه اذاعة مثل ذلك الخبر الصادر عن مشيئة الله عز و علا. أما بعد موت أبي‌جعفر رضوان الله علیه، فقد عمد الشيعة الي ايراد الأسئلة - مشافهة و كتابة - كما عمد الامام علیه‌السلام لذلك كذلك، ليطمئنوا الي أمر يخافون أن يشغل بالهم و ليكونوا علی بصيرة و وضوح رؤية بشأن الامام الخلف لأن ذلك من تمام الدين و كمال النعمة من رب العالمين.
فعن اسحاق بن اسماعيل النيسابوري، قال: «حدثني شاهويه بن عبدالله الجلاب، قال: كنت رويت دلائل كثيرة [عنه] علیه‌السلام في ابنه محمد. فلما مضي - بقيت متحيرا، وخفت ان كتبت اليه في ذلك فلا أدري ما يكون؟!. فكتبت اليه أسأله الدعاء. - أي أنه لم يعرض لموضوع الخلف من بعده بقصد أن يأتيه جواب فيه كدليل مقنع -. فخرج الجواب بالدعاء لي، و في آخر الكتاب: أردت أن تسأل عن الخلف، و قلقت لذلك. فلا تغتم فان الله عزوجل (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ علیمٌ) (50) و صاحبك بعدي أبومحمد، ابني؛ عنده علم ما تحتاجون اليه. يقدم الله ما يشاء، و يؤخر ما يشاء. قد كتبت بما فيه تبيان لذي لب يقظان» (51) .
و ورد أنه علیه‌السلام ختمه يقول الله عزوجل: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (52). و قال محمد بن يحيي بن رئاب: «حدثني أبوبكر الفهفكي، قال: كتبت الي أبي‌الحسن علیه‌السلام أسأله عن مسائل. فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي: ليتني كتبت فيما كتبت أسأله عن الخلف من بعده!. و ذلك بعد مضي محمد، ابنه. فأجابني عن مسائلي، و كتب: وكنت أردت أن تسألني عن الخلف. و أبومحمد، ابني، أصح آل محمد صلی الله علیه غريزة، و أوثقهم عقيدة بعدي. و هو الأكبر من ولدي، اليه تنتهي عري الامامة و أحكامها. فما كنت سائلا عنه، فسله فعنده علم ما يحتاج اليه، و الحمد لله» . و روي هذا الحديث بلسان الفهفكي ذاته، بفرق: فما كنت سائلي، فسله عنه» (53).
و كذلك قال علی بن مهزيار: «قلت لأبي‌الحسن علیه‌السلام: ان كان كون - و أعوذ بالله - فالي من؟. قال: عهدي الي الأكبر من ولدي، يعني الحسن علیه‌السلام». و في رواية ثانية قال علی بن مهزيار نفسه: «قلت لأبي‌الحسن علیه‌السلام: اني كنت سألت أباك عن الامامة بعده، فنص علیك. ففي من الامامة بعدك؟. فقال: الي أكبر ولدي. و نص علی أبي‌محمد علیه‌السلام، ثم قال: ان الامامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن و الحسين علیهم‌السلام‌هما».
و من الواضح أن السؤالين وجوابيهما، كانا بعد وفاة ابنه الأكبر، أبي‌جعفر، فأصبح الحسن علیه‌السلام من بعده أكبر ولد أبيه. و نحن نختم هذا الموضوع بما قاله علی بن عبدالغفار الذي قال: «لما مات أبوجعفر الثاني - أي الامام الجواد علیه‌السلام - كتبت الشيعة الي أبي‌الحسن، صاحب العسكر علیه‌السلام يسألونه عن الأمر؟. فكتب علیه‌السلام: الأمر لي ما دمت حيا. فاذا نزلت مقادير الله عزوجل أتاكم الخلف. فأني لكم بالخلف من بعد الخلف؟!». يعني أنه بعد موته علیه‌السلام لابد أن يظهر أمر خلفه لسائر الناس لأنهم يرونه رأي العين و يسمعون كلامه. أما الخلف المنتظر فأنی لهم ذلك منه؟!.
المصادر:
1- كشف‌الغمة ج 3 ص 220 وموجز تواريخ أهل‌البيت ص 212 و الأنوار البهية ص 267 - 266 و وفاة العسكري ص 33.
2- بصائرالدرجات ج 10 ص 484.
3- بصائر الدرجات ج 10 ص 482 و اثبات الوصية ص 215 و هو في الأنوار البهية ص 272
4- مهج‌الدعوات ص 345 و عن غيبة الطوسي ص 144 و ص 149 و مدينة المعاجز ص 571 و اثبات الهداة ج 6 ص 313.
5- اثبات الوصية ص 213 / اثبات الهداة ج 6 ص 298 - 297 / الأنوار البهية ص 273.
6- تحف‌العقول ص 263 - 262.
7- الكافي ج 8 ص 503 و اعلام الوري ص 349 و ص 360 و الارشاد ص 315 ومناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 422 و الفصول المهمة من ص 214 الي ص 290 و كشف الغمة من ص 194 الي ص 227 الأنوار البهية ص 266 و ص 273.
8- الكامل لابن‌الأثير ج 7 ص 90.
9- مروج الذهب ج 4 ص 112 و بحارالأنوار ج 50 ص 336.
10- كمال‌الدين ج 2 ص 150 - 149 و الأنوار البهية ص 271 اثبات الهداة ج 6 ص 311.
11- في المحجة البيضاء ج 4 ص 322 .
12- كمال‌الدين ج 1 من ص 120 الي ص 125 و هو في الكافي ج 1 من ص 503 - ص506 / تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 503 .
13- الأنوارالبهية ص 272.
14- المصدر السابق ص 273.
15- الارشاد ص 322 و كشف‌الغمة ج 3 ص 223 و مناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 422 و الأنوار البهية ص 273 .
16- سورة يس: 54 - 53.
17- كمال‌الدين ج 1 ص 152 - 150 و ينابيع المودة ج 3 ص 145 و مدينة المعاجز ص 574 - 573.
18- بحارالأنوار ج 52 ص 5 و الارشاد ص 330.
19- الأنوار البهية ص 274 و هو في مناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 426 .
20- سورة لقمان: 34.
21- سورة النور: 37 - 36.
22- سورة غافر: 51.
23- الأنوارالبهية ص 274 و هو في مصدره الأساسي في كشف الغمة ج 3 ص 309.
24- سورة لقمان: 11.
25- مناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 422.
26- الارشاد ص 315 وكشف‌الغمة ج 3 ص 194 و الفصول المهمة ص 284.
27- اثبات الوصية ص 205 و اثبات الهداة ج 6 ص 323.
28- اثبات‌الوصية ص 209.
29- كشف الغمة ج 3 ص 224 - 223.
30- الغيبة للطوسي ص 130 و هو في اثبات الوصية ص 209 و اثبات الهداة ج 6 ص 276.
31- الارشاد ص 315 و الفصول المهمة ص 284 والغيبة للطوسي ص 130 و هو في اعلام الوري ص 351 و الكافي ج 1 ص 325 و حلية الأبرار ج 2 ص 505 و كشف‌الغمة ج 3 ص 194.
32- حلية الأبرار ج 2 ص 510 - 509 مكررا و كمال‌الدين ج 2 ص 51 و عن كفاية الأثر ص 326.
33- كمال‌الدين ج 2 ص 50 و هو في اثبات الهداة ج 4 ص 276.
34- كشف‌الغمة ج 3 ص 195 و حليةالأبرار ج 2 ص 505 و كمال‌الدين ج 2 ص 263 و هو في ص 244 - 243 و في الارشاد ص 315 و مناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 423 - 422 و الكافي ج 1 ص 332 .
35- اثبات الوصية ص 209.
36- اثبات الوصية من ص 205 الي ص 207 و اثبات الهداة ج 6 ص 273.
37- كشف الغمة ج 3 ص 208 و وفاة العسكري ص 28 و هو في مدينة المعاجز ص 579 عن الفضل بن الحارث.
38- سورة آل عمران: 34.
39- اعلام الوري ص 353 و مناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 441 و بحارالأنوار ج 50 ص 303 - 302 و غيبة الطوسي ص 132 و كشف‌الغمة ج 3 ص 208 .
40- حليةالأبرار ج 2 ص 509 - 508 .
41- الارشاد ص 317 و الغيبة للطوسي ص 130 و هو في اثبات الهداة ج 6 ص 276.
42- كشف‌الغمة ج 3 ص 315 و اعلام‌الوري ص 350 و الغيبة للطوسي ص 129 و ص 130 و هو في اثبات الوصية ص 208 و حلية الأبرار ج 2 ص 205 .
43- حلية الأبرار ج 2 ص 506 و بحارالأنوار ج 50 ص 244 و كشف‌الغمة ج 3 ص 195 و اعلام‌الوري ص 350 و ص 351 ومناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 422 و ص 423 و الكافي ج 1 ص 226 و الارشاد ص 316.
44- بحارالأنوار ج 50 ص 247 عن الغيبة للطوسي ص 131 و ص 132 و وفاة العسكري ص 5.
45- حلية الأبرار ج 4 ص 506 - 505 و بحارالأنوار ج 50 ص 244 و اعلام الوري ص 350 و الارشاد ص 165 .
46- بحارالأنوار ج 50 ص 241 و اعلام‌الوري ص 350 و بصائرالدرجات ج 10 ص 473 و في كشف‌الغمة ج 3 ص 125 .
47- اثبات الهداة ج 6 ص 271 .
48- بحارالأنوار ج 50 ص 241 و كشف‌الغمة ج 3 ص 196 و حليةالأبرار ج 2 ص 507 و الارشاد ص 317 .
49- حلية الأبرار ج 2 ص 507 - 506 و كشف‌الغمة ج 7 ص 196 - 195 و اعلام الوري ص 351 و مناقب آل أبي‌طالب ج 4 ص 423 وبحارالأنوار ج 50 ص 245 و الكافي ج 1 ص 326 و ص 327 .
50- سورة التوبة: 115.
51- الغيبة للطوسي ص 131 و الكافي ج 1 ص 328 و الارشاد ص 317 و اثبات الهداة ج 1 ص 272 و ص 277 - 276.
52- سورة البقرة: 106.
53- حليةالأبرار ج 2 ص 508 - 507 و بحارالأنوار ج 50 ص 242 و الكافي ج 1 ص 326 و ص 327 و الارشاد ص 317 و كشف‌الغمة ج 3 ص 196 .


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإساءات إلى النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم
خطبة الإمام السجاد (عليه السلام) في دمشق
مظلومیة الزهراء
كيف نصر الله أنبيائه؟
الكميت بن زيد الأسدي وإخلاصه في أهل البيت عليهم ...
السيد محمد ابن الإمام الهادي (ع)
فاطمةالمعصومة علیها السلام
من فضائل الإمام علي (عليه السلام) في كتب أهل السنة
الحديث الفني
استشهاد الامام علي عليه السلام

 
user comment