حتى إذا وصل الركب في مسيرته، ربى الطف، وتلاع شاطئ الفرات، وقف الإمام الحسين عليه السلام ليتعرف على اسم المنطقة وما هي إلا برهة زمنية حتى أعلن بأنها موعده ومستودعه ومنازل الأبطال ومقابر الشهداء...ها هنا والله مناخ ركابنا.. وهنا هنا قَتل رجالنا.. حتى قال.. وها هنا تزار قبورنا.. بهذه التربة وعدني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلف.
فنزلها الرجال والشباب، وقد انطلق الصبيان يلعبون ويرتعون، بينما أخذ الرجال يبنون البيوت وينصبون الفساطيط والخيام، فبانت أطناب الخيام وظهرت مواقعها بأهلها المرابطين على الحق.. ورابط علي الأكبر في بطحاء كربلاء، منذ اليوم الثاني حتى العاشر من شهر محرم.
أما الجيش المعادي الذي يرابط على شط الفرات فقد أخذ يتكاثر كل ضحى وكل يوم حتى كملت عدته يوم تاسوعاء، إذا كانت الكتائب تتوافد لترابط قِبالة الجبهة الحسينية.. ولكثرتها تسنى لها تنفيذ أوامر منع الماء الصادرة من ابن زياد، حيث ضربوا على نهر الفرات حصاراً يحول دون بلوغ ضفافه أي ضام عطشان.
وظل علي عليه السلام في انتظار دوره وأداء مهامه، فهو يترقب بدء القتال مع الأعداء، وبدء دوره خصوصاً، إذ كان في رأيه أن يكون هو أول قتيل وشهيد.. لقد وقف إلى جانب ثلة الهاشميين تحت لواء عمه العملاق، العباس بن علي عليهما السلام. ليطالب بأن يكونوا هم - بنو هاشم - أول من يبرز للميدان.
بيد أن عصبة الأنصار ترى أنها هي الأول دخولاً للميدان وقد تجمعوا تحت لواء المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي وهم يطالبون بعدم سبق الهاشميين للجهاد والقتل. وتدور بين الطرفين مباراة كلامية.. ويستمر تنافس الجناحين على الظفر بالأولوية لخوض غمار الحرب العادلة.. ولا أحد يرضى بأن يكون ثانياً، كل يؤثر نفسه على الموت قبل غيره، وبطبيعة الحال فان عليا كان أكثر عزماً وأشد رغبة في إحراز تلك الأسبقية والأولوية، فهو من جناح الهاشميين الذي يقول بضرورة تَقَدم بني هاشم لأنهم حَمَلة الرسالة وثقل الحديد لا يحمله إلاّ أهله.. وأخيراً احتكم الجناحان إلى الإمام الحسين عليه السلام فحكم الإمام القائد للأنصار بالسبق لدخول الساحة.. وظل الهاشميون في ترقب لدورهم.. وظل علي الأكبر خصوصاً أشد شوقاً لساعته ولحظات سعادته.
على مصارع الأنصار - ومصرع الحر الرياحيحمى الوطيس واحتدم الصراع، إذ دارت رحى حرب ضروس، جالت خلالها الخيل واشتد اشتباك الأسنة، واختلاف السيوف، فما انجلت الغبرة إلا عن جمع من القتلى.. كانت تلك هي الحملة الأولي في صبيحة عاشوراء، التي اشترك فيها الجميع وتمخضت عن قتل عشرات ومئات الأمويين، كما أسفرت عن خمسين قتيلاً شهيداً من رجالات الإسلام الحسينيين عليهم سلام الله ورضوانه. ثم آب كل إلى موقعه.. وبدأت عصبة الأنصار - أي ممن تبقى منهم - يستأذنون الإمام الحسين عليه السلام للجهاد مثنى وفرادى وهو يأذن لهم - وكان عاشوراء يوماً مشهوداً حيث صعدوا مسرح الجهاد والاستشهاد وهم لا يلوون على شيء، ولا يفكرون بشيء سوى الفداء والفناء من أجل مجد الإسلام والبقاء الرسالي. ظل علي يرمق ببصره البعيد أطراف الميدان.. مكبراً تفاني الأنصار البواسل الشجعان..
فقد كان قوي العزيمة، لا تخونه إرادته ولا تلين عزيمته أو تضعف شكيمته، قوي البأس ثابت الجنان. صلب صامد على مصارع عصبة الأنصار، حتى أنه شهد مصارعهم وكان يرثيهم ويؤبنهم مشتاقاً لما آلوا إليه - كما وقف على جسد أحدهم وهو يرثيه بأبيات نفيسة. إذ أشرف علي الأكبر عليه السلام على جسد البطل المجاهد الحر بن يزيد الرياحي، وقد سبقه والده الحسين عليه السلام الذي ابنه بقوله: بخ بخ لك يا حر، أنت الحر كما سمتك أمك وأنت الحر في الدنيا والآخرة. أو سعيد في الآخرة.
فعقب علي الأكبر قائلاً:
لنعم الحر حـر بني ريـاح صـبور عند مشتبك الرماحونعم الحر إذ نادى حسيناً فجاد بنفسه عند الصباح
انه يقرر بأبياته أن للحر صبراً، فيقرر أن له إيماناً قوياً بحيث أنه تحمل المخاطر، وصبر - لكي ينجز مهمته - رغم اشتداد اشتباك الأسنة والسيوف وكل الأسلحة صبور عند مشتبك الرماح. كما ويقرر أنه قدم أغلى ما لديه، وسخا بما عنده وجاد بما يملك من ثمين ونفيس وهل أثمن من النفس والحياة: فجاد بنفسه عند الصباح والحق أن الجود بالنفس أقصى غاية الجود. فضلاً عما نلمسه من إكبار وافتخار بمن هو نعم الرجل، نعم الشخصية الفاضلة، ونعم الحر، بحيث أبى التقيد بالذل والارتهان بالعبودية، ورنا إلى نعماء العز والحرية، دونما خوف من دفع الضريبة الباهضة لتلك النعمة.. وهي ضريبة الدم والروح.. وكذا تكون سجية الأبطال. وبقي علي الأكبر يرقب الميدان عن كثب، معرباً عن روعة صمود الصابرين المجاهدين، ومكبراً جهادهم.. متشوقاً إلى دوره ونزوله للساحة... بعد أن مضى من مضى وبقي من بقي.. ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا﴾صدق الله العلي العظيم.