لقد تجسمت العزة باروع صورها يوم عاشوراء علی ارض کربلاء عندما رفض الامام الحسين عليه السلام ابسط شروط الطواغيت ورفض کذلک الامان منهم .. ولو توهم احد من ان الحسين عليه السلام اصابه ضعف او وهن عندما طلب الناصر من اعداءه المصطفين امامه فهذا ضرب من خيال اعداء اهل البيت عليهم السلام ، وحاشاهُ ( سلام الله عليه ) وليس هذا إلاّ من الكذب على المعصومين ( سلام الله عليهم ) ، فيكون من أشدّ المُحرّمات ، بل هو لا ينوي ذلك في قلبه فضلاً عن أن يقوله أو أن يصيح به. وفي قول الشاعر :
فأبى أن يعيش إلاّ عزيزاً أو تجلّي الكفاح وهو صريع (1)
بل القول بالذّلة مُخالف للقرآن الكريم الذي يقول : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، والحسين ( عليه السلام ) كان في زمانه ولا زال إماماً وأَولَى المؤمنين بصفات الإيمان ، ومن هنا جاء قوله ( عليه السلام ) في بعض خُطبه ذاكراً طلب الحاكم الأموي للبيعة : ( ألا إنّ الدّعي ابن الدّعي قد رَكز بين اثنتين : بين السِلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحُجورٍ طابت وأرحامٍ طهُرت على أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ) (3) .
وهو واضحٌ جدّاً بالاعتزاز بالإيمان والصمود في جانب الحقّ ، وليس هذا من التكبّر الباطل في شيء ، وإنّما هو الاعتزاز بالله ورسوله ، حسبُنا أن نسمع قوله : ( مَن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة من غير سلطان ، وغنى من غير مال ، وطاعة من غير بذل ، فليتحوّل من ذلّ معصيته إلى عزّ طاعته ؛ فإنّهُ يجد ذلك ) (4) .
وكذلك قوله : ( فأولياؤه بعزّته يعتزّون ) (5) ، وليس لهم كبرياء مستقلّة عن كبرياء الله عزّ وجل ، ولا شكّ أنّ الحُسين وأصحابه من خيرة مَن يكون مصداقاً وتطبيقاً لهذه النصوص .
بل هو العزيز في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فلصموده وصبره ، وأمّا في الآخرة فللمقامات العُليا التي ينالها بالشهادة .
نعم ، لا شكّ أنّ المعسكر المعادي وقادته أرادوا إذلاله وحاولوا إهانته ، وهذا أكيد ، إلاّ أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل ؛ لأنّ الذلّة الحقيقيّة إنّما تحصل لو حَصلت المبايعة للحاكم الأموي والخضوع له ، تلك هي الذلّة التي تجنّبها الحسين ( عليه السلام ) بكلّ جهده وضحّى ضدّها بنفسه ، وأمّا الصمود في ساحة القتال فلن يكون ذلّة ، لا في نظر أصدقائه ، ولا في نظر أعدائه ، ولا في نظر ربّه جلّ جلاله .
وهنا قد يخطر في البال : أنّ قوله تعالى : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ) (6) دالٌ على حصول الذلّة لجيش النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في واقعة بدر .
وإذا صحّ وصف جيش النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بذلك صحّ وصف غيره بطريق أولى ، فلماذا نتحاشى عن وصف الحسين وجيشه بالذلّة ؟
وجوابهُ : أنّ الآية الكريمة غير دالّة أصلاً على ثبوت الذلّة بمعنى المهانة للنبي ( صلّى الله عليه وآله ) وجيشه ، ولو دلّت على ذلك لوجبَ تأويلها بما يناسب الحال ، شأنها في ذلك شأن الظواهر القرآنيّة التي دلّ الدليل على عدم إمكان التعبّد بمظاهرها ، وذلك من وجوه :
الوجهُ الأوّل :
إنّ المنظور هو الذلّة بالمعنى العرفي ، يعني أنّ الانطباع هو ذلك بغضّ النظر عن الإحساس به ، وذلك مثل قوله تعالى :
( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ) (7)
وهذا تعبيرٌ عن انطباع معيّن يمكن التعبير عنه بالذلّة مجازاً ، بعد النظر إلى قلّة المسلمين وضعفهم تجاه عدد الكفّار وعدّتهم وجبروتهم .
الوجهُ الثاني :
إنّ المنظور في الآية الكريمة هو الذلّة لولا العناية الإلهيّة ، وبالاستقلال عنها ، وإلاّ فمن غير المحتمل حصول الذلّة مع وجود تلك العناية ، ولا شكّ أنّ تلك العناية موجودة باستمرارٍ مع طرف الحقّ ، سواء كان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو الحسين ( عليه السلام ) ، أو أيّ شخصٍ آخر مهم دينيّاً أو إلهيّاً .
الوجهُ الثالث :
إنّ الآية الكريمة وإن صرّحت بالذلّة ، إلاّ أنّها لم تُصرِّح بمَن يكونون أذلاّء أمامهُ ، فلو تصوّرنا أنّهم أذلاّء أمام الأعداء ، لوردَ الإشكال ، ولكن يمكن أن نفهم أنّ المراد كونهم أذلاّء أمامَ الله عزّ وجل ، ونجعل التبشير بالنصر كقرينة متّصلة على ذلك يعني : أنّه جلّ جلالهُ إنّما نَصرهم ؛ لأنّهم كانوا أذلاّء أمامهُ وخاشعين له ومتوسّلين به .
إذاً ، فالآية الكريمة لا تدلّ بحالٍ على تحقق الذلّة الفعليّة لطرف الحقّ أينما كان ، ولو دلّت على ذلك لتعارَضت مع الآيات الأخرى جزماً ، كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (8)
فتكون هذه الآيات أَولَى بالصحّة ، ويكون من الواجب تأويل تلك الآية الكريمة ، وإذا تنزّلنا جَدلاً عن التأويل ، أمكنَ تساقط دلالتها مع دلالة الآيات الأخرى ، ومعهُ لا يبقى دليل على وجود الذلّة .
هل اهتمّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعياله ؟
هذا ما يؤكِّد عليه الخطباء الحسينيّون كثيراً ، ولكنّني أعتقد أنّه أمر لا ينبغي المبالغة فيه إطلاقاً ، بل يجب أخذهُ من أقلّ زاوية وأضيق نطاق .
فإنّه ( عليه السلام ) لو أرادَ الاهتمام الحقيقي بعياله كما يعتني أهل الدنيا بعوائلهم ويحرصون عليه ، إذاً لكانَ الأَولَى به أن يعمل أحد أمور :
أوّلاً : أن يُبايع الحاكم الأموي لينال الدنيا وأموالها وزخارفها ويرتاح هو وأهله وعياله فيها خير راحة ، بغضّ النظر عن الآخرة ، أعوذ بالله من ذلك .
ثانياً : إن كان هو يريد عدم البيعة فليخرج بهم إلى اليمن أو غيرها من بلاد الله ، ليكونوا سُعداء مرتاحين هناك .
ثالثاً : إن كان لا يريد ذلك فليتحمّل القتل في المدينة المنوّرة ، ولا حاجة إلى أن يخرج إلى العراق ، لكي يكون هو المقتول ولا يكون على عياله بأس ، وقد وردَ عنه : ( إنّ القوم إنّما يطلبونني ، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري ) (9) .
رابعاً : إن كان يريد الخروج إلى الكوفة ، فليَدَع عياله في المدينة مرتاحين في طيب العيش ، حتّى يصل إليهم تارةً أخرى ، أو يصل إليهم خبر مقتله .
وهنا قد يخطر بالبال : أنّهُ أخذَ عيالهُ معه لأجل قيامهنّ بالخَدَمات الاعتياديّة في الأسرة : كتقديم الطعام ، وغَسل الثياب .
وجوابهُ : إنّ هذا من خطل القول ؛ فإنّ هذه المهمّة ممكن أن تكون موكولة إلى بعض الرجال المرافقين له ، كما يمكن استئجار نساء اعتياديّات يقُمنَ بها ، ولا تكون هذه المهمّة مبرِّراً لاصطحاب النساء الجليلات معهُ كزوجاته ، وبناته ، وأخته ، وغيرهنّ من الهاشميات .
إذاً ، فتعريضهُ لهنّ للتعب والسهر أوّلاً ، وللسبي ثانياً ؛ إطاعة لله عزّ وجل حين قال : ( شاءَ الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا ) (10) .
ولكثيرٍ من المصاعب الأخرى ، دليلٌ صريح على أنّهُ ( عليه السلام ) لم يهتمّ بهم الاهتمام الدنيوي المتوقّع من أيّ واحد من أهل الدنيا ، أمّا أنّهُ ( عليه السلام ) لماذا أخذَ عيالهُ معه ؟ فهذا ما سنُجيب عليه في سؤالٍ آت .
نعم ، ينحصر الاهتمام بالعيال بمقدار الضرورة ، وقد فعلَ ذلك سلام الله عليه ؛ وذلك أنّه هو المسؤول الحقيقي والرئيسي عنهم أمام الله سبحانه ، فلا يمكنهُ التخلّي عن وظيفته الشرعيّة تجاههم ، وذلك في عدّة أمور :
الأمرُ الأوّل :
حمايةُ العيال عن الأعداء ما دام حيّاً ، ولذا وردَ عنه :
أحمي عيالات أبي أمضي على دين النبي (11)
وقد وردَ عنه أيضاً مُخاطباً الجيش المعادي : ( أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جُناح ، فامنَعوا جهّالكم وعُتاتكم عن التعرّض لحَرَمي ما دُمتُ حيّاً ) (12) ، إذاً فهو عمليّاً كان يُفديهم بنفسه .
الأمرُ الثاني :
الاعتناء بشؤونهم بعد وفاته .
ومن هنا وردَ أنّهُ أوصى إلى أخته الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن تقوم بهذه المهمّة ، حين كان ولدهُ الإمام السجّاد ( عليه السلام ) لا يستطيع أن يقوم بشيء ، وقد قامت سلام الله عليها بمهمّتها خير قيام .
الأمرُ الثالث :
العناية الدينيّة بهم في الدنيا والآخرة ، وخاصّة وهو يعلم أنّهم مُقبلون على بلاءٍ لا يكادون يطيقونه ، وهو حالهم بعد مقتله ( عليه السلام ) ومن هنا وردت بعض التعليمات عنه ، ولعلّ لهُ تعليمات كثيرة لم تُنقل في التاريخ ، فمن ذلك قوله ( عليه السلام ) : ( يا أخيّة ، أُقسِم عليكِ فأبري قَسَمي لا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تَدعي بعدي بالويل والثبور إذا أنا هلكتُ ) (13) .
وهذا ، ومع ذلك يبقى السؤال المهم عن العيال ، وهو إنّه ( عليه السلام ) لماذا أخذهم معه ؟ أو قل : لماذا شاء الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا ؟ كما ورد عنه ( عليه السلام ) ، وهذا ما نجيب عليه ضمن السؤال الآتي :
لماذا أخذ عيالهُ معه ؟
وجوابهُ : إنّنا في حدود تصوّرنا الممكن لنا ، يمكننا أن نحدِّد ونُعدّد عدّة مصالحة حقيقيّة ومهمّة لذلك ، نوجزها فيما يلي :
أوّلاً : إنّهُ أخذَهم امتثالاً لأمر الله سبحانه ؛ لأنّه هو الذي أمرَه بذلك .
وهذا صحيح أكيداً ، ومن شواهد تلك العبارة الواردة : ( شاء الله أن يراهنّ سبايا ) ، ولكنّنا إذا أردنا الغرض من الحكمة الإلهيّة في ذلك ، وإنّ الله سبحانه لماذا أمرهُ بذلك ، لم نجد في هذا السبب وجهاً كافياً ، فنعود إلى الوجوه الأخرى التالية .
ثانياً : إنّه أخذهم معهُ ليشاركوه في نيل الثواب العظيم المذخور لشهداء كربلاء ، كلّ منهم بمقدار استحقاقه ، فلماذا يكون الثواب حكراً على الرجال دون النساء ، ولماذا يكون له منه حصّة الأسد ويُحرم الباقون ، بل الثواب ينبغي أن يوزّع على أوسع نطاق ممكن ؟ وهكذا كان .
ثالثاً : إنّهم جاءوا معهُ بطلبٍ منهم ، وقد استجابَ لطلبهم فأخذهم معه .
وقد جاء هذا الطلب حُبّاً لهُ وشوقاً إليه واستيحاشاً من فراقه ، وليس كلّ ذلك أمراً دنيوياً فحسب ، بل هو كذلك بصفته إمامهم وقائدهم ووليّ الله بينهم ، مضافاً إلى توقّعهم نيل الثواب معه ، كما أشرنا في الوجه السابق .
رابعاً : إنّهم جاءوا معهُ أو إنّه أخذَهم معه ، بحسب الحكمة الإلهيّة ليُكملوا ثورة الحسين بعد مقتله ، كما حصلَ ذلك على أفضل وجه ، وذلك بأن يكونوا ناطقين أمامَ المجتمع بأهداف الحسين وأهميّة مقتله والإزراء بأعدائه ، ويمارسوا الإعلام الواسع حينما لا يكون الرجال قادرين على ذلك بعد موتهم واستئصالهم .
وهذا الإعلام كان ضروريّاً للمجتمع تماماً ، وإلاّ لذَهبت حركة الحسين ( عليه السلام ) في طيّ النسيان والكتمان ، ولمَا أثّرت أثرها البليغ في مستقبل الدهر ، فكان من الضروري في الحكمة الإلهيّة وجود النساء معهُ لكي يُعبّرنَ عن الحسين ويُدافعنَ عنه بعد مقتله ، ومن هنا ( شاء الله أن يراهنّ سبايا ) ؛ لأنّ هذا السبي دليل عملي قاطع على فضاضة أعدائهم وما يتّصفون به من القسوة واللؤم وعدم العناية بالدين ، وهذا وحدهُ يكفي للإعلام إلى مصلحة الحسين ( عليه السلام ) فضلاً عن غيره .
وهذا التعريف المتأخِّر عن ثورة الحسين ( عليه السلام ) ليس لأجل مصلحة الحسين نفسه ، ولا لمصلحة أصحابه المستشهدين معه ؛ لأنّهم نالوا بالشهادة ما رزقهم الله جلّ جلاله من المقامات العالية في الدار الآخرة ، وإنّما هذا الإعلام أرادهُ الله سبحانه لأجل الناس وهداية المجتمع .
فما يقال : من أنّه إكمال لثورة الحسين ( عليه السلام ) يراد به الجانب الظاهري في الدنيا ، لا الجانب الباطني في الآخرة .
وهذا التعريف كما يصلح أن يكون تبكيتاً (تبكيتاً : مثل بكّته : قَرّعهُ وعنّفهُ) وفضحاً لأعداء الحسين ( عليه السلام ) في كلّ جيل ، ورَدعاً عن التفكير في مثل هذه الجريمة النكراء لكلّ حاكمٍ ظالم على مدى التاريخ ، كذلك يصلح لهداية الناس نحو الحسين عليه السلام .
وبالتالي نحو دين الله عزّ وجل ، ونحو أهداف الحسين الإلهيّة ، وبالتالي نحو طاعة الله عزّ وجل والتربية الصالحة في إطاعة الدين وعصيان الشهوات والتمرّد على كلّ ظلمٍ وفساد ، سواء كان في المجتمع أو في النفس الأمّارة بالسوء .
المصادر :
1- للسيّد حيدر الحلّي ( أدب الطف : ج8 ، ص22 )
2- سورة المنافقين : آية 8 .
3- اللهوف : ص41 ، الخوارزمي : ج2 ، ص6 ، البحار للمجلسي : ج42 ، ص9 .
4- أمالي الطوسي : م2 ، ج18 ، ص137 ، الكافي : ج1 ، ص17 .
5- من دعاء للحسين ( عليه السلام ) يوم عرفة ( مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي ) انظر : ص216 وما بعدها .
6- سورة آل عمران : آية 123 .
7- سورة الأنفال : آية 26 .
8- سورة المنافقين : آية 8 .
9- مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص248 ، أمالي الصدوق : مجلس 3 ، ص138 ، الطبري : ج6 ، ص238 .
10- البحار للمجلسي : ج44 ، ص364 .
11- مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص258 ، البحار للمجلسي : ج5 ، ص49 .
12- اللهوف : ص50 ، ابن نما : ص55 ، البحار : ج45 ، ص51 ، أسرار الشهادة : ص407 .
13- تاريخ الطبري : ج6 ، ص240 ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص286 ، الإرشاد للمفيد : ص232 .
source : راسخون