قال اللَّه سبحانه وتعالىََ : «يا أيّها الإنسانُ إنّك كادِحٌ إلىََ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ »(1).
هذه الآية الكريمة تضع اللَّه سبحانه وتعالىََ هدفاً أعلىََ للإنسان ، والإنسان هنا بمعنىََ الإنسانية ككل ، فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ ، والكدح - كدح الإنسانية ككل - نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ يعني السير المستمر بالمعاناة وبالجهد وبالمجاهدة ؛ لأنّ هذا السير ليس سيراً اعتيادياً ، بل هو سير ارتقائي ، هو تصاعد وتكامل ، هو سير تسلّق .
فهؤلاء الذين يتسلّقون الجبال ليصلوا إلىََ القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد . كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو اللَّه فإنّما هي تتسلّق إلىََ قمم كمالها وتكاملها وتطوّرها إلىََ الأفضل باستمرار .
وهذا السير الذي يحتوي علىََ المعاناة باستمرار ، هذا السير يفترض طريقاً لا محالة ، فإنّ السير نحو هدف يفترض حتماً طريقاً ممتدّاً بين السائر وبين ذلك الهدف . وهذا الطريق هو الذي تحدّثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرّقة تحت اسم : سبيل اللَّه واسم الصراط واسم صراط اللَّه . هذه الصيغ القرآنية المتعدّدة كلها تتحدّث عن الطريق ، الطريق الذي يفترضه ذلك السير ، وكما أنّ السير يفترض الطريق ، كذلك الطريق يفترض السير أيضاً ، وهذه الآية الكريمة «يا أيّها الإنسانُ إنّك كادِحٌ إلىََ رَبّكَ كدحاً فملاقيه »تتحدّث عن حقيقة قائمة ، عن واقع موضوعي ثابت ، فهي ليست بصدد أن تدعو الناس إلىََ أن يسيروا في طريق اللَّه سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك كما هو الحال في آيات اُخرىََ في مقامات وسياقات قرآنية اُخرىََ .
الآية الكريمة لا تقول : يا أيها الناس تعالوا إلىََ سبيل اللَّه ، توبوا إلىََ اللَّه ، بل تقول : «يا أيّها الإنسانُ إنّك كادِحٌ إلىََ ربّك كدحاً فملاقيه ». لغةُ الآيةِ لغةُ التحدّث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة ، وهي أنّ كل سير وكل تقدّم للإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة الأمد فهو تقدّم نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ وسير نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ ، حتىََ تلك الجماعات التي تمسّكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت أن تحقّق لها سيراً ضمن خطوة علىََ هذا الطريق الطويل ، حتىََ هذه الجماعات التي يسمّيها القرآن بالمشركين حتىََ هؤلاء هم يسيرون هذه الخطوة نحو اللَّه ، هذا التقدّم بقدر فاعليته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ ، لكن فرق بين تقدّم مسؤول وتقدّم غير مسؤول علىََ ما يأتي شرحه إن شاء اللَّه .
حينما تتقدّم الإنسانية في هذا المسار واعية علىََ المثل الأعلىََ وعياً موضوعياً يكون التقدّم تقدّماً مسؤولاً ، يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لوناً من العبادة ، يكون لهم امتداد علىََ الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأمّا حينما يكون التقدّم منفصلاً عن الوعي علىََ ذلك المثل فهو تقدّم علىََ أي حال ، سير نحو اللَّه علىََ أي حال ، ولكنه تقدّم غير مسؤول علىََ ما يأتي تفصيله .
إذن كلّ تقدّم هو تقدّم نحو اللَّه ، حتىََ اُولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة ، فإنّ هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، هؤلاء حينما يصلون إلىََ هذا السراب لا يجدون شيئاً ويجدون اللَّه سبحانه وتعالىََ فيوفّيهم حسابهم ، كما تتحدّث الآية الكريمة التي قرأناها فيما سبق .
واللَّه سبحانه وتعالىََ هو نهاية هذا الطريق ولكنه ليس نهاية جغرافية ، ليس نهاية علىََ نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدّه مكانياً . كربلاء مثلاً نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية ، ومعنىََ أ نّها نهاية جغرافية أ نّها موجودة علىََ آخر الطريق ، ليست موجودة علىََ طول الطريق ، لو أنّ إنساناً سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل علىََ شيء من كربلاء ، لا يحصل علىََ حفنة من تراب كربلاء إطلاقاً ؛ لأنّ كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن اللَّه سبحانه وتعالىََ ليس نهاية علىََ نمط النهايات الجغرافية ، اللَّه سبحانه وتعالىََ هو المطلق ، هو المثل الأعلىََ ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، إذن هو موجود علىََ طول الطريق أيضاً ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حدّ له . اللَّه سبحانه وتعالىََ هو نهاية الطريق ولكنه موجود أيضاً علىََ طول الطريق ، من وصل إلىََ نصف الطريق ، من وصل إلىََ سرابه ، فتوقف واكتشف أ نّه سراب ، ماذا يجد ؟ ـ
ماذا وجد في الآية ؟ وجد اللَّه فوفّاه اللَّه حسابه ؛ لأنّ المطلق موجود علىََ طول الطريق ، وبقدر زخم الطريق ، وبقدر التقدّم في الطريق يجد الإنسان مثله الأعلىََ ، يلقىََ اللَّه سبحانه وتعالىََ أينما توقّف بحجم سيره ، وبحجم تقدّمه علىََ هذا الطريق .
وبحكم أنّ اللَّه سبحانه وتعالىََ هو المطلق ، إذن الطريق أيضاً لا ينتهي ، هذا الطريق طريق الإنسان نحو اللَّه هو اقتراب مستمرّ بقدر التقدّم الحقيقي نحو اللَّه ، ولكن هذا الاقتراب يبقىََ اقتراباً نسبياً ، يبقىََ مجرّد خطوات علىََ الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق ؛ لأنّ المحدود لا يصل إلىََ المطلق . الكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إلىََ اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلىََ هنا فسحة لا متناهية ، أي أ نّه ترك له مجال الإبداع إلىََ اللانهاية ، مجال التطور والتكامل إلىََ اللانهاية ، باعتبار أنّ الطريق الممتد طريق لا نهائي .
أثر المثل الأعلى الحقيقي على المسيرة البشرية :
وهذا المثل الأعلىََ الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الإنسانية وتوفّق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الأعلىََ حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الإنسانية حينما توفّق بين وعيها علىََ المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتجهة نحو اللَّه ، سوف يحدث تغيير كمّي وكيفي علىََ هذه المسيرة ، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كمّي وكيفي .
التغيير الكمّي :
أمّا التغيير الكمّي علىََ هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا إليه من أنّ الطريق حينما يكون طريقاً إلىََ المثل الأعلىََ الحقّ يكون طريقاً غير متناهٍ ، أي أنّ مجال التطور والإبداع والنموّ قائم أبداً ودائماً ومفتوح للإنسان باستمرار من دون توقّف . هذا المثل الأعلىََ حينما يتبنّىََ سوف تمسح من الطريق كل الآلهة المزوّرة ، كل الأصنام وكل الاقزام المتصنّمة علىََ طريق الإنسان التي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلىََ اللَّه سبحانه وتعالىََ .
ومن هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمراً مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت أن تحدّد من كمية الحركة ، من أن توصل الحركة إلىََ نقطة ثم تقول : قف أيّها الإنسان . هذه الآلهة التي أرادت أن توقف الإنسان في وسط الطريق وفي نقطة معينة ، كان دين التوحيد علىََ مرّ التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدّها . هذا المثل الأعلىََ إذن سوف يُحدث تغييراً كمّياً علىََ الحركة ؛ لأنّه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير باستمرار .
التغيير الكيفي :
وأمّا التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الأعلىََ علىََ هذه المسيرة ، فهذا التغيير الكيفي هو إعطاء الحلّ الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني ، للتناقض الإنساني ، إعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدىََ الإنسان ، الإنسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلىََ ووعيه علىََ طريقه بحدوده الكونية الواقعية ، من خلال هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمّق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلىََ لأول مرّة في تاريخ المُثُل البشرية التي حرّكت البشر علىََ مرّ التاريخ . لماذا ؟
لأنّ هذا المَثَل الأعلىََ حقيقة وواقع عيني أعلىََ منفصل عن الإنسان ، وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي ، فإنّ المسؤولية الحقيقية لا تقوم إلّابين جهتين بين مسؤول ومسؤول لديه . إذا لم يكن هناك جهة أعلىََ من هذا الكائن المسؤول ،
وإذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمناً بأ نّه بين يدي جهة أعلىََ ، لا يمكن أن يكون شعوره بالمسؤولية شعوراً موضوعياً ، شعوراً حقيقياً .
مثلاً تلك المُثُل المنخفضة ، تلك الآلهة ، تلك الأقزام المتعملقة علىََ مرّ التاريخ ، علىََ مرّ المسيرة البشرية ، هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حلّلنا إلّا إفرازاً بشرياً ، إلّاإنتاجاً إنسانياً ، يعني أ نّها جزء من الإنسان ، جزء من كيان الإنسان ، والإنسان لا يمكن أن يستشعر بصورة موضوعية حقيقية المسؤولية تجاه ما يفرزه هو ، اتجاه ما يصنعه هو ، «إن هي إلّاأسماءٌ سمّيتموها »(2)
تلك المُثُل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع أخلاقاً ، ولكنّها كلها غطاء ظاهري ، وكلّما وجد هذا الإنسان مجالاً للتحلّل من هذه العادات ، ومن هذه الأخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلّل .
بينما المَثَل الأعلىََ لدين التوحيد ، للأنبياء علىََ مرّ التاريخ باعتباره واقعاً عينياً منفصلاً عن الإنسان ، باعتباره جهة أعلىََ من الإنسان ، ليس إفرازاً بشرياً ، ليس إنتاجاً إنسانياً . إذن سوف يتوصّل للشعور بالمسؤولية شرطُه الموضوعي في المقام . لماذا كان الأنبياء علىََ مرّ التاريخ أصلب الثوّار علىََ الساحة التاريخية ، أنظف الثوّار علىََ الساحة التاريخية ؟ لماذا كانوا علىََ الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة أو يسرة ؟ لماذا كانوا هكذا ؟ لماذا انهار كثير من الثوّار علىََ مرّ التاريخ ولم نسمع أنّ نبياً من أنبياء التوحيد انهار أو تململ أو انحرف يمنة أو يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء ؟
لأنّ المَثَل الأعلىََ المنفصل عنه ، لأنّ المثل الأعلىََ الذي هو فوقه ، هذا المثل الأعلىََ أعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية تجسّد في كل كيانه ، في كل مشاعره وأفكاره وعواطفه . ومن هنا كان النبيّ معصوماً علىََ مرّ التاريخ .
إذن هذا المثل الأعلىََ بحسب الحقيقة يحدث تغييراً كيفياً علىََ المسيرة ؛ لأ نّه يعطي الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمراً عرضياً ، ليس أمراً ثانوياً في مسيرة الإنسان ، بل هذا شرط أساسي في إمكان نجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني( لقد تكرّر من السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره هنا استعمال بعض المفردات كالتناقض والجدل واجتماع النقيضين ونحو ذلك ، وليس مراده قدس سره المعنى المنطقي والفلسفي لهذه المصطلحات ، بل استعملها بما لها من مفهوم اجتماعي ومعنى عرفي مسامحي ) ، للجدل الإنساني ؛ لأنّ الإنسان يعيش تناقضاً ، الإنسان بحسب تركيبه وخلقته يعيش تناقضاً ؛ لأنّه هو تركيب من حفنة من تراب ونفحة من روح اللَّه سبحانه وتعالىََ كما وصفت ذلك الآيات الكريمة . الآيات الكريمة قالت بأنّ الإنسان خلق من تراب ، وقالت بأ نّه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالىََ(من قبيل قوله تعالى : «وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه ») . (3)
إذن فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الإنسان ، حفنة التراب تجرّه إلىََ الأرض ، تجرّه إلىََ الشهوات ، إلىََ الميول ، تجرّه إلىََ كل ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط ، وروح اللَّه سبحانه وتعالىََ التي نفخها فيه تجرّه إلىََ أعلىََ ، تتسامىََ بإنسانيته إلىََ حيث صفات اللَّه ، إلىََ حيث أخلاق اللَّه ، « تخلّقوا بأخلاق اللَّه » ، إلىََ حيث العلم الذي لا حدّ له والقدرة التي لاحدّ لها ، إلىََ حيث العدل الذي لا حدّ له ، إلىََ حيث الجود والرحمة والانتقام ، إلىََ حيث هذه الأخلاق الالهية .
هذا الإنسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الإنسان وشرحته قصة آدم - علىََ ما يأتي إن شاء اللَّه - هذا الجدل الإنساني له حلّ واحد فقط ، هذا الحلّ الواحد الذي يمكن أن يوضع لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية ، لكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل ، فإنّ الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحلّ هذا الجدل ، هو ابن الجدل بل إفراز هذا التناقض ، وإنّما الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله إلّاالمثل الأعلىََ الذي يكون جهة عليا ، يحسّ الإنسان من خلالها بأ نّه بين يدي ربّ قادر سميع بصير محاسب مجازٍ علىََ الظلم ، مجازٍ علىََ العدل . إذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغيير الكيفي علىََ المسيرة هو في الحقيقة الحلّ الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الإنسان وتركيب الإنسان .
الصراع بين الانبياء والمترفين :
دور دين التوحيد إذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده ، إزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كمياً وكيفياً ، محاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد أن تجمّد الحركة من ناحية ، أن تعرّيها من الشعور بالمسؤولية من ناحية اُخرىََ ، ومن هنا كان حرب الأنبياء كما أشرنا ، كان حرب الأنبياء مع الآلهة المصطنعة علىََ مرّ التاريخ .
ولمّا كان كلّ مثل من هذه المثل العليا التي تتحوّل إلىََ تمثال ضمن ظروف تطوّرها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحوّل إلىََ تمثال تجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار أنّ مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم ، ترفهم ، كيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحوّل إلىََ تمثال ، ولهذا يقف دائماً هؤلاء الذين يرتبطون مصلحياً بهذا التمثال ، يقفون دائماً في وجه الأنبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم .
ومن هنا أبرز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ ، وهي أنّ الأنبياء دائماً كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر في المعارضة مع هذا النبي ؛ لأنّ هذا المترف هو المستفيد من هذا المثال بعد أن تحوّل إلىََ التمثال ، هذا المثال تحوّل إلىََ تمثال فمن هو المستفيد منه ؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعَّمون علىََ حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبرّراً لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي أنّ هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين نجدهم دائماً في الخط المعارض للأنبياء :
«وكَذَلِكَ ما أرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريةٍ مِن نذيرٍ إلّاقال مُترَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا علىََ اُمّة وإنّا علىََ آثارِهم مُقتَدُونَ »(4).
«وما أرسَلنَا في قَريَةٍ مِن نَذيرٍ إلّاقَالَ مُترَفُوها إنّا بما اُرسِلتُم به كافِرُونَ »(5).
«سَأصرِفُ عَنْ آياتِي الذِينَ يَتَكبّرُونَ في الأرضِ بِغيرِ الحقِّ وإن يَرَوْا كُلَّ آيةٍ لا يُؤمِنُوا بِها وإن يَرَوا سَبِيلَ الرشدِ لا يَتَّخِذِوه سَبِيلاً وإن يَرَوا سبِيلَ الغَيِّ يتَّخِذُوه سَبِيلاً ذَلكَ بأ نّهم كَذَّبُوا بآياتِنا وكَانُوا عَنْها غَافِلِينَ »(6).
«وَقال الملاُ مِن قَومِهِ الذِينَ كَفَرُوا وَكذّبُوا بلِقَاءِ الآخِرَة وأترفناهُم في الحياةِ الدنيا ما هذا إلّابَشَرٌ مِثلُكُم يأكلُ ممّا تأكُلُونَ مِنهُ ويَشرَبُ ممّا تَشرَبُونَ »(7).
إذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء علىََ آلهتهم وعلىََ مُثُلهم التي تحوّلت إلىََ تماثيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المُثُل العليا المنخفضة ، ولكنّه لا يقطع صلتها بهذه المُثُل العليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب ، لكي يحوّلها إلىََ كومة ماديّة ليس لها أشواق ، ليس لها طموحات ، ليس لها تطلّعات إلىََ أعلىََ كما هو شأن الثوّار الماديين الذين يستلهمون من المادية التاريخية ومن الفهم المادي للتاريخ ، اُولئك أيضاً يحاربون هذه الآلهة المصطنعة ويسمون هذه الآلهة المصطنعة بأ نّها أفيون الشعوب ، ونحن أيضاً نحارب هذه الآلهة المصطنعة ، ولكننا نحن نحارب هذه الآلهة المصطنعة لا لكي نحوّل الإنسان إلىََ حيوان ، لا لكي نقطع صلة الإنسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحوّل مسار الإنسان من أعلىََ إلىََ أسفل ، وإنّما نقطع صلة الإنسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشدّه إلىََ المَثَل الأعلىََ ، لكي نشدّه إلىََ اللَّه سبحانه وتعالىََ .
شروط تبنّي المثل الأعلى الحقيقي :
وتبنّي المسيرة البشرية لهذا المَثَل الأعلىََ الحقّ الذي يحدث هذه التغييرات الكيفية والكميّة علىََ اتّجاه المسيرة وحجمها ، تبنّي المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقّف علىََ عدّة اُمور :
أوّلاً :
علىََ رؤية واضحة فكرياً وإيديولوجياً لهذا المثل الأعلىََ ، وهذه الرؤية الواضحة لهذا الأعلىََ عقيدة التوحيد علىََ مرّ التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي علىََ الإيمان باللَّه سبحانه وتعالىََ ، التي توحّد بين كل المُثل ، بين كلّ الغايات ، كلّ الطموحات ، كلّ التطلعات البشرية ، توحّد بينها في هذا المثل الأعلىََ الذي هو علم كلّه ، قدرة كلّه ، عدل كلّه ، رحمة كلّه ، انتقام من الجبارين كلّه . هذا المثل الأعلىََ الذي تتوحّد فيه كلّ الطموحات وكلّ الغايات ، هذا المثل الأعلىََ تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلّمنا علىََ أن نتعامل مع صفات اللَّه وأخلاق اللَّه لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنّا كما يتعامل فلاسفة الإغريق ، وإنّما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائداً عملياً ، بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشّرات علىََ الطريق الطويل للإنسان نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ . عقيدة التوحيد هي التي توفّر هذا الشرط الأول : الرؤية الواضحة فكرياً وإيديولوجيا للمثل الأعلىََ .
ثانياً :
لابدّ من طاقة روحية مستمدّة من هذا المثل الأعلىََ لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية علىََ مرّ التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من اللَّه سبحانه وتعالىََ يتمثّل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلّم الإنسان أنّ هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر ، وأنّ مصير الإنسان علىََ تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره علىََ هذه الساحة التاريخية . هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني ـ الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائماً قدرته علىََ التجديد والاستمرار . هذا ثانياً .
ثالثاً :
أنّ هذا المثل الأعلىََ الذي تحدّثنا عنه يختلف عن المثل العليا الاُخرىََ التكرارية والمنخفضة التي تحدّثنا عنها سابقاً ، علىََ أساس أنّ هذا المثل منفصل عن الإنسان ، ليس جزءاً من الإنسان ، ليس من إفراز الإنسان ، بل هو منفصل عن الإنسان ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كلّ مكان وليس جزءاً من الإنسان . هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الأعلىََ . لابدّ من صلة موضوعية بين هذا الإنسان وبين ذلك المثل الأعلىََ ، بينما المثل الاُخرىََ السابقة كانت إنسانية ، كانت إفرازاً بشرياً لا حاجة إلىََ افتراض صلة موضوعية . نعم هناك طواغيت وفراعنة علىََ مرّ التاريخ نصبوا من أنفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، آلهة الكواكب ، لكنّها صلة موضوعية مزيّفة ؛ لأنّ الإله هناك كان وهماً ، كان وجوداً ذهنياً ، كان إفرازاً إنسانياً ، أمّا هنا فالمثل الأعلىََ منفصل عن الإنسان ، ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الإنسان بذلك المَثَل الأعلىََ .
وهذه الصلة الموضوعية تتجسّد في النبيّ ، في دور النبوّة ، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركّب بين الشرط الأول والشرط الثاني بأمر اللَّه سبحانه وتعالىََ ، بين رؤية إيديولوجية واضحة للمَثَل الأعلىََ وطاقة روحية مستمدّة من الإيمان بيوم القيامة ، يركّب بين هذين العنصرين ثم يجسّد بدور النبوة ، الصلة بين المَثَل الأعلىََ والبشرية ليحمل هذا المركّب إلىََ البشرية بشيراً ونذيراً . هذا ثالثاً .
ورابعاً :
البشرية بعد أن تدخل مرحلة يسميها القرآن بمرحلة الاختلاف علىََ ما يأتي إن شاء اللَّه شرحه في الأيام القليلة الآتية ، سوف لن يكفي مجيء البشير النذير وحده ، لا يكفي ؛ لأنّ مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المُثُل المنخفضة أو التكرارية ، تعني وجود تلك الآلهة المزوّرة علىََ الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن اللَّه سبحانه وتعالىََ . إذن لابدّ للبشرية من أن تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمُثُل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيّماً علىََ البشرية وحاجزاً وقاطع طريق بالنسبة إلىََ المسيرة التاريخية ، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة ، ولابدّ من قيادة تتبنّىََ هذه المعركة ، وهذه القيادة هي الإمامة ، هي دور الإمامة . الإمام هو القائد الذي يتولّىََ هذه المعركة ، ودور الإمامة يندمج مع دور النبوّة في مرحلة من النبوّة يتحدّث عنها القرآن ، وسوف نتحدّث عنها إن شاء اللَّه تعالىََ ونقول بأ نّها بدأت في أكبر الظنّ مع نوح عليه الصلاة والسلام ، ودور الإمامة يندمج مع دور النبوّة ولكنّه يمتد أيضاً حتىََ بعد النبيّ ، إذا ترك النبيّ الساحة وبَعْدُ لا تزال المعركة قائمة ، ولا تزال الرسالة بحاجة إلىََ مواصلة هذه المعركة من أجل القضاء علىََ تلك الآلهة ، حينئذٍ يمتد دور الإمامة بعد انتهاء النبيّ .
هذا هو الشرط الرابع في تبنّي المسيرة البشرية لهذا المَثَل الأعلىََ .
تفعيل اُصول الدين للمسيرة البشرية :
علىََ هذا الضوء سوف نكوّن رؤية واضحة لما نسمّيه باُصول الدين الخمسة ، سوف تقع اُصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي ، في موقعها الصحيح السليم من مسار الإنسان ، اُصول الدين الخمسة :
الأصل الأول - التوحيد :
هو الذي يعطي الشرط الأول ، هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكرياً وإيديولوجياً ، هو الذي يجمع ويعبّئ كلّ الطموحات وكلّ الغايات في مثل أعلىََ واحد وهو اللَّه سبحانه وتعالىََ .
الأصل الثاني - العدل :
العدل هو جانب من التوحيد ولكن إنّما فصل ، العدل صفة من صفات اللَّه سبحانه وتعالىََ ، حال العدل حال العلم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ، ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة ؛ لأنّ العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية ، والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة اُخرىََ . اُبرز العدل هنا كأصل ثانٍ من اُصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة . ألسنا قلنا بأن صفات اللَّه وأخلاق اللَّه علّمنا الإسلام علىََ أن لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها ، وإنّما نتعامل معه كمؤشّرات وكمنارات علىََ الطريق ؟ إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلىََ توجيه المسيرة البشرية ، ولأجل ذلك اُفرز ، وإلّا العدل في الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العام ، في إطار المثل الأعلىََ .
الأصل الثالث - النبوّة :
النبوة هي التي توفّر الصلة الموضوعية بين الإنسان وما بين المثل الأعلىََ . المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنّت المثل الأعلىََ - الحق المنفصل عنها الذي هو ليس من إفرازها ومن انتاجها المنخفض - كانت بحاجة إلىََ صلة موضوعية ، هذه الصلة الموضوعية يجسّدها النبيّ صلى الله عليه و آله ، النبيّ علىََ مرّ التاريخ . الأنبياء صلوات اللَّه عليهم هم الذين يجسّدون هذه الصلة الموضوعية .
الأصل الرابع - الإمامة :
الإمامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوّة . النبيّ إمام أيضاً . النبيّ نبيّ ، والنبيّ إمام ، ولكن الإمامة لا تنتهي بانتهاء النبيّ إذا كانت المعركة قائمة وإذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة إلىََ قائد يواصل المعركة . إذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبيّ من خلال الإمامة ، فالإمامة هو الأصل الرابع من اُصول الدين .
والأصل الخامس - هو الإيمان بيوم القيامة : هو الذي يوفّر الشرط الثاني من الشروط الأربعة التي تقدّمت ، هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الربّاني الذي يجدّد دائماً إرادة الإنسان وقدرة الإنسان ، ويوفّر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية .
إذن اُصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي علىََ ضوء ما ذكرناه هي كلّها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلىََ وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصيغتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها قبل أيام .
كنا نقول - ماذا كنا نقول قبل أيام ؟ - بأن القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات أربعة أبعاد لا ذات ثلاثة أبعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف ، وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف ، وقلنا بأن الاستخلاف يفترض أربعة أبعاد ، يفترض إنساناً وإنساناً وطبيعة واللَّه سبحانه وتعالىََ وهو المستخلف . هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الآخر عن صيغة تدمج اُصول الدين الخمسة في مركّب واحد من أجل أن يسير الإنسان ويكدح نحو اللَّه سبحانه وتعالىََ في طريقه الطويل .
بما ذكرناه توضّح دور الإنسان في المسيرة التاريخية ، توضّح أنّ الإنسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية ، وتوضّح أنّ الإنسان هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وإنّما بمحتواه الداخلي ، وهذا المحتوىََ الداخلي توضّح أيضاً من خلال ما شرحناه : أنّ الأساس في بناء هذا المحتوىََ الداخلي هو المثل الأعلىََ الذي يتبنّاه الإنسان ؛ لأن المثل الأعلىََ هو الذي تنبثق منه كلّ الغايات
التفصيلية ، والغايات التفصيلية هي المحرّكات التاريخية للنشاطات علىََ الساحة التاريخية .
إذن بناء المثل الأعلىََ وتبنّي المثل الأعلىََ هو في الحقيقة الأساس في بناء المحتوىََ الداخلي للإنسان ، ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع .
المصادر :
1- الانشقاق : 6
2- النجم : 23
3- السجدة : 7 – 9
4- الزخرف : 23
5- سبأ : 34
6- الأعراف : 146
7- المؤمنون : 33
source : راسخون