لم یکن التوسّل بالصالحین والطیبین والمعصومین والمخلصین من عباد الله أمراً جدیداً فی زمن النبی وبعده بل کان ذلک امتداداً للسیرة الموجودة قبل الإسلام، ونحن نضع أمامک قسماً من هذه التوسلات لتکون على علم بأنّ الفطرة السلیمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.
1 ـ استسقاء عبد المطلب بالنبی وهو رضیع :
إنّ عبد المطلب استسقى بالنبی الأکرم وهو طفل صغیر، حتى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب یشیر بقوله:
وأبیض یستسقی الغمام بوجهه ثمال الیتامى عصمةٌ للأرامل
إلى ما وقع فی زمن عبد المطلب حیث استسقى لقریش والنبی معه غلام(1).
2 ـ استسقاء أبی طالب بالنبی وهو غلام :
أخرج ابن عساکر عن أبی عرفة، قال: قدمت مکة وهم فی قحط، فقالت قریش، یا أبا طالب أقحط الوادی، وأجدب العیال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام یعنی النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) کأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أُغیلمه، فأخذ النبی أبو طالب فألصق ظهره بالکعبة، ولاذَ إلى الغلام وما فی السماء قزعة، قأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادی، وأخصب النادی، والبادی،
وقد کان استسقاء أبی طالب بالنبی وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبی أمراً معروفاً بین العرب، وکان شعر أبی طالب فی هذه الواقعة مما یحفظه أکثر الناس.
ویظهر من الروایات أنّ استسقاء أبی طالب بالنبی (صلى الله علیه وآله وسلم) کان موضع رضا منه (صلى الله علیه وآله وسلم) فانّه بعدما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر وأخصب الوادی فقال النبی: لو کان أبو طالب حیّاً لقرّت عیناه، ومن ینشدنا قوله؟ فقام علی (علیه السلام) وقال: یا رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) کأنّک أردت قوله:
وأبیض یستسقى الغمام بوجهه ثمال الیتامى عصمةٌ للأرامل(2)
إنّ التوسّل بالأطفال فی الاستسقاء أمر ندب إلیه الشارع، قال الدکتور عبد الملک السعدی: ( من السنّة أن نُحرج معنا إلى الصحراء الشیوخ والصبیان والبهائم لعلَّ الله یسقینا بسببهم )(3).
هذا هو الإمام الشافعی یقول فی آداب صلاة الاستسقاء: (وأحب أن یخرج الصبیان، ویتنظفوا للاستسقاء، وکبار النساء، ومن لا هیبة منهنّ، ولا أحبّ خروج ذات الهیبة، ولا آمر بإخراج البهائم )(4).
فما الهدف من إخراج الصبیان والنساء الطاعنات فی السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ کل ذلک یعرب عن أنّ التوسّل بالأبریاء والصلحاء والمعصومین مفتاح استنزال الرحمة وکان المتوسّل یقول: ربّی وسیّدی!! الصغیر معصوم من الذنب، والکبیر الطاعن فی السن أسیرک فی أرضک، ولکتا الطائفتین أحقّ بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتک علینا، حتى تعمّنا فی ظلّهم.
إنّ الساقی ربّما یسقی مساحة کبیرة لأجل شجرة واحدة، وفی ظلّها تُسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غیر المفیدة.
3 ـ توسّل الخلیفة بعمّ النبی: العباس :
روى البخاری فی صحیحه قال: کان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رضی الله عنه) وقال: اللّهمّ إنّا کنّا نتوسّل إلیک بنبیّنا فتسقینا، وأنّا نتوسّل إلیک بعمّ نبیّنا فاسقنا، قال: فیُسقون(5).
والحدیث صحیح السند فما ظنک بروایة رواها الإمام البخاری، لکن من لا یروقه التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ یؤوّل الحدیث بأنّ الخلیفة توسّل بدعاء العباس لا بشخصه ومنزلته عند الله. وأضاف على ذلک أنّه لو کان قصده ذات العباس لکانت ذات النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) أفضل وأعظم وأقرب إلى الله من ذات العباس، بلا شک ولا ریب، فثبت أنّ القصد کان الدعاء(6).
لا أظنّ أن أحداً یحمل شیئاً من الإنصاف، یسوِّغ لنفسه أن یفسر الحدیث بما ذکره أی التوسّل بالدعاء، لأنّ فی الموضوع نصوصاً تردُّ ذلک وإلیک الإشارة إلیها:
1 ـ قول الخلیفة عند الدعاء... قال: " اللّهمّ إنّا کنّا نتوسّل إلیک بنبیّنا فتسقینا، وإنّا نتوسّل إلیک بعمّ نبیّنا فاسقنا ". وهذا ظاهر فی أنّ الخلیفة قام بالدعاء فی مقام الاستسقاء، وتوسّل بعمّ الرسول فی دعائه، ولو کان المقصود هو التوسّل بدعائه، کان علیه أن یقول: یا عمّ رسول الله کنّا نطلب الدعاء من الرسول فیسقینا الله، والآن نطلب منک الدعاء فادع لنا(7).
2 ـ روى ابن الأثیر کیفیة الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا والله الوسیلة إلى الله والمکان منه. وقال حسان:
سال الإمام وقد تتابع جدبنا فسقى الغمامُ بغُرّة العباس
عمِّ النّبی وصنوِ والده الذی ورث النبی بذاک دون الناس
أحیى الإله به البلاد فأصبحت مخضرّة الأجناب بعد الیاس
ولمّا سُقی طفقوا یتمسّحون بالعباس ویقولون: هنیئاً لک ساقی الحرمین(8).
أمعن النظر فی قول الخلیفة: هذا والله الوسیلة.
3 ـ ویظهر من شعر حسّان أنّ المستسقی کان هو نفس الخلیفة وهو الداعی حیث قال: " سأل الإمام... " وکان العباس وسیلته لاستجابة الدعاء.
قال الدکتور عبد الملک السعدی: " وقد أوّلوا حدیث العباس بأنّ عمر طلب من العباس أن یدعو لأنّهم کانوا إذا أجدبوا طلبوا من رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) أن یدعو لهم فکذا هنا طلب الدعاء من العباس. وهذا التأویل غیر مقبول لوجهین:
الوجه الأوّل: إنّ السنّة أن یدعو الإمام نفسه والقوم یؤمَّنون وهذا ما حصل حیث کان الداعی هو سیدنا عمر لا العباس.
الوجه الثانی: إنّ نص الحدیث لا یدل على أنّ عمر طلب الدعاء من العباس بل کان هو الداعی، بدلیل قوله: اللّهمّ إنّا کنّا نتوسّل... إلخ وهذا عین الدعاء ولم یرد أیّ لفظ یشیر إلى أنّه قال للعباس: ادع لنا بالسقیا.
ومع ذلک فأیّ خلل یحصل فی الدین أو العقیدة إذا أجرینا النص على ظاهره وترکنا العناد والتعصّب؟
قال الحافظ ابن حجر فی فتح الباری: " ویستبین من قصة العباس استحباب الاستسقاء بأهل الخیر والصلاح وأهل بیت النبوّة وفیه فضل العباس، وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقّه(9).
وأظنّ أنّ هذه الروایات الصحیحة لا تبقی شکاً ولا ریباً فی خلد أحد فی جواز التوسّل بالصالحین.
وأمّا ما ذکره من أنّه لو کان المقصود، التوسّل بذات العباس لکان النبی بذلک أفضل، وأعلم، فیلاحظ علیه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبی إلى المصلّى وضمّه إلى الناس هو استنزال الرحمة، فکأنّ المصلّین یقولون ربّنا لو لم نکن مستحقّین لنزول الرحمة، لکن عمّ النبیّ مستحقّ لها، فأنزل رحمتک إلیه لتریحه من أزمة القحط والغلاء وعندئذ تعمّ الرحمة لغیر العباس، ومن المعلوم أنّ هذا لا یتحقق إلاّ بالتوسل بإنسان حیّ یکون شریکاً مع الجماعة فی المصیر وفی هناء العیش ورغده لا مثل النبیّ الراحل الخارج عن الدنیا والنازل فی الآخرة، نعم یجوز التوسّل بشخصه أیضاً ولکن لا بهذا الملاک بل بملاک آخر لم یکن مطروحاً للخلیفة فی المقام.
ولو افترضنا صحّة ما یُدَّعى من أنّ الخلیفة توسّل بدعاء عمّ النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) لکنّه عبارة أُخرى عن التوسّل بذات النبیّ لبّاً إذ لولا صلته به لما قُدِّم للدعاء.
المصادر :
1- فتح الباری: 2/398، ودلائل النبوة: 2/126.
2- إرشاد الساری: 2/338.
3- عبد الملک السعدی: البدعة فی مفهومها الإسلامی: 49.
4- ابن إدریس الشافعی: الأُم: 1/230.
5- البخاری: الصحیح: 2/32 باب صلاة الاستسقاء.
6- التوصل إلى حقیقة التوسّل: 253.
7- صحیح البخاری، باب صلاة الاستسقاء: 2/32.
8- الجزری: أُسد الغابة: 3/111 طبع مصر.
9- عبد الملک السعدی: البدعة فی مفهومها الإسلامی: