لقد انقطع الشيعة للأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) ، أولهم علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن ، ثم ابنه الحسين ، ثم التسعة المعصومون من ذرية الحسين (عليهم السلام) ومن نسله. وقد نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هؤلاء الأئمة في العديد من المرات تصريحاً وتلميحاً وقد ذكرهم بأسمائهم في بعض الروايات التي أخرجها الشيعة والبعض من علماء « السنة » .
وقد يعترض البعض من « أهل السنة » على هذه الروايات مستغرباً كيف يتكلم الرسول (صلى الله عليه وآله) عن أمور غيبية ما زالت في طي العدم ؟ وقد جاء في القرآن قوله : «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» ( الأعراف : 188 ) .
وإجابة على ذلك نقول بأن هذه الآية الكريمة لا تنفي عن الرسول علمه بالغيب مطلقاً ، إنما جاءت رداً على المشركين الذين طلبوا منه أن يعلمهم عن قيام الساعة ، وموعد الساعة قد اختص الله سبحانه بعلمه .
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ….» ( الجن : 26 ـ 27 ) .
وفي هذا دلالة على أنه سبحانه يطلع على غيبه رسله الذين اصطفاهم ، ومن ذلك مثلاً قول يوسف (عليه السلام) لأصحابه في السجن : «لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي …» ( يوسف : 37 ) .
وكقوله تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً» (الكهف : 65) . حكاية عن الخضر الذي التقى بموسى وعلمه من علم الغيب ما لم يستطع عليه صبراً .
والمسلمون شيعة وسنة لم يختلفوا في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعلم الغيب وقد سجلت سيرته الكثير من الأخبار بالغيب كقوله (صلى الله عليه وآله): « ويح عمار تقتله الفئة الباغية » وقوله لعلي : « أشقى الآخرين الذي يضربك على رأسك فيخضب لحيتك » وقوله : « إن ابني الحسن يصلح الله به فئتين عظيمتين » وكقوله لأبي ذر بأنه سيموت وحيداً طريداً إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، ومنها حديثه المشهور الذي أخرجه البخاري ومسلم وكل المحدثين والذي جاء فيه : « الأئمة من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش » وفي بعض الروايات « كلهم من بني هاشم » .
وقد أثبتنا في الأبحاث السابقة من كتاب « مع الصادقين » وكتاب «فاسألوا أهل الذكر » بأن علماء السنة أنفسهم أشاروا في صحاحهم ومسانيدهم إلى تلك الأحاديث الدالة على إمامة الأئمة الاثني عشر وصححوها .
وإذا سأل سائل : لماذا تركوهم واقتدوا بغيرهم من ائمة المذاهب الأربعة ، إذا كانوا يعترفون بتلك الأحاديث ويصححونها ؟ ؟
والجواب هو : إن « السلف الصالح » كلهم من أنصار الخلفاء الثلاثة الذين أولدتهم السقيفة أبو بكر وعمر وعثمان ، فكان نفورهم من أهل البيت وعداؤهم للإمام علي وأولاده لابد منه ، فعملوا كما قدمنا على محق السنة النبوية وإبدالها باجتهاداتهم .
وسبب ذلك انقسام الأمة إلى فرقتين بعد وفاة الرسول مباشرة فكان «السلف الصالح » ومن تبعهم ورأى رأيهم يمثلون « أهل السنة والجماعة» وهم الأغلبية الساحقة في الأمة ، وكان الأقلية القليلة علي وشيعته الذين تخلفوا عن البيعة ولم يقبلوا بها فأصبحوا من المنبوذين والمغضوب عليهم وأطلقوا عليهم اسم الروافض .
وبما أن « أهل السنة والجماعة » هم الذين تحكموا بمصير الأمة عبر القرون فحكام بني أمية كلهم وحكام بني العباس كلهم هم أنصار وأتباع مدرسة الخلافة التي أسسها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية (1) ويزيد .
ولما فشل أمر الخلافة وذهبت هيبتها وأصبحت في أيدي المماليك والأعاجم وسمع بتدوين السنة النبوية ، عند ذلك ظهرت تلكم الأحاديث التي عمل الأولون على طمسها وكتمانها ولم يقدروا فيما بعد على محوها وتكذيبها ، وبقيت تلك الأحاديث من الألغاز المحيرة عندهم لأنها تخالف الأمر الواقع الذي آمنوا به .
وحاول بعضهم التوفيق بين تلك الأحاديث وما هم عليه من العقيدة فتظاهروا بمحبة أهل البيت ومودتهم فتراهم كلما ذكروا الإمام علياً يقولون رضي الله عنه وكرم الله وجهه ، حتى يتبين للناس بأنهم ليسوا بأعداء لأهل البيت النبوي .
فلا يمكن لأي واحد من المسلمين حتى المنافقين منهم أن يظهر عداءه لأهل البيت النبوي ، لأن أعداء أهل البيت هم أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك يخرجهم من الإسلام كما لا يخفى .
والمفهوم من كل هذا بأنهم في الحقيقة أعداء أهل البيت النبوي ونقصد بهؤلاء « السلف الصالح » الذين تسموا أو سماهم أنصارهم بـ « أهل السنة والجماعة » والدليل أنك تجدهم كلهم يقلدون المذاهب الأربعة الذين أوجدتم السلطة الحاكمة ( كما سنبينه عما قريب ) ، وليس عندهم في أحكام الدين شيء يرجعون فيه لفقه أهل البيت أو لأحد الأئمة الاثني عشر .
____________
(1) لقد أغفلنا ذكر خلافة علي بن أبي طالب قصداً ، لأن « أهل السنة والجماعة » لم يكونوا يعترفون بها كما قدمنا إلا في زمن أحمد بن حنبل . راجع فصل ( أهل السنة لا يعرفون السنة النبوية » ص 44 من هذا الكتاب .
والحقيقة تفرض بأن الشيعة الإمامية هم أهل السنة المحمدية لأنهم تقيدوا في كل أحكامهم الفقهية بأئمة أهل البيت الذين توارثوا السنة الصحيحة عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يدخلوا فيها الآراء والاجتهادات وأقوال العلماء .
وبقي الشيعة على مر العصور يتعبدون بالنصوص ويرفضون الاجتهاد في مقابل النص ، كما يؤمنون بخلافة علي وبنيه لأن النبي (صلى الله عليه وآله) نص على ذلك ، فهم يسمونهم خلفاء الرسول ولو لم يصل منهم إلى الخلافة الفعلية إلا علي ، ويرفضون ولا يعترفون بالحكام الذين تداولوا الخلافة من أولها إلى آخرها لأن أساسها كان فلتة وقى الله شرها ولأنها قامت رفضاً ورداً على الله ورسوله وكل الذين جاؤوا بعدها هم عيال عليها فلم يقم خليفة إلا بتعيين السابق له ، أو بالقتال والتغلب والقهر (1) .
ولذلك اضطر « أهل السنة والجماعة » للقول بإمامة البر والفاجر لأنهم قببلوا بخلافة كل الحكام حتى الفاسقين منهم .
وامتاز الشيعة الإمامية بالقول بوجوب عصمة الإمام فلا تصح الإمامة الكبرى وقيادة الأمة إلا للإمام المعصوم وليس في هذه الأمة بشر معصوم إلا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .
____________
(1) يستثنى من ذلك فقط خلافة علي بن أبي طالب ، فهو الوحيد الذي لم يتعين من قبل الذي سبقه ، ولم يسلط عليها بالقهر والقوة ، بل بايعه المسلمون بكل حرية وطواعية بل ودعوهم إليها بإصرار .
الدكتور محمد التيجاني السماوي
موقع 14 معصوم