على الرغم من كون واقعة الطف من حيث الأساس انتفاضة عقائدية وثورة مبادئ ، إلاّ أنها انتهت بمعركة حربية قد أفرزت على قصرها دروسا قتالية تستحق البحث والدراسة ، ونحن في هذه الدراسة الموجزة ، نحاول تسليط الأضواء على بعض تلك الدروس والمواقف ، وندعو أصحاب الاختصاص العسكري بأن يولوا اهتماما أكبر بالجانب العسكري من واقعة الطف ، لكي تستفيد منها الأجيال ، وفيما يلي أهم جوانب البعد العسكري :
وقرر الخروج من المدينة المنورة خوفا على ثورته من أن يُقضى عليها وهي في المهد ، وتوجه في أول الأمر إلى مكة المكرمة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، واختار في مسيره الطريق العام ، ولم يسلك الطرق الفرعية الوعرة ، مما يغلب على الظن بأن الحسين عليهالسلام كان يبتغي إعلان دعوته على الرأي العام ، وهذا الأمر لا يتحقق على الوجه الأكمل لو سلك الطرق الجانبية التي قد تُؤمّن له الاستتار لا غير.
يروي الشيخ المفيد قدسسره « أنّ الحسين عليهالسلام سار إلى مكّة ولزم الطّريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لوتنكّبتَ الطريق الأعظم كما صنع ابن الزبير لئلاّ يلحقك الطّلب؟ فقال : لا واللّه لا أُفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض » (٢).
وفي رواية أنّه عليهالسلام قال لهم : « أتخافون الطلب؟ قالوا : أجل! فقال الحسين عليهالسلام : لن أحيد الطريق حذر الموت » (٣).
وأيضا سلك الطريق العام لما خرج قاصدا العراق ، علما بأنّ السلطات الحاكمة أرادت منعـه من الخروج من مكّة ، قالوا : « لمّا خرج من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها ، عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند ، فقال : إنّ الأمير يأمرك بالانصراف ، فانصرف ، وإلاّ منعتك.
فامتنع عليه الحسين ، وتدافع الفريقان ، واضطربوا بالسياط. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد ، فخاف أن يتفاقم الأمر ، فأرسل إلى صاحب شرطة ، يأمره بالانصراف » (4).
ثم إن عدم اتجاه الإمام الحسين عليهالسلام إلى العراق بصورة مباشرة ـ وهو مقصده الرئيسي ـ وذهابه إلى مكة في موسم الحج ، يعطينا قناعة راسخة بأنه يريد إعلان دعوته على الملأ ، وخاصة في هذا الوقت الذي يكون عادةً وقتا مناسبا لتجمع الحجيج من كل فجٍّ عميق.
مهما يكن من أمر فانه عليهالسلام توجه إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، فأقام بها وقضى فيها عدة أشهر : شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.
ولابدّ من التنويه على أن مكة أصبحت القاعدة الرئيسية للمعارضة ضد السلطة الأموية ، وفيها تحصّن عبد اللّه بن الزبير المعارض الثاني للسلطة ، وكان بإمكان الإمام أن يتحصّن في مكة ، ويستفيد من موقعها الديني المقدس ، وطبيعة أرضها الوعرة الصالحة لخوض حرب العصابات ، لكن الإمام عليهالسلام غادرها خوفا على قدسيتها من الدَّنس وخشيةً من إراقة الدماء فيها.
فبادر بالخروج منها قبل أن يبادر الطرف المعادي ويسعى لمحاصرته أو اغتياله ، حتى أن الفرزدق الشاعر عندما لاقى الحسين عليهالسلام في الطريق سأله باستغراب قائلاً له : « ما أعجلك عن الحج؟! ... فأجابه الحسين عليهالسلام : لو لم أعجل لأخذت » (5).
أما السلطة الأموية ، فبعد أن تبين لها بأن الحسين عليهالسلام ـ وهو الذي تحسب له ألفَ حساب ـ قد رفض البيعة وغادر المدينة ، ثارت ثائرتها ووضعت قواتها في المدينة ومكة والكوفة في حالة استنفار دائم لمراقبة تحركات الإمام في حلّه وترحاله.
يروي الدينوري : « أنّ يزيدا كتب إلى عبيداللّه بن زياد : قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد فصل من مكّة متوجّها إلى ما قبلك ، فأدرك العيون عليه ، وضع الأرصاد على الطرق ، وقم أفضل القيام ، غير ألا تقاتل إلاّ من قاتلك ، واكتب إليَّ بالخبر فيكلّ يوم » (6).
ثمّ إنّ زياد وامتثالاً لأمر يزيد « وجه بالحصين بن نمير ـ وكان على شرطه ـ في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة ، وأمره أن يقيم بالقادسية إلى القطقطانة (6) .
فيمنع من أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز إلاّ من كان حاجّا أو معتمرا ومن لا يتّهم بممالاة الحسين » (8).
وقد اتخذ الحسين القائد مجموعة من التدابير الاحترازية ، وهي :
أولاً : الحماية الشخصية :
عند لقاء سيّد الشهداء عليهالسلام بوالي المدينة ، الوليد ابن عتبة ، بعد موت معاوية ، سار اليه وبرفقته جماعة من شبّان بني هاشم وسيوفهم مسلولة ومخفيّة تحت ثيابهم ، وأوصاهم بالبقاء خارج الدار ، فاذا ارتفع صوت الإمام من الداخل ، فعليهم باقتحام الدار والعمل بما أمرهم به.
يروي الشيخ المفيد قدسسره « أنّ الوليد ـ والي المدينة ـ أنفذ إلى الحسين عليهالسلام في الليل فاستدعاه ، فعرف الحسين الّذي أراد فدعا جماعةً من مواليه وأمرهم بحمل السلاح ، وقال لهم : إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولستُ آمن أن يكلّفني فيه أمرا لا أجيبه إليه ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه منَّي » (9).
ولم يكن هذا التدبير الوقائي إلاّ احترازا من أي خطر أو سوء قد يبديه الوليد ، وذكروا أنّ المرافقين له بلغ عددهم ثلاثين شخصا (10).
ثانيا : استطلاع التحركات المعادية :
لمّا سار أبو عبد اللّه عليهالسلام مع عياله وأتباعه من المدينة إلى مكّة ، أبقى أخاه محمد بن الحنفية في المدينة كعين استطلاعية لموافاته بأيّ تحرّك من جانب السلطة ، واطلاع الإمام على ما يجري في المدينة ، قائلاً له : « أمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم في المدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخف عليّ شيئا من اُمورهم » (11).
ثالثا : إفشال محاولة الاغتيال :
« بلغ الإمام عليهالسلام أنّ يزيدا أرسل جماعة بإمرة عمرو بن سعيد الأشدق لقتله أو القبض عليه ، فعمل الإمام عليهالسلام على إفشال خطّة الاغتيال لأجل صيانة حرمة الحرم الإلهي ، ولكي لا يراق دمه في مكّة ، فاستبدل الحجّ بالعمرة ، وخرج من مكّة في الثامن من ذي الحجة » (12).
كما دسَّ إليه يزيد بعض رجال شرطته لاغتياله ، يقول عبد اللّه بن عباس في رسالته ليزيد : « وما أنسى من الأشياء فلست بناسٍ اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلى حرم اللّه ، ودسّك إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم اللّه إلى الكوفة ، فخرج منها خائفا يترقّب ، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديما ، وأعزّ أهلها بها حديثا ، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما ، واستحلّ بها قتالاً » (13).
وقد زاد من توجّس السلطة اليزيدية وصول سفير الحسين عليهالسلام مسلم ابن عقيل إلى الكوفة ، وقيامه بأخذ البيعة للحسين عليهالسلام ، وتهيئته المقدمات اللازمة لمقدم الإمام عليهالسلام ، وسعيه للسيطرة على بيت الإمارة في الكوفة.
وكانت الاستخبارات الأموية نشطة وفعالة في الكوفة ، فقامت بإرسال التقارير الدورية عن تحركات مسلم بن عقيل عليهالسلام ، وكذلك عن حالة أمير الكوفة النعمان بن بشير الذي كان ـ حسب تقييمهم ـ ضعيفا أو متضاعفا لعدم تصديه الحازم لنشاطات مسلم بن عقيل عليهالسلام ، ولعدم سيطرته على الأوضاع المضطربة في هذه الإمارة ذات الأهمية الاستراتيجية.
درست القيادة الأموية في الشام الموقف من جميع جوانبه ، فقد عقد يزيد ابن معاوية مجلسا استشاريا بحضور أحد كبار مستشاريه ويدعى سرجون النصراني ، وكان الأخير قد أشار على يزيد برأي أبيه معاوية ، وهو أن يولّي عبيد اللّه بن زياد والي البصرة آنذاك على المِصرين ـ البصرة والكوفة (14) ـ وذلك لما عُرف عنه من قسوة متناهية وسعة حيلة ، فأصدر يزيد بن معاوية أمرا عسكريا مقتضبا إلى عبيداللّه بن زياد تقدح عباراته نارا وشَرَرا ، ومما جاء فيه : « فسر حين تقرأ كتابي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام » (15).
وفي رواية الطبري : « وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده » (16).
لقد وجدت القيادة الأموية بأنّ مرور الوقت ليس في مصلحتها ، فكل تأخير أو تهاون سوف يؤدي إلى وصول الحسين عليهالسلام إلى العراق ، ومن يُهيمن على هذا البلد الحيوي فسوف يتمكن من تهديد معقل القيادة وخطوط مواصلات الشام ، وربما يجدد العراق على الشام حرب صفين في وقت تخلو أرض الشام من الداهيتين معاوية وابن العاص.
ثمّ إنّ الحسين عليهالسلام أخذ يتعرّض للقوافل التجارية لبني أمية ، وهي ـ كما هو معروف ـ تشكل العصب الاقتصادي للنظام الأموي ، قالوا : « لما فصل الحسين بن علي من مكّة سائرا ، وقد وصل إلى التنعيم (مكان بالقرب من مكة.) لحق عيرا مقبلة من اليمن ، عليها ورس (17) وحناء ، ينطلق به إلى يزيد بن معاوية ، فأخذها وقال لأصحاب الإبل : من أحبّ منكم أن يسير معنا إلى العراق أوفيناه كراه ، وأحسنّا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من هاهنا أعطيناه من الكرى بقدر ما قطع من الأرض. ففارقه قوم ، ومشى معه آخرون » (18).
وصل عبيد اللّه إلى الكوفة ليلاً متخفيا وعليه عمامة سوداء ، وهو متلثم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليهالسلام ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين رأوا عبيداللّه أنه الحسين ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاّ سلموا عليه وقالوا : مرحبا يا بن رسول اللّه ، قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه (19) .
ولما أدرك خطورة الموقف ، قام بالسيطرة على المراكز الحساسة في المدينة ، وعزل أميرها النعمان بن بشير ، واتبع أسلوب الترغيب والترهيب مع أهلها ، وأخذ باعتقال وإعدام كبار الزعماء الموالين للحسين عليهالسلام ، وتمكن بواسطة مخابراته من تحديد مكان إقامة مسلم بن عقيل عليهالسلام في دار هانئ بن عروة (20) .
فسارع إلى اعتقاله وإعدامه ، كما اتخذ تدابير عسكرية عاجلة منها إرسال مجموعة من دوريات الاستطلاع لمراقبة حدود الحجاز وسد منافذ الطرق منها وإليها ، كما أرسل دورية قتالية مؤلفة من ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، لتحول دون وصول الحسين عليهالسلام إلى الكوفة أو الأقاليم القريبة منها ، إذ كان التخوف الأموي شديدا من وصول الدعوة الحسينيّة إلى ما وراء الفرات وحدود بلاد العجم.
والإمام الحسين عليهالسلام كقائد ميداني كان يسعى جاهدا للحصول على المعلومات أولاً بأول عن عدوه ، والملاحظ أنه اتبع ثلاثة أساليب أساسية :
الأسلوب الأول : استنطاق المسافرين والاستفسار منهم ومن أمثلة ذلك أن الإمام عليهالسلام لما بلغ منطقة ذات عرق تلقى بشر بن غالب الأسدي قادما من العراق ، فسأله عن أهلها ، فقال :
خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية فقال الحسين عليهالسلام حينئذ :
« صدق أخو بني أسد ، إنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد » (21).
وكنا قد تطرقنا إلى مقابلة الحسين عليهالسلام للفرزدق الشاعر والشيء الجديد هنا أن الفرزدق يذكُر أن الحسين عليهالسلام بادره بالسؤال التالي مستفسرا : « أخبرني عن الناس خلفك؟ » فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء ، واللّه يفعل ما يشاء. فقال الحسين عليهالسلام للفرزدق : « صدقت للّه الأمر ، وكل يوم ربنا هو في شأن .. » (22).
فالإمام عليهالسلام يطّلع على الموقف بنفسه أولاً بأول ، وينقله إلى أصحابه حتى يتعرفوا على المستجدات ويكونوا على بصيرة من أمرهم.
ومن الشواهد ذات الدلالة على هذا الأسلوب ، أنّه « لمّا رحل الحسين من زرود تلقّاه رجل من بني أسد ، فسأله عن الخبر. فقال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، ورأيت الصبيان يجرون بأرجلهما. فقال : إنّا للّه ، وإنّا إليه راجعون ، عند اللّه نحتسب أنفسنا.
فقال له : أنشدك اللّه يا ابن رسول اللّه في نفسك ، وأنفس أهل بيتك ، هؤلاء الذين نراهم معك ، انصرف إلى موضعك ، ودع المسير إلى الكوفة ، فواللّه مالك بها ناصر.
فقال بنو عقيل ـ وكانوا معه ـ : ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجة ، ولسنا براجعين حتى نموت ، فقال الحسين : فما خير في العيش بعد هؤلاء ، وسار ».
فسار الحسين عليهالسلام حتى انتهى إلى بطن العقيق ، فلقيه رجل من بني عكرمة ، فسلم عليه ، وسأله الإمام بطبيعة الحال عن الأخبار فأخبره « بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العذيب رصدا له. ثمّ قال له :
انصرف بنفسي أنت ، فواللّه ما تسير إلاّ إلى الأسنّة والسيوف ، ولا تتكلنّ على الذين كتبوا لك ، فإنّ أولئك أوّل الناس مبادرة إلى حربك. فقال له الحسين : قد ناصحت وبالغت ، فجزيت خيرا » (23).
المصادر :
1- تحف العقول / الحرّاني : ٥٨ ١٤٠٤ه ، الاحتجاج ٢ : ٢٤.
2- الإرشاد ٢ : ٣٥.
3- مقتل الحسين / أبو مخنف : ٢٥.
4- الأخبار الطوال : ١٨٤.
5- الإرشاد ٢ : ٦٧ ، مثير الأحزان : ٢٨.
6- الأخبار الطوال : ١٨٣.
7- موضع بقرب الكوفة.
8- الأخبار الطوال : ١٨٣.
9- الإرشاد ٢ : ٣٢ ـ ٣٣.
10- مقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ١٨٣.
11- مقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ١٨٨.
12- حياة الإمام الحسين / القرشي ٣ : ٤٦.
13- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤٩ ، دار صادر ، بيروت.
14- الإرشاد ٢ : ٤٢.
15- الإرشاد ٢ : ٤٣.
16- تاريخ الطبري ٦ : ١٨٠ ، حوادث سنة ستين.
17- الورس : نبت أصفر.
18- الأخبار الطوال : ١٨٤ ـ ١٨٥.
19- الإرشاد ٢ : ٤٣.
20- الإرشاد ٢ : ٤٥ ـ ٤٧.
21- اللهوف : ٤٣ ، مثير الأحزان : ٣٠.
22- الإرشاد٢ : ٦٧ ، مثير الأحزان : ٢٨ ، ونحوه في تاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر٥ : ٢٨٥.
23- الأخبار الطوال : ١٨٦.
١ ـ الموقف العام
وجد الحسين عليهالسلام نفسه بعد وفاة معاوية وتسلم يزيد ابنه مقاليد السلطة الإسلامية أمام خيارين أحلاهما مرّ ، إما المهادنة والذِّلة ، أو المواجهة والتصدّي مع قلّة العدد والعُدة ، لكن مع إصرار السلطة الحاكمة على انتزاع البيعة منه ، وبما عُرف عنه من شهامة ومناقبية ، اختار المواجهة والثورة ورفع شعارا تعبويا هو : « هيهات منا الذلة » (١) .وقرر الخروج من المدينة المنورة خوفا على ثورته من أن يُقضى عليها وهي في المهد ، وتوجه في أول الأمر إلى مكة المكرمة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، واختار في مسيره الطريق العام ، ولم يسلك الطرق الفرعية الوعرة ، مما يغلب على الظن بأن الحسين عليهالسلام كان يبتغي إعلان دعوته على الرأي العام ، وهذا الأمر لا يتحقق على الوجه الأكمل لو سلك الطرق الجانبية التي قد تُؤمّن له الاستتار لا غير.
يروي الشيخ المفيد قدسسره « أنّ الحسين عليهالسلام سار إلى مكّة ولزم الطّريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لوتنكّبتَ الطريق الأعظم كما صنع ابن الزبير لئلاّ يلحقك الطّلب؟ فقال : لا واللّه لا أُفارقه حتى يقضي اللّه ما هو قاض » (٢).
وفي رواية أنّه عليهالسلام قال لهم : « أتخافون الطلب؟ قالوا : أجل! فقال الحسين عليهالسلام : لن أحيد الطريق حذر الموت » (٣).
وأيضا سلك الطريق العام لما خرج قاصدا العراق ، علما بأنّ السلطات الحاكمة أرادت منعـه من الخروج من مكّة ، قالوا : « لمّا خرج من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها ، عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند ، فقال : إنّ الأمير يأمرك بالانصراف ، فانصرف ، وإلاّ منعتك.
فامتنع عليه الحسين ، وتدافع الفريقان ، واضطربوا بالسياط. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد ، فخاف أن يتفاقم الأمر ، فأرسل إلى صاحب شرطة ، يأمره بالانصراف » (4).
ثم إن عدم اتجاه الإمام الحسين عليهالسلام إلى العراق بصورة مباشرة ـ وهو مقصده الرئيسي ـ وذهابه إلى مكة في موسم الحج ، يعطينا قناعة راسخة بأنه يريد إعلان دعوته على الملأ ، وخاصة في هذا الوقت الذي يكون عادةً وقتا مناسبا لتجمع الحجيج من كل فجٍّ عميق.
مهما يكن من أمر فانه عليهالسلام توجه إلى مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، فأقام بها وقضى فيها عدة أشهر : شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.
ولابدّ من التنويه على أن مكة أصبحت القاعدة الرئيسية للمعارضة ضد السلطة الأموية ، وفيها تحصّن عبد اللّه بن الزبير المعارض الثاني للسلطة ، وكان بإمكان الإمام أن يتحصّن في مكة ، ويستفيد من موقعها الديني المقدس ، وطبيعة أرضها الوعرة الصالحة لخوض حرب العصابات ، لكن الإمام عليهالسلام غادرها خوفا على قدسيتها من الدَّنس وخشيةً من إراقة الدماء فيها.
فبادر بالخروج منها قبل أن يبادر الطرف المعادي ويسعى لمحاصرته أو اغتياله ، حتى أن الفرزدق الشاعر عندما لاقى الحسين عليهالسلام في الطريق سأله باستغراب قائلاً له : « ما أعجلك عن الحج؟! ... فأجابه الحسين عليهالسلام : لو لم أعجل لأخذت » (5).
أما السلطة الأموية ، فبعد أن تبين لها بأن الحسين عليهالسلام ـ وهو الذي تحسب له ألفَ حساب ـ قد رفض البيعة وغادر المدينة ، ثارت ثائرتها ووضعت قواتها في المدينة ومكة والكوفة في حالة استنفار دائم لمراقبة تحركات الإمام في حلّه وترحاله.
يروي الدينوري : « أنّ يزيدا كتب إلى عبيداللّه بن زياد : قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد فصل من مكّة متوجّها إلى ما قبلك ، فأدرك العيون عليه ، وضع الأرصاد على الطرق ، وقم أفضل القيام ، غير ألا تقاتل إلاّ من قاتلك ، واكتب إليَّ بالخبر فيكلّ يوم » (6).
ثمّ إنّ زياد وامتثالاً لأمر يزيد « وجه بالحصين بن نمير ـ وكان على شرطه ـ في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة ، وأمره أن يقيم بالقادسية إلى القطقطانة (6) .
فيمنع من أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز إلاّ من كان حاجّا أو معتمرا ومن لا يتّهم بممالاة الحسين » (8).
وقد اتخذ الحسين القائد مجموعة من التدابير الاحترازية ، وهي :
أولاً : الحماية الشخصية :
عند لقاء سيّد الشهداء عليهالسلام بوالي المدينة ، الوليد ابن عتبة ، بعد موت معاوية ، سار اليه وبرفقته جماعة من شبّان بني هاشم وسيوفهم مسلولة ومخفيّة تحت ثيابهم ، وأوصاهم بالبقاء خارج الدار ، فاذا ارتفع صوت الإمام من الداخل ، فعليهم باقتحام الدار والعمل بما أمرهم به.
يروي الشيخ المفيد قدسسره « أنّ الوليد ـ والي المدينة ـ أنفذ إلى الحسين عليهالسلام في الليل فاستدعاه ، فعرف الحسين الّذي أراد فدعا جماعةً من مواليه وأمرهم بحمل السلاح ، وقال لهم : إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولستُ آمن أن يكلّفني فيه أمرا لا أجيبه إليه ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه منَّي » (9).
ولم يكن هذا التدبير الوقائي إلاّ احترازا من أي خطر أو سوء قد يبديه الوليد ، وذكروا أنّ المرافقين له بلغ عددهم ثلاثين شخصا (10).
ثانيا : استطلاع التحركات المعادية :
لمّا سار أبو عبد اللّه عليهالسلام مع عياله وأتباعه من المدينة إلى مكّة ، أبقى أخاه محمد بن الحنفية في المدينة كعين استطلاعية لموافاته بأيّ تحرّك من جانب السلطة ، واطلاع الإمام على ما يجري في المدينة ، قائلاً له : « أمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم في المدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخف عليّ شيئا من اُمورهم » (11).
ثالثا : إفشال محاولة الاغتيال :
« بلغ الإمام عليهالسلام أنّ يزيدا أرسل جماعة بإمرة عمرو بن سعيد الأشدق لقتله أو القبض عليه ، فعمل الإمام عليهالسلام على إفشال خطّة الاغتيال لأجل صيانة حرمة الحرم الإلهي ، ولكي لا يراق دمه في مكّة ، فاستبدل الحجّ بالعمرة ، وخرج من مكّة في الثامن من ذي الحجة » (12).
كما دسَّ إليه يزيد بعض رجال شرطته لاغتياله ، يقول عبد اللّه بن عباس في رسالته ليزيد : « وما أنسى من الأشياء فلست بناسٍ اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلى حرم اللّه ، ودسّك إليه الرجال تغتاله ، فأشخصته من حرم اللّه إلى الكوفة ، فخرج منها خائفا يترقّب ، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديما ، وأعزّ أهلها بها حديثا ، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاما ، واستحلّ بها قتالاً » (13).
وقد زاد من توجّس السلطة اليزيدية وصول سفير الحسين عليهالسلام مسلم ابن عقيل إلى الكوفة ، وقيامه بأخذ البيعة للحسين عليهالسلام ، وتهيئته المقدمات اللازمة لمقدم الإمام عليهالسلام ، وسعيه للسيطرة على بيت الإمارة في الكوفة.
وكانت الاستخبارات الأموية نشطة وفعالة في الكوفة ، فقامت بإرسال التقارير الدورية عن تحركات مسلم بن عقيل عليهالسلام ، وكذلك عن حالة أمير الكوفة النعمان بن بشير الذي كان ـ حسب تقييمهم ـ ضعيفا أو متضاعفا لعدم تصديه الحازم لنشاطات مسلم بن عقيل عليهالسلام ، ولعدم سيطرته على الأوضاع المضطربة في هذه الإمارة ذات الأهمية الاستراتيجية.
درست القيادة الأموية في الشام الموقف من جميع جوانبه ، فقد عقد يزيد ابن معاوية مجلسا استشاريا بحضور أحد كبار مستشاريه ويدعى سرجون النصراني ، وكان الأخير قد أشار على يزيد برأي أبيه معاوية ، وهو أن يولّي عبيد اللّه بن زياد والي البصرة آنذاك على المِصرين ـ البصرة والكوفة (14) ـ وذلك لما عُرف عنه من قسوة متناهية وسعة حيلة ، فأصدر يزيد بن معاوية أمرا عسكريا مقتضبا إلى عبيداللّه بن زياد تقدح عباراته نارا وشَرَرا ، ومما جاء فيه : « فسر حين تقرأ كتابي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام » (15).
وفي رواية الطبري : « وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده » (16).
لقد وجدت القيادة الأموية بأنّ مرور الوقت ليس في مصلحتها ، فكل تأخير أو تهاون سوف يؤدي إلى وصول الحسين عليهالسلام إلى العراق ، ومن يُهيمن على هذا البلد الحيوي فسوف يتمكن من تهديد معقل القيادة وخطوط مواصلات الشام ، وربما يجدد العراق على الشام حرب صفين في وقت تخلو أرض الشام من الداهيتين معاوية وابن العاص.
ثمّ إنّ الحسين عليهالسلام أخذ يتعرّض للقوافل التجارية لبني أمية ، وهي ـ كما هو معروف ـ تشكل العصب الاقتصادي للنظام الأموي ، قالوا : « لما فصل الحسين بن علي من مكّة سائرا ، وقد وصل إلى التنعيم (مكان بالقرب من مكة.) لحق عيرا مقبلة من اليمن ، عليها ورس (17) وحناء ، ينطلق به إلى يزيد بن معاوية ، فأخذها وقال لأصحاب الإبل : من أحبّ منكم أن يسير معنا إلى العراق أوفيناه كراه ، وأحسنّا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من هاهنا أعطيناه من الكرى بقدر ما قطع من الأرض. ففارقه قوم ، ومشى معه آخرون » (18).
وصل عبيد اللّه إلى الكوفة ليلاً متخفيا وعليه عمامة سوداء ، وهو متلثم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليهالسلام ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين رأوا عبيداللّه أنه الحسين ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاّ سلموا عليه وقالوا : مرحبا يا بن رسول اللّه ، قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه (19) .
ولما أدرك خطورة الموقف ، قام بالسيطرة على المراكز الحساسة في المدينة ، وعزل أميرها النعمان بن بشير ، واتبع أسلوب الترغيب والترهيب مع أهلها ، وأخذ باعتقال وإعدام كبار الزعماء الموالين للحسين عليهالسلام ، وتمكن بواسطة مخابراته من تحديد مكان إقامة مسلم بن عقيل عليهالسلام في دار هانئ بن عروة (20) .
فسارع إلى اعتقاله وإعدامه ، كما اتخذ تدابير عسكرية عاجلة منها إرسال مجموعة من دوريات الاستطلاع لمراقبة حدود الحجاز وسد منافذ الطرق منها وإليها ، كما أرسل دورية قتالية مؤلفة من ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، لتحول دون وصول الحسين عليهالسلام إلى الكوفة أو الأقاليم القريبة منها ، إذ كان التخوف الأموي شديدا من وصول الدعوة الحسينيّة إلى ما وراء الفرات وحدود بلاد العجم.
٢ ـ المعلومات
يقرر القائد خطته وفقا للمعلومات التي يتمكن من الحصول عليها ، وكلما كانت المعلومات أوثق وأدق كلما كانت الخطة محكمة ، ويجب أن تتضمن المعلومات نية العدو ، وعدد قواته وتنظيمها ، وأنواع أسلحتها وتجهيزاتها ، وأسلوب قتالها ، وطبيعة الأرض التي سوف تدور رحى الحرب عليها.والإمام الحسين عليهالسلام كقائد ميداني كان يسعى جاهدا للحصول على المعلومات أولاً بأول عن عدوه ، والملاحظ أنه اتبع ثلاثة أساليب أساسية :
الأسلوب الأول : استنطاق المسافرين والاستفسار منهم ومن أمثلة ذلك أن الإمام عليهالسلام لما بلغ منطقة ذات عرق تلقى بشر بن غالب الأسدي قادما من العراق ، فسأله عن أهلها ، فقال :
خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية فقال الحسين عليهالسلام حينئذ :
« صدق أخو بني أسد ، إنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد » (21).
وكنا قد تطرقنا إلى مقابلة الحسين عليهالسلام للفرزدق الشاعر والشيء الجديد هنا أن الفرزدق يذكُر أن الحسين عليهالسلام بادره بالسؤال التالي مستفسرا : « أخبرني عن الناس خلفك؟ » فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء ، واللّه يفعل ما يشاء. فقال الحسين عليهالسلام للفرزدق : « صدقت للّه الأمر ، وكل يوم ربنا هو في شأن .. » (22).
فالإمام عليهالسلام يطّلع على الموقف بنفسه أولاً بأول ، وينقله إلى أصحابه حتى يتعرفوا على المستجدات ويكونوا على بصيرة من أمرهم.
ومن الشواهد ذات الدلالة على هذا الأسلوب ، أنّه « لمّا رحل الحسين من زرود تلقّاه رجل من بني أسد ، فسأله عن الخبر. فقال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، ورأيت الصبيان يجرون بأرجلهما. فقال : إنّا للّه ، وإنّا إليه راجعون ، عند اللّه نحتسب أنفسنا.
فقال له : أنشدك اللّه يا ابن رسول اللّه في نفسك ، وأنفس أهل بيتك ، هؤلاء الذين نراهم معك ، انصرف إلى موضعك ، ودع المسير إلى الكوفة ، فواللّه مالك بها ناصر.
فقال بنو عقيل ـ وكانوا معه ـ : ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجة ، ولسنا براجعين حتى نموت ، فقال الحسين : فما خير في العيش بعد هؤلاء ، وسار ».
فسار الحسين عليهالسلام حتى انتهى إلى بطن العقيق ، فلقيه رجل من بني عكرمة ، فسلم عليه ، وسأله الإمام بطبيعة الحال عن الأخبار فأخبره « بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العذيب رصدا له. ثمّ قال له :
انصرف بنفسي أنت ، فواللّه ما تسير إلاّ إلى الأسنّة والسيوف ، ولا تتكلنّ على الذين كتبوا لك ، فإنّ أولئك أوّل الناس مبادرة إلى حربك. فقال له الحسين : قد ناصحت وبالغت ، فجزيت خيرا » (23).
المصادر :
1- تحف العقول / الحرّاني : ٥٨ ١٤٠٤ه ، الاحتجاج ٢ : ٢٤.
2- الإرشاد ٢ : ٣٥.
3- مقتل الحسين / أبو مخنف : ٢٥.
4- الأخبار الطوال : ١٨٤.
5- الإرشاد ٢ : ٦٧ ، مثير الأحزان : ٢٨.
6- الأخبار الطوال : ١٨٣.
7- موضع بقرب الكوفة.
8- الأخبار الطوال : ١٨٣.
9- الإرشاد ٢ : ٣٢ ـ ٣٣.
10- مقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ١٨٣.
11- مقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ١٨٨.
12- حياة الإمام الحسين / القرشي ٣ : ٤٦.
13- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤٩ ، دار صادر ، بيروت.
14- الإرشاد ٢ : ٤٢.
15- الإرشاد ٢ : ٤٣.
16- تاريخ الطبري ٦ : ١٨٠ ، حوادث سنة ستين.
17- الورس : نبت أصفر.
18- الأخبار الطوال : ١٨٤ ـ ١٨٥.
19- الإرشاد ٢ : ٤٣.
20- الإرشاد ٢ : ٤٥ ـ ٤٧.
21- اللهوف : ٤٣ ، مثير الأحزان : ٣٠.
22- الإرشاد٢ : ٦٧ ، مثير الأحزان : ٢٨ ، ونحوه في تاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر٥ : ٢٨٥.
23- الأخبار الطوال : ١٨٦.
source : راسخون