من خلال التعرّف على خطبتَين جليلتَين لسليلة بيت النبوّة السيّدة زينب الكبرى عليها السّلام ، نحاول الاقتراب من بعض ملامح شخصيّتها العظيمة ولو على سبيل الإشارة ، وِفقاً لكلام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : ( اللسانُ ميزان الأعمال ) (1) .
وعلى الرغم من كثرة ما نُقل عن السيّدة زينب عليها السّلام ، إلاّ أنّنا آثَرنا الكلام على هاتَين الخطبتَين (2) لجُملة أمور ، منها : أنّ سنَدَي هاتَين الخطبتَين على درجة عالية من الوثاقة والاعتبار ، وأنّ الخطبتَين أُلقيتا في ظروف خطيرة وحسّاسة ، بحيث لا نبالِغ إذا ما قُلنا إنّ كلّ مُفردة استُعملت فيهما هي ذات دلالة على بُعد من أبعاد العظمة الروحيّة والوجوديّة لهذه السيّدة الجليلة ، التي جسّدت ملحمة للإيمان والصبر والثبات في أشدّ الظروف واللحظات .
ونُشير إشارات سريعة وعابرة إلى بعض هذه الأبعاد :
أوّلاً : الشجاعة :العامِل الأساس ، أو أحد أهمّ العوامل التي أفضَتْ إلى ظفر نهضة الإمام الحسين عليه السّلام ـ التي تحمّلت السيّدة زينب عليها السّلام ظُهْر يوم عاشوراء عِبْء رسالتها ـ هو شجاعة هذه السيّدة العظيمة وثباتها في مواقفها أمام الطاغية يزيد ، الذي حاول مع أزلام حكومته ـ عن طريق القمع ، والبطش ، والإرعاب المشفوع بتيّار واسع من الإعلام الكاذب ـ أنْ يُلقي في أذهان عامّة الناس أنّ الإمام الحسين عليه السّلام الثائر في طلب إصلاح أُمّة جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله هو خارجيّ ، تمرّد على وليّ الأمر ولم يخضع لخليفة عصره ، وكان من الطبيعيّ على مثل هؤلاء المتمرّدين أنْ تقمعهم قِوى الحكومة الإسلاميّة الشجاعة !
وفي هذا السياق ، كان موكب السبايا ـ سبايا أهل بيت النبوّة عليهم السّلام ـ إذا دخل مدينة من المُدُن ، طوال المسيرة المُرهقة التي امتدّت من كربلاء إلى الكوفة ثمّ من الكوفة إلى الشام ، قيل لأهل تلك المدينة إنّ هؤلاء السبايا هم سبايا وأسرى من الخوارج !وكانوا في الشام ـ وقد أَثْمَلَهُم غرور النصر الدمويّ الذي حقّقوه في كربلاء ـ يُعدِّون العدّة لحفلٍ كبير دَعَوا إليه كبار رجال الحكم وسفراء الدول الأجنبيّة ، وخُيِّل ليزيد أنّ أحداً لنْ يَجْرُؤ ـ بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السّلام ـ على زعزعة دعائم حُكْمِهِ ، وكان جنوده المدجّجون بالسلاح لا يتورّعون عن سفْك دم كلّ مَن تُسوِّل له نفسه أنْ يعترّض بكلمة .أُدخل موكب السبايا على يزيد وهو في مجلسه ، بعد أنْ حُمِلوا آلاف الكيلومترات على إبل مهزولة بغير وِطاء ، قد هدّهم المصابُ الجَلَل : فَقْدُ ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسِبطه الأثير لديه ، الذي ترعرع على صدر رسول الله صلّى الله عليه وآله وشبّ في حِجره ، والذي أخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله معه ـ إلى جانب أبيه وأمّه وأخيه ـ ليُباهِل نصارى نجران ، فقال كبيرُهم حين تأمّل فيهم : أرى وجوهاً لو سألوا الله أنْ يُزيل جبلاً لأزاله من مكانه ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ! (3) .وأرهقهم بُعد الشقّة ، بعد أنْ أعنف بهم الحادي ، فساقهم على غير رِفق ، ولم ينزل بهم إلاّ على غير ماء ولا عُشب ، ثمّ أُدخلوا على يزيد ولمّا يستريحوا من عناء الطريق بعدُ ، عسى أنْ يَفُتّ ذلك في عضدهم ويُوهِن من جَلَدهم ، ويُضِعف منطقَهم .ونهضت عقيلة بني هاشم ( عليها السّلام ) في وقار ، وخاطبت يزيد دون أنْ تكترث له ولا لزبانيّته ، في فصاحةٍ وبلاغة وَرِثَتهما من أمير الفصاحة والبلاغة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام ، فأعادت إلى الأذهان وقفةَ أُمّها الزهراء ( عليها السّلام ) وخطبتها الشهيرة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وكان من جُملة خطبتها أنْ قالتْ :أظننتَ يا يزيدُ أنّك حين أخذتَ علينا أقطارَ الأرض ، وضَيّقتَ علينا آفاقَ السماء ، فأصبَحنا لك في إسارِ الذلّ .. أنّ بنا من اللهِ هَواناً وعليكَ منه كرامةً وامتناناً ، وأنّ ذلك لِعِظَم خَطرِك وجلالةِ قَدْرك ، فشَمَختَ بأنفِك ، ونَظَرت في عِطفِك! ... فمَهْلاً مَهلاً ، لا تَطِش جَهلاً !أنَسِيتَ قولَ الله عزّ وجلّ : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ؟! (4) .أمِنَ العدل ـ يا ابنَ الطُلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَكَ وإماءَكَ ، وسَوقُكَ بناتِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله ، يَحدوا بهنّ الأعداءُ من بلدٍ إلى بلد ، ويَستَشرِفُهنَّ أهلُ المَناقِل ، ويُبرَزنَ لأهل المَناهِل (5) ، ويَتَصفّحُ وُجوهَهُنَّ القريبُ والبعيد ... عُتُوّاً منك على الله وجُحوداً لرسولِ الله صلّى الله عليه وآله ، ودَفعاً لِما جاء به من عند الله .. .ثمّ اندفعت العقيلة زينب عليها السّلام تُقرّع يزيد وتفضح نَسَبه الوضيع ، وتذكّره بجرائم أسلافه الذين اقتفى آثارَهم وسار على حَذْوهم ، فقالتْ :وأنّى يُرتجى الخيرُ ممّن لَفَظ فُوهُ ( أي فمه ) أكبادَ الشهداء ، ونَبَتَ لحمُه بدماء السُّعداء ، ونَصَب الحربَ لسيّد الأنبياء ، وجَمَع الأحزابَ ، وشَهَر الحِرابَ ، وهَزّ السيوفَ في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، أشدّ العرب لله جُحوداً ، وأنكرهم له رسولاً ، وأظهرهم له عُدواناً ، وأعتاهم على الربّ كفراً وطُغياناً .لَعَمري لقد نَكأتَ القَرحةَ (6) ، واستأصلتَ الشَأْفة (7) ، بإراقتكَ دمَ سيّدِ شبابِ أهل الجنّة ، وابنِ يَعسوبِ العرب ، وشمسِ آل أبي طالب ، وهَتَفْتَ بأشياخِك ، وتَقَرّبتَ بدمهِ إلى الكفَرة من أسلافِكَ . . . وما فَرَيْتَ إلاّ جِلدَك ، وما جَزَزْتَ (8) إلاّ لحمَك ، وَسَتَرِدُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله بما تحمَّلتَ مِن دم ذُرّيّتِه ، وانتهكتَ من حُرمتِه ، وسَفَكتَ من دماء عِترته ولُحمته . . . فلا يَستفزّنّكَ الفرحُ بقتلِهم ، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وحَسْبُك بالله وليّاً وحاكماً ، وبرسولِ الله صلّى الله عليه وآله خَصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً .ولئن جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّواهي مُخاطبتَك ، إنّي لأستصغِرُ قَدْرَكَ ، وأستَعظِمُ تَقريَعكَ ، وأستَكِبرُ تَوبيخَك ، لكنّ العيونَ عَبرى ، والصدور حَرّى ... فكِدْ كَيْدكَ واسْعَ سَعْيَكَ وناصِبْ جُهْدَكَ ، فواللهِ لا تَمحْو ذِكرَنا ، ولا تُميتُ وَحيَنا ، ولا تُدرِكُ أمَدَنا ، ولا تُرحِضُ (9) عنك عارَها ؛ وهل رَأيُك إلاّ فَنَد (10) ، وأيّامُك إلاّ عَدَد ، وجَمْعُك إلاّ بَدَد ، يومَ يُنادي المنادِ : أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .ومِن قَبْلُ في مجلس عُبيد الله بن زياد كان للعقيلة زينب ( عليها السّلام ) كلام جَبَهَت به ابن زياد حين سألها متشفّياً : كيف رأيتِ صُنْعَ الله بأخيكِ وأهل بيتِك ؟! فقالتْ :ما رأيتُ إلاّ جميلاً ! هؤلاء قَومٌ كَتَب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مَضاجِعهم ، وسيَجمعُ اللهُ بينَكَ وبينهم فتُحاجُّ وتُخاصَم ، فانْظُر لِمَن الفُلْجُ (11) يومئذٍ ، ثَكَلَتْكَ أُمُّك يا ابنَ مَرجانة !فبُهت الذي كَفَر ، وتَلَجلج واستَخذى بعد عُنفوانه ، وتصاغرَ بعد شُموخه وإدلاله بنفسه ، بعد أنْ مَلَكَت عليه العقيلةُ المفوّهة البليغة أقطارَ الأرض والسماء ، فتمنّى في خِزْيِهِ لو انشقّتْ الأرض من تحته فابْتَلَعَتْهُ .وروى أصحاب التواريخ والسِّير أن يزيد بن معاوية لمّا فضحته عقيلة بني هاشم عليها السّلام بخطبتها أنحى باللأئمّة على ابن زياد ، وقال : قَبَّح اللهُ ابنَ مَرجانة ، لو كانت بينكم وبينه قرابةٌ ورِحم ما فعل هذا بكم ، ولا بَعَث بكم على هذا ! (12) .فتأمّل كيف كشفتْ هذه السيّدة الجليلة بمنطقها الجَزْل عن حقيقة مقام يزيد وهو في أوّج عِزّه الظاهريّ ، فإذا به يتصاغر ويتضاءل حتّى ينتحل الأعذار أمامها كالعبد الذليل المذنب أمام سيّدته ، وشهد لها المُؤالِف والمخالِف بأنّ كلامها ليزيد بن معاوية يدلّ على عقل وقوّة جَنان (13) .
ثانياً : الفصاحة والبلاغة :من السِمات التي امتازتْ بها السيّدة زينب عليها السّلام : فصاحتُها وبلاغتُها ومنطقُها الرصين الجَزل ؛ فقد أشار علماء الأدب الذين نقلوا خُطبَها إلى أنّها أشبَهَت أباها أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه المَلَكة ، حيث أشبَهَتْه في ثراء المحتوى وجمال التعبير ، وفي رعاية ما يُناسب كلّ مقامٍ من مَقال وكلام : أ ـ تأمّل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في أنواع السَّجع الذي وظّفتْه في عباراتها ، كقولها :( قد هَتكتَ سُتورَهُنّ ، وأبدَيتَ وجوهَهُنّ ) .وقولها : ( نتيجة خِلالِ الكُفر ، وصبّ يُجرجر في الصدرِ لقتلى بدر ) .ب ـ وانظر تشبيهاتها التي أوردتْها في كلامها فضاعفتْ روعتَه ، كقولها لأهل الكوفة : ( إنّما مَثَلكُم كمَثَلِ التي نَقَضَت غَزْلَها من بَعد قوّةٍ أنكاثاً ) ، فقد شبّهتهم فيه بالعجوز الحمقاء التي تَغزِل الصوف ، حتّى إذا شارف عملُها على الكمال عَمَدت إليه فنَقَضتْه وأهدَرتْه .وكقولها لأهل الكوفة : بأنّ مَثَلهم ( كمرَعى على دِمنة ) ، إذْ شبّهتْهم فيه بالمرعى ذي الظاهر الزاهي الجميل ، الذي تَضرب جذوره في دِمنة قذرة خبيثة .ج ـ وتأمّل إلى استخدامها فنّ ( تَجاهُل العارِف ) ، في قولها : ( هل فيكم إلاّ الصَّلف والعَجب والشّنِف والكذِب ؟! ) .وقولها : ( أمِن العدلِ ـ يا بنَ الطُّلقاء ـ تَخديرُكَ حرائرَك وإماءَك ، وسَوقُك بناتِ رسول الله صلّى الله عليه وآله سَبايا ؟! ) .وقد زخرتْ هاتان الخطبتان بالكناية والإيجاز والاستعارة وسائر فنون البلاغة ، حتّى لُقّبت السيّدة زينب ( عليها السّلام ) في حياتها بألقاب : ( البليغة ) ، و ( الفصيحة ) ، و ( وليدة الفصاحة ) .* وقد روى السيّد ابن طاووس عن بشير بن خُزَيم الأسدي أنّه قال في صِفة عقيلة بني هاشم عليها السّلام :( كأنّها تُفرِغُ عن لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ، وقد أومَأتْ إلى الناس أنِ : اسكُتوا ، فارتَدَّتْ الأنفاس ، وسَكَنَت الأجراس ) (14) .* وقال النيشابوري في ( الرسالة العلويّة ) : ( كانت زينب ابنة عليّ عليه السّلام في فصاحتها وبلاغتها وزُهدها وعبادتها كأبيها المرتضى وأمّها الزهراء عليها السّلام ) (15) .وروى المجلسيّ أنّ ابن زياد قال لمّا قَرّعتْه زينب عليها السّلام بكلامها المتين : هذه سَجّاعة ! ولَعَمري لقد كان أبوكِ سَجّاعاً شاعراً !!قالتْ : إنّ لي عن السَّجاعةِ لَشُغلاً ، وإنّي لأعجَبُ ممّن يَشتَفي بقتلِ أئمّته ، ويَعلَم أنّهم مُنتقِمون منه في آخرتِه ! (16) .
ثالثاً : الحياء والعفّة :العقيلة زينب ( عليها السّلام ) فرعٌ شامخ من فروع الدَّوحة النبويّة الوارفة ، تَرَعرعتْ في بيتٍ رفيع من بيوت أ