إن بناء المساجد على القبور أو عندها والصلاة فیها مسألة فقهیة فرعیة لا تمت إلى العقائد بصلة .
فالمرجع فی هذه المسائل هم أئمة المذاهب وفقهاء الدین یستنبطون حکمه من الکتاب والسنة ، ولیس لنا تکفیر أو تفسیق واحد من الطرفین إذا قال بالجواز أو بعدمه ، وکم من مسألة فقهیة اختلفت فیها آراء الفقهاء والمجتهدین ، ونحن بدورنا نعرض المسألة على الکتاب والسنة لنستنبط حکمها من أوثق المصادر الفقهیة .
الذکر الحکیم یشرح لنا کیفیة عثور الناس على قبور أصحاب الکهف وأنهم - بعد العثور - اختلفوا فی کیفیة تکریمهم وإحیاء ذکراهم والتبرک بهم على قولین : فمن قائل : یبنى على قبورهم بنیان لیخلد ذکراهم بین الناس .
إلى قائل آخر : یبنى على قبورهم مسجدا یصلى فیه .
وقد حکى سبحانه کلا الاقتراحین من دون تندید بواحد منهما ، قال سبحانه : ( وَکَذَلِکَ أَعْثَرْنَا عَلَیْهِمْ لِیَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَیْبَ فِیهَا إِذْ یَتَنَازَعُونَ بَیْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَیْهِم بُنْیَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِینَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیْهِم مَّسْجِدًا ) . ( 1 )
قال المفسرون : إن الاقتراح الأول کان لغیر المسلمین ویؤیده قولهم فی حق أصحاب الکهف : ( ربهم أعلم بهم ) وهو ینم عن اهتمام بالغ بحالهم ومکانتهم فحولوا أمرهم إلى ربهم
(وأما الاقتراح الثانی فنفس المضمون ( اتخاذ قبورهم مسجدا ) شاهد على أن المقترحین کانوا هم المؤمنین ، وما اقترحوا ذلک إلا للتبرک بالمکان الذی دفنت فیه أجساد هؤلاء الموحدین .
) والقرآن یذکر ذلک الاقتراح من دون أن یعقب علیه بنقد أورد وهو یدل على کونه مقبولا عند منزل الوحی .
قال الطبری فی تفسیر الآیة : إن المبعوث دخل المدینة فجعل یمشی بین ظهری سوقها فیسمع أناسا کثیرین یحلفون باسم عیسى بن مریم ، فزاده فرقا ورأى أنه حیران ، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدینة ، ویقول فی نفسه : والله ما أدری ما هذا أما عشیة أمس فلیس على الأرض إنسان یذکر عیسى بن مریم إلا قتل ، وأما الغداة فأسمعهم وکل إنسان یذکر أمر عیسى لا یخاف ، ثم قال فی نفسه : لعل هذه لیست بالمدینة التی أعرف . ( 2 )
سیرة المسلمین فی البناء على قبور الصالحین
إن سیرة المسلمین تکشف عن جواز بناء المساجد على قبور الصالحین الذین یتبرک بهم ولهم مکانة عالیة فی قلوبهم ، ویدل على ذلک الأمور التالیة :
أ . دفن النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " فی بیته الذی فیه وکان فی جوار المسجد النبوی ولما کثر المسلمون وازداد عددهم وضاق المسجد بهم أدخلوا الجانب الشرقی - الذی کان فیه بیوت أزواج النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " والبیت الذی دفن فیه - فی المسجد النبوی على نحو یقف المصلون أطراف القبر من الجوانب الأربعة ویحیطون به .
یقول الطبری فی حوادث سنة 88 : إنه فی شهر ربیع الأول من هذه السنة قدم کتاب الولید على عمر بن عبد العزیز یأمره بهدم المسجد النبوی وإضافة حجر رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وأن یوسعه من قبلته وسائر نواحیه ، بشراء الأملاک المحیطة به ، فأخبر عمر الفقهاء العشرة وأهل المدینة بذلک ، فحبذوا بقاء تلک الحجر على حالها لیعتبر بها المسلمون ، ویکون أدعى لهم إلى الزهد اقتداء بنبیهم ، فکاتب ابن عبد العزیز الولید فی ذلک ، فأرسل إلیه یأمره بالخراب ،
وتنفیذ ما ذکره فی کتابه الأول ، فضج بنو هاشم وتباکوا ، ولکن عمر نفذ ما أمره به الولید ، فأدخل الحجرة النبویة ( حجرة عائشة ) فی المسجد ، فدخل القبر فی المسجد وسائر حجرات أمهات المؤمنین وقد بنی علیه سقف مرتفع کما أمر الولید . ( 3 )
فإذا کان هذا العمل بمرأى ومسمع من فقهاء المدینة العشرة والمسلمین عامة ، وفی مقدم التابعین منهم علی بن الحسین زین العابدین وابنه محمد بن علی الباقر " علیهم السلام " اللذین لم یشک أحد فی زهدهما وعلمهما وعرفانهما .
فهو أوضح دلیل على جواز إقامة المسجد عند قبور الأنبیاء والصالحین والصلاة فیه .
وقد أقر هذا العمل کل التابعین وجاء بعدهم إمام دار الهجرة مالک بر أئمة المذاهب الأربعة فلم یعترضوا علیه بشئ .
ب . یقول السمهودی فی حق السیدة فاطمة بنت أسد أم الإمام أمیر المؤمنین علی " علیه السلام " : فلما توفیت خرج رسول الله فأمر بقبرها فحفر فی موضع المسجد الذی یقال له الیوم قبر فاطمة . ( 4 ) والعبارة تدل على أنهم بنوا المسجد بعد تدفینها . وقال فی موضع آخر : إن مصعب بن عمیر وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذی بنی على قبر حمزة . ( 5 )
ج . إن السیدة عائشة قضت حیاتها فی بیتها وصلت فیه تمام عمرها ، ولم یکن بینها وبین القبر أی جدار إلى أن دفن عمر فبنی جدار حال بینها وبین القبور الثلاثة . ( 6 )
د . روى البیهقی أن فاطمة بنت النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " کانت تذهب إلى زیارة قبر عمها حمزة فتبکی وتصلی عنده . ( 7)
أخرج الحاکم ، عن سلیمان بن داود ، عن جعفر بن محمد ، عن أبیه ، عن علی بن الحسین " علیهم السلام " ، عن أبیه ، أن فاطمة بنت النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) : کانت تزور قبر عمها حمزة کل جمعة فتصلی وتبکی عنده .
قال الحاکم : وهذا الحدیث رواته عن آخرهم ثقات . وأقره الذهبی علیه ونقله البیهقی فی سننه . ( 8 )
وهذا یدل على بناء المسجد على قبر حمزة فی حیاة النبی صلى الله علیه وآله وسلم والصلاة فیه .
ه . إن النبی صلى الله علیه وآله وسلم - فی معراجه الذی بدأ به من المسجد الأقصى - نزل فی المدینة ، وطور سینا وبیت لحم ، وصلى فیها ، فقال جبرئیل : صلیت فی " طیبة " وإلیها مهاجرتک ، وصلیت فی طور سینا حیث کلم الله موسى ، وصلیت فی بیت لحم حیث ولد المسیح . ( 9)
هل هناک فرق بین المدفن والمولد ، مع أن الصلاة فی کل ، لغایة واحدة وهی التبرک بالإنسان المثالی الذی مس جسده الطاهر ، ذلک التراب بدایة عمره أو نهایته ؟ ! وبما أن الکتاب - مضافا إلى السیرة المستمرة بعد رحیل رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " إلى یومنا هذا - دلیل قطعی ، یکون محکما یؤخذ به ، وما دل على خلافه ، یکون متشابها ، فیرد إلى المحکم ویفسره بفضله .
ربما یتراءى من بعض الروایات عدم جواز اتخاذ قبور الأنبیاء مساجد .
فروی عن رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " أنه قال : قاتل الله الیهود اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد .
وفی روایة أخرى : لعن الله الیهود والنصارى اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد .
وفی روایة ثالثة : ألا وإن من کل قبلکم کانوا یتخذون قبور أنبیائهم وصالحیهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد . ( 10 )
ولنا مع هذه الأحادیث وقفة قصیرة ، وذلک لأن تاریخ الیهود لا یتفق مع مضامین تلک الروایات ، لأن سیرتهم قد قامت على قتل الأنبیاء وتشریدهم وإیذائهم إلى غیر ذلک من أنواع البلایا التی کانوا یصبونها على أنبیائهم . ویکفی فی ذلک قوله سبحانه : ( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِینَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِیرٌ وَنَحْنُ أَغْنِیَاء سَنَکْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِیَاء بِغَیْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِیقِ ) . ( 11 )
وقوله سبحانه : ( قُلْ قَدْ جَاءَکُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِی بِالْبَیِّنَاتِ وَبِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ) . ( 12 )
وقال سبحانه : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّیثَاقَهُمْ وَکُفْرِهِم بِآیَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِیَاء بِغَیْرِ حَقًّ . . . ) . ( 13 ) أفزعتم أن أمة قتلت أنبیاءها فی مواطن مختلفة تتحول إلى أمة تشید المساجد على قبور أنبیائها تکریما وتبجیلا لهم .
وعلى فرض صدور هذا العمل عن بعضهم ، فللحدیث محتملات أخرى غیر الصلاة فیها والتبرک بصاحب القبر وهی : أ . اتخاذ القبور قبلة . ب . السجود على القبور تعظیما لها بحیث یکون القبر مسجودا علیه .
ج . السجود لصاحب القبر بحیث یکون هو المسجود له ، فالقدر المتیقن هو هذه الصور الثلاث لا بناء المسجد على القبور تبرکا بها . والشاهد على ذلک أن الرسول " صلى الله علیه وآله وسلم " حسب بعض الروایات یصف هؤلاء بکونهم شرار الناس .
أخرج مسلم فی کتاب المساجد : إن أم حبیبة وأم سلمة ذکرتا کنیسة رأینها بالحبشة فیها تصاویر لرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم ، فقال رسول الله : ( صلى الله علیه وآله وسلم ) إن أولئک إذا کان فیهم الرجل الصالح فمات بنی على قبره مسجدا ، وصوروا فیه تلک الصور ، أولئک شرار الخلق عند الله یوم القیامة . ( 14 )
إن وصفهم بشرار الخلق یمیط اللثام عن حقیقة عملهم إذ لا یوصف الإنسان بالشر المطلق إلا إذا کان مشرکا - وإن کان فی الظاهر من أهل الکتاب - قال سبحانه :*( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُکْمُ الَّذِینَ لاَ یَعْقِلُونَ )*. ( 15 ) وقال :*( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِینَ کَفَرُواْ فَهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ )*. ( 16 )
وهذا یعرب عن أن عملهم لم یکن صرف بناء المسجد على القبر والصلاة فیه ، أو مجرد إقامة الصلاة عند القبور ، بل کان عملا مقرونا بالشرک بألوانه وهذا کما فی اتخاذ القبر مسجودا له أو مسجودا علیه أو قبلة یصلی علیه .
قال القرطبی : وروى الأئمة عن أبی مرثد الغنوی قال : سمعت رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم یقول : لا تصلوا إلى القبور ، ولا تجلسوا علیها " لفظ مسلم " أی لا تتخذوها قبلة فتصلوا علیها أو إلیها کما فعل الیهود و النصارى فیؤدی إلى عبادة من فیها . ( 17 )
إن الصلاة عند قبر الرسول صلى الله علیه وآله وسلم إنما هو لأجل التبرک بمن دفن ، ولا غرو فیه وقد أمر سبحانه الحجیج باتخاذ مقام إبراهیم مصلى قال سبحانه :*(وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِیمَ مُصَلًّى )*. ( 18 ) إن الصلاة عند قبور الأنبیاء کالصلاة عند مقام إبراهیم غیر أن جسد النبی إبراهیم " علیه السلام " لامس هذا المکان مرة أو مرات عدیدة ، ولکن مقام الأنبیاء احتضن أجسادهم التی لا تبلى أبدا .
هذا وأن علماء الإسلام فسروا الروایات الناهیة بمثل عندما قلناه .
قال البیضاوی : لما کانت الیهود والنصارى یسجدون لقبور الأنبیاء تعظیما لشأنهم ویجعلونها قبلة یتوجهون فی الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثانا ، لعنهم ومنع المسلمین عن مثل ذلک .
فأما من اتخذ مسجدا فی جوار صالح وقصد التبرک بالقرب منه لا للتعظیم ولا للتوجه ونحوه ، فلا یدخل فی الوعید المذکور . ( 19 )
وقال السندی شارح سنن النسائی : اتخذوا قبور أنبیائهم مساجد ، أی قبلة للصلاة ویصلون إلیها ، أو بنوا مساجد یصلون فیها ، ولعل وجه الکراهة أنه قد یفضی إلى عبادة نفس القبر . إلى أن یقول : یحذر النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أمته أن یصنعوا بقبره ما صنع الیهود والنصارى بقبور أنبیائهم من اتخاذ تلک القبور مساجد ، إما بالسجود إلیها تعظیما لها أو بجعلها قبلة یتوجهون فی الصلاة إلیها . ( 20 )
المصادر :
1- الکهف / 21
2- تفسیر الطبری : 15 / 145 .
3- راجع تاریخ الطبری : 5 / 222 ، البدایة والنهایة : 8 / 65 .
4- وفاء الوفاء : 3 / 897 .
5- المصدر السابق : 3 / 922 .
6- وفاء الوفاء : 2 / 541 .
7- السنن الکبرى : 4 / 78 .
8- مستدرک الحاکم : 1 / 377 .
9- الخصائص الکبرى : 1 / 154 .
10- للوقوف على مصادر هذه الأحادیث راجع صحیح البخاری : 2 / 111 کتاب الجنائز ، سنن النسائی : 2 / 871 ، کتاب الجنائز ، صحیح مسلم : 2 / 68 ، باب النهی عن بناء المساجد على القبور من کتاب المساجد .
11- آل عمران / 181 .
12- آل عمران / 183 .
13- النساء / 155 .
14- صحیح مسلم : 2 / 66 ، باب النهی عن بناء المساجد على القبور من کتاب المساجد .
15- الأنفال / 22 . –
16- الأنفال / 55 .
17- تفسیر القرطبی : 10 / 38 .
18- البقرة / 125 .
19- فتح الباری فی شرح صحیح البخاری : 1 / 525 ، طبعة دار المعرفة ، وقریب منه ما فی إرشاد الساری فی شرح صحیح البخاری : 2 / 437 ، باب بناء المسجد على القبور .
20- سنن النسائی : 2 / 41 .