والمراد هنا : التحفظ عن ضرر الغیر بموافقته فی قول أو فعل مخالف للحق ..
والکلام تارة یقع فی حکمها التکلیفی ، وأخرى فی حکمها الوضعی.
والکلام فی الثانی تارة من جهة الآثار الوضعیة المترتبة على الفعل المخالف للحق ، وأنها تترتب على الصادر تقیة کما تترتب على الصادر اختیارا ، أم وقوعه تقیة یوجب رفع تلک الآثار ، وأخرى فی أن الفعل المخالف للحق هل تترتب علیه آثار الحق بمجرد الاذن فیها من قبل الشارع أم لا ؟
ثم الکلام فی آثار الحق الواقعی قد یقع فی خصوص الاعادة والقضاء إذا کان الفعل الصادر تقیة من العبادات ، وقد یقع فی الآثار الاخر ، کرفع الوضوء الصادر تقیة للحدث بالنسبة إلى جمیع الصلوات ، وإفادة المعاملة الواقعة تقیة الآثار المترتبة على المعاملة الصحیحة.
فالمقام الاول فی حکمها التکلیفی :
فهو أن التقیة تنقسم إلى الاحکام الخمسة :
وذکر الشهید الشیخ شمس الدین أبو عبد الله محمد بن مکی العاملی الجزینی قدس سره فی قواعده :
أن المستحب : إذا کان لا یخاف ضررا عاجلا ویتوهم ضررا آجلا أو ضررا سهلا ، أو کان تقیة فی المستحب ، کالترتیب فی تسبیح الزهراء صلوات الله علیها وترک بعض فصول الاذان.
والمکروه : التقیة فی المستحب حیث لا ضرر عاجلا ولا آجلا ، ویخاف منه الالتباس على عوام المذهب.
والحرام : التقیة حیث یؤمن الضرر عاجلا وآجلا ، أو فی قتل مسلم.
والمباح : التقیة فی بعض المباحات التی ترجحها العامة ولا یصل بترکها ضرر (1) ، انتهى.
وفی بعض ما ذکره قدس سره تأمل.
ثم الواجب منها یبیح کل محظور من فعل الواجب وترک المحرم.
والاصل فی ذلک : أدلة نفی الضرر (2) ، وحدیث رفع عن أمتی تسعة أشیاء ، ومنها : « ما اضطروا إلیه » (3) ، مضافا إلى عمومات التقیة ، مثل قوله فی الخبر : « إن التقیة واسعة ، لیس شیء من التقیة إلا وصاحبها مأجور » (4) ، وغیر ذلک من
الاخبار المتفرقة فی خصوص الموارد.
وجمیع هذه الادلة حاکمة على أدلة الواجبات والمحرمات ، فلا یعارض بها شیء منها حتى یلتمس الترجیح ویرجع إلى الاصول بعد فقده ، کما زعمه بعض فی بعض موارد هذه المسألة.
وأما المستحب من التقیة فالظاهر وجوب الاقتصار فیه على مورد النص ، وقد ورد النص : بالحث على المعاشرة مع العامة ، وعیادة مرضاهم ، وتشییع جنائزهم ، والصلاة فی مساجدهم ، والاذان لهم ، فلا یجوز التعدی عن ذلک إلى ما لم یرد فیه النص من الافعال المخالفة للحق ، کذم بعض رؤساء الشیعة للتحبب إلیهم.
وکذلک المحرم والمباح والمکروه ، فإن هذه الاحکام على خلاف عمومات التقیة ، فیحتاج إلى الدلیل الخاص.
وأما المقام الثانی :
فنقول : إن الظاهر ترتیب آثار العمل الباطل على الواقع تقیة وعدم ارتفاع الآثار بسبب التقیة إذا کان دلیل تلک الآثار عاما لصورتی الاختیار والاضطرار ، فإن من احتاج لاجل التقیة إلى التکتف فی الصلاة ، أو السجود على ما لا یصح السجود علیه ، أو الاکل فی نهار رمضان ، أو فعل بعض ما یحرم على المحرم ، فلا یوجب ذلک ارتفاع أحکام تلک الامور بسبب وقوعها تقیة.
نعم ، لو قلنا بدلالة حدیث رفع التسعة على رفع جمیع الآثار ، تم ذلک فی الجملة.
لکن الانصاف ظهور الروایة فی رفع المؤاخذة ، فمن اضطر إلى الاکل والشرب تقیة أو التکتف فی الصلاة ، فقد اضطر إلى الافطار وإبطال الصلاة ، لانه مقتضى عموم الادلة ، فتأمل.
المقام الثالث :
فی حکم الاعادة والقضاء إذا کان المأتی به تقیة من العبادات.
فنقول : إن الشارع إذا أذن فی إتیان واجب موسع على وجه التقیة ـ إما بالخصوص کما لو أذن فی الصلاة متکتفا حال التقیة ، وإما بالعموم کأن یأذن بإمتثال أوامر الصلاة أو مطلق العبادات على وجه التقیة ، کما هو الظاهر من أمثال قوله علیه السلام : « التقیة فی کل شیء إلا فی النبیذ والمسح على الخفین » (5) ونحوه (6) ـ ثم ارتفعت التقیة قبل خروج الوقت ، فلا ینبغی الاشکال فی إجزاء المأتی به وإسقاطه ، للامر ، کما تقرر فی محله : من أن الامر بالکلی کما یسقط بفرده الاختیاری کذلک یسقط بفرده الاضطراری إذا تحقق الاضطرار الموجب للامر به ، فکما أن الامر بالصلاة یسقط بالصلاة مع الطهارة المائیة کذلک یسقط مع الطهارة الترابیة إذا وقعت على الوجه المأمور به.
أما لو لم یأذن فی امتثال الواجب الموسع فی حال التقیة خصوصا أو عموما على الوجه المتقدم ، فیقع الکلام فی أن الوجوب فی الواجب الموسع هل یتعلق بإتیان هذا الفرد المخالف للواقع بمجرد تحقق التقیة فی جزء من الوقت ، بل فی مجموعه ؟ وبعبارة أخرى : الکلام فی أنه هل یحصل من الاوامر المطلقة بضمیمة أوامر التقیة أمر بامتثال الواجبات على وجه التقیة أو لا ؟ بل غایة الامر سقوط الامر عن المکلف فی حال التقیة ولو استوعب الوقت.
والتحقیق : أنه یجب الرجوع فی ذلک إلى أدلة تلک الاجزاء والشروط المتعذرة لاجل التقیة.
فإن اقتضت مدخلیتها فی العبادة من دون فرق بین الاختیار والاضطرار ، فاللازم الحکم بسقوط الامر عن المکلف حین تعذرها لاجل التقیة ولو فی تمام الوقت ، کما لو تعذرت الصلاة فی تمام الوقت إلا مع الوضوء بالنبیذ ، فإن غایة ذلک سقوط الامر بالصلاة رأسا لاشتراطها بالطهارة بالماء المطلق المتعذرة فی الفرض ، فحاله کحال فاقد الطهورین.
وإن اقتضت مدخلیتها فی العبادة بشرط التمکن منها دخلت المسألة فی مسألة اولی الاعذار : فی أنه إذا استوعب العذر الوقت لم یسقط الامر رأسا ، وإن کان فی جزء من الوقت ـ مع رجاء زواله فی الجزء الآخر ، أو مع عدمه ـ جاء فیه الخلاف المعروف فی اولی الاعذار ، وأنه هل یجوز لهم البدار أم یجب علیهم الانتظار.
فثبت من جمیع ما ذکرنا أن صحة العبادة المأتی بها على وجه التقیة تتبع إذن الشارع فی امتثالها حال التقیة.
والاذن متصور بأحد أمرین :
أحدهما : الدلیل الخارجی الدال على ذلک ، سواء کان خاصا بعبادة أو کان عاما لجمیع العبادات.
والثانی : فرض شمول الاوامر العامة بتلک العبادة لحال التقیة.
لکن یشترط فی کل منهما بعض ما لا یشترط فی الآخر :
فیشترط فی الثانی کون الشرط أو الجزء المتعذر للتقیة من الاجزاء والشرائط الاختیاریة ، وأن لا تکون للمکلف مندوحة : بأن لا یتمکن من الاتیان بالعمل الواقعی فی مجموع الوقت ، أو فی الجزء الذی یوقعه مع الیأس من التمکن منه فیما بعده أو مطلقا على التفصیل والخلاف فی اولی الاعذار ، وهذان الامران غیر معتبرین فی الاول ، بل یرجع فیه إلى ملاحظة ذلک الدلیل الخارجی ، وسیأتی أن الدلیل الخارجی الدال على الاذن فی التقیة فی الاعمال لا یعتبر فیه شیء منهما.
ویشترط فی الاول أن تکون التقیة من مذهب المخالفین ، لانه المتیقن من الادلة الواردة فی الاذن فی العبادات على وجه التقیة ، لان المتبادر التقیة من مذهب المخالفین ، فلا یجری فی التقیة عن الکفار أو ظلمة الشیعة المخالفین ، بعد ملاحظة عدم اختصاص التقیة فی لسان الائمة صلوات الله علیهم بالمخالفین ، لما یظهر بالتتبع فی أخبار التقیة التی جمعها فی الوسائل (7).
وکذا لا إشکال فی التقیة عن غیر مذهب المخالفین ، مثل التقیة فی العمل على طبق عمل عوام المخالفین الذین لا یوافق مذهب مجتهدهم ، بل وکذا التقیة فی العمل على طبق الموضوع الخارجی الذی اعتقدوا تحققه فی الخارج مع عدم تحققه فی الواقع ، کالوقوف بعرفات یوم الثامن والافاضة منها ومن المشعر یوم التاسع موافقا للعامة إذا اعتقدوا رؤیة هلال ذی الحجة فی اللیلة الاخیرة من ذی القعدة.
فإن الظاهر خروج هذا عن منصرف أدلة الاذن فی ارتفاع الاعمال على وجه التقیة لو فرضنا هنا إطلاقا ، فإن هذا لا دخل له فی المذهب ، وإنما هو اعتقاد خطأ فی موضوع خارجی.
نعم ، العمل على طبق الموضوعات العامة الثابتة على مذهب المخالفین داخل فی التقیة عن المذهب ، فیدخل فی الاطلاق لو فرض هناک إطلاق ، کالصلاة عند اختفاء الشمس ، لذهابهم إلى أنه هو المغرب.
ویمکن إرجاع الموضوع الخارجی أیضا فی بعض الموارد إلى الحکم ، مثل ما إذا حکم الحاکم بثبوت الهلال من جهة شهادة من لا تقبل شهادته إذا کان مذهب الحاکم القبول ، فإن ترک العمل بهذا الحکم قدح فی المذهب ، فیدخل فی أدلة التقیة.
وکیف کان ففی هذا الوجه لا بد من ملاحظة إطلاق دلیل الترخیص لاتیان العبادة على وجه التقیة وتقییده والعمل على ما یقتضیه الدلیل.
وأما فی الوجه الثانی ، فهذا الشرط غیر معتبر قطعا ، لان مبناه على العمل المخالف للواقع من جهة تعذر الواقع ، سواء کان تعذره للتقیة من مخالف أو کافر أو موافق ، وسواء کان فی الموضوع أم فی الحکم.
المصدر :
بتصرف من کتاب التقیة للشیخ مرتضى الأنصاری تحقیق الشیخ فارس الحسّون
1- القواعد والفوائد 2 / 157 و 158 ، باختلاف
2- الکافی 5 / 280 حدیث 4 و 292 حدیث 2 و 293 حدیث 6 و 294 حدیث 8 ، الفقیه 3 / 45 حدیث 154 حدیث 154 و 59 حدیث 208 و 147 حدیث 648 ، التهذیب 7 / 146 حدیث 651 و 164 حدیث 727 ، دعائم الاسلام 2 / 499 حدیث 1781 و 504 حدیث 1805.
3- الخصال 2 / 417 حدیث 9 من باب التسعة.
4- الکافی 3 / 380 حدیث 7 ، التهذیب 3 / 51 حدیث 177.
5- الکافی 2 / 172 حدیث 2 باب التقیة.
6- انظر : وسائل الشیعة 11 / 467 باب 25 من أبواب الامر بالعروف والنهی عن المنکر.
7- الوسائل 11 / 459 ـ 483 تألیف الشیخ أبی جعفر محمد بن الحسن بن علی المشغری توفى سنة 1104 ، ودفن فی الصحن المطهر للامام الرضا علیه السلام ، وله مقبرة تزار وتقصد لحد الآن.