وعندما أصبح خوض معركة منتصرة أمراً مستحيلاً، بقي أمام الإمام الحسن (عليه السلام) أن يخوض المعركة اليائسة، يعني: المعركة التي يُستشهد فيها من يُستشهد ويُقتل فيها من يُقتل.
وهذه المعركة اليائسة لم تكن لتؤدّي مفعولاً على الإطلاق؛ لأنّها سوف تتمُّ في ظلّ شكّ الجماهير، فما هي أهدافها؟ وما هي طبيعتها؟ أَهي مجرّد عناد؟! مجرّد استمرار على خطّ الزعامة القَبَليّة والعناد بين البيتين؟! أو هي رسالة وأمانة إلهيّة؟!
ولو خاض الإمام الحسن (عليه السلام) هذه المعركة اليائسة لكانت في نظر كثيرٍ من المسلمين على مستوى المعركة اليائسة التي خاضها عبدالله بن الزبير. كانت معركةً يائسة، حينما فرّ عنه أصحابه، فيما تقدّم هو بنفسه مع أصحابه الخواص، فقاتلوا حتّى قتلوا جميعاً، وقتل هو أيضاً.
عبد الله بن الزبير خاض معركةً يائسة(1)، هل ذكر أحدٌ من المسلمين عبدالله بن الزبير؟ هل فكّر أحدٌ من المسلمين في أنّ عبد الله بن الزبير خاض معركته من أجل الإسلام؟ بذل دمه من أجل العمل الإسلامي؟
أبداً وعلى الإطلاق، لماذا؟ لأنّ الناس كانوا يعيشون مفهوماً واضحاً -أو نصف واضح- عن عبداللهبنالزبير بأنّه يخوض المعركة ضدّ عبد الملك بن مروان لزعامته الشخصيّة، لا لأجل حماية الإسلام، ولا لأجل إنقاذ الرسالة ولأجل تعديل الخطّ.
نفسُ هذا الشكّ -بدرجة أو باُخرى- كان قد وُجد في الجماهير أيّام الإمام الحسن (عليه السلام)؛ لأنّه كان موجوداً في آخر أيّام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتعقّد ونما في عهد الإمام الحسن (عليه السلام).
وعليه، فلو خاض الإمام الحسن (عليه السلام) المعركة اليائسة لكانت هذه المعركة يائسةً جدّاً إلى درجةٍ كبيرة، كالمعركة التي خاضها عبد الله بن الزبير، ولم يكن لمثل هذه المعركة أيُّ عطاءٍ للإسلام وللعمل الإسلامي.
ضرورة الانحسار المؤقّت لخطّ الإمام علي (عليه السلام) :
كان لا بدّ للإمام الحسن (عليه السلام) -ولا بدّ للخطّ الصحيح- أن ينحسِر مؤقّتاً ويهادن مؤقّتاً، ويستولي معاوية بن أبي سفيان على كلّ العالم الإسلامي؛ لكي ينكشف مضمون اُطروحة معاوية، ولكي يعرف هؤلاء المسلمون البسطاء -الذين لم يكونوا يعرفون إلّا ما يرونه بأعينهم- مَن كان عليّ (عليه السلام)، ومن كان معاوية، وماذا كانت اُطروحة علي (عليه السلام)، وما هي اُطروحة معاوية.
ولقد ساهم معاوية نفسه إلى درجة كبيرة في كشف هذا الواقع؛ حيث لم ينتظر إلى أن تكشف الوقائع والأحداث عن حقيقته ، بل أعلن منذ اليوم الأوّل عن مضمون هذه الاُطروحة، وبدأ يواصل هذا الإعلان عمليّاً ولفظيّاً في مختلف مجالات سياسته، حتّى أخذ المسلمون يشعرون شعوراً كاملاً واضحاً بأنّ اُطروحة معاوية هي اُطروحة الجاهليّة التي تريد أن تهدّم الإسلام والكيان الإسلامي، وأنّ عليّبنأبيطالب هو الذي كان يحمل المشعل، هو الذي كان يضيء الطريق، وأنّ تلك التجربة القصيرة التي زاولها في الحكم بقيت مثلاً أعلى، بقيت أملاً وحلماً في نظر الجماهير الإسلاميّة وهم في خضمّ بؤسهم الذي كانوا يعيشون فيه، وفي خضمّ ما كانوا يعيشونه من البلاء.
وهكذا رأينا أنّ كثيراً من المسلمين كانوا يتّصلون بالإمام الحسن (عليه السلام) بين حين وحين ويطلبون منه أن ينقض الهدنة؛ لأنّ معاوية أخلّ بالشروط.
ولكنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان يقول بأنّ لكلّ شيء أجله، ولكلّ شيء حسابه. لم يكن يرفض بشكلٍ مطلقٍ فكرة نقض الهدنة، لكنّه كان يؤجّل هذا النقض بِلُغَةِ أنّ لكلّ شيءٍ أجله وحسابه( فإنّه بعد أن خطب معاوية قائلاً: «كلّ شرط شرطته لكم فهو مردود، وكلّ وعد وعدته أحداً منكم فهو تحت قدميَّ»، قال المسيّب بن نجبة الفزاري للحسن (عليه السلام): «أرى والله أن ترجع إلى ما كنت عليه وتنقض هذه البيعة؛ فقد نقض ما كان بينك وبينه»، فقال (عليه السلام): «يا مسيّب! إنّ الغدر لا يليق بنا ولا خير فيه... ولكنّي أردت بذلك صلاحكم وكفَّ بعضكم عن بعض، فارضوا بقضاء الله وسلّموا الأمر لله؛ حتّى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر»)(2)؛ وذلك لأنّه يريد أن ينكشف معاوية بصورةٍ أوضح وبصورةٍ أكبر، وكان يريد أن تكون أهداف معاوية مكشوفةً لكلّ إنسان.
إلّا أنّ معاوية بن أبي سفيان عرف أنّه سوف يتكشّف على هذا المستوى، وسوف يفتضح أمام المسلمين، ففكّر في أن يخفي هذه الفضيحة، أي أنّه فكّر في أن لا يكون مصيره مصير ابن عمّه عثمان بن عفّان.
عثمان تكشّف، لكن إلى درجةٍ ضئيلةٍ جدّاً، وهو يريد أن يتكشّف بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً؛ لأنّه يريد أن يتمتّع بالدنيا إلى أقصى مدى يمكن أن يتمتّع به ملك. هو يريد أن ينكشف، ومن همّه وهدفه ذلك، لكنّه في نفس الوقت يريد أن لا تكون نتيجته نتيجة عثمان ونهاية عثمان.
كان يريد أن يتحصّن من هذه النتيجة؛ وذلك بأن يُميت للاُمّة الإسلاميّة ضميرها وإرادتها وقابليّتها لمقابلة جور الظالمين، فوضع سياسته خلال عشرين عاماًليميت هذا الضمير، وليميت هذه الإرادة، ليميّع الاُمّة الإسلاميّة، ويجعل المسلمين ينصرفون عن همومهم الكبيرة إلى الهموم الصغيرة، عن الآلام الضخمة إلى آلام حياتهم البسيطة، ينصرفون عن الأهداف التي كانوا يحملونها لتحطيم جاهليّات العالم كلّها إلى الدوائر الضيّقة، جعلهم ينصرفون إلى عيشهم ومصالحهم الصغيرة، إلى الدريهمات التي كانوا يتقاضونها من بيت المال في رأس كلّ شهر.
هذا المسلم الذي كان يفكّر في تحطيم ظلم الظالمين في بلاد كسرى وقيصر أصبح لا يفكّر إلّا في هذه الدريهمات الرخيصة، إلّا في هذه الحياة الضئيلة المبتذلة التي يمنّ بها عليه عمّال بني اُميّة.
هل تصدّقون أنّ شيوخ القبائل في الكوفة أصبحوا جواسيس لمعاوية بنأبي سفيان بالرغم من أنّهم من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟! أصبحوا عملاء وجواسيس لمعاوية، يعطونه الأخبار المفصّلة عن أيّ تحرّكٍ وأيّ تحسّس من قِبل شباب قبائلهم، يعطون الأخبار والأرقام لشرطة معاويةبنأبي سفيان ليضربوا هذا التحرّك ويسرقوا أنفاس هؤلاء الشباب.
هؤلاء الشيوخ كانوا شيعةً لعليّ (عليه السلام) ويؤمنون به، فكيف بغيرهم؟!
ماتت الضمائر، ومات الدين، ماتت إرادة المسلمين، واستسلم المسلمون السنوات العشرين التي حكمها معاوية، والتي هي من أخزى الفترات التي مرّت في تاريخ الاُمّة الإسلاميّة على الإطلاق.
كلّ إنسانٍ كان يحسّ إحساساً واضحاً بأنّه مظلوم، وأنّ الاُمّة الإسلاميّة ككلٍّ مهدّدة بالخطر، وأنّ الإسلام في مهبّ الريح، وأنّ أحكام الشريعة يُتلاعب بها، وأنّ الحاكم لا يفكّر إلّا في نفسه، وإلّا في وجوده وفي مصالحه الخاصّة.
هذا كان واضحاً عند كلّ إنسان، ولكن كلّ إنسانٍ كان لا يفكّر أن يبدأ هو، لا يفكّر في أن يتقدّم هو. كلّ إنسانٍ كان حينما يفكّر في أن يتقدّم يفكّر قبل هذا بالدراهم التي يقبضها في آخر الشهر والتي سوف تنقطع عنه، فكان يحجم عن الإقدام. كانت كرامة كلّ إنسانٍ وكرامة اُمّته ودينه أرخص عنده من هذا العيش الذليل، أرخص عنده من هذا العطاء الرخيص الذي يتقاضاه آخر الشهر من قبل معاوية.
فكان لا بدّ -والحالة هذه- من شخصٍ يقوم بدورٍ يحوّل هذه الضمائر ويحوّل هذه الإرادة، ينقذها من الموت إلى الحياة، ولم يكن يوجد وقتئذٍ شخصٌ يمكن أن يقوم بهذه المهمّة إلّا الحسين (عليه السلام).
إطلالة على مرحلة الإمام الحسين (عليه السلام)
الإمام الحسين (عليه السلام) يعالج موت إرادة الاُمّة بعد تبدّد الشكّ لديها :
هنا دور الحسين (عليه السلام) يختلف عن دور الحسن (عليه السلام)؛ لأنّ المسلمين هنا ليس عندهم أيُّ شكٍّ في صحّة هذه المعركة. اليوم المسلمون كلّهم يعيشون تجربة الإمام عليّ (عليه السلام) كمثلٍ أعلى للحكم الإسلامي، يعيشون شعارات الإمام علي (عليه السلام) على أنّها هي الشعارات التي تمثّل القرآن، وهذا واضحٌ على مستوى الجماهير كلّها.
الشكُّ غير موجود، إذاً كان لا بدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يخوض معركة.
نعم، هي معركة يائسة وليست معركةً منتصرة؛ لأنّ هذه المعركة ستدور في اُمّةٍ ميْتة، في اُمّةٍ قد فقدت ضميرها وإرادتها وقابليّة المقاومة عندها. هذه المعركة لا يمكن أن تستقطب من جماهير الاُمّة جيشاً قويّاً واسع النطاق، قادراً على استئصال كافّة الحاكمين الظالمين، هذا أمرٌ كان بعيداً جدّاً. فالمعركة معركة خاسرة في الحساب العاجل.
ولكنّ هذه المعركة اليائسة الخاسرة في الحساب العاجل كان بإمكانها أن تهزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة، كان بإمكانها أن تعيد إلى الإنسان المسلم همّه الكبير بعد أن نسيه في ظلّ اُموره الصغيرة، أن تعيد همّه بأهدافه الضخمة بعد أن ضاعت هذه الأهداف الضخمة في خضمّ محنته الاُمويّة.
المسلمون يرون أنّ كلّ واحدٍ منهم -وفي سبيل الحفاظ على عيش رخيصٍ مبتذلٍ- لا يعطي شيئاً للإسلام، بل يكون سائراً في خطّ أعداء الإسلام، هكذا كانوا.
كانت الاُمّة في ذلك العصر مسلوبة الإرادة، أَلَم يقل ذلك الشخص للإمام الحسين (عليه السلام) بأنّ أهل الكوفة «سيوفهم عليك وقلوبهم معك»(3)؟! انظروا إلى موت الإرادة إلى أيّ درجةٍ هو! وهذا معناه أنّ الإرادة ميْتة.
فأراد أبو عبد الله (عليه السلام) أن يحرّك هذه الإرادة، أراد أن يخرجها من أسرها الاُموي لتصبح قوّةً وطاقةً فاعلةً متحرّكةً مخيفةً للحكّام الظالمين، المسلم كان يسترخص كرامة الإسلام في سبيل عيشه الرخيص.
الإمام الحسين (عليه السلام) حينما يتقدّم إلى خطّ الجهاد، حينما يبذل آخر قطرةٍ من دمه، حينما يبذل وجوده ووجود صحبه وأهل بيته وذويه، حينما يقدّم كلّ هذه التضحيات في سبيل الإسلام... ومن هو الحسين (عليه السلام)؟
الحسين هو شخصٌ كان يعيش عيشاً لا تعيشه أكثر هذه الجماهير . كان من أكثر المسلمين غنىً، كان من أكثر المسلمين جاهاً، كان من أكثر المسلمين عزّاً، كان سعيداً في حياته البيتيّةوحياته الاجتماعيّة وحياته الماليّة، كان شخصاً مرفّهاً، كان شخصاً لا يصله ظلمُ بني اُميّة إلّا بالقدر الذي يصل الإسلام من بني اُميّة، وبنو اُميّة كانوا يحافظون جدّاً على أن لا يصلوا بظلمهم إلى المصالح الشخصيّة للحسين (عليه السلام).
فالمصالح الشخصيّة للحسين (عليه السلام) كانت متوفّرة: المال كان كثيراً، الجاه كان عظيماً، المنزلة كانت كبيرة، مئات وملايين من المسلمين كانوا يتهافتون على التبرّك بالإمام الحسين (عليه السلام). فالإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن جوعاناً، ولا محتاجاً إلى مالٍ ولا إلى جاهٍ ولا إلى مجدٍ ولا إلى تقديس، كان كلّ هذا متوفّراً عنده. هذه الحياة المثلى -في نظر ذلك الإنسان اللامثالي(3)- كانت متوفّرةً عند الحسين (عليه السلام)، بينما لم تكن متوفّرةً لدى جماهير المسلمين.
ومع هذا، رأت الاُمّة أنّ هذا الإنسان الذي تتوفّر لديه كلّ أسباب النعيم والرخاء، كلّ أسباب السعادة بمقاييس الجماهير المنخفضة، هذا الإنسان يطلّق هذه الحياة، ويغلق على نفسه أبواب السعادة في سبيل مقاومة الظالمين والحفاظ على الرسالة.
كانت هذه هي الهزّة الكبرى التي هزّ بها الإمام الحسين (عليه السلام) ضمير الاُمّة الإسلاميّة. وبمقارنةٍ بسيطةٍ بين السنوات العشرين الفائتة والعشرين اللاحقة ندرك مدى الفرق بين الضمير الثوري للاُمّة الإسلاميّة قبل مقتل سيّد الشهداء (عليه السلام) والضمير الثوري للاُمّة الإسلاميّة بعد مقتل سيّد الشهداء.
قلت في بداية المحاضرات: إنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يستهدفون -من جملة ما يستهدفون- تحصينَ الاُمّة الإسلاميّة ضدّ صدمة الانحراف؛ لأنّ للانحراف صدمةً، وهذه الصدمة كان بالإمكان أن تقضي على الاُمّة كافّة كما قضت على التجربة الإسلاميّة كتجربةٍ سياسيّة حاكمة، وهذا كان طبيعيّاً ومنطقيّاً لو استمرّ الوضع الذي كان يعيشه المسلمون قبل مقتل سيّد الشهداء (عليه السلام).
إلّا أنّ مقتل سيّد الشهداء (عليه السلام) حصّن الاُمّة الإسلاميّة ضدّ التميّع وضدّ الانحلال، وضدّ أن تنسى نفسها في خضمّ هذا الظلم المعاش من قبل الحكّام المنحرفين المستهترين بأحكام الإسلام.
المصادر:
1- الأخبار الطوال: 314؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 187 :6؛ الفتوح 337 :6.
2- الفتوح 294 :4 - 295.
3- المعروف أنّه قولُ الفرزدق، فراجع: الأخبار الطوال: 245؛ مقاتل الطالبيّين: 111؛ دلائل الإمامة: 74؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 386 :5. وقد نسب إلى بشر بن غالب الأسدي (الفتوح 70 :5) ومجمع بن عبدالله العائذي (أنساب الأشراف 172 :3؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 405 :5؛ تجارب الاُمم 65 :2؛ الكامل في التاريخ 49 :4)