الذمة في اللغة العهد والأمان والضمان، وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين. قيل لهم ذلك؛ لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وأكثرهم من النصارى واليهود، وقد دعاهم القرآن «أهل الكتاب» نسبة إلى الكتاب المقدس التوراة والإنجيل، وقد أثنى عليهم وأوصى بهم خيرًا.
وفي الحديث النبوي أقوال كثيرة بمحاسنة أهل الذمة، وخصوصًا قبط مصر، فقد رووا عن النبي صلی الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحمًا» إشارة إلى أن أم إسماعيل أبي العرب منهم، وقال: «الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فإن لهم نسبًا وصهرًا».
وكان الخلفاء الراشدون إذا أنفذوا جيشًا للفتح أوصوا قوادهم بأهل الذمة خيرًا، ولا سيما النصارى ورهبانهم. وإذا جاءهم أهل المدن بالصلح صالحوهم وعاهدوهم على الحماية، في مقابل ما يؤدونه من الجزية عن رؤوسهم. ويختلف مقدار الجزية ونوعها باختلاف الأحوال، وعلى مقتضى التراضي بين المسلمين وأهل الكتاب، ولكل صلح شروط تختلف باختلاف البلاد، ولكنها في كل حال تقضي على المسلمين بحماية أهل الذمة والدفاع عنهم. فإذا امتنعوا عن أداء الجزية امتنع المسلمون عن حمايتهم، وإذا عرض للمسلمين ما يمنع حمايتهم جاز لأهل الذمة الإمساك عن الدفع.(1)
وفي تاريخ الفتوح عهود كثيرة كتبت لأهل الذمة، عاهدهم المسلمون فيها بحمايتهم وتسهيل أعمالهم، في مقابل ما يؤدونه من الجزية، ككتاب النبي صلی الله عليه وآله وسلم إلى صاحب أيلة (في العقبة)، وإلى أهل أذرح في أثناء غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة. وهاك كتاب النبي صلی الله عليه وآله وسلم إلى صاحب أيلة:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد رسول الله ليحيى بن رؤبة وأهل أيلة: سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ما يردونه، ولا طريقًا يردونه من بر أو بحر.(2)
وهاك كتابه إلى أهل أذرح وأهل مقنا:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني حبيبة وأهل مقنا: سلم أنتم، فإنه أنزل على أنكم راجعون إلى قربتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون، ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وأن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به. لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله، وأنه لا ظلم عليكم ولا عدوان، وأن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم يجيركم مما يجير منه نفسه، فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة، إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله، وأن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عرككم وربع ما اغتزلت نساؤكم، وإنكم قد ثريتم بعد ذلك ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيرًا فهو خير له، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو أهل بيت رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم. وكتب علي بن أبي طالب في السنة التاسعة.(3)
واقتدى بالنبي صلی الله عليه وآله وسلم قواده في أثناء الفتح بالشام ومصر والعراق وفارس، وكتبوا العهود لأهل الذمة على نحو ما تقدم في مقابل الجزية - منها عهد خالد بن الوليد الذي كتبه لأهل الشام، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق: إذا دخلها أعطاهم أمانًا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم. لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إلا إذا أعطوا الجزية.(4)
وإليك صورة عهد أبي عبيدة إلى أهل بعلبك:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك، رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم، وأهل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلًا، ولا ينزلوا قرية عامرة، فإن مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية، والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدًا.(5)
وقس عليه عهود سائر الفاتحين، مثل عمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، في مصر والعراق وفلسطين وفارس وأفريقية والأندلس وغيرها، على أنهم كانوا يشترطون في الجزية أن يؤديها أهل الذمة عن يدٍ وهم صاغرون.
أما شروط الصلح فكانت تختلف شدةً ورفقًا باختلاف البلاد والأحوال التي فتحت بها، فصلح مصر يختلف عن صلح الشام، وصلح الشام غير صلح العراق.
العهدة النبوية
وبين أيدي الناس نسخ من عهد يقولون: أن النبي صلی الله عليه وآله وسلم كتبه إلى النصارى ورهبانهم يسمونه «العهدة النبوية»، والنسخ المذكورة تختلف نصًّا وتتفق مغزًى. ويقولون: أن العهد المذكور كتب بخط علي بن أبي طالب، ووضع في مسجد النبي في السنة الثانية للهجرة، وحملت منه نسخ إلى الأديار، ومن ذلك نسخة كانت محفوظة في دير طور سينا، فنقلها السلطان سليم الفاتح العثماني إلى الأستانة في أوائل القرن السادس عشر للميلاد، بعد أن عرضها على مجلس شرعي، فنقلوها إلى اللغة التركية، وأبقوا النسخة التركية في الدير وصورة الأصل العربي مع عهود برعاية حقوقهم الواردة في نص في ذلك العهد، وحملوا النسخة العربية الأصلية إلى الآستانة(6) - وإليك نص العهدة النبوية نقلًا عن كتاب «منشآت سلاطين» لأفريدون بك بعد البسملة (7)
هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، رسوله مبشرًا ونذيرًا ومؤتمنًا على وديعة الله في خلقه؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا، كتبه لأهل ملة النصارى ولمن تنحل دين النصرانية، من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجمها معروفها ومجهولها، جعل لهم عهدًا فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره، كان لعهد الله ناكثًا ولميثاقه ناقضًا وبدينه مستهزئًا وللعنته مستوجبًا، سلطانًا كان أم غيره من المسلمين - وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم أذبُّ عنهم من كل غيرة لهم بنفسي وأعواني وأهلي وملتي وأتباعي؛ لأنهم رعيتي وأهل ذمتي وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج، إلا ما طابت له نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا في بناء منازلهم، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله.
ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والجنوب والشمال، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولا عشر، ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم، ولا يعاونون عند إدراك الغلة، ولا يلزمون بخروج في حرب وقيام بجبربة، ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما هو أكثر من اثني عشر درهما بالجملة في كل عام، ولا يكلف أحد منهم شططًا ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن، ويحفظونهم تحت جناح الرحمة، يكف عنهم أذية المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا - وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليها برضاها ويمكنها من الصلاة في بيعها، ولا يحال بينها وبين هوى دينها، ومن خان عهد الله واعتمد بالضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله، ويعاونون على مرمة بيعهم ومواضعهم، وتكون تلك مقبولة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد، ولا يلزم أحد منهم بنقل سلاح بل المسلمون يذبون عنهم، ولا يخالف هذا العهد أبدًا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا.
والغالب في اعتقادنا أن النبي صلی الله عليه وآله وسلم إذا كان قد أعطى عهدًا للنصارى والرهبان عمومًا فهو غير هذا العهد، أو لعله كان مختصرًا وطولوه، أو تنوسي وضاع أصله فكتبوه من عندهم، أو أن النصارى وضعوا هذا العهد من عند أنفسهم لغرض سياسي، إذ لم يذكر خبر هذا العهد أحد من مؤرخي الفتوح أو غيرهم من كُتَّاب المسلمين في الأزمنة الأولى، فضلًا عما في عبارته وألفاظه مما لم يكن معروفًا في صدر الإسلام، وخصوصًا في السنة الثانية للهجرة.
عهد عمر
ويذكرون أيضًا عهدًا يعرف بعهد عمر بن الخطاب لأهل الشام، أشار إليه غير واحد من مؤرخي المسلمين، وقد أورده بعضهم بنصه منهم أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي المتوفى سنة ٥٢٠ﻫ، أورده في كتاب «سراج الملوك» نقلًا عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري المتوفى سنة ٧٨، وإليك صورة العهد المذكور برواية ابن غنم قال:
كتبنا لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة (كذا) إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان مختطًّا منها في خطط المسلمين في ليل ولا نهار. وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم. ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًّا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا، ولا ندعو إليه أحدًا، وألا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراد، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب بالسروج، ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور. وأن نجز مقادم رؤوسنا ونلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا وكتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نتطلع إلى منازلهم)، فلما أتيت عمر - رضي الله عنه - بالكتاب زاد فيه (ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وضمنا على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق)، فكتب إليه عمر (أمضِ ما سألوه وألحق فيه حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوه على أنفسهم: أن لا يشتروا شيئًا من سبايا المسلمين، ومن ضرب مسلمًا عمدًا فقد خلع عهده..(8)
ويلحق بالعهد المذكور أحكام تتعلق بالكنائس وضعها عمر أيضًا، وذلك أنه أمر فهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع من أن تحدث كنيسة بعد الإسلام، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من كنيسة إلا كسر على رأس صاحبه.(9)
وترى في نص هذا العهد ضغطًا على النصارى وتصغيرًا لهم، خلافًا لما جاء في سائر عهود الأمان أو كتب الصلح في صدر الإسلام، وخلافًا لما هو معروف من عدل عمر بن الخطاب ورفقه بأهل الذمة، كما يستدل من سيرة حياته فإنها تدل على صدق لهجته في الفكر والقول والعمل، فكان إذا أساء مسلم إلى مسيحي اقتص له منه ولو كان المسلم من كبار الصحابة، كما اقتص لذلك القبطي من عمرو بن العاص وابنه وقال لعمر: «يا عمرو مُذْ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟».(10)
فنرى لأول وهلة تناقضًا بين هذه المناقب ونص هذا العهد، فيتبادر إلى الذهن أنه موضوع بعد عصر عمر بأزمان، كما قلنا عن نص العهدة النبوية، ولكن حاله يختلف عن حالها بما يرجح صحته. فلننظر أولًا في صحة نسبته إلى عمر، ثم في سبب التناقض الظاهر بينه وبين مناقبه.
نسبة هذا العهد إلى عمر
الأرجح في اعتقادنا أن عمر كتب عهدًا لنصارى الشام، إن لم يكن هذا هو بنصه فهو بمعناه على الأقل، وسبب هذا الترجيح:
• أن العهد المذكور وارد في كتب المسلمين بنصه الأصلي بطريق الإسناد، فالطرطوشي وإن كان من أهل القرن السادس للهجرة، فإنه أورد نص العهد بطريق الإسناد إلى الراوي الأصلي، على عادة المؤرخين المحققين في أوائل الإسلام، مما يدل على أنه نقله من كتاب قديم.
• أن «سراج الملوك» الذي أورد نص هذا العهد هو من كتب الأدب والسياسة المهمة، وليس من كتب الفكاهة، ومؤلفة من أكبر علماء الأندلس، صحب أبا الوليد الباجي وأخذ عنه مسائل الخلاف وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب والأدب، وجاء بغداد ومصر وتفقه على أبي بكر الشاشي وعلي أبي أحمد الجرجاني، وأتى الشام وسكنها ودرس بها وكان إمامًا فقيهًا عالمًا زاهدًا ورعًا. وكان مع ذلك متعصبًا على النصارى يرى تحقيرهم، واتفق أنه دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بمصر وبجانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى ثم أنشد:
يا ذا الذي طاعته قربة / وحقه مفترض واجب
إن الذي شرفت من أجله / يزعم هذا أنه كاذب
وأشار إلى النصراني فأقامه الفضل من موضعه(11) ولعل تعصبه هذا حمله على إثبات هذا العهد في كتابه، مع رغبة أكثر الذين سبقوه في إغفاله لما توهموا فيه من المغايرة لمناقب الخلفاء الراشدين. ولا يقال: أن الطرطوشي وضع هذا العهد من عند نفسه؛ لأن من كان في منزلته من الزهد والتقوى ينزه نفسه عن الكذب.
• إن أكثر مواد هذا العهد واردة في كتب الفقه من أحكام أهل الذمة، كما وردت في هذا العهد بمعناها الحرفي تقريبًا(12)
وأكثر هذه الأحكام كتب قبل زمن الطرطوشي. ناهيك بما جاء من ذلك في كتب السياسة والإدارة، وبعضها أشار إلى هذا العهد إشارة صريحة وأورد بعض نصه. فقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي المتوفى سنة ٤٥٠ﻫ (أي: قبل الطرطوشي بخمس وسبعين سنة) بباب الجزية والخراج قوله: «وإذا صولحوا - النصارى - على ضيافة من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، ولا يكلفهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبيت دوابهم من غير شعير، وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن - إلى أن قال - ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب، أما المستحق فستة شروط:
• أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
• أن لا يذكروا رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم بتكذيب له ولا ازدراء.
• أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه.
• أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.
• أن لا يفتنوا مسلمًا عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دمه.
• أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم.
فهذه الستة الحقوق ملتزمة فتلزم بغير شرط، وإنما تشترط إشعارًا لهم وتأكيدًا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم. وأما المستحب فستة أشياء:
• تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار.
• أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية.
• أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم.
• أن لا يجاهروهم بشرب الخمر ولا بإظهار صلبانهم.
• أن يخفوا دفن موتاهم.
• أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقًا وهجانًا إلخ.(13)
فقول الماوردي هذا يكاد يكون نص عهد عمر حرفيًّا بعد الترتيب والتبويب.
فالعهد المذكور كان معروفًا قبل كتاب سراج الملوك. ويؤيد ذلك أن ابن الأثير أشار إليه إشارة تدل على اعترافه بفحواه وبنسبه إلى عمر، كقوله في حوادث سنة ٤٨٤ﻫ: «وأخرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب».(14)
• أن الخلفاء الأولين في القرون الأولى للإسلام كانوا إذا أرادوا تجديد عهود أهل الذمة، ولا سيما النصارى، فرضوا عليهم مثل فحوى هذا العهد من تغيير الزي ونحوه. مما يدل على اتصال هذا العهد بالقرن الأول، وأقدمهم عمر بن عبد العزيز الخليفة التقي المشهور باقتفائه آثار سميه وجده لامه عمر بن الخطاب، وهو أول خليفة أموي أراد رد النصارى إلى ما شرطه عليهم عمر، وكانوا قد أغفلوا أكثر شروطه وخصوصًا من حيث اللباس، وتشبهوا بالمسلمين بلبس العمامة، فأمرهم أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام. وقس على ذلك سائر الخلفاء الذين اضطهدوا النصارى، فإنهم كانوا يرجعون إلى فحوى عهد عمر .
المصادر:
1- تاريخ التمدن الإسلامي الجزء الاول /جرجي زيدان
2- ابن هشام ٤٠ ج٣.
3- فتوح البلدان للبلاذري ٦٠.
4- البلاذري ١٢١.
5- البلاذري ١٣٠.
6- الهلالان ١٥ و١٧ من السنة السابعة.
7- قاموس الإدارة والقضاء (مادة بطركخانة).
8- سراج الملوك ٢٨٣.
9- سراج الملوك ٢٨٦.
10- تاريخ التمدن الإسلامي الجزء الاول /جرجي زيدان.
11- ابن خلكان ٤٧٩ ج١.
12- الهداية ٥٧٤.
13- الماوردي ١٣٨.
14- ابن الأثير ٧٦ ج١٠.