الشاعر أبو فراس الحمداني ومفهوم الانتظار
حسين الخليفة
يشترك المجتمع البشري على صعيد الأفراد والجماعات معاً في مسألة « الانتظار » في المستويات السلوكية والنفسية والمعيشية، تتمحور في مفهوم الأمل ونبذ اليأس، وكعامل باعث للحركة والعمل. وانعكست تلك المسألة في أمثال الشعوب وآدابها منذ القدم، يقول الطغرائي في لامية العجم:
أُعلـلُ النفـسَ بالآمـالِ أرقَبُهـا
ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
وفي الحكم والأمثال: مَن جَدّ وجد، ومَن زرع حصد.
ولكن الانتظار كموضوعة ( تيمة ) دخلت بعمق في صلب النص الأدبي، فشكلت ظاهرة عالمية يتعاطاها الأدباء كموضوعة من موضوعات الأدب العالمي في مختلف الأنواع الأدبية من شعر ومسرح وقصة ورواية.
وتتنوع موضوعة الانتظار توظيفياً ورؤيوياً بتنوّع مذاهب المبدعين ومشاربهم، فقد عقد الباحث الدكتور محمد عبدالله حسين في كتابه « ظاهرة الانتظار في المسرح النثري في مصر حتى عام 1973 » فصلاً قارن فيه بين الانتظار في الفكر المصري، والانتظار في الفكر الأوروبي الغربي من خلال مسرحية « في انتظار جودو » لبيكت، وفي فصل آخر درس تطور الظاهرة في الفكر المصري من خلال إيمان الإنسان المصري بالعقيدة المسيحية التي كانت تتمتع في مصر بخصوصية جعلتها قبطية، ثم نُضْج الظاهرة واكتمالها بعد الفتح الإسلامي لمصر (1).
ولفارس السيف والقلم فراس الحمداني قصيدة جميلة يرجو النجاة فيها متوسلاً بأهل البيت عليهم السّلام، بمحمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وبفاطمة سيدة نساء العالمين، وبالأئمّة الاثني عشر.
وعلى الرغم من قصر حياة أبي فراس النبيلة فقد كانت حافلة ومثيرة، وكان مولد شاعرنا في الموصل ( 320 هـ / 932م ) من أسرة أمراء، قتل أبوه وهو بعد طفل، فنشأ في بلاط سيف الدولة، وحصل على ثقافةٍ حسنة، ودرّبه على أساليب الفروسية، ثم ولاه سيف الدولة على منبج وحرّان، وقد أسره الروم، وطال به الأسر، ثم افتداه سيف الدولة. كان أبو فراس طموحاً أبياً، قُتل في الميدان وهو في السادسة والثلاثين ( 357 هـ / 968م ).
أشهر نظمه في الروميّات، وشعره رقيق، صادق، تمتزج به العاطفة والنزعة الفطرية.
ومن الطريف في القصيدة المكونة من سبعة أبيات أن كل أبياتها مختومة بكلمة « علي » وهي من أدب العقيدة الذي يغني الروح ويضيء الدرب، ولقصرها وظرافتها نوردها كاملة لنرى هذا الفارس، أمير منبج وحمص، كيف يقف متضرعاً راجياً بعاطفة حارة وبإيمان متين قلّ نظيره في بعض المترفين ناهيك عن أبناء الملوك والسلاطين.
لـستُ أرجـو الـنجاة في كلّ ما أخشاهُ إلاّ بأحمدٍ وعليِّ
وبـبنتِ الـرسولِ فـاطمة الطهر وسبطيهِ والإمام عليِّ
والـتقي الـنقي بـاقر عـلم الله فـينا مـحمّد بن عليِّ
وابـنه جـعفر ومـوسى ومولانا عليٍّ أكرمْ به من عليِّ
وأبـي جـعفر سـميِّ رسـولِ الله ثـم ابنهِ الزكيِّ عليِّ
وابـنه الـعسكريِّ والـقائم الـمظهر حقَّي محمدٍ وعليِّ
بهم أرتجي بلوغ الأماني يومَ عرضي على الإله العليِّ (2)
إن شاعرنا يحمل قيم الفارس المسلم المؤمن، نرى في شعره الحماسي الثائر والصادق أثر ثقافته وصدى المبادئ التي استقاها من منبع الثقلين: كتاب الله والعترة، وصية رسول الله صلّى الله عليه وآله وخلفه في أمّته. وهي الوصية التي تناقلها محدّثو الأمّة من الفريقين، وقد خطب بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم حجّة الوداع بعرفة في مئة ألف من الصحابة أو يزيدون، قال جابر: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجّة الوداع يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: « إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي آل بيتي ».
وقال ابن أرقم: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يَرِدا علَيّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».
رواه جماعة من الصحابة: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وجابر ابن عبدالله، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخُدْري، وحُذَيفة بن اليمان. أخرجه عنهم: الترمذي في السنن، وأحمد ـ قال الهيثمي: وإسناده جيد ـ، والبزاز في مسنديهما، والطبراني في معجميه الكبير والأوسط (3). يقول أبو فراس في رائيته الشهيرة:
هو الموت فاخترْ ما علا اليومَ ذِكرُه
فلم يمت الإنسـان ما حَيِـيَ الذكـرُ
ولا خير في دفـع الـردى بمذلّـةٍ
كما ردّها يوماً بسـوأتِهِ عَمْـرُو (4)
ولقوة ثقافته الدينية يستدل شاعرنا بسيرة أهل البيت عليهم السّلام، بسيرة علي الكرار، فيستحضر الحادثة المعروفة ويأبى إلاّ أن يستصحب طريقة أمير المؤمنين عليه السّلام متأسياً به في الوقوع على الموت، ويترك خيار الذلة لأشباه الرجال حسب تعبير أمير المؤمنين في خطبة الجهاد في نهج البلاغة.
ونلمح أيضاً في قوله « ولا خير في دفع الردى بمذلة » صدى صوت سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه السّلام الذي دوّى في أثير الدهر بكلمته الخالدة: « هيهات منّا الذلة »، وبقوله عليه السّلام: « والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد » (5).
ويستمر في القصيدة نفسها ليتحدث بضمير الجمع؛ لأنه يتحدث عن نموذج إيماني وهو أحد أفراد هذا النموذج، فيقول:
ونـحن أنـاسٌ لا تـوسّطَ عـندنـا
لـنا الصدر دون العالمين أو القبـرُ
تـهونُ عـلينا في المعالي نفوسُنـا
ومَن خطبَ الحسناءَ لم يغلها المهـرُ
أعـزُّ بني الدنيا وأعلى بني العـلا
وأكرمُ مَنْ فوق الترابِ ولا فخر (6)
إن نص أبي فراس بالرغم من سهولته وبساطته، يعج بالمرجعية الدينية والتراثية والتاريخية، فمن مصادره الدينية الحديث النبوي الشريف الذي بات واضحاً في قصيدته « العلوية » التي تقدم ذكرها، ومن مصادره التاريخية تسجيل حادثة المبارزة التي وقعت بين علي عليه السّلام وعمرو بن العاص، حتّى ذهب بيته مثلاً يضرب، وفي قوله: « أعزُّ بني الدنيا وأعلى بني العلا » نستحضر المرجعية القرآنية للنص وذلك في قوله تعالى يخاطب المؤمنين ولا تَهِنوا ولا تَحزنوا وأنتمُ الأعلَون إن كنتم مؤمنين (7)، وفي قوله تعالى: فلا تَهِنوا وتَدْعوا إلى السَّلْمِ وأنتم الأعلَون واللهُ معكم (8).
ولعلّ تمتع نص أبي فراس بمرجعية تمثل ثقافة الأمّة مع نكهة خاصة وصدق عاطفة وسلاسة ووضوح، هو الذي جعل شعره متداولاً بين الخاصة والعامة موفقاً في ردم الهوة الواسعة بين الجمهور والنخبة، تلك الثنائية التي كانت وما زالت محل جدل وخلاف في الدرس الأدبي والنقدي وفي قاعات الأمسيات والندوات.
وتتداخل المرجعية الثقافية في القصيدة الواحدة عند شاعرنا، وأحياناً في البيت الواحد، ففي قصيدته « العلوية » يرجو « بلوغ الأماني » كما قال في البيت الأخير منتظراً تحقق هذا الرجاء الدنيوي في ظهور « القائم » المهدي المنتظر ليقيم العدل في أرجاء المعمورة، والرجاء الأخروي الذي عبّر عنه بـ « يوم عرضي على الإله العليٍّ » ليفوز الفوز العظيم في دخوله جنة الخلد.
وفي رائيته يستحضر صورة الحسناء وخطبتها في مقابل حضور الموت، وهي ثنائية ضدية نافرة ظاهرياً في تجسيدها قمة الفرح وقمة المأساة: « ومَن خَطَب الحسناء / أو القبر » ولكن الدلالة النصيّة السياقية تتجاوز الإحالة المعجمية الظاهرية، فتحوّل الموت إلى لذة وجمال وسعادة؛ لأنه موت عز وشهادة تدفع الذل وتأباه في الدنيا، وسعادة خاتمة في جنات الآخرة.
وفي هذه الثنائية الضدية التي جسدها أبو فراس لينقل لنا المعنى المراد، والعاطفة الجياشة معاً، نستشعر حضور الحسين عليه السّلام في قوله: « إني لا أرى الموت إلاّ سعادة ولا أرى العيش مع الظالمين إلاّ برما »، وفي قوله عليه السّلام: « خُطّ الموت على وُلْد آدم مَخطَّ القلادة على جِيد الفتاة ». نلاحظ اقتران الموت عند أبي فراس بـ « الحسناء والمهر » وعند الإمام الحسين عليه السّلام بـ « القلادة وجيد الفتاة »، وهو اقتران يدل على الشعور بالبهجة والسعادة لا بكل موت مطلقاً ـ كما تقدم ـ بل بموت الشهادة وذكر ولد آدم « خط الموت على ولد آدم » لا يدل سياقياً على عموم الموت، وإنما يستفاد منه لمح إنسانية الإنسان في ولد آدم الذين ينبغي أن يكونوا بمستوى إنسانيتهم في فعلهم في الحياة، وفي اختيارهم الطريقة المشرفة المتناغمة مع حريتهم وإنسانيتهم؛ لملاقاة وجه الله تعالى، فمنهم مَن قضى نَحْبَه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلا (9)، لا أن ينزلوا عن مستوى إنسانيتهم فيكونوا كما قال تعالى: إنْ هم إلاّ كالأنعام بل هُم أضلُّ سبيلا (10).
إن حَسَنة النص الذي يستخدم تقنية التوظيف، تكمن في إحالته إلى مرجعياته الموظفة في النص، فتتأسس علاقة تخادم بين النص الأدبي المستحضِر وبين النصوص الثقافية المستحضَرة بمختلف أشكالها، فقد كان نص أبي فراس، باعتبار مبدعه أحد أبناء الأمّة، قارئاً نص الإمام الحسين عليه السّلا من خلال كلماته الخالدة، كما أن كلمات الإمام الحسين عليه السّلام شكلت مفتاحاً ثقافياً ومرجعياً وفنياً أيضاً لقراءة نص أبي فراس قراءة تحليلية استحضرت الفكر والعاطفة معاً، ولإضاءة جماليته البلاغية بصورة مشرقة.
هكذا كان فعل أبي فراس في الحياة، وهكذا كان انتظاره الموت المشرف، إنه ذلك الأمير المجاهد المؤمن الذي لم ينسَ عقيدته ووصية نبيه ونبينا الكريم بالتمسك بالثقلين: الكتاب والعترة الطاهرة، فظل يجاهد بالسيف، وفي الوقت نفسه يرجو الله تعالى متوسلاً بأهل البيت من محمد وعلي وفاطمة حتّى قائم آل محمد الذي ينتظره بلهفة لِيُظهِر « حقَّي محمدٍ وعليِّ » كما يقول في قصيدته، وليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
إن استحضار الحمدانيين أمراء دولة الثغور وعلى رأسهم أبو فراس المجاهد المؤمن بانتظار الإمام، الانتظار الإيجابي يحسم الأمر تاريخياً؛ لأن هذه الدولة عاصرت الغيبتين: الصغرى والكبرى، وعاصرت النيابتين: الخاصة والعامة، وفارسها وأميرها الشاعر الذي يشهد شعره بولائه لأهل البيت عليهم السّلام، ويشهد تاريخه بتحمله أعباء الجهاد في دولة الثغور، وآلام الأسر في سجون الروم الأعداء ـ هذه الدولة التي لامست عصر التشريع في النيابة الخاصة وقاربته في الغيبة الكبرى في النيابة العامة، ما ينم عن ارتكاز مفهوم الانتظار الإيجابي العملي في وعيها الملتصق بالمفهوم الإسلامي كتاباً وسنّة وعترة وسيرة.
إن في أدبنا كنوزاً من الشعر الرصين الملتزم سطّرته مشاعر العظماء من رجالنا وأعلامنا الذين انفعلوا بأهل البيت عليهم السّلام وتأسَّوا بهم، ولنا في قراءة سيرهم وآدابهم غاية الانتفاع.
----------------------
1 ـ ظاهرة الانتظار في المسرح النثري، د. محمد عبدالله حسين، ص 8، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
2 ـ ديوان أبي فراس، رواية أبي عبدالله الحسين بن خالويه، ص 313، دار صادر، بيروت.
3 ـ أعلام هجر، لهاشم الشخص، المقدمة للدكتور عبدالهادي الفضلي، ص 18، ج 1، ط 1، 1410هـ، مؤسسة البلاغ، بيروت، نقلاً عن كتاب « معجم فقه السلف عترة وصحابة وتابعين » للشيخ محمد المنتصر الكتاني.
4 ـ أعلام هجر ص 160.
5 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، ص 378، ط 1399هـ، دار التعارف، بيروت.
6 ـ إعلام الورى ص 161.
7 ـ سورة آل عمران:139.
8 ـ سورة محمد:35.
9 ـ سورة الأحزاب:33.
10 ـ سورة الفرقان:44.
نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام