المرحوم الشيخ سليمان اليحفوفي
قال الإمام علي (عليه السلام) في الخطبة ١٨٥: ((وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء)).
نسج الإمام (عليه السلام) عدالته وساوى في الحقوق والواجبات بين الأقوياء والضعفاء، استناداً إلى مبدأ التساوي في الخلق، والتفاضل في التقوى. فالمنشأ واحد يتساوى فيه الجميع، والمصير كذلك.
وقد ركز اهتمامه على أربع نقاط:
أولاً: عالج الأسباب الداعية للاعتداء.
ثانياً: استثار النفوس لتحريك مواطن الخير فيها لتحافظ على الحقوق تلقائياً.
ثالثاً: رسم خطة وأسلوب عمل لاعادة الحقوق لأصحابها حال الاعتداء عليها.
رابعاً: باشر شخصياً تطبيق الأسلوب وتنفيذ الخطة.
النقطة الأولى: الأسباب الداعية للاعتداء على الحقوق
خُلِقَ الإنسان ضعيفاً. والضعيف مركبٌ ناقص يحاول أن يسدّ النقص فيه، فيسعى للكمال فيعجزه القصد، لأن منازل الكمال بعيد ودربه شاق، فيمتلئ الناقص حقداً، ويأكل الحقد نفسه، فينتصب عدواً لكل معاني السموّ في الحياة.
إذا رأى صفة كمال تشعّ من نفس مستضعفة، ثارت عصبيته، وهاجت حميته، وتفجّر كبرياؤه، فلبس الحمية، وتسربل العصبية، وادّرع الكبرياء. كبرياء، عصبية، وحمية! تلك بذور اعتداء القوي على حقوق الضعيف.
قال (عليه السلام):
((فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبَدَ الله ستة آلاف سنة، لا يُدْرى أمن سنيّ الدنيا أو من سنيّ الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته..فاحذروا عباد الله عدوّ الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه.)). [الخطبة ١٩٢/ السطر ١٠]
فوضع (عليه السلام) يده على الداء، وأحكم له الدواء لتغنّي النفوس نشيد الحرية والأخاء على مسرح العدالة والمساواة، ويصبح دستوراً مقدّساً في الحياة، تردّده الأجيال أبدَ الآباد.
النقطة الثانية: استثارة النفوس للمحافظة تلقائياً على حقوق الآخرين
يرسم الإمام (عليه السلام) النقطة الثانية جنب رفيقتها داخل الإطار فيُبدع التصوير:
((فأطفئوا ما كَمَن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته، ونزغاته، ونفثاته. واعتمدوا وضع التذلّل على رؤوسكم، وإلقاء التعزّز تحت أقدامكم، وخلع التكبّر من أعناقكم)).
فإطفاء نيران العصبية وأحقاد الجاهلية تقتل نوازع الشيطان، وتحمي المرء من الوقوع في حبائله، لأن المتكبّر تهوي به خصاله في وادٍ سحيق من الذلّة والمهانة كما يصوره (عليه السلام):
((لا تكونوا كالمتكبّر على ابنِ أمه من غير ما فضل جعله الله فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقَدَحتِ الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفسه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة)).
فالتكبّر يثير فالتكبّر يثير روح الحقد والحسد والبغضاء، ويبعث حمية الانتقام من الفضائل بإفناء شخص حاملها. المتواضع يستر ضعفه، ويسدّ نقصه، بالتماس القوة والمعونة من مالكهما، فيذلّ له نفسه، ويتواضع طلباً للقوة والكمال.
والمتكبّر يتكبّر ويتجبّر وينازع مالكهما سلطانه ليسدّ نقصه وضعفه، فيهوي في حنادس الليل البهيم، وظلام الجهل المقيت:
((فالله الله! في كبر الحمية وفخر الجاهلية، فإنه ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية)).
((ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبّروا على حَسَبهم، وترفّعوا فوق نَسَبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه، فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة...)).
((فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومُثُلاته..)).
فالمستكبرون نازعوا عن سلطانه، وألقوا الهجينة عليه، وراموا سد خللهم وستر نقصهم بالمجاحدة والمكابرة، فأذاقهم لباس الذلّة والخوف، ورمى بهم في عذاب شديد.
((فلو رخّص الله في الكبر لأحد من عباده، لرخّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه، ولكنه سبحانه كرّه إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوماً مستضعفين)).
فبلغوا باستضعافهم غاية القوة، وأسمى الرفعة، فهم يستمدّون قوتهم من نبعٍ فياض، وتزداد قوة الأنبياء والأولياء كلما ازدادوا استضعافاً وخشوعاً وتذلّلاً.
((ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذِّهبان، ومعادن العقبان، ومغارس الجنان.. لفعل. ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء)).
((ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى)).
فلو كانت المقاييس كلها بالمكاييل لاضمحلت القيمّ وتبدّلت المفاهيم، وانقلب الإنسان منكوساً، وفقدت الأسماء معانيها، والمسميات مدلولاتها، ولغدا الارتباط مادياً محضاً محضاً مصدره الرهبة وغايته الرغبة. وأما القيم الروحية التي تغذي النفس بلذة التأمل وخشوع الاستسلام وراحة الاستكانة لله، فلا رابط لها بل لا وجود لانعدام معاييرها المادية.
ولكن الروابط الروحية أمتن من الروابط المادية، وعلاقة الروح بمبدئها لا تنفصم، وخطوط إمدادها وتغذيتها لا تنقطع، ولو تقطّعت جميع العلائق المادية والارتباطات الأرضية، فروابط الأنبياء والأولياء هي العزائم والأرواح لا النفائس والأشباح.
((لو كان الأنبياء أهل قوة لا ترام، وعزة لا تضام، وملك تمدُّ نحوه أعناق الرجال، وتشدّ إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة، والحسنات مقتسمة)).
وهذه الروابط المادية تتقطع بانقطاع مصدرها، وتزول بزوال مادتها.
وأمّا العلاقات التي لا تنفصم فهي العلاقات الوثيقة المبنية على الضعف المطلق من جانب، والقوة المطلقة في الجانب الآخر، والحاجة المستمرة في جهة، والعطاء المتواصل في الجهة الثانية.
((ولكنّ الله سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، والتصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصة، لا تشوبها من غيرها شائبة، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل)).
مناجاة نفس تجعلها تذوب شوقاً.
تحدثت الحلقة الأولى عن النقطتَين الأولى والثانية من هذا البحث، وكانتا عن تفسير الإمام عليه السلام للأسباب الداعية لاعتداء الناس على الحقوق عامة، وعن استثارته عليه السلام للنفوس لتحافظ على حقوق الآخرين، ولتمتنع من التعدي عليها..
وتتناول هذه الحلقة النقطتَين الأخيرتَين من البحث.
النقطة الثالثة: خطة العمل لاعادة الحقوق لأصحابه
تبتني خطة عمل الإمام عليه السلام على أربعة أمور وهي: مقدمتان ونتيجة وأسلوب.
المقدمة الأولى: تساوي الناس في الخلق
((أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً.. ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء.. فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول.. ثم نفخ فيها من روحه فمثُلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وفِكَرٍ يتصرّف بها.. ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل.. وأهبطه إلى دار البلية، وتناسل الذريّة)).
فمبدأ الخلق كان بالمخلوق الأول صاحب الذهن والفكر والمعرفة التي يفرق بها بين الحق والباطل، فيصدر أوامره للجوارح، فتمتثل أمرَه ذاهبة إلى ما يريد، وعلى هذا المنوال تكاثرت البشرية وتعاقبت لتستكمل تحقيق خلافتها على الأرض. وبدأ الانحراف في النفوس المريضة:
ف((اصطفى سبحانه من ولده أنبياء على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لّما بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه.. فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته..)).
فالمبعوثون متساوون مع المبعوث إليهم في الحقوق والواجبات، ولكنّهم أشدّ عزيمة، وأقوى مضاء في المحافظة على الحق والميثاق.
المقدمة الثانية: تساوي الناس في الحق
فالحقوق متبادلة بين الله والناس وبينهم بعضهم بعضاً، يقول عليه السلام في الحقوق بين الله والناس:
((أوصيكم بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله بحقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله)).
أما الحقوق المتبادلة بين الناس بعضهم بعضاً فهي من أعظم الحرمات التي تجب رعايتها، لأنها حياة المجتمع وبقاؤه ودوامه.
يقول عليه السلام:
((ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض)) .
فالحقوق بين الناس متساوية متبادلة، لا يحفظ حق إلاّ واجب، ولا يؤدى واجب إلاّ باعطاء حق، ((ومن قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبده))، لخروجه على نظام تكافؤ الحقوق وتساويها.
((فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له)).
وأعظم الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي.
((فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها عزّ الحق بينهم.. واعتدلت معالم العدل..)).
فتبادل الحقوق المتساوية حياة المجتمع ودوام الأمّة، وازدهار الدولة.
بينما ((إذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور.. وكثرت علل النفوس، فلا يُستَوحَشُ لعظيمِ حقًّ عُطَّل، ولا لعظيمِ باطلٍ فُعِل! فهنالك تذلّ الأبرار وتعزّ الأشرار)).
النتيجة: وجوب المحافظة على جميع الحقوق لَما كانت الحقوق متساوية فلا يجري لأحد حقّ، إلاّ جرى عليه حق، وكذلك فلا يجري عليه حق إلاّ جرى له حق. فالاحتفاظ بعدالة الحياة وحياة العدل، هي التقابل بين الحق والحق والتبادل بينهما، قال: ((ولكن من واجب حقوق الله على عباده، النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ.. بفوق أن يعان على ما حَّمله الله من حقه)).
الأسلوب: أمّا أسلوب استنقاذ الحقوق لأصحابها من مغتصبيها، فيتدرج من مرحلة معالجة أسباب الاعتداء، إلى علاج الأنفس، وإثارة منابع الخير فيها، لتغلب إرادتها دواعي الشرّ، ومع عدم جدوى ذلك فلا بد من حسم الأمر بالأسلوب نفسه الذي سبّب الاعتداء على حق الآخرين.
فالظالم إنما ظلم بفضل قوّته على المظلوم، جاعلاً منها معياراً يفرق فيه بين الحق والباطل، فما استطاعه حق، وما عجز عنه باطل، ولن يتنازل عن ظلمه طالما يجد لاستمساكه سبيلاً.
فاستنقاذ الحق منه في مثل حاله من أصعب الأمور مشقةً وأشدّها خطورةً، إذ لن يتراجع عن اعتدائه إلاّ بقوة أعظم ترغمه على ذلك، وهنا يقع التصادم وتسال دماء.
قال عليه السلام:
((إن أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهُم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استُعِتب، فإن أبى قوتِل)).
فالقوة كما تُعتمد للاعتداء تسخّر لدفعه، لأن الشاغب يُسْتَعْتَب والسيف يلمع فوق رأسه، فإن أبي فضربة تعيد الحق لنصابه، وتردّ الظالم لصوابه.
((وأيْم الله لأنصفَنَّ المظلومَ من ظالمه، ولأقودنَّ الظالمَ بِخِزامته، حتى أورده مَنهَل الحق وإن كان كارهاً)).
((فالذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه)). ((وأيْم الله لأبقُرنَّ الباطلِ حتى أخرجَ الحقَ من خاصرته، ثم أتتبّعه حتى أعيده كما كان)).
خطة صارمة عادلة لا يمكن أن تعدّل الموازين، إلاّ طعنة تبقر بطن الباطل لتُخرج الحق من رهانه
فالحق لن يستعاد بالأماني والدعوات طالما صمَّت آذان الظالمين، وإنما السيف هو الحكم العدل في إمارة المفسدين. ((فإن أبَوا أعطيتُهم حدّ السيف، وكفى به شافياً من الباطل، وناصراً للحق)).
وإن تكالبت الأكلة على الحق، فلن تجد شافياً إلاّ مسح السوق والأعناق.
((أضربُ بالمقبل إلى الحق المدبِرَ عنه، وبالسامِع المطيعِ العاصي المريبَ أبداً حتى يأتي علىَّ يومي)).
النقطة الرابعة: ممارسة الأسلوب
((والله لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّداً، أو أجرَّ في الأغلال مصفّداً، أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، أو غاصباً لشيء من الحطام)).
تنبع ممارسة الأسلوب من إيمان عميق في النفس، وشعورٍ حاضر باستمرار، وينتصب عماد الحق معتمداً على أركانه الثلاث: إيمان وعمل والتزام.
((والله ما أحثّكم على طاعة إلاّ وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصيةٍ ألاّ وأتناهى قبلكم عنها)).
ويغدو نظام الحياة يحبك بالمنوال نفسه، ويصبح القائدُ العاملَ والقدوةَ، فيتساقط العاملون دون عمله، ويقصّر المقتدون عن اللحاق به.
((ألا وإن لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه..))
وترتسم الخطى أسلوباً يضيء معالم الطريق، وكان عهدنا أن الاسلوب طريقٌ يهدي معالم الحق.
لقد أصبحت الخطى مناراً يضيء طريق الحق إذا درست معالمه، وأصبح كل واحد منهما يدلّ على صاحبه: ف((عليٌّ مع الحق، والحق مع عليّ، يدور معه حيث دار)).
فمتى افتقدنا واحدا اهتدينا إليه بالآخر، فهما جسد وروح في عالم الأحياء لا يفترقان.
((هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة... ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشّبَع)).
من بحث للمرحوم الشيخ سليمان يحفوفي نشر في كتاب : (نهج البلاغة نبراس السياسة ومنهل التربية) ـ بتصرّف