قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «مَنْ زارني بعد موتي كمَنْ زارني في حياتي» (1) ، و «مَنْ حجّ ولم يزرني فقد جفاني» (2).
والمشهور المؤكّد عند أهل البيت الأطهار عليهمالسلام أنّ الإمام علياً وفاطمة الزهراء والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) كانوا لا ينقطعون ، ولا حتّى يوماً واحداً ، عن زيارة قبر رسول الله صلىاللهعليهوآله. فهذه كتب التاريخ تذكر مدى حزن وبكاء فاطمة الزهراء على أبيها ، وأنّ أهل المدينة ضجّوا من كثرة بكائها عليه حتّى اشتكوها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فبنى لها بيتاً خارج المدينة تبكي فيه سمّوه (بيت الأحزان) ، وهو من المشاهد التي هدمها أصحاب التكفير في السنوات الأخيرة.
حتى إنّها في خطبتها الفدكية وفي مسجد أبيها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، التفت في نهايتها إلى القبر الشريف ، ونادت برفيع صوتها ورنت حزنها ، وهي تحتجّ على القوم ببيان صحيح ، كأنّما رسول الله كان يتكلّم.
فمما قالت : «أيّها الناس ، اعلموا أنّي فاطمة ، وأبي محمد صلىاللهعليهوآله ، أقول عوداً وبدءاً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً».
إلى أن قالت : «أتقولون مات محمد صلىاللهعليهوآله؟ فخطب جليل استوسع خرقه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكُسفت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأُضيع الحريم ، وأُزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك ـ والله ـ النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة» (3).
إلى أن قالت شعراً :
قد كانَ بعدكَ أنباءٌ وهنبثة
لو كنتَ شاهدها لم تكثرِ الخطبُ
إنّا فقدناكَ فَقْدَ الأرضِ وابلها
واختلَّ قومُكَ فاشهدهم وقد نكبوا
وكلّ أهلٍ لهُ قُربى ومنزلة
عندَ الإلهِ على الأدنينِ مقتربُ
أبدتْ رجالٌ لنا نجوى صدورهمُ
لمّا مضيتَ وحالت دونَكَ التّربُ
تجهمّتنا رجالٌ واستُخِفَّ بنا
لمّا فُقِدتَ وكلُّ الإرثِ مغتصَبُ
وكنتَ بدراً ونوراً يُستضاءُ به
عليكَ تنزلُ من ذي العزّةِ الكتبُ
وكانَ جبريلُ بالآياتِ يؤنسنا
فقد فُقِدتَ فكلُّ الخيرِ محتجَبُ
فليتَ قبلكَ كان الموتُ صادفنا
لمّا مضيتَ وحالت دونَكَ الكثبُ
إنّا رُزينا بما لم يُرْزَ ذو شجن
من البريّةِ لا عجمٌ ولا عربُ (4)
ألم يكن هذا رثاء من سيّدة النساء لأبيها (صلوات الله عليهم)؟ لماذا لم يستنكر عليها المستنكرون يومها ، أم أنّ هؤلاء الوهابيّة أعلم منها ومن الصحابة الذين سمعوها بالكتاب والسنة ـ والعياذ بالله ـ؟!
وهذا شأن الإمام علي عليهالسلام قبل فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، فإنّ قبر أخيه وحبيبه رسول الله صلىاللهعليهوآله كان ملاذه دائماً وأبداً ، لا سيما حينما قادوه كُرهاً للبيعة ، وبعد أن هدّدوه بضرب العنق إذا لم يبايع ، فقال عليهالسلام : «أتقتلون عبد الله وأخا رسوله؟!».
فقال عمر : [أمّا] عبد الله نعم ، وأمّا أخو رسوله فلا علم لنا بذلك. بايع وإلاّ ضربت عنقك. فلاذ بقبر رسول الله صلىاللهعليهوآله ضاجّاً باكياً إلى الله ، يبثّ شكواه إلى أخيه وابن عمّه رسول الله صلىاللهعليهوآله ممّا لاقاه من جفاء وجفاف وغلظة أخلاق القوم ، والقصّة مشهورة ومعروفة.
لا ، بل عندما لحُدت سيدتنا فاطمة الزهراء عليهاالسلام في قبرها الشريف ليلاً توجّه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله قائلاً : «السّلام عليك يا رسول الله ، عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقَّ عنها تجلّدي ، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تَعَزٍّ ، فلقد وسّدتُك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
لقد استُرجِعَت الوديعة ، وأُخذت الرهينة. أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر أُمَّتك على هضمها حقّها ؛ فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال. هذا ولم يَطُل العهد ولم يخلُ منك الذكر.
والسّلام عليكما سلام مودِّعٍ ، لا قالٍ ولا سئمٍ ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أُقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين» (5).
وكان يقول شعراً كذلك :
أرى عللَ الدنيا عليَّ كثيرة
وصاحبها حتّى المماتِ عليلُ
لكلّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقة
وإنّ بقائي عندكم لقليلُ
وإنّ افتقادي فاطمٍ بعدَ أحمدٍ
دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ (6)
أليس هذا بكاءً وتوجّعاً ، وعويلاً ورثاءً؟ قل لي بربّك أيّها القارئ المنصف ، هل تعمل بسنّة وسيرة علي بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) ، أم تعمل بأقوال خوارج العصور المتأخّرة كابن تيميّة ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما؟!
وقصّة الحسين بن علي عليهالسلام والتجاؤه إلى قبر جدّه الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآله ووداعه ممّا تقدّم في الفصل الأوّل من الكتاب ، فهل تحتاج إلى دلائل على مشروعية زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوآله وبقيّة القبور ، لا سيما أئمّة المسلمين والعباد الصالحين؟!
هذا وقد نُقل عن الصحابة بطرق عديدة أنّ الصحابة كانوا يلجؤون إلى قبر النبي صلىاللهعليهوآله يندبونه في الاستسقاء ، ومواقع الشدائد وسائر الأمراض (7).
ولا يخفى أنّ وفاة المتوسَّل به لا تنافي التوسّل أصلاً ؛ فإنّ مكانته عند الله لا تزول بالموت كما هو واضح ، هذا مع أنّهم في الحقيقة أحياء كما ذكر الله عزّ وجلّ في حال الشهداء ، فالأنبياء والأولياء (وهم شهداء على كلّ حال) أحقّ بذلك.
والأرواح لا تفنى بالموت ، والعبرة بها لا بالأجساد الفانية ، وإن كانت أجساد الأنبياء عليهمالسلام لا تبلى كما نُصّ عليه في الأخبار (8).
وفي الرواية أنّ الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم عرفوه وردّوا عليهالسلام (9).
وينقلون عن السيد المسيح أنّ روح الله عيسى لمّا دفن مريم العذراء قال : السّلام عليك يا أُمّاه ، فأجابته من جوف القبر : وعليك السّلام حبيبي وقرّة عيني (10).
وهناك قصّة نبيّ الله (حيقوق) أو (حبقوق) الإسرائيلي الذي وجدوه كما هو في قبره منذ سنوات ، وكانت المخابرات الإسرائيلية تعمل على سرقته.
وكذلك قصص الحرّ الرياحي والشيخ المفيد ، وغيرهم كثير ممّن لم تبلَ أجسادهم ، ولدينا قول يجري كالمثل : السعيد من يحفظ لاشته من أن تأكله الأرض ، والمداومة على غُسل الجمعة يفيد في ذلك كما تؤكّد الروايات ، أمّا ابن عبد الوهاب يقول : الشيعة إذا ماتوا تحوّلوا إلى قردة وخنازير ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
المصادر :
1- منتخب كنز العمال ـ هامش مسند أحمد 2 ص 392.
2- العوالم 2 ص 673.
3- العوالم 2 ص 673.
4- فاطمة الزهراء عليهاالسلام من المهد إلى اللّحد ص 502.
5- موسوعة البحار 43 ص 183.
6- موسوعة البحار 43 ص 183.
7- وفاء الوفاء 4 ص 1372.
8- سنن ابن ماجة 1 ص 524.
9- وفاء الوفاء 4 ص 1351.
10- الوهابيّة ـ للبلاغي ص 47.