انحناءً وتقديساً وتعظيماً أمام زهراء الرسول صلى الله عليه وآله التي احتلت عواطف أبيها وإخلاصه ، فكان يقيم لها أعظم الود وخالص الولاء ، فأضفى عليها ألواناً رائعة ، ومهمة جداً من القداسة والتعظيم ، فأناط رضاءها برضائه ، وسخطها بسخطه ... وأن الله تعالى يرضى لرضائها ، ويسخط لسخطها ـ حسبما تواترت الأخبار عنه بذلك ـ . ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قابل أحداً من أهل بيته وأصحابه بمثل هذا التعظيم ، والتكريم سوى أخيه وابن عمه الإمام أمير المؤمنين وسبطيه عليهم السلام .
إن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام هي أول سيدة في دنيا الإسلام رفعت بصلابة وعزم وإيمان كلمة الحق ، وجاهدت في سبيل الله تعالى ، كأعظم ما يكون الجهاد ، فقد قاومت بشدة وعنف قادة الانقلاب الذين احتلوا مركز زوجها سيد الأوصياء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام واقصوه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأخذ له البيعة العامة في غدير خم ، فقد أعلنت سلام الله عليها سخطها البالغ على القوم ، وجردت حكمهم من الشرعية وذلك بخطابها الرائع الذي ألقته في جامع أبيها ، ولم يؤثر في ميادين المناظرات والاحتجاجات مثل خطابها الذي وضعت فيه النقاط على الحروف ، وحذرتهم من المضاعفات السيئة التي ستواجهها الأمة من جراء ما اقترفوه ، كما اتخذت معهم أدق موقف وأعمق أسلوب ، وذلك في وصيتها للإمام عليه السلام حينما أشرفت على لقاء الله تعالى ، فقد أوصته بأن لا يحضر تشييع جنازتها المقدسة أحد من الذين ظلموها وهضموها ـ على حد تعبيرها ـ وان يواري جسدها الطاهر في غلس الليل البهيم ، ويعفي موضع قبرها ليكون شاهداً على نقمتها عليهم في جميع الأحقاب والآباد .
وعلى أي حال فالسيدة الملهمة العظيمة بضعة الرسول صلى الله عليه وآله هي التي أقامت مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وأسست بنيانه مع أبيها وزوجها ، فسلام الله عليها فما أعظم عائدتها على الإسلام والمسلمين .
من هنا فاننا بحاجة الي دراسة متاملة وقراءة متأنية تلم بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب اعيننا فنستجلي مواطن العبرة فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطي مع دلالتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات علی كافة مستويات الفكر والمنهج والسلوك. ولعل في تنوع ادوار تلك السيرة بحسب طبيعة المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومين عليهم السلام مايزيل الرتابة منها ويجعلعا تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدف اسمي وهم مشترك ، وذلك هوحفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفي صلى الله عليه و اله، وطلب الاصلاح والهداية ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن البحث في سيرة الائمة المعصومين عليهم السلام باعتبارهم قادة رساليين وقدوة حسنة تتمثل بهم خصائص العظمة والاستقامة ، يعكس دورهم الايجابي في تحريك طاقات الأمة باتجاه الوعي الرسالي للشريعة ، وتعميق حركة الاسلام الاصيل في وجدانها ، وحماية الرسالة من حالة التردي بالوقوف في وجه التيارات الفكرية المنحرفة.
ويقابل ذلك البحث في سيرة الزماعات المعاصرة لهم التي نقرأ فيها الوجه المشوه للرسالة علی المستوي النظري والتطبيقي ، علي الرغم من تباهي أصحاب السلطة والصولجان في كتابه تاريخهم وإغداقهم أسخی الهبات علی كتابهم وشعرائهم.
من هنا كان نصيب السيرة الأولي الخلود والسمو والمجد رغم إقصاء رموزها المعصومين عليهم السلام عن مركزهم في زعامة الامة ، ورغم كونهم ملاحقين ومعزولين عن قواعدهم وشهداء في نهاية المطاف ، وكان نصيبهم أيضا أن تمسكت بهم غالبية الأمة ومنحتهم كل مظاهر التبجيل والثناء والود والثقة ، لا لأنهم من أبناء الرسول صلى الله عليه و اله لأن المنتسبين إليه كثيرون ، بل لما تستشعره الأمة من سيرتهم الغنية بالعطاء و دورهم المشرق فى كل اتجاه ذلك لان الأمة لاتمنح ثقتها وحبها اعتباطا ، يقول الامام الكاظم عليه السلام لهارون الرشيد : ((أنا إمام القلوب وانت امام الجسوم.)) (1)
والزهراء قدوة لكل امرأة مسلمة ادباً وحكمة وتواضعاً . عاشت على سمو قدرها وشرف منبتها عيشة ضنك . جرّت بالرحى حتى اثر في يدها ، واستقت بالقربة حتى أَثَّر فى نحرها ، وكنست البيت بيدها ، كانت مثالاً وقدوة في التواضع والامانة الزوجية والوفاء .
هي ام الحسن والحسين المحفوفة بالشرف وزوجة انبل الناس بعد الرسول العظيم ، زوجة علي بن ابي طالب اسد الاسلام وقدّيسة لم يتزوج عليها الامام علي حتى توفيت . كانت مثالاً للشرف ومكارم الاخلاق . لما توفي ابوها عليه اشرف السلام رثته قائلة :
اِغبرّ آفاقُ السماءِ وكوّرت *** شمسُ النهارِ وأظلم العصرانِ
فَالأرضُ مِن بعدِ النبيّ كئيبةٌ *** أَسفاً عليه كثيرةُ الرجفانِ
فَلَيبكهِ شرقُ البلادِ وغربُها *** وَليَبكهِ مضرٌ وكلّ يَماني
وَلَيبكهِ الطور المعظّمُ جوّهُ ***وَالبيتُ ذو الأستارِ والأركانِ
يا خاتم الرّسلِ المبارك ضوؤه ***صلّى عليكَ منزّل الفرقانِ
نَفسي فداؤكَ ما لرأسكَ مائلا ***ما وسّدوك وسادة الوسنانِ
ولما وقفت على قبر النبي قالت بعد ان اخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينيها وبكت ، قالت :
قُل للمغيّب تحتَ أَطباقِ الثّرى *** إِن كنتَ تسمعُ صَرخَتي وَنِدائِيا
صبّت عَليّ مَصائبٌ لو أنّها *** صُبّت عَلى الأيّام صِرنَ لياليا
قَد كنتُ ذاتَ حِمى بظلٍّ محمّدٍ *** لا أَخشَ مِن ضيمٍ وكان جماليا
فَاليومَ أَخشعُ لِلذليلِ وأَتّقي *** ضَيمي وَأَدفع ظالِمي بِرِدائيا
فَإِذا بَكَت قمريّة في ليلها *** شَجناً عَلى غصنٍ بكيتُ صباحِيا
فَلأجعلنّ الحزنَ بَعدكَ مُؤنسي *** وَلأجعلنّ الدمعَ فيك وِشاحيا
ماذا عَلى مَن شمّ تُربة أحمدٍ *** أَن لا يشمّ مَدى الزمان غَواليا
روى ابن سعد في الطبقات : انه لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت فاطمة : يا ابتاه اجاب ربا دعاه يا ابتاه جنة الفردوس مأواه يا ابتاه الى جبريل ننعاه يا ابتاه من ربه ما أدناه .
وروى الحاكم في المستدرك انها عليها السلام بكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : وذكر نحوه . وروي الحاكم في المستدرك بسنده عن موسى بن جعفر بن محمد بن علي عن ابيه عن جده ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي أن فاطمة عليها السلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تقول : وا ابتاه من ربه ما ادناه وا ابتاه جنان الخلد مأواه وا ابتاه ربه يكرمه اذ اتاه وا أبتاه الرب ورسله يسلم عليه حين يلقاه . وروى غير واحد أنه : لما دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت فاطمة : أطابت نفوسكم ان تحثوا على رسول الله التراب واخذت من تراب القبر الشريف وضعتها على عينيها(2) .
لقد باتت الزهراء سلام الله عليها بعد وفات ابيها تقاسي الأحزان والمصائب ، وجاش صدرها بالأحزان ، فلا يستريح قلبها ولا تسكن حركتها ، وأنشأ أمير المؤمنين علي عليه السلام يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الموت لا والداً يبقى ولا ولداً ***هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا
مات النبيُّ وَلَم يَخلُدْ لأُمَّتِه *** لو خلّد الله خلقاً قبله خلدا
للموتِ فينا سهامٌ غير خاطئة ***من فاتهُ اليوم سهم لم يفته غدا
رضي الله عن تلك القدوة لكل مسلمة تريد ان تقتدي بام الحسن والحسين الخالدين وكريمة النبي العظيم سيد البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وکفؤ اسد الله الغالب امير المؤمنين علي بن ابي طالب .
المصادر :
1- ينابيع المودة/ القدوزي 120 : 3 .
2- أعيان الشيعة / محسن الأمين / ج 2 / ص 366 .