إن الأحاديث الصحيحة الدالة على لزوم التمسك بأهل البيت عليهم السلام كثيرة مستفيضة ، وقد رويت بطرق صحيحة في كتب الحديث عند أهل السنة ، وصححها كثير من حفاظ الحديث في كتبهم .
بل إن تلكم الأحاديث تدل بما لا يقبل الشك على أن النجاة من الوقوع في الضلال لا تتحقق إلا باتباع أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام دون سواهم .
ومع ذلك فإن أهل السنة تركوا التمسك بأهل البيت عليهم السلام واتبعوا غيرهم ، ومالوا إلى سواهم ، فتركوا اتباع من أمروا باتباعهم بمقتضى الروايات الصحيحة عندهم ، واتبعوا من لا دليل عندهم على صحة اتباعه .
هذا ما سنكشف النقاب عنه في البحوث الآتية :
حديث الثقلين
إن الأحاديث الدالة على لزوم اتباع أهل البيت عليهم السلام كثيرة ، ومن أتمها دلالة وأصحها سندا هو حديث الثقلين ، المروي عن جمع من الصحابة ، كجابر بن عبد الله ، وزيد بن أرقم ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن ثابت ، وغيرهم . وصححه جمع من حفاظ الحديث من أهل السنة كما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله تعالى .
طرق حديث الثقلين
1 - أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم - في حديث طويل - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر ، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيك ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به . فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ( 1 ) .
2 - وأخرج الترمذي وغيره عن جابر بن عبد الله ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : يا أيها الناس ، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ( 2 ) .
3 - وأخرج أيضا عن زيد بن أرقم وأبي سعيد ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ( 3 ) .
4 - وأخرج أحمد في المسند ، والحاكم في المستدرك ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة ، وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهم عن زيد بن أرقم ، قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ( 4 ) ، فقال : كأني دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض . . . ( 5 ) .
5 - وأخرج الحاكم في المستدرك أيضا عن زيد بن أرقم ، قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام ، فكنس الناس ما تحت الشجرات ، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشية فصلى ، ثم قام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : أيها الناس ، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما ، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي . . . ( 6 ) .
6 - وأخرج الحاكم في المستدرك ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة وغيرهما عن زيد بن أرقم أيضا ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض( 7 )
7 - وأخرج أحمد بن حنبل في المسند ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، والسيوطي في الجامع الصغير ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة ، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ( 8 ) .
8 - وأخرج أحمد بن حنبل في المسند ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة ، والبغوي في شرح السنة وغيرهم ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي الثقلين : أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ( 9 ) .
9 - وأخرج أحمد في المسند ، وابن سعد في الطبقات ، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم ، عن أبي سعيد أيضا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروني بم تخلفوني فيهما ( 10 ) .
10 - وأخرج ابن حجر في المطالب العالية ، والبوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة ، والطحاوي في مشكل الآثار وغيرهم ، عن علي عليه السلام ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث - قال : وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، سببه بيده ، وسببه بأيديكم ، وأهل بيتي ( 11 ) .
11 - وأخرج البوصيري في مختصر الإتحاف عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تارك معكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله عز وجل وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ( 12 ) .
وأخرج هذا الحديث بنحو ما تقدم وبألفاظ أخرى متقاربة : أحمد بن حنبل في المسند ( 13 ) وفي فضائل الصحابة ( 14 ) ، والهيثمي في مجمع الزوائد ( 15 ) ، والسيوطي في تفسيره الدر المنثور ( 16 ) ، وفي إحياء الميت ( 17 ) ، والمتقي الهندي في كنز العمال ( 18 ) ، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء ( 19 ) ، والنسائي في خصائص أمير المؤمنين عليه السلام ( 20 ) ، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب ( 21 ) ، وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنده ( 22 ) ، والدارمي في السنن ( 23 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 24 ) ، وابن الأثير في جامع الأصول ( 25 ) ، والطبراني في المعجم الكبير والصغير ( 26 ) ، وغيرهم .
وذكره كثير من الأعلام في مصنفاتهم : كالسيوطي في الخصائص الكبرى ( 27 ) ، وابن تيمية في منهاج السنة ( 28 ) ، والنووي في رياض الصالحين ( 29 ) ، والقاضي عياض في الشفا ( 30 ) ، والطبري في ذخائر العقبى ( 31 ) ، وابن الأثير في أسد الغابة ( 32 ) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ( 33 ) ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ( 34 ) ، والدولابي في الذرية الطاهرة ( 35 ) ، والتفتازاني في شرح المقاصد ( 36 ) ، وابن حزم في الإحكام ( 37 ) ، وابن المغازلي في المناقب ( 38 ) وغيرهم . وذكره من أصحاب المعاجم اللغوية ابن منظور في لسان العرب ( 39 ) ، والفيروز آبادي في القاموس المحيط ( 40 ) ، والزبيدي في تاج العروس ، والزمخشري في الفائق في غريب الحديث ( 41 ) ، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث ( 42 ) وغيرهم .
صحة سند الحديث
صحح هذا الحديث جمع من أعلام أهل السنة ، وقد ذكرنا تصحيح بعضهم فيما تقدم : منهم الحاكم النيسابوري في المستدرك ، والذهبي في التلخيص ، والسيوطي في الجامع الصغير ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، والذهبي كما في البداية والنهاية ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية ، والبوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة ، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وصحيح الجامع الصغير ، وحسنه الترمذي في سننه ، والبغوي في شرح السنة ، وقد مر ذلك كله . مضافا إلى ذلك فقد صححه أيضا ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ، وابن كثير في البداية والنهاية وتفسير القرآن العظيم ، والمناوي في فيض القدير وغيرهم .
قال ابن حجر : ومن ثم صح أنه صلى الله عليه وسلم قال : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي ( 43 ) .
وقال : وفي رواية صحيحة : كأني دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما آكد من الآخر : كتاب الله عز وجل وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض . . . ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابيا ، لا حاجة لنا ببسطها ( 44 ) .
وقال المناوي : قال الهيثمي : رجاله موثقون .
ورواه أبو يعلى بسند لا بأس به . . . ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي ( 45 ) .
وقال ابن كثير بعد أن ساق رواية النسائي المتقدمة : قال شيخنا الذهبي : هذا حديث صحيح ( 46 ) .
وقال في تفسيره : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ( 47 ) .
وقد ذكر الألباني هذا الحديث ضمن أحاديث سلسلته الصحيحة ، وخرج بعض طرقه وأسانيده الصحيحة والحسنة ، وذكر بعض شواهده وحسنها ، ووصف من ضعف هذا الحديث بأنه حديث عهد بصناعة الحديث ، وأنه قصر تقصيرا فاحشا في تحقيق الكلام عليه ، وأنه فاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة ، فضلا عن الشواهد والمتابعات ، وأنه لم يلتفت إلى أقوال المصححين للحديث من العلماء ، إذ اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة دون غيرها ، فوقع في هذا الخطأ الفادح في تضعيف الحديث الصحيح ( 48 ) .
________________________
(1) صحيح مسلم 4 / 1873 كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
(2) سنن الترمذي 5 / 622 كتاب المناقب ، باب مناقب أهل بيت النبي . وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . وذكر في مشكاة المصابيح 3 / 1735 ، سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 356 وقال الألباني : الحديث صحيح .
(3) سنن الترمذي 5 / 663 . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . وذكر في مشكاة المصابيح 3 / 1735 ، صحيح الجامع الصغير 1 / 482 حديث 2458 وصححه الألباني أيضا .
(4) الدوحات : الأشجار العظيمة . وقممن : أي كنس ما تحتهن .
(5) مسند أحمد بن حنبل 3 / 14 ، 26 . المستدرك على الصحيحين 3 / 109 ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله ، شاهده حديث سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل ، وهو أيضا صحيح على شرطهما . ووافقه الذهبي . كتاب السنة 2 / 630 . البداية والنهاية 5 / 184 ، وقال : قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي : هذا حديث صحيح .
(6) المستدرك على الصحيحين 3 / 109 - 110 .
(7) المستدرك على الصحيحين 3 / 148 ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي . كتاب السنة 2 / 630 .
(8) مسند أحمد بن حنبل 5 / 181 ، 189 . مجمع الزوائد 9 / 162 قال الهيثمي : رواه أحمد وإسناده جيد . 2 / 170 وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات . الجامع الصغير 1 / 402 حديث 2631 ورمز له السيوطي بالصحة . وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1 / 482 حديث 2457 .
(9) مسند أحمد بن حنبل 3 / 59 ، وراجع ص 14 ، 17 ، 26 . كتاب السنة ، ص 629 . شرح السنة 14 / 119 وقال : حسن غريب .
(10) مسند أحمد بن حنبل 3 / 17 . الطبقات الكبرى 2 / 194 . كنز العمال 1 / 185 . قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 357 : وهو إسناد حسن في الشواهد .
(11) المطالب العالية 4 / 65 وقال : هذا إسناد صحيح . مختصر إتحاف السادة المهرة 9 / 194 ، وقال : رواه إسحاق بسند صحيح . مشكل الآثار 2 / 307 .
(12) مختصر إتحاف السادة المهرة 8 / 461 ، وقال : رواه أبو بكر بن أبي شيبة وعبد بن حميد ، ورواته ثقات .
(13) مسند أحمد بن حنبل 3 / 14 ، 4 / 371 .
(14) فضائل الصحابة 1 / 172 ، 2 / 572 ، 585 ، 603 ، 779 ، 786 .
(15) مجمع الزوائد 9 / 162 وما بعدها .
(16) الدر المنثور 7 / 349 في تفسير الآية 23 من سورة الشورى .
(17) إحياء الميت ، ص 28 ، 29 ، 39 ، 40 ، 48 ، 55 ، 56 .
(18) كنز العمال 1 / 172 وما بعدها .
(19) حلية الأولياء 1 / 355 .
(20) خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ص 96 .
(21) الفردوس بمأثور الخطاب 1 / 66 .
(22) مسند ابن أبي شيبة 1 / 108 .
(23) سنن الدارمي 2 / 432 .
(24) السنن الكبرى 2 / 148 ، 10 / 114 .
(25) جامع الأصول 1 / 187 .
(26) المعجم الكبير للطبراني 3 / 62 - 65 ح 2678 - 2681 ، 2638 ، 5 / 154 وما بعدها ح 4922 ، 4923 ، 4980 - 4982 ، 5025 - 5028 ، 5040 . المعجم الصغير 1 / 135 .
(27) الخصائص الكبرى 2 / 266 .
(28) منهاج السنة 2 / 250 ، 4 / 104 .
(29) رياض الصالحين 1 / 264 .
(30) شرح الشفا 2 / 82 .
(31) ذخائر العقبى ، ص 47 - 48 .
(32) أسد الغابة 2 / 17 .
(33) سير أعلام النبلاء 9 / 365 .
(34) الصواعق المحرقة 2 / 437 ، 438 ، 652 ، 653 ( ط محققة ) .
(35) الذرية الطاهرة ، ص 166 .
(36) شرح المقاصد 5 / 302 .
(37) الإحكام في أصول الأحكام 6 / 267 .
(38) مناقب علي بن أبي طالب ، ص 156 - 157 ، ط أخرى : ص 214 .
(39) لسان العرب 11 / 88 .
(40) القاموس المحيط 3 / 353 ، ط جديدة ، ص 875 مادة ( ثقل ) .
(41) الفائق في غريب الحديث 1 / 150 .
(42) النهاية في غريب الحديث 1 / 216 .
(43) الصواعق المحرقة ، ص 145 .
(44) المصدر السابق ، ص 228 .
(45) المصدر السابق 9 / 162 .
(46) البداية والنهاية 5 / 184 .
(47) تفسير القرآن العظيم 4 / 113 .
(48) سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 / 355 ، حديث 1761 .