عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

حب علي قتل و بغضه هلاک

حب علي قتل و بغضه هلاک

يقول الشعبي لابنه : (ما بنى الدينُ شيئاً إلّا وهدمته الدنيا وما بنت الدنيا شيئاً إلّا وهدمه الدين ، اُنظر إلىٰ علي وأولاده ، فإنّ بني اُميّة لم يزالوا يجتهدون في كتم فضائلهم وإخفاء أمرهم ، وكأنّما يأخذون بضبعهم إلى السماء. وما زالوا يبذلون مساعيهم في نشر فضائل أسلافهم وكأنّما ينشرون منهم جيفة).
وهذا الشعبي هو القائل : (ما لقينا من علي؛ إنْ أحببناه قُتلنا ، وإنْ أبغضناه هلكنا؟)
فمساعي بني اُميّة في إعزاز شأنهم وتكالبهم على الدنيا وتظاهر بالملاهي ، وتجافي آل الرسول صلى الله عليه واله عن الدنيا ونعيمها ، واتّصافهم بالعلم والورع والزهد [اقتضت] شيوع مذهب التشيع وإنْ كان حبّ الدنيا متمركزاً في قلوب عامّة الخلق وأهوائهم ، لكنّ للدين وأهله المقام الأعلىٰ. فقد تمركز حبّ آل الرسول صلى الله عليه واله في قلوب الشيعة تمركزاً و [في] أفعالهم في ركوب الأخطار؛ فيودّ كلّ فرد أنْ يضحّي بنفسه وأنفس ما لديه في سبيل نجاتهم وإعزازهم ، لا طمعاً ولا خوفاً ، بل قادهم رائد تديّنهم بعقيدة صادقة وإيمان خالص ، ورغبة وافرة في تعلّم أحكام الدين.
هذا في وقت قوة بني اُميّة وسطوتهم ، وسيوفهم مشهورة علىٰ رؤوس رجال من المسلمين من أهل الحقّ واليقين ، الّذين لم تأخذهم في الله لومة لائم ، بل قابلوا سورة أهل النفاق وكسروا راية الضلال.
وكان منهم في صفّين مع علي عليه السلام ما ينوف على الثمانين ، من بدريٍّ وعقبيٍّ؛ كعمار بن ياسر ، والمقداد ، وخزيمة ذي الشهادتين ، وأبي أيوب الأنصاري ، وأمثالهم. وذلك بعد انقضاء زمن الخلفاء الراشدين وفي حال سير معاوية بسيرة الجبّارين ، بطور المخادعة والمداهنة في الأقوال والأفعال.
وقد كان عالماً بنفوس الأفراد ، عالماً بنفوس الجماعات وبأخلاقهم وطبائعهم ، رجلاً ماهراً نطاسيّاً في فنون المخادعات والمخاتلات ، بطور دقيق في المكر والحيلة؛ وبذلك استطاع البيعة لابنه يزيد ، وتم له استلحاق زياد. ومن علمه حيلة رفع المصاحف.
وأطوار أمير المؤمنين واُموره جارية على الضدّ؛ فهو عامل بميزان القسط ، وقانون العدل ، وناموس النصَف ، والزهد والورع ، وخشونه المطعم. وعدم المخادعة والمخاتلة ، وعدم المداهنة في شيء من أقواله وأفعاله. شديد الاحتياط ، لا يقرِّب أحداً من حيث نفعه وضرّه ، مع احتمال الارتباك في الشريعة الإسلامية.
ذكر ابن قتيبة أن الزبير وطلحة أتيا علياً بعد فراغ البيعة ، فقالا : هل تدري علىٰ ما بايعناك؟ فقال علي : «نعم ، على السمع والطاعة ، وعلىٰ ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان».
فقالا : لا ، ولكنّا بايعناك على أنا شريكاك في الأمر. قال علي : «لا ، ولكنكما شريكان في القول ، والعون على العجز والأولاد».
وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق وطلحة في ولاية اليمن ، فلما استبان لهما أن علياً ليس مولّيهما شيئاً أظهرا الشكاة ، وتكلّما بما تكلّما ، فانتهىٰ قولهما إلىٰ علي فدعا عبد الله بن عباس ، فقال له : «بلغك قول هذين الرجلين؟» قال : نعم بلغني. قال : «فما ترىٰ؟» قال : أرىٰ أنّهما أحبّا الولاية ، فولّ البصرة الزبير وولِّ طلحة الكوفة؛ فإنّهما ليسا بأقرب إليك من الوليد ، وابن عامر من عثمان.
فضحك علي وقال : «ويحك ، إن العراقين بهما الرجال والأموال ، ومتىٰ تملَّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع و [يضربا الضعيف] بالبلاء ، ويقويا على القويّ بالسلطان ، ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام.
ولو لا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي» (1).
ومن الواضح أن ابن عباس كان من الناصحين لعلي أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأن في توليهما البصرة والكوفة ما يكفيه شرَّهما؛ ولذا لما قطعا الأمل من الولاية توجَّها نحو البصرة ، وأظهرا الخلاف ونكثا البيعة ، وتبعهما خلق كثير.
إلّا إن ما رآه أمير المؤمنين لعلّه من باب ارتكاب أهون الضررين؛ إذ استعمال معاوية والياً [يستلزم]
المحذور المتقدّم ذكره؛ وهو أعظم من محذور عدم استعماله. مضافاً إلى أنه يرى استعمال رجل دنيويّ محض لا علاقة بينه وبين الدين من أكبر الضرر على الإسلام.
ولا زال ينادي : «أتأمرونني أنْ أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الإسلام؟ فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجمٌ» (2). وطلحة والزبير كذلك.
ولا أتخيل أن مفكراً يتوهم أن معاوية أدهىٰ من أمير المؤمنين عليه السلام ، وانّما ذاك مطلق والأمير عليه السلام مقيد. ولسنا بصدد بيان ما يعتري معاوية من الأغلاط النفسيّة ، كيف وخروجه علىٰ إمام زمانه أكبر غلطة نفسية؟
ومعلوم أن إقرار العمال على أعمالهم ربما يحصل منه تدبير إداري ، لكن ذلك إذا لم يكن في الإقرار محذور آخر. أترىٰ أن معاوية يعرف شيئاً لا يعلمه أمير المؤمنين؟ كلا.
نعم ، إنّه يعمل شيئاً لا يعمله أمير المؤمنين عليه السلام. ولما رفعت المصاحف برأي ابن العاص ، وقال أهل العراق : قد أعطاك معاوية الحقَّ ، دعاك إلى كتاب الله؛ فاقبل منه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : «ويحكم ما رفعوها لأنّكم تعلمونها ولا يعلمون بها وما رفعوها لكم إلّا خديعة ودهاء ومكيدة» (3).
وممّا يدلّ على أنه الخبير المعلّم الماهر ـ لا بمعنى السياسة الّتي هي ليست إلّا المكر والخديعة ـ تأنيبه لأهل العراق بعد أنْ بلغه من أمر أبي موسىٰ ما بلغه : «إنّي تقدمت إليكم في هذه الحكومة ونهيتكم عنها ، فأبيتهم إلّا عصياني ، فكيف رأيتهم عاقبة أمركم إذ أبيتم عليَّ ، والله إنّي لأعرف من حملكم علىٰ خلافي والترك لأمري ، ولو أشاء آخذه لفعلت». ولكن الله من ورائه فهو عليم بظواهر الناس وبواطنهم ، علم إلهي وثقافة إسلامية.
ولما تعاهد ثلاثة من الخوارج علىٰ قتل علي عليه السلام ومعاوية وعمرو ابن العاص ـ مما هو معروف في التاريخ (4)
دسَّ معاوية اُناساً إلى الكوفة يشيعون موته ، وأكثر القول في ذلك ، حتّىٰ بلغ علياً عليه السلام فقال في مجلسه : «قد أكثرتم من نعي معاوية ، والله ما مات ولا يموت حتّىٰ يمك ما تحت قدمي. وانّما أراد ابن آكله الأكباد أنْ يعلم ذلك مني ، فبعث من يشيع ذلك فيكم؛ ليعلم ويتيقن ما عندي فيه ، وما يكون من أمره في المستقبل من الزمان».
ثمّ لما [انقرض] بنو سفيان جاء بنو مروان [يقدمهم] عبد الملك الّذي أمر الحجّاج بهدم الكعبة وحرقها ، وقتل عبدالله بن الزبير بين الكعبة والمقام ، وقتل ابن عمه عمرو بن سعيد الأشدق غدراً ، وقضيّته مشهورة (5).
وسار بنو مروان علىٰ هذه السيرة وما هو أسوأ ، إلى أنْ [انقرض] بنو مروان.
وجاء بنو العباس [فزادوا] الطين بلة ، والطنبور نغمة ، فتعقّبوا بني عمهم بالأسر والصلب والقتل تحت كلّ حجر ومدر. وبنوا عليهم الاسطوانات ، وشتّتوهم عن عقر دورهم. فإذا نظرت إلىٰ سيرة بني سفيان وسيرة بني مروان وسيرة العباسيّين ، ونظرت سيرة آل الرسول صلى الله عليه واله ، تنكشف لك غواشي الاُمور ، ويظهر لك نور الحقيقة؛ إذ علىٰ كلّ حقّ حقيقة وعلىٰ كلّ صواب نور.
وتبرز لك أسباب ظهور التشيّع كالنور على الطور ، فتجدها سيرة دينيّة مقتبسة من صاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه واله ، جاؤوا يقدمهم زين العابدين عليه السلام بعد قتل أبيه يوم الطفّ ، مخلصاً في توحيد الله ، قائماً بأمره ، منزجراً عن نهيه ، رافضاً للدنيا وأهلها ، فانياً في العبادة ، مهذّباً للأخلاق ، مربّياً للنفوس مغذّياً لها بنور الحقّ والمعرفة الّتي كادت أن تزول آثارها من قلوب الناس.
ثمّ من بعده محمد الباقر عليه السلام ، وجعفر الصادق عليه السلام. وفي زمانه قلَّت الموانع ، فبث الأحكام الشرعيّة والأحاديث النبويّة. وكان للشيعة ظهور لم يكن قبل ، فكان يشار إليهم في علم التفسير والحديث وسائر العلوم ، وكثر عددهم ، حتّىٰ إن أبا الحسن الوشّا قال لبعض أهل الكوفة : أدركت في هذا الجامع ، يعني : مسجد الكوفة ، أربعة آلاف شيخ من أهل الورع والدين ، كلٌّ يقول : حدثني جعفر بن محمد.
وبالجملة ، إن مساعي بني اُمية وبني العباس مباينة لمساعي بني علي؛ فهم علىٰ نهجين : دنيويّ محض ودينيّ ، ولكل آثار. وإن حب آثار النهج الأول متمركز في النفوس ، إلّا إن حبّ آثار الثاني له المكان السامي ، وهو غالباً يستلزم آثار الأوّل المباحة؛ لأن نطاق الإسلام واسع لا يمنع من تمركز في نفسه حبّ الدنيا أن يأتيه من طريقه المشروع ، بل هو السبب في نزول البركات وانصباب الخيرات؛ فكان باعثاً في الوَلوع في تحصيله وتعلم أحكامه.
فالطالب لضالّته المنشودة لم يجدها تامّة وافية صحيحة ، إلّا عند آل الرسول صلى الله عليه واله. فأتباعهم يأخذونها من عين صافية علىٰ يقين من إمامتهم ، قد قادهم رائد تديّنهم إلىٰ تقديم أعناقهم ، وبذل نفوسهم ضحايا في سبيل غايتهم؛ كعفيف الأزدي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وحجر بن عدي ، وأمثالهم.
ومن الشعراء ـ والشاعر في الأغلب مادّيّ ، وقد كانوا في زمان ملوكهم بين طمع وخوف ـ كالأمير أبي فراس الحمدانيّ ، والسيد الحميريّ ، والكميت ، لم يقدهم طمعهم إلى الباطل ، ولم يمنعهم خوفهم عن نصرة الحقّ ، بل أظهروا الحقّ بالمدح والثناء ، وفضحوا الباطل بالهجاء. انظر إلىٰ ما قاله دعبل ، في الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم من الهجاء ، وما قاله من المدح في الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام.
هؤلاء رجال أنار الله بصائرهم ، فصدعوا بالحق لا طمعاً ولا خوفاً ، كيف ، وآل الرسول هم المشتّتون عن عقر دورهم؟
مشتتين نُفوا عن عقر دورهمُ / كأنّهم قد جنوا ما ليس يُغتفر
ولست بصدد استقصاء ما في هذا الباب ، وإنّما الغرض بيان الواضع لهذا الاسم ، وقد عرفت أنه صاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه واله ، وجهة الوضع؛ وهي احتفاؤه بعلي عليه السلام وولدهم عليهم السلام بما سمعت ممّا قاله وكرَّره في مواضع عديدة ، وذلك أوضح من النور على المنار. وإنّما هيَّج ذكر ذلك ما نسب إلى الشيعة مما هم بريئون منه براءة التحريم.
حرَّكتْ ذكرها إذا هي أورت / جمرة الشوق نفثة المصدور
المصادر :
1- الإمامة والسياسة 70 ـ 71.
2- نهج البلاغة : 240 ، من كلام له عليه السلام/ 126 ، بحار الأنوار 48 : 32/ 32. وفيهما : «أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه. والله لا أطور به ما سمَر سميرٌ ، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً».
3- وقعة صفّين : 489. وفيه : «إنهم والله ما رفعوها أنهم يعرفونها ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة».
4- تاريخ الطبري 155 : 3 ـ 157.
5- تهذيب التهذيب 35 : 8 ، تاريخ الطبري 511 : 3 ـ 512 ، شذرات الذهب 77 : 1.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

رساليّة معارک الامام علي عليه السلام
الامام الحسین بن علی بن أبی طالب
علي الأكبر عليه السلام في كربلاء
أهل البيت القدوة الصالحة والنموذج الأمثل
هكذا عرفت الإمام الحسين (عليه السّلام)
مناظرات الإمام الكاظم ( ع )
ذكرى جريمة الوهّابيين في تدمير قبور
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام):
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
وصايا أمير المؤمنين عليه السلام

 
user comment