عربي
Monday 1st of July 2024
0
نفر 0

دولة الموعود -10

ثمة كما أكدنا تحولات جذرية ستطال الثقافة والأنماط. وهي كما يظهر من الاخبار تتحدد في:

ـ أنماط استغلال البيئة:

يتقوم النمط الراهن في شكل ضار من الاستغلال للبيئة بلغ ذروة الشطط. والمسألة البيئية اليوم والتقارير التي تطلع علينا ليل نهار دليل كافي على أن الأمر لم يعد يتحمل مزيدا من الاستهتار.لا سيما وأن معدل أوكسيد الكاربون يتزايد بصورة جنونية مهددا البيئة وهو مسؤول عن درجة ارتفاع حرارة الارض والتأثير السلبي على طبقة الأورزون وما ينتج عن ذلك من فيضانات وحرائق للغابات والتصحر...في مقابل ذلك تنهض دولة الموعود على سياسة مختلفة وجادة في هذا المجال، قوامها: الاستغلال الأمثل للطبيعة والاستغلال الأنظف للطاقة.

إن استغلالنا للطبيعة لا زال ضعيفا للغاية بحيث لا يغطي الطلب. ومثل هذا لا يشكل أزمة حقيقية في نمط الانتاج المعاصر طالما أن معضلة المجاعة لا تصيب إلا الطبقات السفلى من المجتمع أو المجتمعات الفقير في العالم. فأنماط الانتاج الراهنة ليس فقط أنها تواجه مشكلة تقنية في تأمين الطلب الحقيقي للنوع، بل إن السياسات الانتاجية تفرض عبر سلطة الاحتكار أن لا يتم البحث عن بدائل لا في التكنولوجيا ولا في أنماط الانتاج ، من شأنها أن تهدد بنية الارباح والامتيازات التي تحرسها سياسة الاحتكارات الكبرى.

ـ أنماط الاستهلاك:

اذا كان نمط الاستهلاك اليوم هو تعبير عن منتهى غياب ليس الاخلاقية فقط عن الاقتصاد بل العقلانية التي طالما بشرت بها السوسولوجيا الحديثة . لقد تجاوز نمط الاستهلاك المعاصر كل الحاجيات الحقيقية للانسان، بل كدنا نرى انقلابا في سلم المقاصد العقلائية للنوع، منذ أصبح الانسان برسم الاستهلاك الجنوني اليوم يستهلك من السموم والأزبال ما يعرض الصحة العالمية لوضعية حرجة. لم يعد في معايير المستهلك أن ثمة ضروريات يجب أن تفوز بالمقام الأول في الاعتبار. فالتحسينيات استوعبت باقي القيم ، لا بل إننا أصبحنا أمام شكل هجين من الضروريات؛ ضروريات وهمية تنتج باستمرار، تؤمن صيرورة الاستيلاب الامثل للانسان، تجعله كائنا عاجزا عن وجود ذاته واستقلاله ومعناه خارج هذه الدورة العدمية للاستهلاك اليومي. يحدثنا طويلا جون بودريار عن هذه الحقيقة بصورة أكثر كاريكاتورية، حينما يحاول أن ينجز تشريحا لما يسمى بـ"
homo oeconomicus
". الحكاية مصاغة كالتالي:

" كان في وقت ما انسان يعيش على سبيل الندرة. ومن خلال العديد من المغامرات والأسفار عبر العلوم الاقتصادية التقى مجتمع الوفرة. فتزوجا وأصبح لهما الكثير من الحاجيات"[19].

هذه الجمالية نفسها التي كان يتمتع بها الاموـ ايكونوميكوس، كما تغنت بها الحكايات الكلاسيكية لم تعد موجودة في هذا المناخ الجنوني الذي تحول فيه الاستهلاك من أمر نحدده ونبحث عنه إلى أمر مفروض في الصيرورة المحتومة لهذا النمط الاستهلاكي الذي منح قوام الكوجيتوا الجديد: أنا أستهلك إذا أنا موجود. بل أصبح الأمر غاية في التفاهة: أرني قمامتك أقول لك من تكون. الاستهلاك للاستهلاك، تلك هي عقيدة شخص آخر يبشر به هذا النمط الخطير من الاستهلاك ، أعني ما أسميه بالكائن الأونطو ـ ميتري. كناية عن كائن تتحدد أنماطه ومصائره بحسابات الانتاج والربح والخسارة والعرض والطلب. كائن تحدد ماهيته قبل وجوده، بل يبرر وجوده باكتمال ماهيته وقابليته للاندماج في دورة اقتصادية لا وجود لبداياتها ولا لنهاياتها. إنها دورة لا تقبل إلا بالمسوخ.

إن دولة الموعود بما أنها تلخص آمال البشر ومتطلبات الرشد البشري، كفيلة بإحداث هذا الانقلاب الأعظم في نمطية الاستهلاك. هذا أمر ممكن جدا ما دام أن هذا النمط من الاستهلاك هو الابن البار لنمط الانتاج والنسق الرأسمالي المتوحش نفسه. وهذا سيعد بعودة العقلانية في الاستهلاك يتحرر بموجبها الانسان من سطوة التشيء والاستيلاب. حيث يصبح الاستهلاك تعبيرا عن حاجيات حقيقية وعقلانية لا مجرد انخراط في دوامة غير معقولة من الاستهلاك للاستهلاك. ويتقوم ذلك أيضا بتخليق الاستهلاك، وهو ما يجعل الاستهاك أيضا في خدمة الانسان ويعزز ماهيته ككائن خلق للتسامي العقلي والروحي وليس كائنا يبحث عن منتهى متعته في متاهة الاستهلاك والتشيئ والاستيلاب كما تتحدث اليوم فلسفات الانسان. ولعل القواعد المنظمة لهذا النمط التخليقي من الاستهلاك هي :

ـ لا تستهلك إلا ما كان ضروريا حقا أو حاجة تجد فيها كمال العقل والروح وسلامة البدن..

ـ لا تستهلك للاستهلاك..

ـ لا تستهلك ما فيه فساد البدن والروح والعقل..

ـ لا تستهلك ما ليس في مقدور أغلبية الناس استهلاكه..

هذا القدر من المحددات لا يتحقق إلا في ظل دولة الموعود لاكتمال أخلاقها ونمو مداركها العقلية والروحية. إن ما تكشف عنه هذه الدولة من خيرات لا يعني أن الاستهلاك أضحى أكثر جنونية. بل إن الانسانية يومها مشغولة فيما هو أعظم من ذلك. أعني ذلك المعنى الانساني السامي الذي يجعل الناس تكتفي بحياة التقشف رغم الوفرة، لأن ما سيأتي به الموعود ليس مجرد كنوز لن يجد لها طالبا من فرط فائض الانتاج، بل قيمة ما سيأتي به أنه سيحرر الانسان من مقولة أنطوان مونتكرتيان :" إنما الانسان ولد لكي يعيش للعمل المستمر والاحتلال" إلى المعنى الأسمى للانسان بوصفه خلق لعبودية الخالق لا لعبودية القطاع والعمل في ظروف مزرية. كما خلق لتعمير الأرض لا للاحتلالات الجائرة التي تستعبد في طريقها الأمم وتخضع لقوانين التخليف والتفقير. أجل إن زمان الموعود زمان مختلف، وذلك لأن أنماط السلطة ستشهد تحولا جذريا. لا عجب في ذلك إذا تأملنا قولة لجده علي بن أبي طالب في النهج:" إذا تغير السلطان تغير الزمان".

وعليه ستكون دولة الموعود خاتمة المطاف في تاريخ النوع وليس بعدها من نموذج جدير بالانتظار. إنها نهاية تاريخ الاجتماع السياسي والنموذج المأمول. ذلك هو الحد المعروف من مستقبلنا المشترك.

ختاما:

لدي شئ أقوله في نهاية هذه الورقة: إن البحث عن حلول لإنسانيتنا من داخل صيرورة الهدر التي يفرضها النسق المتغلب في حياتنا هو أمر مشروع ومطلوب لإيجاد ما هو أمثل دائما من داخل النسق. لكن هذا لن يحل مشكلة البشرية المتأرجحة في أزمات بنيوية. قد يتراءى للبعض أننا نحلم ، لكن حلمنا هو واقع مؤجل يملك من المسوغات والضمانات أكثر من أي خيار آخر. إن ما بين أيدي الناس اليوم سياسات واقتصادات لا تملك إلا أن تصنع الجور والفقر، ولا تملك إلا أن تنذر بمستقبل مظلم وكارثي ملؤه الرعب واليأس. وأمام هذا القدر المحتوم لأنظمة سياسية واقتصادية، ليس أمام البشرية المعذبة إلا أن تحسن الإطراق والسمع لذلك النداء الذي لا يحمل سوى بشرى جميلة للاجتماع الانساني. وإن دولة الموعود حتما لن تحرر المظلومين من شخوص ظالمين فحسب، بل ستحررهم من نموذج ظل فيه الظالم والمظلوم كلاهما ضحية نموذج فاسد ، جعلهما حقا في حاجة ماسة إلى ذاك المخلص.

------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ انظر الحوار الذي أجراه كاتب السطور مع فرنسيس فوكوياما: نهاية التاريخ بعد مرور أكثر من عقد على إعلانها، مجلة الكلمة ، العدد 47 ، السنة الثانية عشر 2005 ، بيروت

[2] ـ أديب ديمتري، دكتاتورية رأس المال، ص 41 ،ط1 ـ 2002، دار المدى، دمشق

[3] ـجون غراي، الفجر الكاذب،ص7 تـ أحمد فؤاد بلبع، ط 1 ـ 2000، المجلس الاعلى للثقافة ومكتبة الشروق/القاهرة ـ كوالالامبور ـ جاكرتا.

[4] ـنعوم تشومسكي، سنة 501، الغزو مستمر، ص 171، تـمي النبهان ، ط2، دار المدى، دمشق 1999

[5] ـ المصدر ، ص 16

[6] ـ نور الأبصار للشبلنجي ج 2 ص 155

[7] ـ بعض الانبياء أو الاولياء حكموا بالواقع ولكن في مهام محدودة وفي ظل الغيبة مثل الخضر عليه السلام. لكن الامام المهدي عج سوف تكون تلك خاصية حكومته الظاهرة والدائمة والشاملة.

[8] ـ تؤكد بعض الأخبار أن المهدي سيأتي فيما سيأتي به، بقضاء جديد. ولعل من أبرز مظاهر جدة هذا القضاء ليس محتوى العدل ومضمون الحقوق التي هي مدركة لكل البشر مولويا وإرشاديا وشكل على مدى قرون مقاصد بها يتقوم ضمير لاقانون نفسه ومفهوم العدالة. لكن ما هو جديد كل الجدة في قضاء المهدي ، أنه سيحكم بعلمه لا بالظاهر، وسوف يحل مفارقة القانون الظالم، ذلك القانون الذي يطبق بصورة متوحشة على من لا يملك أن يدفع عنه ظلم تطبيق العدالة بخلاف الواقع. إن قيمة التطبيق القانوني في عهد المهدي ليس في التطبيق المجرد بل التطبيق المشروط بالمطابقة الحقيقية للواقع ، ليس لأنه وحده من أدرك الواقع ، بل لأنه مأمور بتنفيذ الحكم الواقعي. وهذا أبرز عنوان الجدة.

[9] ـ بحار الانوار ص 52 ج 339

[10] ـ الغيبة ، الطوسي ، ص 382

[11] ـ تؤكد الأخبار على أن من المحتوم ظهور النداء أو الصيحة من السماء. وقد نفهم نحن الحدثاء أن مثل هذا الحدث معقول جدا في زمن الاتصالات والفضائيات التي تبث أخبار العالم بمختلف اللغات.هذا ما يزيده وضوحا كلام للامام الصادق ، حينما يعتبر أن كل قوم سيسمعون النداء بألسنتهم. ويزيده الامام الصادق وضوحا أكثر ـ وإنه لعجيب أن كلما بدا غريبا على القدماء ازداد وضوحا عند الخلف ـ لما ذكر بأن قائمنا إذا قام مد الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يرون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه.ونظائر ذلك كثير

[12] ـ كنز العمال، ص 261 ج 2

[13] ـ فرائد السمطين، الجويني ص 312 ج 2

[14] ـ غيبة النعماني ص 321 تحقيق: على اكبر الغفارى

[15] ـ جون غراي، الفجر الكاذب، ص 7

[16] ـ جورج سوروس ، خرافة التفوق الأمريكي، ص92 ، ط 1 2006، مطبعة فضالة / المحمدية ـ المغرب

[17] ـ اندره كونت سبونفيل، هل الرأسمالية أخلاقية؟ ص 78 ــ تـ: بسام حجار، دار الساقي ، ط1 ـ 2005 بيروت

[18] ـ لمزيد من الاطلاع انظر السيد محمد الصدر ، تاريخ ما بعد الظهور ، ـ بيروت ص 542ج 3 ط 2 ـ 1987 ، دار التعارف للمطبوعات و السيد القزويني ، الامام المهدي من المهد إلى الظهور، ص399 ، ط1 ـ 2005 منشورات لسان الصدق ، قم المقدسة

[19] ـ
jean baudrillard, la societe de consomation : ses mytes ses structure ,p93editions denoel,1970

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أدلة وجود الإمام المهدي (عج)-2
لماذا التشكيك في عمر الإمام المهدي (عج)
سيرة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)
احاديث واقوال الامام المهدي(عج)
قصة الرجل المحبّ للضيف
أحاديث : «اسم أبيه اسم أبي» (عبدالله)
کتابة رقعة الحاجة إلی مولانا صاحب العصر والزمان ...
أولاً ـ تثبيت أصل القضية:
القسم الثالث. أعمال الإمام المهدي... دولة الخوارق
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

 
user comment