من نعم الله تبارك وتعالى على خلقه تمييزهم من سائر الخلق الآخرين بميزات خاصة يترتب عليها مسؤوليات كبيرة تجاه أنفسهم وتجاه مجتمعهم.وأهل البيت (عليهم السلام) تميزوا عن غيرهم من الناس: بالعلم والأخلاق والتقى والورع. إلى جانب هذا كله خصهم جدهم الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بنص خاص مفاده تنصيبهم أئمة للأمة الإسلامية فكانوا كما أراد (صلّى الله عليه وآله) سدنة الدين وأعلاماً للنجاة ونجوم هداية لكل ضال عن الطريق الصحيح المرسوم من رب العالمين.
وقد تواترت النصوص الدالة على الأئمة (عليهم السلام) حتى أن لبعض الأعلام كتباً مستقلة فيها، مضافاً لما تفرق منها في بطون مراجع ومصادر الحديث والسير والتراجم.
وكان الأئمة بدورهم (عليهم السلام) ينص المتقدم منهم على المتأخر، ويشير السابق على اللاحق قبل انتقاله إلى الدار الآخرة قطعاً للمعاذير وإقامة الحجة. والنصوص الدالة على إمامة محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قسمان:
أحدهما: المروية من النبي نفسه (صلّى الله عليه وآله) في جملة الاثني عشر وهي كثيرة مثل ما روي أن الله تعلى أنزل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) كتاباً مختوماً باثني عشر خاتماً وأمره أن يدفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ويأمره أن يفض الخاتم الأول فيه فيعمل بما تحته، ثم يدفعه عند حضور وفاته إلى الحسن (عليه السلام) ويأمره بفض الخاتم الثاني، ويعمل بما تحته، ثم يدفعه عند حضور وفاته إلى الحسين فيفض الخاتم الثالث ويعمل بما تحته، ثم يدفعه عند حضور وفاته إلى الحسين فيفض الخاتم الثالث ويعمل بما تحته، ثم يدفعه عند وفاته إلى ابنه علي بن الحسين ويأمره بمثل ذلك ثم يدفعه إلى ابنه محمد بن علي ويأمره بمثل ذلك ثم يدفعه إلى ولده حتى ينتهي إلى آخر الأئمة (عليهم السلام)(1).
أما فيما يعود على إمامة الإمام الباقر (عليه السلام) من قبل أبيه الإمام زين العابدين (عليه السلام) فأحاديث كثيرة منها:
قال جابر ابن يزيد الجعفي: (حدثني وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)(2).
روى البياض قال: (دخل جابر إلى زين العابدين (عليه السلام) فرأى عنده غلاماً فقال له: اقبل فأقبل، فقال له: أدبر فأدبر، فقال جابر: شمائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم قال لزين العابدين من هذا؟ قال: ابني ووصي وخليفتي من بعدي، اسمه محمد الباقر فقام جابر وقبل رأسه ورجليه وأبلغه سلام جده وأبيه صلّى الله عليه وآله وسلم)(3).
وقال الزهري: دخلت على علي بن الحسين في مرضه الذي توفي فيه… فقلت: يا ابن رسول الله إن كان لابد لنا منه فإلى من نختلف بعدك؟ قال (عليه السلام): يا أبا عبد الله إلى ابني هذا ـ وأشار إلى ابنه محمد ـ إنه وصي ووارثي، وعيبة علمي، معدن الحلم، باقر العلم قال (عليه السلام): سوف يختلف إليه ملأ من شيعتي، ويبقر العلم عليهم بقراً (4).
قال جابر بن عبد الله الأنصاري: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنك ستبقى حتى ترى رجلاً من ولدي، أشبه الناس بي، اسمه على اسمي، إذا رأيته لم يخف عليك، فاقرأه مني السلام (5) وقال (صلّى الله عليه وآله) لجابر: يا جابر يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين (عليه السلام) اسمه كاسمي، يبقر العلم بقرأ، أي يفجره تفجيراً، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام.
قال جابر (رضي الله عنه): فأخر الله مدتي، حتى رأيت الباقر، فقرأته السلام عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(6).
وروى الخزّاز بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال: (دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) وهو جالس في محرابه فجلست حتى انثنى وأقبل علي بوجهه يمسح يده على لحيته، فقلت: يا مولاي أخبرني كم يكون الأئمة بعدك؟ قال: ثمانية قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأن الأئمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اثنا عشر عدد الأسباط، ثلاثة من الماضين، وأنا الرابع وثمان من ولدي أئمة أبرار، من أحبنا وعمل بأمرنا كان معنا في السنام الأعلى، ومن أبغضنا وردنا أورد واحداً منا كافر بالله وبآياته)(7).جاء الإمام الباقر الدنيا فملأها بعلمه وحديثه وتفسيراته حتى قال جابر الجعفي حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث. وقال محمد بن مسلم سألته عن ثلاثين ألف حديث.
أصحابه وتلاميذه :
ذكر محمد بن الحسن الطوسي أن أصحاب الإمام الباقر وتلاميذه كثر حتى وصل عددهم إلى أربعمائة واثنتين وستين رجلاً وامرأتين. وقال ابن شهر آشوب (إن أفقه الأولين سنة هم أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وهم:
زرارة بن أعين، ومسعود المكي، وأبو نصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، ويزيد بن معاوية العجلي.
ومن أصحابه:
حمران بن أعين الشيباني وأخوته: بكر وعبد الملك وعبد الرحمن، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وعبد الله بن ميمون القداح، ومحمد بن مروان الكوفي من ولد أبي الأسود، وإسماعيل بن الفضل الهاشمي من ولد نوفل بن الحارث، وأبو هارون المكفوف، وطريف بن ناصع، وسعيد بن طريف الإسكاف الدؤلي، وإسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي، وعقبة بن بشير الأسدي، وأسلم المكي مولى ابن الحنفية، وأبو بصير ليث بن البختري، والكميت بن زيد الأسدي، وناجية بن عمارة الصيداوي، ومعاذ بن مسلم الفراء النحوي، وكثير الرجال)(8).
إذا ألقينا نظرة سريعة على هذه العينة من طلابه وأصحابه لوجدنا فيهم العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والأتقياء من جميع البلدان كلهم تجمعوا حول الإمام ليغذوا أرواحهم من معين حفيد رسول الله (عليه السلام).
عبادته:
الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) من الأئمة المتقين في الإسلام عرف الله سبحانه وتعالى عن طريق آبائه المعصومين وأجداده المطهرين معرفة يقينية استوعب دخائل نفسه، فأقبل على ربه، فاطر السماوات والأرض بقلب منيب وإخلاص شديد وطاعة تامة. أما مظاهر عبادته:
1ـ خشوعه في صلاته:
روى المؤرخون أنه كان إذا أقبل على الصلاة اصفر لونه خوفاً من الله عز وجل وخشية منه، وهو كأبيه الإمام السجاد في ورعه وتقاه وتحرّجه في الدين. لقد عرف عظمة الله تعالى، خالق الكون وواهب الحياة معرفة النبيين والمتقين (9).
2ـ كثرة صلاته:
يقول الرواة أنه كان كثير الصلاة كثير الدعاء، كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة (10). ولم تشغله مرجعيته العامة للأمة وشؤونه العلمية عن كثرة الصلاة، كانت الصلاة بالنسبة إليه أعز شيء عنده وقرة عينه لأنها الصلة بينه وبين الله عز وجل.
3ـ دعاؤه في سجوده:
قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)(11) وجاء في الحديث الشريف: أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد. كان الإمام (عليه السلام) يتجه بقلبه وعقله نحو الله، رب العالمين، ليناجيه بانقطاع تام وإخلاص شفاف. وقد أثرت عنه بعض الأدعية.
رووا عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي، فإذا آوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي. وقد أبطأ علي ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول (12):
(سبحانك اللهم، أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك يا ربي تعبداً ورقاً، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي.. اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم).
وما رواه أبو عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر يقول: وهو ساجد في السجدة الأولى:
(أسألك بحق حبيبك محمد (صلّى الله عليه وآله) إلا بدلت سيآتي حسنات وحاسبني حساباً يسيراً) وقال في السجدة الثانية:
(أسألك بحق حبيبك محمد (صلّى الله عليه وآله) إلا ما كفيتني مؤونة الدنيا، وكل هول دون الجنة) ثم قال في السجدة الثالثة:
(أسألك بحق حبيبك محمد (صلّى الله عليه وآله) لما أدخلتني الجنة، وجعلتني من سكانها ولما نجيتني من سفعات النار برحمتك، وصلى الله على محمد وآله) (13) ثم قال في الرابعة:
(أسألك بحق حبيبك محمد لما غفرت الكثير من ذنوبي والقليل، وقبلت مني العمل اليسير).
هذه الأدعية، كما يتوضح منها، تدل على شدة الإمام (عليه السلام) بتعلقه بالله وشدة تمسكه بطاعته، وعظيم إنابته إليه.
4ـ دعاؤه في قنوته:
وأثرت عنه أيضاً بعض الأدعية التي كان يدعو بها في قنوته منها (14):
(بمنك وكرمك يا من يعلم هواجس السرائر ومكامن الضمائر وحقائق الخواطر، يا من هو لكل غيب حاضر، ولك منس ذاكر، وعلى كل شيء قادر، وإلى الكل ناظر، بعد المهل وقرب الأجل وضعف العمل، وأرأب الأمل.وأنت يا الله الآخر كما أنت الأول مبيد ما أنشأت، ومصيرهم إلى البلى، وتقلدهم أعمالهم، ومحملها ظهورهم إلى وقت نشورهم من بعثة قبورهم عند نفخة الصور، وانشقاق السماء بالنور، والخروج بالمنشر إلى ساحة المحشر، لا ترتد إليهم أبصارهم وأفئدتهم هواء متراطمين في غمة مما أسلفوا، ومطالبين بما احتقبوا، ومحاسبين هناك على ما ارتكبوا، الصحائف في الأعناق منشورة، والأوزار على الظهور مارورة، لا انفكاك ولا مناص ولا محيص عن القصاص قد أقحمتهم الحجة وحلوا في حيرة المحجة وهمس الضجة، معدول بهم عن المحجة، إلا من سبقت له من الله الحسنى فنجا من هول المشهد وعظيم المورد، ولم يكن ممن في الدنيا تمرد، ولا على أولياء الله تعند ولهم استبعد، وعنهم بحقوقهم تفرد.
اللهم: فإن القلوب قد بلغت الحناجر، والنفوس قد علت التراقي والأعمار قد نفذت بالانتظار لا عن نقص استبصار، ولا عن اتهام مقدار، ولكن لما تعاني من ركوب معاصيك، والخلاف عليك في أوامرك ونهيك، والتلعب بأوليائك، ومظاهرة أعدائك.
اللهم: فقرب ما قد قرب، وأورد ما قد دنى، وحقق ظنون الموقنين وبلغ المؤمنين تأميلهم من إقامة حقك ونصر دينك وإظهار حجتك)(15).
هذا الدعاء وثيقة كاملة تحفل بصورة واضحة عن سعة علم الإمام (عليه السلام) في جميع حقوق المعرفة في الظاهر والخفي والمعاد وحشر الناس يوم القيامة لعرضهم للحساب أمام الله، وكل واحد منهم يحمل وزره على ظهره ومطالبه بما اقترفه في الدار الدنيا، ولا ينجو من أهوال ذلك المشهد الرهيب إلا من سبقت له من الله الحسنى ولم يكن من المستعبدين لعباد الله ولا من المتمردين على حقوق الله.
كما يبدو من الدعاء تعريض بحكام الأمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، وإن القلوب قد بلغت الحناجر من ظلمهم.
5ـ ذكره لله تعالى:
يقول المؤرخون، أنه كان دائم الذكر لله، يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، يمشي ويذكر الله، ويتحدث مع الناس ويذكر الله، ولا يشغله عن ذكره تعالى أي شاغل. وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن لا يقرأ منهم أمره بذكر الله (16).
6 مناجاته مع الله عز وجل:
كان أبو جعفر (عليه السلام) يناجي الله تعالى في غلس الليل البهيم، وكان مما قاله في مناجاته:
(أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر، ها أنذا عبدك بين يديك)(17).
7ـ حجه:
كان الإمام (عليه السلام) إذا حج البيت الحرام انقطع إلى الله تعالى وظهر عليه الخشوع والطاعة، وأناب نفسه كلياً إلى رب العالمين.
روى مولاه أفلح قال:
(حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل إلى المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له: بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلاً فلم يعن به الإمام وقال له: ويحك يا أفلح إني أرفع صوتي بالبكاء لعل الله ينظر إليّ برحمة فأفوز بها غداً.ثم طاف بالبيت وركع خلف المقام، ولما فرغ وإذا بموضع سجوده قد ابتل من دموع عينيه)(18).
وحج مرة أخرى فازدحم الحجاج عليه وأخذوا يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم، والإمام يجيبهم، فبهروا من سعة علومه، وأخذ بعضهم يسأل بعضاً عنه حتى انبرى شخص من أصحابه فعرفه لهم قائلاً:
(إلا أن هذا باقر علم الرسول، وهذا مبين السبل، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء. هذا بقية الله في أرضه، هذا ناموس الدهر، هذا ابن محمد وخديجة وعلي وفاطمة، هذا منار الدين القائمة)(19) لم تذكر المصادر عدد المرات التي حج فيها إلى البيت الحرام.
8ـ زهده في الدنيا:
كيف لا يزهد وجده أمير المؤمنين، أبو تراب، (عليه السلام)؟ كان زاهداً في جميع مباهج الحياة فاعرض عن بهارجها وزينتها، فلم يتخذ الرياش في داره، وإنما كان يفرش بمنزله حصيراً.
نظر نظرة عميقة في جميع شؤون الحياة فزهد في ملاذها، واتجه نحو الله تعالى بقلب منيب، يقول جابر بن يزيد الجعفي: قال لي محمد بن علي (عليه السلام):(يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب).فانبرى إليه جابر قائلاً:
(ما حزنك وما شغل قلبك؟).
فأجابه (عليه السلام) بما أحزنه وزهده في هذه الحياة قائلاً:
(يا جابر إنه من دخل قلبه صافي ويذكر الله عز وجل شغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها،؟)(20).
وقد أثرت عنه كلمات كثيرة في الزهد والإقبال على الله، والتحذير من غرور الدنيا. إنه ابن العترة الطاهرة الذين أرسلهم الله تعالى لإرشاد الناس إلى الطريق الصحيح ليأمروا بالحق ولينهوا عن الباطل ويعملوا في سبيل الخير والصلاح.
عبق السيرة النبوية
ماذا نقول عن مصلح اجتماعي كبير رسم للناس من بعده منهجاً سليماً قويماً في صراع الحق مع الباطل، وخنق الفساد وأهله. مصلح وضع خطة في مناصرة الحق والالتزام به مهما بلغت التضحيات. قاوم الظلم والظالمين بالسلاح المناسب في الزمان المناسب بجرأة قوية وهمة عتية وأخلاق نبوية.من هذه السيرة التي تفيض بعبق النبوة نذكر بعضاً منها لحفيد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الإمام الباقر (عليه السلام).
روى الأربيلي وابن الصباغ المالكي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال محمد بن المنكدر: رأيت محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني. فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً، وهو متكئ على غلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا، أشهد لأعظنّه؟ فدنوت منه فسلمت عليه، فسلم علي بنهر وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟
قال: فخلّى عن الغلامين من يده ثم تساند وقال: لو جاءني الموت والله وأنا في هذه الحال وأنا في طاعة من طاعات الله، أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف لو جاءني الموت وأنا على معاصي من معاصي الله. فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني)(21).
روى المجلسي بإسناده عن أبي خالد المكابلي قال:
(دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فدعا بالغداء فأكلت معه طعاماً ما أكلت طعاماً قط أنظف منه ولا أطيب فلما فرغنا من الطعام، قال: يا أبا خالد، كيف رأيت طعامك؟ قلت جعلت فداك ما رأيت أطيب منه قط ولا أنظف ولكني ذكرت الآية في كتاب الله عز وجل: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) فقال أبو جعفر (عليه السلام) إنما تسألون عما أنتم عليه من الحق)(22).
روى الأربيلي قال:
(قالت سلمى مولاة أبي جعفر (عليه السلام) كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم، فأقول له بذلك ليقلّ منه، فيقول: يا سلمى، ما حسنة الدنيا إلا صلة الإخوان والمعارف، وكان (عليه السلام) يجيز بخمسمائة وستمائة إلى الألف وكان لا يمل من مجالسة إخوانه)(23).
رووا أن قوماً أتوا أبا جعفر فوافقوا له صبياً مريضاً، فرأوا منه اهتماماً وغماً، وجعل لا يقر، فقالوا: لئن أصابه شيء أنا نتخوف أن نرى فيه ما نكره، فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه، في غير الحال التي كان عليها. فقالوا له:
جعلنا فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع أن نرى منك ما يغمنا. فقال (عليه السلام): إنا لنحب أن نعافى فيمن نحب، فإذا جاء أمر الله سلمنا فيما أحب)(24).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام) أقل أهل بيته ملاً، وأعظمهم مؤونة، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام)(25).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام):
أعتق أبو جعفر (عليه السلام) من غلمانه عند موته شرارهم، وأمسك خيارهم فقلت: يا أبت تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء؟!
فقال: إنهما أصابوا مني ضرباً، فيكون هذا بهذا)(26).
وكان (عليه السلام) إذا ضحك قال: (اللهم لا تمقتني)(27).
وكان (عليه السلام) إذا رأى مبتلياً أخفى الاستعاذ (28).
وقال له نصراني: أنت بقر، قال: أنا باقر، قال: أنت ابن الطباخة، قال: ذاك حرفتها، قال: أنت ابن السوداء الزنجية، قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، قال: فأسلم النصراني)(29).
روى ابن شهر آشوب بإسناده عن محمد بن سليمان:
(إن ناصبياً شامياً كان يختلف إلى مجلس أبي جعفر (عليه السلام) ويقول له: طاعة الله في بغضكم، ولكني أراك رجلاً فصيحاً. قال أبو جعفر: لن تخفى على الله خافية. فمرض الشامي فلما ثقل قال لوليه: إذا أنت مددت عليّ الثوب فائت محمد بن علي وسله أن يصلي عليّ، قال: فلما أن كان في بعض الليل ظنوا أنه برد وسجّوه، فلما أن أصبح الناس خرج وليه إلى أبي جعفر، وحكى له ذلك فقال أبو جعفر: كلا إن بلاد الشام صرد، والحجاز بلاد حر، ولحمها شديد فانطلق فلا تعجلن على صاحبكم حتى آتيكم. قال: ثم قام من مجلسه فجدد وضوءاً، ثم عاد فصلى ركعتين، ثم مد يده تلقاء وجهه ما شاء الله ثم خر ساجداً حتى طلعت الشمس، ثم نهض فانتهى إلى مجلس الشامي فدخل عليه فسقاه بسويق ودعا له، وقال: املأوا جوفه، وبردوا صدره بالطعام البارد، ثم انصرف وتبعه الشامي فقال: أشهد أنك حجة الله على خلقه، وما بدا لك؟ قال: أشهد أني عمدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلا ومنادٍ ينادي: ردوا إليه روحه فقد كنا سألنا ذلك محمد بن علي، فقال أبو جعفر: أما علمت أن الله يحب العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحب عمله، قال: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر)(30).
وبعد ذكر هذه المناقب الباقرية وهذه السير النبوية ليس لنا إلا أن نعيد ما قاله الحاج علي محمد علي محمد دخيل فنقول: (لو أخذ المسلمون سيرة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) للعمل والتطبيق لحصلوا على أعظم مكسب في حقل التوجيه والأخلاق، ولسادوا الأمم ولامتدوا بالإسلام في أرجاء المعمورة، ولحققوا أعظم انتصار في الحق الداخلي والخارجي. فالبشرية لم تعهد بقادتها وموجهيها وعلمائها ومفكريها على مر العصور والأجيال بمثل هذه السير الغراء وعسى أن يرعوي المسلمون ويعودوا للطريق فيأخذوا من هذا المعين الصافي، والمنبع العذب)(31).
فيا سبحان الله هل نجد أصفى من ذلك المعين الذي تغذى منه آباؤه الأطهار الذين نور الله تبارك وتعالى قلوبهم فأناروا بها الدنيا وحصنوا الدين.
وهل نجد أعذب من ذلك المنبع الذي شرب منه أجداده الأبرار الإمام الحسين سيد شباب أهل الجنة وسبط الرسول وريحانته، وأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب حبيب الرسول الأكرم وحامي لواء الدين من المنحرفين والملحدين والذي يدور مع الحق كيفما دار ويعمل من أجل إعلاء كلمة الواحد القهار، وجده الرسول الأعظم خاتم النبيين والرسول الذي أهداه الله عز وجل للبشرية سراجاً منيراً يهدي الضالين والمغضوب عليهم إلى الصراط المستقيم. فمن كان هؤلاء آباؤه وأولئك أجداده فليس بالغريب أن يتحلى بمثل هذه الأخلاق الكريمة والشيم الحسنة والأعمال النبيلة وهو الإمام المعصوم فرع الدوحة النبوية وأصل الشجرة التي قال عنها الله في القرآن الكريم. وهنا خطر لي ما قاله الثعلبي: (دخل أناس على أبي جعفر (عليه السلام) وسألوه علاقة الإمامة فأخبرهم بأسمائهم وأخبرهم عما أرادوا أن يسألوا عنه وقال: (أردتم عن هذه الآية (شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، قالوا صدقت. قال: نحن الشجرة التي قال الله عنها (أصلها ثابت وفرعها في السماء) ونعطي شيعتنا ما نشاء من أمر علمنا)(32).
المصادر :
1- أعلام الورى للفضل بن الحسن الطبرسي ص266 النص على الأئمة
2- الإرشاد ص281.
3- الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي البياضي ج2 ص161 ـ 162.
4- كفاية الأثر وإثبات الوصية ص142.
5- تاريخ اليعقوبي ج3 ص63.
6- سبائك الذهب ص72.
7- كفاية الأثر لعلي بن محمد الخزاز القمي الرازي ص236.
8- المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص211.
9- تاريخ ابن عساكر ج51 ص44.
10- تذكرة الحفاظ ج1 ص125.
11- سورة غافر، الآية 60.
12- فروع الكافي ج3 ص323.
13- فروع الكافي ج3 ص322 وسفعات النار: لفحات السعير.
14- مهج الدعوات ص52.
15- مهج الدعوات ص52.
16- أعيان الشيعة ج4 ص471.
17- صفوة الصفوة ج2 ص63، ونور الأبصار ص130.
18- المصدر نفسه ج2 ص63 وتاريخ ابن عساكر ج51 ص44.
19- مناقب ابن شهر آشوب ج4 ص183.
20- البداية والنهاية ج9 ص310.
21- الفصول المهمة ص196 وكشف الغمة ج2 ص125.
22- البحار ج46 ص297، سورة التكاثر، الآية 8.
23- كشف الغمة ج2 ص118.
24- بحار الأنوار ج11 ص86.
25- ثواب الأعمال ص185.
26- الدمعة الساكبة ص415.
27- كشف الغمة ص211 ومطالب السؤول ج2 ص52.
28- المصدر نفسه.
29- المناقب ج4 ص186.
30- نفسه ج4 ص186.
31- أئمتنا ص 343 ج1 عن كتابه (سيرة الأئمة) إصدار منابع الثقافة الإسلامية ـ كربلاء.
32- المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص193.