يعطي القرآن الكريم صورة من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.
ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :
( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ * الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (1).
ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.
فمن هم المتقون ؟.
ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ).
( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.
( ويقيمونَ الصلاة ) : فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.
( ومما رزقناهم ينفقون ) : كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.
هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله : ( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (2).
( هدىً من ربهم ) : بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم. ( وأولئك هم المفلحون ) :
بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : « إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته » (3).
ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.
ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :
( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ * الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (4).
ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.
هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.
وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى : ( الم * تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ * هدىً ورحمةً للمحسنينَ * الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ * أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (5).
نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.
وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.
والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.
( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (6).
وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.
( وبشِّرِ المخبتينَ * الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (7).
( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.
وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم : ( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ).
انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.
ولا يأس معه من روح الله لأنه : ( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (8).
( والصَابرينَ على ما أصابَهم ) :من البلايا والمصائب ولكنهم صابرون ليجتازوا عقبة الامتحان فتصفى بذلك نفوسهم وتعرف بهذا التحمل قدراتهم وطاقاتهم الروحية في اجتياز هذه العقبات الامتحانية ، وهم في الوقت نفسه ، تقول عنهم الفقرة الآتية من الآية :
( والمقيمي الصلاة ) : لا يغفلون عن أداء هذا الواجب العبادي المهم رغم ما أصابهم من بلاء ، وما ابتلوا به من محن لأن صبرهم على ذلك أيضاً من العبادة لأنه تحمل لوجه الله وتقرب بذلك إليه تماماً كما يؤدون واجباتهم العبادية الأخرى.
( وممّا رزقناهم ينفقون ) : ينفقون رغم ما تزل بهم من البلاء ورغم ثباتهم في وجه الأعاصير ينفقون مما رزقهم الله.
ويهيب الله بالمنفقين في آية أخرى فيقول عنهم : ( إنّما يؤمنُ بآياتِنا الّذينَ إذا ذُكِّروا بها خرّوا سُجّداً وسُبّحوا بحمد ربّهم وهُم لا يُستكبرونَ * تتجافى جنوبُهُم عن المضَاجعِ يدعونَ ربّهُم خَوفاً وطَمعاً وممّا رَزقناهُم يُنفقونَ ) (9).
هؤلاء هم المؤمنون حقاً ومن هم ؟
وتبدأ الآية الكريمة بذكر أوصافهم أنهم : ( الذينَ إذا ذُكّروا بها خرّوا سُجداً وسَبّحوا بحمدِ ربّهم ).
هؤلاء هم الذين إذا تليت عليهم آيات الله خروا سجداً ، ولا يخفى ما في التعبير بقوله : ( خرّوا ) من لطف وأدب واحترام وخضوع لله شكراً على هدايته لهم بمعرفته وبما أنعم عليهم من نعمة يسبّحونه ويحمدونه على ذلك ، وفي الوقت نفسه يقومون بكل ذلك.
( وهم لا يستكبرون ) :عن عبادته ولا يرون لأنفسهم علواً بإزائه ، ولا يتحرجون من السجود له بتعفير جباههم.
وبتعفير جباههم سجوداً على الأرض سمة تدل على منتهى الخضوع والذلة لو كانت من انسان لأنسان ، ولكنها حيث تكون لله تعطي منتها الرفعة والسمو لأنه سجود لله وخضوع لسلطانه ، ومن أكبر من الله عز وجل ، ومن اعظم منه جلت قدرته.
( تتجافى جنوبُهم عن المضاجعِ ) :والتعبير بالتجافي فيه تصوير دقيق لحالة أولئك المؤمنين ، وهم يتركون المخادع مع شدة تعلقهم بالنوم ، وما فيه من لذة وراحة ليقفوا خاشعين بين يدي الله يسبحونه ويقدسونه.
وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوآله : أنه ذكر قيام الليل ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه فقال : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ).
( يدعونَ ربّهم خوفاً وطمعاً ) :يتركون المخادع ويشرعون في مناجاتهم وصلواتهم وهم في حالة مزيجة بين الخوف والطمع.
الخوف : من عذاب الله وعقابه. والطمع : برحمته وعفوه.
وهؤلاء المؤمنون لا يقتصرون على واجباتهم العبادية إزاء الخالق سبحانه ، بل هم ـ في الوقت نفسه ـ يلتفتون إلى واجباتهم الإجتماعية إضافة إلى الواجب الروحية.
ففي الوقت الذي تراهم يحنون إلى الليل وإلى هدوئه الشامل الذي يخيم على المخادع نراهم يؤدون ما عليهم أزاء هؤلاء المعوزين لينفقوا بما فرضه عليهم الواجب الإجتماعي وقد أخبرت عنهم الآية في قوله سبحانه :
( ومما رزقناهُم يُنفقون ) : الصلاة عبادة روحية والإنفاق عبادة إجتماعية وكلا هذين عبادة ، وهل يتركهم الله وهم يتقربون إليه ويتشوقون للقائه وللوقوف بين يديه ؟.
وتتولى الآية نفسها الجواب على ذلك فيقول سبحانه :( فلا تعلمُ نفسٌ ما اُخفيَ لهم من قُرًةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملونَ ) (10).
وصحيح أنهم لا يعلمون ما أخفي لهم فالإنسان في تكفيره محدود مهما ذهب به الأمل بعيدا ، ولكن رحمة الله واسعة ، وليبق الجزاء لهم مذخوراً لا يعلم به أحد إلى يوم يلقونه ، ولتقر به أعينهم يوم الجزاء.
( قل أؤنبّئكُم بخيرٍ من ذلكم للذينَ اتّقَوا عند ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرة ورضوانٌ من الله والله بصير بالعبادِ * الذين يقولونَ ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) (11).
وقد تعرضنا لهذه الآية في جانب من جوانبها ، وهو ما تعرضت له من بيان الجزاء للمنفقين وبقي علينا أن نرى ما تعرضت له من الجانب الآخر ، وهو الاشادة بالمنفقين والأخذ بيدهم إلى الدرجة الرفيعة التي ينالها عباد الله المتقون تقول الآية الكريمة :
( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم ـ إلى قوله ـ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ).
هؤلاء المؤمنون الذين يتمتعون بجنات ربهم وهم الذين يخشونه ويتوجهون إليه بقلوب مفعمة بالإيمان وبألسنة رطبة بذكر الله يرددون ويلهجون متضرعين يقولون : ( ربنا اننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ).
وهؤلاء هم وقد وصفتهم الآية : ب ( الصابرين ) : على البلاء يمتحنهم الله في هذه الدنيا لتهذيب نفوسهم وصقلها ليكونوا قدوة لغيرهم ومثالاً للإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة.
( والصادقين ) : لأنهم عرفوا أن الكذب منقصة للنفس وخيانة في حق الآخرين فتركوه.
( والقانتين ) : وهم المطيعون لربهم تعلقوا به واخلصوا له العبودية فكانوا قانتين.
( والمنفقين ) : مما آتاهم الله ورزقهم أداءاً لحقه وشكراً على ما أنعم عليهم ورعاية الحق هؤلاء المحرومين.
( والمستغفرين بالأسحار ) : وهو الوقت الذي يخلو به الحبيب لحبيبه يقومون بين يدي الله إذا جنهم الليل متجهين بقلوب مملوءة بالإيمان يستغفرونه ، ويسبحونه.
يقول : في وصفهم أمير المؤمنين عليهالسلام :
« أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يُحزِنُونَ بِهِ أنفسهم ويستثيرون بِهِ دواء دائهم فأذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامعهم مع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله فكاك رقابهم » (12).
هؤلاء المؤمنون ، وهم المنفقون لأموالهم في سبيل الله وطبيعي أن يكون جزاؤهم من الله جنات تجري من تجتها الأنهار خالدين فيها وأزواجاً مطهرة ويظلل كل ذلك رضوان من الله وهو غايتهم من الله وهو غايتهم في الدنيا والآخرة.
المصادر :
1- سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.
2- سورة البقرة / آية : ٥.
3- من كلمات الامام علي عليهالسلام في نهج البلاغة.
4- سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.
5- سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.
6- سورة لقمان / آية : ٥.
7- سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.
8- سورة يوسف / آية : ٨٧.
9- سورة السجدة / آية : ١٥ ـ ١٦.
10- سورة السجدة / آية : ١٧.
11- سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.
12- من خطبة لأمير المؤمنين عليهالسلام : في نهج البلاغة قالها في وصف المتقين.