محمد الرصافي المقداد / تونس / 28 جمادى الثانية 1425 / على طريق الهدى
الاسم الكامل : محمد الرصافي المقداد
الدولة : تونس
الدين والمذهب السابق : سني ـ مالكي
المساهمة : على طريق الهدى
بسم الله الرحمن الرحيم
نشأت في عائلة متدينة ومحافظة على هويتها رغم محاولات المسخ التي أضفيت على المجتمعات العربية تحت عناوين متعددة ، وكان والدي أبقاه الله تعالى ، متعه بالصحة والعافية ، وثبته على منهاج الحق الذي هداه الله تعالى إليه ، مالكي المذهب ، حريصا على أن تتأصل كل تلك المفاهيم في شخصيتي وتتشبع بها روحي ، فتتشكل كما كان يصبو إليه إنسانا مستقيما ، ومؤمنا صادقا في كنف المولى تعالى وعلى عينه عز وجل ، لتقر بيّ عينه ، إلا أنني وان لم أتمكن من تحقيق مبتغاه في أن يكون لي مركز مرموق عند الناس ، وفي مجتمع لا يعترف إلا بالمناصب والشهادات ، دون الالتفات إلى القيم والثوابت التي لا غنى للبشرية عنها ، وهي إن نزعت منها ، أو تباعدت عنها ، فإنها مناطة في كل الأحوال بها ، لا يستقيم شيء بدونها ، لأنها المقياس الحقيقي ، والمجس الذي لا يكذب ، والبذرة التي تعطي خيرا . إلا أنني وفيت حقي لديه ، وبلغت أمله في أن أكون رجلا بالمعنى الإنساني للكلمة ، في عصر بدأ فيه النوع ينقرض ، وغدا البحث عن المثل الذي تجسد في شخصي غير مجد في كثير من الأحوال.
كانت أمي أبقاها الله تعالى المدرسة الأولى التي نحتت شخصيتي وأعطتني من مثالها أخلاقا وحنانا وعطفا وحسا مرهفا رضعته من ثديها وتلقفته أذناي من كلماتها الحكيمة ، في حين كان والدي دام ظله المرشد والولي الذي كان يحوطني باهتمام بالغ ، وكنت فوق ذلك كله مأخوذا بشخصه ، محتميا بظله ، مستشعرا منه مثال الرجل الشجاع ، ونموذج الإنسان الأبي الذي لا تغيره الخطوب ، ولا تؤثر فيه سلبا هزائم المجتمع وخيباته ، استنسخت من شخصيته الشجاعة والكرم والإباء ، وكان الركن الأكثر إضاءة بالنسبة لي في حياته الكريمة يوم حمل يافعا السلاح من أجل استقلال البلاد فقدم نفسه فداء للوطن ، ولم ينتظر من أحد أن يرشده إلى ذلك أو أن يشكره على ما قدم ، فكنت والحق يقال فخورا به إلى درجة الإفراط.
كان دائب الاهتمام بشعائره ، وكان يحثني على الطهارة والصلاة منذ أن بدأّت أعي ، وقبل أن أبلغ سن التكليف، فانطبعت تلك القيم والمفاهيم في نفسي، وكان لها الأثر الأكبر على هدايتي فيما بعد.
وفوق ذلك كنت متميزا بحضور الذهن وسرعة البديهة ، ورهف الحس ، كانت أوقات فراغي دائما مقسمة بين مطالعة كتاب ، أو تأمل طبيعة، أو استماع موسيقى ، أو ممارسة رياضة ، وكانت صحبتي لأقراني مبنية على ذلك الأساس .
كما كنت مجبولا على التلقائية والتطوع لخدمة الناس ، ومنذ أن بدأت ألقف من والدي كان الظلم بالنسبة لي عدوا بغيضا ، معتبرا أن السكوت على الظالمين جريمة كبرى . لست من الذين يلقون الورود على أنفسهم ، لكنني في هذه الحال ناقل لانطباع كل من عرفني عن قرب ، فأحمد الله تعالى على كل ذلك.
أذكر أنه كانت تستهويني صورة معبرة عن الإمام علي (عليه السلام) وهو يقاتل عمرو بن ود الباهلي ، في بيت أحد رفاق المدرسة الابتدائية ، فكنت أقف أمامها مرارا وتكرارها حتى ترسخت في عقلي وروحي من خلال حصص المشاهدة تلك ، ودون إدراك ولا تفسير واضح يعلل وقوفي في كل مرة أمام تلك الصورة ، فانطبعت محبة ذلك الرجل في نفسي ، بحيث لم يبق في قلبي ووجداني ذكر وحب لغير الأصول الثلاثة التي عليها مدار الدين كله عقيدة وشريعة وهي توحيد الله تعالى والإقرار بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الإقرار بإمامة أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وان كنت في سن لا تسمح لي بالتمييز فان فطرتي كانت بالنقاوة والصفاء المطلوبين لانطباع تلك الأصول في داخلي وهو ما فسر لي فيما بعد تلقائية تقبلي لخط أهل البيت (عليهم السلام) واستيعابي السريع لمنظومتهم التي هي أصل الإسلام وروحه وجوهره.
ولما كبرت قرأت في التاريخ الإسلامي كل الأحداث والوقائع بالرواية المذهبية المميعة للقضية ، والمحذرة من مغبة تناولها ، فلم ألتفت إلى حقيقة أهل البيت (عليهم السلام) إلا عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران ، على يد ملهمها آية الله العظمى سيدي ومولاي روح الله الموسوي الخميني (قدس الله تعالى سره وطيب ثراه) ، ذلك الرجل الذي دوخ العالم وحيره ، وجاء بالإسلام ليجعله طريقة وأسلوب حكم ونظرية ولاية فقيه مثلى لقيادة الأمة، وحل لجميع مشاكل البشرية ، جاء الإمام بالإسلام من جديد ووضعه على بساط الفعل وموقع التأثير ، تصديقا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (( والله لو كان الدين في الثريا لناله رجل من فارس )) . كان شغله الشاغل عودة الدين القيم إلى فاعليته وشموليته وعالميته ، كان خطابه موجها إلى جميع الناس ، مختزلا الثقافة الثورية الجديدة، ومبيناً معاني الاستضعاف والاستكبار ، وموضحا لحقائق الأحكام ومعاني الحكم في الإسلام العظيم . فكنت مشدودا إليه مأخوذا إلى شخصه بحيث جاءت صورته الحاضرة لتلتصق بصورة الإمام علي (عليه السلام) التي كنت شاهدتها في صغري وانطبعت في ذاكرتي.
تساءلت يوم رأيت أول مرة صورة الإمام القائد (قدس سره الشريف) أيمكن أن يكون رجل بهذه الملامح وذلك السر وتلك الشخصية وذلك النور في هذا العصر الذي كدنا نفقد فيه كل أمل في الرجولة ومثلها العليا ؟ في يومها كنت منتسبا إلى حركة الاتجاه الإسلامي معتقدا بأن الإسلام لا بد أن يقود الحياة رغم أنوف من يأبى ذلك ، وحملت على عاتقي مسؤولية الظهور بمظهر الاستقامة ، وتمثيل الأخلاق والمبادئ الإسلامية تمثيلا صحيحا وصادقا ، فموضعي من المجتمع لا يحتمل التواني ولا إعطاء الانطباع المعاكس والسيئ لتجربة ما تزال في بداياتها وتبحث لها في المجتمع عن موقع صلب لا تزحزحه الخطوب.
أولى مقارناتي جاءت من صورة الإمام الراحل تساءلت عن ذلك المحيا الملكوتي لماذا لا يوجد لدينا ما يشبهه في مجتمعاتنا السنية ، والحال أن تسميتنا بالسنة معناها أننا أقرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غيرنا ؟
وتعجبت من العمامة السوداء التي وضعها الإمام على رأسه وطريقة لفها، وقلت في نفسي لماذا لبس ذلك الرجل الوقور عمامة سوداء ؟
ولماذا لفها بذلك الشكل على خلاف علماء أهل السنة والجماعة ؟
ألا يكون اللون الأبيض أقرب للدين من غيره من الألوان ؟
لماذا يخيم الحزن على ملامح هؤلاء ؟
وفهمت بعدها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت له عمامة سوداء وكان يلبسها في حروبه وأسفاره ، اسمها السحاب ، أعطاها لأخيه بالمؤاخاتين الإمام علي بن أبي طالب فلم تفارقه حتى استشهد وتوارثت ذريته الطاهرة ذلك الرمز الذي به يعرف علماؤهم إلى العصر الحاضر.
محيا الإمام الخميني (قدس سره) أخذ مجامع قلبي ، وشدني إلى ذلك الرجل الذي غير التاريخ وطوع دوران عجلته ، إلى حيث إرادة قائد وشعب ترسخت فيهم تقاليد العشق الإلهي ، فكان الدافع الخفي نحو البحث في تفاصيل الثورة وأصولها ، وزانهم حب وولاء أهل البيت (عليهم السلام) فاكتملت شخصية المؤمن عندهم وخطت ملامحها حقيقة التوحيد والولاية.
وباعتباري أنتمي إلى مجتمع سني منغلق على نفسه ، شديد الحساسية في مقاربة غيره ، مواليا منذ نشأته للحكام بمختلف تصانيفهم ، لأن تلك المذاهب جاءت بتزكية وتثبيت منه والتاريخ يشهد على ذلك ، فقد كانت الأخبار التي تروج على الإمام الراحل وثورته والجمهورية الإسلامية في إيران زائفة في معظمها ، موجهة من طرف الاستكبار العالمي الذي تقوده أمريكا المهزومة والمجروحة بعد هزيمة عميلها الشاه واقتحام وكر التجسس في طهران من قبل شباب الثورة التواق إلى لقاء الله تعالى بلا أدنى خوف أو وجل من أي كان ، وتفاقم الأمر عند العدوان البعثي الصدامي التكريتي عليهم لعائن الله جميعا ، بحيث أصبح المرء يواجه تركيبة من الأبواق الدعائية الكاذبة لتغطية العدوان ، والإعفاء عن الجريمة النكراء التي تقترف ضد الإسلام والشعب الإيراني المسلم الذي لبى نداء الإمام في أن ينخرط في التجربة الإسلامية الجديدة ، وتحت غطاء القومية العربية كانت صحافتنا واخص بالذكر منها الشروق والصباح اللتين كانتا من النافخين في صورة صدام وعصابته المجرمة إلى أن أصبح بطلا عند العامة في شمال أفريقيا ، كيف لا وهو الذي ضرب الكيان الصهيوني في عقر داره ، لم يدر في خلدهم وقتها وقد أسكرتهم نشوة تلك التمثيلية المفضوحة أن الصواريخ التي أطلقها صدام لم تكن تحتوى على أية حشوة ، وأن اتفاقا كان يقضي بحفظ ماء وجهه من الهزيمة التي تلقاها في بعد ، ودعما للكيان الغاصب للقدس بالأموال التي اتفق على أن تعطيها العراق من عائداتها النفطية ، وإلا إن كان هناك عدل وإنصاف ، لماذا لم يطبل هؤلاء المهرجون لانتصار الثلة المؤمنة من حزب الله في جنوب لبنان البطل على كيان مازال يدوخ أكثر من عشرين دولة عربية ؟
من أجل ذلك الخيار وقف الجميع ضد الإمام الراحل والثورة الفتية ، وحوربت بكل الأشكال التي يتصورها عاقل ، حتى ذوي الميولات الإسلامية ، وأصحاب الأفكار التي تعتمد طرح الدين كبديل لإنقاذ المجتمعات الإسلامية من التفسخ وفقدان الهوية ، سقطوا في فخ الدعاية ، ووقفوا موقفا سلبيا من الإمام والثورة على اعتبارها طائفية لا تلبي طموحاتهم ، ولا تستوعب ما عداها من أفكار إسلامية.
في ذلك الإطار أذكر أنه قد نشر مقال صغير عن الثورة الإسلامية تحت عنوان : ( الرسول ينتخب إيران للقيادة) على صفحات مجلة المعرفة التابعة لحركة الاتجاه الإسلامي في تونس.
أثار فيه صاحبه بأن الثورة بقياداتها وتفاصيلها هي من نبوءات القرآن الكريم ، وتوضيحات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد اعترف كاتب المقال السني المذهب بما أخرجه المفسرون والحفاظ من أسباب نزول الآية التي في سورة الجمعة وهي قوله تعالى : ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) عندما أخرج أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الذين لما يلحقوا بهم فقال مشيرا إلى سلمان الفارسي : (( هم من قوم هذا والله لو كان الدين في الثريا لناله رجل من فارس )) .
غير أن توجه التأييد والاعتراف بإسلامية الثورة تقلص سريعا تحت ضربات الاستكبار وتزايد نفوذ داء الوهابية الذي استغلته أمريكا لقضاء مأربين : الأول : جندت ما أمكنها تجنيده من المسلمين التواقين إلى الجهاد والشهادة من عرب إفريقيا والشرق الأوسط من ذوي الأصول الأشعرية ، على يدي أسامة بن لادن في بيشاور الباكستانية ، وفي مكتبه الذي كان يستقبل الوافدين عليه ، على الحدود الأفغانية في محاولة لهزم الاتحاد السوفييتي الغازي لأفغانستان، لحماية نظام حكم نجيب الله اليساري الموالي للمعسكر الشرقي ، أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة أمريكا والشرقي بقيادة السوفييت. والثاني : لما تأكدت نخب الحركة من التوجه الفكري للثورة الإسلامية في إيران سارعت إلى الوقوف على رابية أبي هريرة ، بل فيها من باشر محاربة الثورة وركوب ظهر الدعاية المغرضة ضدها.
لقد كان لانتقالي من مدينة بنزرت حيث يقطن إلى الآن والداي وإخوتي إلى مدينة قابس للعمل بأحد مصانعها ، الأثر الأكبر في استبصاري ومعرفتي لطريق الحق، وهي السفرة التي غيرت مجرى حياتي ، وجعلت مني إنسانا مفكرا وباحثا عن الحقيقة في البداية وكاتبا لما وقفت عليه من قناعات بعد ذلك .
وصلت إلى مدينة قابس فوجدت ابن عمي الشيخ مبارك بعداش في وضع لا يحسد عليه بعد الخلاف الذي دب بينه وبين حركة الاتجاه الإسلامي والتي عرفت فيما بعد بحركة النهضة ، وكان أحد مؤسسيها وقائدا من قياداتها ، محاصرا في منطقته بشتى الدعايات التي حيكت ضده لتنفير الناس منه ، فكان عليَّ أن أسعى بما أمكنني إلى فك ذلك الحصار من جهة والدفاع عنه برد الدعايات على أصحابها من جهة أخرى .
كنت أذهب إليه بعد العصر وفي المساء ، بعد ما ألفت جلساته ومسامراته ، حتى أصبحت لا أطيق فراقه والابتعاد عن مجلسه.
في أحد الأيام جئت إليه فوجدت بين يديه كتابين ، سألته عنهما فقال لي إنهما جاءاه من طريق شخص , ألح علىَّ أن يقرأهما ويبدي رأيه في محتواهما ، لم يخف الشيخ عدم تحمسه للفكرة ، لكنه كان في النهاية مقتنعا بأنه لا بد من الاطلاع على تصورات وأفكار وعقائد فريق من المسلمين ظلت طروحاته مغيبة قرون طويلة بدافع عصبية الأطراف المقابلة .
الكتاب الأول هو كتاب المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي .
والثاني هو كتاب دلائل الصدق للشيخ المظفر طيب الله ثراهما .
فاستحسنت الفكرة ، سيما وشغفي بالمطالعة لا زال يلازمني كظلي ، واتفقت مع الشيخ أن نبدأ بكتاب المراجعات ، فاستأذنته في أن آتي معي ببعض الأصدقاء ممن يروم جلسات الحوار وتبادل الأفكار والنقاش العلمي في المسائل التي لها علاقة بالدين .
ومن الغد جئت ومعي مرافقان ، وبدأ المجلس الأول بالمراجعة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة حسمت بالنسبة لي مسألة الإتباع والأحقية ، باعتبار انه لا دليل على رجحان المذاهب في مقابل خط الإسلام الصحيح الذي يمثله أهل البيت (عليهم السلام) ، لا من حيث تقليد الناس لهم لتأخره عن القرون الثلاثة الأولى ، التي عاش فيها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، ودل أخذ مالك وأبا حنيفة العلوم عن الإمامين محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب الملقب بباقر العلوم وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) ، على أن الناس كان توجههم إلى الأئمة الهداة بلا فصل ، مما دفع بالأنظمة الحاكمة في رقاب المسلمين ظلما وعدوانا إلى اتخاذ إجراءات النفي والسجن في خصوص الأئمة (عليهم السلام) وأتباعهم.
وان كنا قد ثبتنا النصوص الخاصة التي جاء ت في الأئمة الهداة (عليهم السلام) فان النصوص العامة التي تحدثت عن انقسام الأمة ، والنص الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )) واضحي الدلالة على أن الطائفة هي شيعة محمد وآله الأطهار (صلى الله عليهم) ، لأنه لم يثبت في غيرها حقيقة الإسلام الصافي النقي ، وجلاء النصوص ، وتميز الخط بالعلم والحياة ، والتضحية والفداء ، والتقوى ، بينما لم تأت بقية الخطوط بغير التنازع والاختلاف ، ولم تقدم عن الإسلام صورة واضحة ونظيفة.
وتوالت الجلسات والمراجعات إلى أن حصلت لديّ قناعة بأن الحق لا يمكنه أن يحيد عن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لما توفر من نصوص حاسمة وواضحة وجلية لمن ألقي السمع وهو شهيد ، ولم يمر عليَّ يوم وتطوي الظلمة فيه سدولها إلا وقد ازددت يقينا بأحقية هؤلاء الأطهار في قيادة الأمة الإسلامية ، وتحقيقا للنصوص التي كان السيد المجاهد عبد الحسين شرف الدين الموسوي يقدمها للشيخ سليم البشري شيخ جامع الأزهر في ذلك الوقت ، كنت أعود إلى مراجعة تلك الأحاديث بما توفر لدي من مراجع كفتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر الهيثمي وجامع الأحاديث لمسلم النيسابوري ، وزيادة للاطمئنان كنت أذهب إلى المكتبة العامة بالمدينة عند فقد المراجع التي لا توجد عند الشيخ مبارك.
ولعل هذا أبلغ ما يمكن أن يحتج به ، أن يأتي صاحب الاحتجاج بحجته من كتب الطرف الآخر، ولا أرى من وصلته الحجة فبقي في مستنقعه إلا لئيما خبيثا أو جاهلا لا يعي شيئا.
ومن خلال قراءتنا للمراجعات كانت تتوارد علينا من حين لآخر أسئلة واستنتاجات على هامش الموضوع المتناول ، ففي السيرة مثلا وبعد النظر في أبوابها تبين لنا أن هناك سياسة متبعة في تدوين السيرة تعتمد على تجاهل الأحداث المتصلة بأهل البيت (عليهم السلام) ، وان مر حافظ منهم على شيء من ذلك فمرور الكرام، وإلا لماذا يقع تجاهل مبيت الإمام علي (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ ولا يعطى المسألة حقها الذي تستحق بينما تقرع طبول التضخيم لصاحب الغار .
ولماذا تعفى هجرة علي (عليه السلام) بالفواطم كأنما الحادثة في منتهى البساطة ، والحال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكث في قبا ثلاثة أيام ولم يدخل يثرب ؟
ولماذا تعفى علاقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي (عليه السلام) قبل البعثة وأثناء البعثة ، وطيلة عمره الشريف ، فلا نقرأ غير جاء النبي ومعه أبو بكر وعمر ، والحقيقة غير ذلك تماما، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) ليس له وزير ولا أخ ولا صاحب لم تتغير علاقته به إلى أن مات غير علي (عليه السلام) .
لماذا تمر بطولات علي (عليه السلام) وأعماله العظيمة للإسلام من الباب الصغير بينما تبنى الصروح لأوهام ما كان لها أن تجد طريقا إلى الكتب الإسلامية لولا سياسة المكر والدهاء التي مورست على المسلمين دهرا طويلا.
لا زلت أستشعر تلك الفرحة التي تملكتني ، وأنا أقف على أعتاب علي وفاطمة (عليهما الصلاة والسلام) ، مدفوعا بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي قال فيها: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي )) لا الحديث المحرف الذي كان مالكا أول ناقليه : كتاب الله وسنتي ، لأن الخلاف ليس في السنة وإنما فيمن ينقل عنه ، ولعل عدم اطمئنان مالك لصحة سنده جعله ينقله بلاغا.
وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضا: (( إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) بحيث لم يترك هذا المثل الذي ضربه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذي وجهة وجهته ، فالحالة التي وصفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي ألمت بالأمة هي طوفان كطوفان نوح ، وحيث لا جبل يعصم من الماء غير سفينة أهل البيت (عليهم السلام) ، فمن ركب السفينة فقد نجا من الغرق في متلاطم الفتن وغياهب التحريف والضلالة ومن أحجم عن الركوب ذهبت به مذاهبه في أبحر الغي والجهل كما يقو ل الشافعي .
يومها فقط فهمت أن السنة التي هي بيان لكتاب الله تعالى لا يمكن أن تترك للناس يفعلون بها ما يشاءون ، وفهمت أن الإمامة ليست حكرا على الصلاة فقط بل إن منصبها جسيم وخطير، لأنها في الحقيقة تجسيد للدين ، ومثال حي لكل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحاجة الناس على اختلاف عقولهم وتباين أفئدتهم في أن يكون لهم مثال ونموذج يهتدون به ويقتدون بشخصه ، لم يكن للوقت الذي نقضيه في جلساتنا وزن ولا قيمة ، طالما انه يحمل إلينا في كل جلسة هديا جديدا وعلما حقيقيا لا غبار عليه ولا تزوير فيه ، كانت كل النصوص التي استدل بها السيد صاحب المراجعات من كتبنا ومن صحاحنا ، فلم نستطع ردها ، ولا أمكن مجارات التستر على مضامينها، على طريقة سد عين الشمس بالغربال المعتمدة عند وعاض السلاطين الذين نهلنا من مائهم الآسن دهرا ، فلم نجن منهم غير الخيبة والبعد عن الله تعالى ، وإتباع مسالك الظلم والظالمين الذين عمروا طويلا في منظومتنا الإسلامية تحت مظلة التسامح وغطاء الطاعة العمياء ، ولكن هيهات أن يستمر مسلك الشيطان في غواية من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
حتى أشباه المشايخ والعلماء الذين كان يقصدهم البعض تثبيتا لما وصل إليه من أدلة عقلية ونقلية ، لم يكن في حوزتهم ما يدرءون به عن مذاهبهم ، ولا تركوا انطباعا حسنا لمن قصد مجالسهم، وأذكر في هذا الخصوص أن إمام مسجد الصحابي أبي لبابة الأنصاري بمدينة قابس كان يلقي درسا بعد صلاة المغرب حتى صلاة العشاء (ساعة ونصف بين الصلاتين ) في الفقه ، سأله أحد الحاضرين عن الذين يمسحون أرجلهم في الوضوء ، فثارت ثائرة الرجل ، وتوعد من الغد أن يأتي بالدليل على أن حكم الرجلين هو الغسل في الوضوء.
لم أكن حاضرا ذلك اليوم ، لكنني علمت عشية اليوم الموالي من الشيخ مبارك الذي أعطاني الجزء الأول من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) للشيخ محمد جواد مغنية، وطلب مني أن أذهب لحضور الدرس ومناقشة إمام الجمعة بخصوص حكم الأرجل في الوضوء ، دفاعا عن الحق ، وتقوية لوضع الإخوة المستبصرين الجدد ، فما كان مني إلا أن قصدت المسجد المذكور فصليت فيه المغرب وجلست أنتظر قدوم الإمام ، لم يدم انتظاري طويلا إذ جاء الرجل يحمل قفة من الكتب ، وما إن وصل إلى المكان الذي يلقي منه درسه حتى وضع القفة وجلس ، ثم انطلق يقرا حكم غسل الرجلين من كتب التفسير التي جاء بها معه في القفة ، كان يردد بعد كل كتاب تناوله : هذا ما قاله الطبري في تفسيره ، هذا ما قاله الرازي في تفسيره ، هذا ما قاله القرطبي في تفسيره، هذا ما قاله ابن كثير في تفسيره ...
وما إن انتهى الرجل من استعراضه للحجج القائلة بالغسل ، ورفعت يدي طلبا للكلام ، حتى انبرى قائلا : ( أَقِمِ الصّلاَةَ ) فصليت وراءه مع من صلى ، ولما فرغنا من الصلاة والتعقيب ، تقدمت إليه وهو يستعد للخروج ولا مفر له من أن يستمع إليَّ وهو محاط بكوكبة من المصلين ، فقدمت له الكتاب ، فلم يتمالك من التأخر خطوة إلى الوراء قائلا: ( أنا مكتف بما عندي ) فقلت له : ( سبحان الله ، إن الذي قدمته لك كتاب فقه لإمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أقر له الجميع بالفضل والأعلمية ، ودرس من درس على يديه علوم الدين ، منهم الإمام مالك بن أنس صاحب مذهبك وأبو حنيفة وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم ). ولما أصر الرجل على موقفه وامتنع من تناول الكتاب حضرني سؤال على البداهة فقلت: ( أتسمح لي بسؤال ؟ ) فقال: ( تفضل ) فقلت له: باعتبار أن مذهبكم والذي كنت منتميا إليه يجوز المسح على الخفين والجوارب حال السفر ، فهل يجوز لي أن أمسح على القفاز في إحدى يدي ؟
لم يكن إمام المسجد ينتظر سؤالا كالذي ألقيته عليه لذلك لم يتمالك من القول بأنه لا يدري ما يقوله لي ، فقلت له : ( أنا أقول لك انه لا يجوز لأن حكم اليدين هو الغسل ، فلا يمكن مسحهما ، وجوز فقهاءك المسح على الحائل في الرجلين باعتبار أن الحكم الأصلي هو المسح لا الغسل ، كما إنني ألومك أيها الشيخ لأنك لم تقرا للناس أقوال العلماء بخصوص مسح الرجلين في الوضوء من نفس الكتب التي قرأت منها ) . تحرج الرجل من كلامي فأنهى الحوار الغير متكافئ بقوله: ( إن كنت مقتنعا بالمسح فامسح ) وكان ردي قاسيا ودون إرادة مني : ( لست محتاجا إلى تزكيتك ورأيك حتى أستمر في منهجي التعبدي ) .
ليلتها خرجت من المسجد وأنا في قمة الرضا وفي تمام اليقين بأن الإسلام الحق ليس له مكان ولا وجهة غير البيت الذي اذهب الله تعالى عنه الرجس وطهره تطهيرا.
إمام من أئمة أهل السنة في المنطقة يكتم الحق ويتستر على أقوال من أجل نصرة الرأي الذي تبناه طيلة حياته ، كأنما يرفض الإذعان للحق، وقد عرف الرجل فيما بعد بموالاته للوهابية ، ذلك لأن ابن عمه الدكتور كان من الذين تفسحوا في الحجاز وجمعوا البيترودولار ما شاء لهم أن يجمعوا .
واذكر أيضا أن أحد أقارب الرجل قد اقتنع بأحقية أهل البيت في إمامة الأمة ، فأراد أن يكشف جزءا من الحقيقة للإمام والمسالة التي أثارها هي رزية الخميس ، مستدلا بها من البخاري فاستنجد الإمام بالدكتور ابن عمه ، وكانت المفاجئة في أن الدكتور أنكر وجود الرواية في البخاري ( في الحقيقة اخرج البخاري أكثر من طريق لتلك الحادثة الأليمة ).
ولما قدم إليه المحتج البخاري وقرأ الرواية لم يتمالك من القول: ( وأنت أصبحت منهم ؟ ).
وانطلقت مع الشيخ في حملة دعوية رغم قلة الكتب والمصادر ، وبإمكاناتنا الخاصة وبعون الله تعالى انتشر التشيع في ربوع تونس من الشمال إلى الجنوب بعد أن كان محصورا في مدينة قفصة فقط وبين عدد لم يتجاوز العشرة أفراد لما التقيت بهم مع الشيخ مبارك في بيت أحد الفضلاء حفظه الله تعالى ورعاه ، وفي فترة وجيزة تمكنا من إيصال التشيع إلى الجامعة ومنها انطلق يحشد الموالين للحق وأهله ، لم يكن لنا التأثير الذي تركته الثورة الإسلامية المباركة في إيران فكلنا كان يحتمي بإشعاعها ويقدمها على أنها العنوان المادي الذي يؤكد صحة الدعوى التي أطلقناها ، كما كان حزب الله في لبنان وانتصار ثلته المؤمنة على العدو الصهيوني، وقناة المنار الفضائية وقناة سحر معها ، المادة التي بها توسع التشيع في تونس ، ذلك أن الناس ملت الوعود الفارغة ، وسئمت من أصحاب المنابر الجوفاء ، بحيث لم يعد لهم متسع من الوقت ليستغرقوا في أحلام لا يسفر ليلها عن صبح الحقيقة وبلوغ الغاية التي يصبو إليها كل مسلم غيور على دينه ، فرأى المكلومون منهم والمتحيرون ومن بداخلهم حمية لا تطفأ على الدين وأهله ، أن النموذج الحق والمثال الصادق حل بأفقهم فبادروا إلى الإقرار به والالتزام بمنظومته والسعي قدر الإمكان إلى نشره بين المسلمين ولم يبق لنا من عمل ، غير التوجيه والإرشاد والإجابة على بعض الإشكالات التي كانت تطرح من حين لآخر هنا وهناك.
لم تجد قيادات حركة النهضة بدا من محاربة ذلك المد العقلاني في صفوف المتدينين في تونس فسعت بما توصلت إليه من إمداد وهابي إلى محاربة تلك الظاهرة الفتية فروج قياداتها كتاب الثورة البائسة للخبيث موسى الموسوي وكتب اللعين إحسان الهي ظهير الشيعة والقرآن وغيرها من الإصدارات التي لا تحمل بين طياتها غير السراب والكذب والبهتان والدعاية المغرضة ، ورغم أن كل تلك الإصدارات قد وقع الرد عليها من طرف العلماء الأجلاء رضوان الله تعالى عليهم ولم تكن بحوزتنا ، فقد كنا متيقنين من ثبات موقفنا وسلامة طريقنا، لأنه طريق الطاهرين من آل محمد (صلى الله عليهم جميعا) ، فلم تحركنا تلك الشطحات ، بل زادت من عزيمتنا في المضي قدما من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أفراد هذه الأمة المستخف بها.
وجاءت كلمة زعيم حركة النهضة إجابة على سؤال طرح عليه بخصوص ظاهرة التشيع في تونس فقال: ( لقد أعلمنا السلطة بحقيقة الشيعة ، ولا بد من التصدي لهذه الظاهرة ، لأنه ليس لها مكان في شمال أفريقيا ) . والكلام مسجل على الرجل في شريط منذ أن نطق به . لقد كان يرى أن الشيعة والتشيع قد قضي عليهما في مجازر جماعية في أواسط القرن الخامس على يدي من أسموهم بقادة حركة الإصلاح وزعماء الاعتدال ، وما هم في الحقيقة غير عصابة من المجرمين المنفذين لرغائب أعداء الله تعالى ، وقتلة الأنفس المحترمة بغير وجه حق ، وعليه فلا عودة للتشيع بعد الإبادة ، كأنما يريد القول بأن تلك الظاهرة قد ماتت ولفتها بطون كتب التاريخ بدون ذكر ولا إشارة إلى خطورة ذلك الجرم المقترف في حق أصحاب رأي هم أحرار في النهاية بتبنيه والاعتقاد به ، وعليه فان عودة التشيع من جديد إلى هذه الربوع يعتبر شذوذا يجب التصدي له ، فدعا الرجل إلى قمع الفكرة من وضع القمع الذي هو مسلط عليه ، فهل في ذلك عقل وتعقل ؟ أمات تصوره بأن التشيع لن ينجح في تونس ، باعتباره حالة غريبة عن تقاليد البلاد ، مقايسا صعوبة نقل السني المالكي من التقليد الأعمى المنغلق إلى الانفتاح على الأفكار ومجاراة العصر، فالحاصل الآن يفند قراءته ، ويؤكد أن الفكرة الصائبة تنموا في كل مكان حتى لو كان جدبا ، أما ادعاؤه بأن عقائد الشيعة فاسدة ، فان الكلام ليس كلامه وإنما هو متبع في ذلك لأقوال من سبقوه كابن تيمية وابن الجوزية ، آثر إتيان البيوت من ظهورها ، فضل وأضل.
لم تكن مسالة الإمامة التي عليها مدار الخلاف الجوهري بين الفريقين لتحجب عنا بقية العقائد وخصوصا التوحيد والنبوة ، فكان كتاب دلائل الصدق الموسوعة التي أعطتنا التصور الصحيح لمعاني التوحيد ، بعيدا عن شرك بقية الفرق في اعتقاد أن صفات الله تعالى هي غير ذاته ، وتجسيم المولى بالادعاء عليه بأن له أعضاء وجوارح ، ونزوله إلى السماء الدنيا ، ووضع رجليه في النار ، ورؤيته يوم القيامة ، والاعتقاد بقدم القرآن وغير ذلك من الشطحات التي لا تقف على دليل سليم . كما في نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خلاف فمن ينتسبون لسنته ، يعتقدون بعدم عصمته في ما عدا الوحي ، بينما يعتقد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن ورائهم شيعتهم بعصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقا ودون تخصيص ، ذلك أن حياة المصطفى كلها تشريع ووحي ، وهي بالتالي محكومة بملكة العصمة التي لا مناص منها لتحقيق الثقة والتسليم لدى الناس في تلقيهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
أذكر كذلك في بداية تشيعنا أننا وفي إطار حملتنا الدعوية قد فتحنا باب الحوار والنقاش مع كل الشرائح الإسلامية المتواجدة على الساحة الداخلية ، غير أن أطرف ما يمكن ذكره هنا أن أحد قيادات حركة النهضة قد استنجد بأحد عناصر حزب التحرير لمواجهتنا وإفحامنا ، وقد كنا ناقشنا قبل ذلك قياداته أذكر منهم الأستاذ محمد سعيد الذي كان منغلقا جدا على كتابات شيخه تقي الدين النبهاني ، أعطيناه كتاب الغدير للشيخ الأميني فلم يقرأه ، وان بحث فيه فعن سابق نية بعدم قبول شيء منه ، لأنه بعد ذلك جاء ليستنكر وجود نجمة سداسية بين صدر وعجز الأبيات الشعرية في الكتاب ولسان حاله يردد أن اليهود يقفون وراء هذه الكتب ، فقلت له هذا ما وجدت من عيب في الكتاب ، وهو مما لا يعاب عليه الكاتب ، ثم إن النجمة الخماسية والسداسية والسباعية والثمانية وغيرها أشكال هندسية لا علاقة لها بالعقيدة وان نسبت السداسية للنبي داوود (عليه السلام) فليس فيها ما يعيب كاتبا ولا كتابا ولا مطبعة.
كانت المناظرات مع ذلك الرجل رتيبة ثقيلة ، لأنه لم يترك لنا مجالا لمقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان ، ليس لديه غير ما قاله النبهاني ، حتى أنه تجرأ ورد حديث الغدير واعتبره موضوعا وأن الحادثة من اختلاق الشيعة ، لأن عليا (عليه السلام) كان باليمن ولم يلحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحج، وهو من خلال كلامه ذلك ناقل لما كتبه النبهاني في كتابه الشخصية الإسلامية ، باب الشرع لم يعين خليفة.
وكانت إجابتنا أن أصحاب السير والتاريخ كلهم قد أجمعوا على وقوع الحادثة وصدور الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وموافاة علي (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع ، وحجه لتلك الحجة قارنا كحج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما حج بقية الناس حج تمتع ، وذلك القران يفيد معاني عدة منها أن النبوة والإمامة مقامين مقدسين في الأمة يجب وضعهما موضع الطاعة المطلقة والولاء الذي لا يخالطه شك في ارتباطهما ببعضهما من حيث التكليف الإلهي المتمثل في الحفظ والتطبيق.
ولما جابهنا الأستاذ بحجج حضور علي (عليه السلام) لحجة الوداع وظهر كذب النبهاني ، تظاهر بتسجيل تلك المعلومة ، لمزيد البحث ولا أراه فعل ذلك.
وقد وجدت في إحدى المكتبات المحسوبة على حركة النهضة بمدينة قابس عددا من الكتب التي تتهجم على التشيع وعلى الثورة الإسلامية في إيران ، فما كان مني إلا أن توجهت باللوم إلى أحد القيادات المعروفة وكان متواجدا في تلك اللحظة ، فما كان منه إلا أن أمر البائع بسحب الكتب ، لكنني لما عدت في اليوم الموالي وجدتها معروضة من جديد.
أجمل الذكريات التي لا تزال عالقة بذاكرتي ولن تنمحي يوما ، إنني في بداية تشيعي سنة1981 رأيت في منامي أن في يدي رسالة من الإمام علي (عليه السلام) احملها وأنا داخل إلى بيت الله الحرام لأسلمها إلى صاحب الزمان الإمام المهدي (عليه السلام وعجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه) ، جعلني الله وإياكم من جنده وأنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه . فكانت تلك الرؤيا دافعا كبيرا وحافزا على مزيد العمل والبذل من أجل إعلاء كلمة الله تعالى.
وإنني إن نسيت شيئا فإنني لن أنسى أخي وحبيبي ورفيق دربي عبد الله السويلمي الذي كان رجلا قل أن التقيت بمثله في حياتي ، الذي سهل عليَّ استبصاره ، هو انقياده لفطرته وعيشه في الحياة بدون أدنى زينة ، كان تلقائيا بما في الكلمة من بعد ، وكان إنسانا بما في اللفظ من معنى ، تعرفت عليه في عملي ، فلم أتمالك من الاقتراب منه والتودد إليه ، وكانت استجابته أسرع ، فاتخذته صديقا وأخا ، أردت منذ البداية أن أعرفه بإسلام أهل البيت (عليهم السلام) ، فوجدت في داخله مخزونا خاما لروح التشيع ، ومكمنا في ثنايا وجدانه لمعانيه السامية ، وجدت ذلك كله لديه ولكن بلا مسميات ولا عناوين ، مما سهل عليَّ عملية إخراج ما يختزله من قيم ومعاني ، وإعطائها العنوان الذي تقبله بكل فرح وسرور ، ومن اليوم الذي حدثته فيه عن أهل البيت (عليهم السلام) ، كانت رؤاه وأحلامه تصب في إطار واحد ، لقد كان عبد الله يعيش جزء من ليله مع أعداد كبيرة من أصحاب العمائم السود والبيض ، وفي اليوم الموالي يأتيني منشرحا ليحكي لي حلمه الجميل والرائع . رجل حمل الصدق في قلبه وانطلق في هذه الدنيا غريبا يبحث عن رفيق يقاسمه الصحبة والطريق ، لم يجد غيري في وحشته على هذه الفانية ، ولم أجد غيره مؤمنا خالصا لله تعالى، وكان له الأثر البالغ في تشيع ثلة مؤمنة بإحدى جهات الجنوب الغربي التونسي ، أسأل الله تعالى له ولكل مؤمن الفرج وقبول الأعمال ومرافقة محمد وآل محمد دنيا وآخرة.
لعل أطرف ما يمكن ذكره هنا أنني في إحدى سفراتي إلى إحدى مدن الجنوب التونسي مرفوقا بالشيخ أو وحدي ، حصلت نادرة وجب ذكرها للإخوة تمثلت في أن الشخص الذي كنا نذهب إليه لدعوته ، كان يقبل منا الحديث والكتب ، ويظهر إصغاء يعبر عن قناعة تامة بكل ما نحدثه به ، والأخ الكريم وان لم يحصل لديه في واقع الأمر يقين كامل بصحة كل ما ننقله إليه ، فانه كان مقتنعا ببعضه على الأقل الأمر الذي جعله يفاتح أحد أقاربه من كبار السن ، ذلك الرجل لم ينم ليلته تلك وبات متقلبا على فراشه إلى أن قارب الفجر عندها أحس بيد توقظه ، وصوت يناديه قائلا : ( قم فان أهل السنة على باطل ) وما إن انبلجت تباشير الصباح حتى هرع الشيخ إلى قريبه راويا له ما قع الليلة الفارطة ، مختتما قوله علمني الآن فقه أهل البيت (عليهم السلام) في الوضوء والصلاة لتكون عبادتي صحيحة وموالاتي لهم تامة . فكان ذلك الدافع والحافز لتشيع الأخ الثاني .
وكان الابتلاء أسرع إليَّ من أي شيء تصديقا لقول الإمام علي (عليه السلام) عندما جاءه رجل فقال له إني أحبك يا أمير المؤمنين فقال له : استعد للبلاء جلبابا. فقد تم اعتقالي ثلاثة مرات تحت عناوين مختلفة ، ووقعت مداهمة بيتي بحجة التفتيش والتثبت ، وأخرجت من عملي بدعوى إعادة هيكلة المؤسسة والحقيقة تقول غير ذلك ، فأحمده تعالى على السراء والضراء وأفوض إليه أمري ، وألجئ ظهري ، وأسأله تعالى أن يلهمني في مواقف الشدة والبلاء صبرا ، انه سميع مجيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
البريد الالكتروني لمرسل المعلومات : mrmok2003@yahoo.fr