تمهيد
تعتبر المفاهيم الذهنيّة من أهمّ الوسائل التي يستعملها العقل؛ لأنّ وظيفته الأساسيّة هي إدراك المفاهيم الكليّة(1).
وإذا نظرنا إلى طريقة انتزاع العقل للمفاهيم العقلية نشاهد أنّ هذه المفاهيم تارة تنتزع من المدركات الجزئيّة، كالمدركات الحسيّة والخيالية والوهميّة، وتكون حاكية عن حدود وجودها، هذا النوع من المفاهيم يسمّى بالمفاهيم الماهويّة.
وتارة أخرى يقوم العقل بنشاطه بنفسه بانتزاع المفهوم وإن كان يستمد من لون من ألوان الإدراك الشخصي والحضوري، لكن هذا النوع من المفاهيم لا يكون منحصراً في حدود هذا الإدراك وإنّما يتعداه إلى ما هو أوسع دائرة منه(2)، ولكن هذا لا يعني عدم محدودية مدركات العقل، بل هناك حقائق وأمور لا يستطيع العقل وإدراكها والكشف.
وبذلك يتضح أنّ المفاهيم الماهويّة التي تحكي عن حدود الموجودات الإمكانية(3) لا يمكن إطلاقها على الله تعالى؛ لاستحالة إحاطة العقل به تعالى، إذ أن العقل مع ما له من السعة، ولكنه يبقى محدوداً بحدود خاصّة تحول بينه وبين إحاطته بكل شيء.
وأمّا سائر المفاهيم العقلية، فإذا كانت خالية من شائبة ونقصان الإمكان، فحينئذٍ يمكن أن تتخذ وسيلة لمعرفة الصفات والأفعال الإلهيّة، ومن هذا القبيل مفاهيم واجب الوجود وعلّة العلل ومسبب الأسباب والربّ والخالق وسائر الأسماء والصفات الشائعة في عرف الفلاسفة والمناطقة.
ومن هنا نجد الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) عندما يتعرضون لصفاته تعالى يستعملون قيد التنزيه ونفي المشابهة مع مخلوقاته، قال العلامة الطباطبائي:
قد دلّ العقل والنقل أنّ كلّ صفة كمالية فهي له تعالى، وهو المفيض لها على غيره من غير مثال سابق، فهو تعالى عالم قادر حي، لكن لا كعلمنا وقدرتنا وحياتنا، بل بما يليق بساحة قدسه من حقيقة هذه المعاني الكمالية مجردة عن النقائص (4).
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(5)، وسنذكر هنا إتماماً للبحث المتقدّم أقسام صفاته تعالى كما ذكرها علماء الكلام.
أقسام الصفات بشكل كلّي
إنّ الصفة تارة ينظر إليها بلحاظ حكايتها وعدمها عن أمر واقعي وجودي ورائها، فتنقسّم الصفات إلى الإيجابيّة والسلبيّة، والإيجابيّة بلحاظ نوع من الاعتبارات المعينة فيها تنقسم إلى حقيقيّة وإضافية، والحقيقيّة إلى محضة وذات إضافة.
وتارة أخرى ينظر للصفة من زاوية منشأ انتزاعها، فإن كانت منتزعة من مقام الذات سمّيت ذاتيّة، وإذا كانت منتزعة من مقام الفعل سمّيت فعليّة.
هذا، وللحكماء وعلماء الكلام إطلاقات أخرى على هذه الصفات فيعبّرون عن الصفات الإيجابيّة بالثبوتيّة والجماليّة، وعن السلبيّة بالجلاليّة. وقد يطلقون على الصفات الحقيقيّة اسم الصفات النفسية(6)، وأما أهل الحديث فلهم اصطلاح خاص في تقسيم الصفات، حيث يقسمونها إلى الصفات الخبريّة والذاتية(7).
وهناك أقسام أخرى باعتبارات أخرى ذكرها أصحاب الفن في محلها قد عرضنا عن ذكرها تحاشياً من الإطالة.
وملخص القول فيها:
إنّ الصفات باعتبار حكايتها وعدمها عن المطابق الخارجي تنقسم إلى الإيجابية والسلبية، والإيجابية إلى حقيقية وإضافية، والحقيقية إلى المحضة وإلى ذات الإضافة، وباعتبار منشأ انتزاعها، تقسّم إلى ذاتية وفعلية.
الصفات الإيجابيّة والسلبيّة:
الصفات الإيجابيّة: وهي التي تفيد معناً إيجابيّا ثبوتيّاً، وتحكي عن وجود كمال وواقعية ورائها.
الصفات السلبيّة: وهي التي تفيد معناً سلبياً عدمياً وتحكي عن سلب نقص واحتياج عن الذات الإلهيّة، وهذه ترجع في حقيقة الأمر إلى الصفات الإيجابيّة؛ إذ هي تفيد سلب سلب الكمال، ومرجعه إلى إيجاب الكمال؛ لأنّ نفي النفي إثبات، فحقيقة ليس بجاهل مثلاً ترجع إلى العالم، لأنّ الجاهل ليس بعالم فيدخل النفي والسلب عليه فيكون ليس ليس بعالم، أنّه عالم؛ لأنّ السلب الثاني ارتفع بدخول السلب عليه، فيرتفع السلب ويبقى العالم ثابت، وهو ما يعبر عنه بقاعدة (نفي النفي إثبات)، أو (سلب السلب إثبات)، وكذلك هو جارٍ في كل صفة سلبية فإنّها ترجع على أساس العمل بهذه القاعدة إلى إثبات صفة حقيقة ثبوتية، كصفة نفي العجز، ترجع إلى قادر، وهكذا بقية الصفات السلبية الأخرى.
قال العلامة الطباطبائي:
تنقسم الصفة إلى ثبوتية كالعالم والقادر، وسلبيّة تفيد معنى سلبياً، لكنك عرفت آنفاً أنّه لا يجوز سلب كمال من الكمالات منه تعالى لكونه مبدأ كل كمال. فصفاته السلبيّة ما دلّ على سلب النقص والحاجة، كمن ليس بجاهل، ومن الكمال وهو إيجاب الكمال، فمعنى ليس بجاهل: سلب سلب العلم، ومعناه إيجاب العلم. ثمّ الصفات الثبوتية تنقسم إلى حقيقية كالحي، وإضافيّة كالقادريّة(8).
وقال صدر الدين الشيرازي:
الصفة إمّا إيجابيّة ثبوتيّة وإمّا سلبيّة تقديسيّة، وقد عبّر الكتاب عن هاتين بقوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير، وصفة الإكرام ما تكرمت ذاته بها وتجملت، والأولى سلوب عن النقائص والإعدام وجميعها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الإمكان عنه تعالى (9).
فالعلم والقدرة والحياة، من الصفات الثبوتيّة؛ لأنّها تشير إلى وجود كمال وواقعيّة في الذات الإلهيّة.
وأمّا نفي الجسمانيّة والتحيّز والحركة والتغيّر، فمن الصفات السلبيّة؛ لأنّها تشير إلى سلب النقص عن ساحته المقدسة.
الصفات الحقيقّة والإضافيّة
تنقسم الصفات الإيجابية الثبوتية إلى صفات حقيقية، كالحيّ، وصفات إضافية، كالعالمية والقادريّة، وملاك الانقسام هنا هو كفاية الذات في عمليّة انتزاع الصفة أو عدم كفاية ذلك، إلاّ بملاحظة ما هو خارج عنها.
وبناءً على هذا الملاك فالمقصود بالصفات الحقيقية هو أنّ ملاحظة الذات فقط تكفي في الاتصاف، بخلاف الصفات الإضافيّة ؛ إذ أنّ ملاحظة الذات لا تكفي في الاتصاف، بل لا بدّ أيضاً من ملاحظة الخارج عن الذات.
فلو نظرنا إلى الحياة مثلاً نشاهد عدم افتقار الذات بالاتصاف بها إلى شيء غير الذات، بخلاف العالم والقادر فإنّا نحتاج في وصف الذات الإلهيّة بهذه الأوصاف إلى مشاهدة الخارج عن الذات كالمعلوم والمقدور، حتى يستطيع العقل انتزاع مفهوم العالم والقادر وصفات الذات المتعالية بها.
إنّ الصفات الحقيقية والإضافية كلاهما ناظران إلى الذات، وهذا بخلاف الصفات الفعلية فإنها ناظرة إلى فعله تعالى لا إلى ذاته(10)، فلا يختلط عليك الأمر بأن لا فرق بين الصفات الإضافية والفعليّة. وأيضا كلاهما، اعني الصفات الحقيقية والإضافيّة، يفيدان معنىً ثبوتياً، ويعكسان كمال وجودي في الذات الإلهيّة.
ثمّ إنّ الصفات الحقيقيّة إمّا حقيقيّة محضة إن لم تكن نسبة في البين ولا لازمة لها، كالحياة والوجوب بالذات وعلم العالم بذاته. وإمّا حقيقية ذات إضافة فهي وإن لم تكن نسبة، ولكن تكون ملزومة للنسبة، كالعلم بالغير والقدرة عليه، فعلم زيد بالشمس مثلاً صورة في ذهنه وليس إضافة بل كيفيّة ولكن تلزمها النسبة إلى الشمس الخارجية وتلك النسبة هي العالميّة، قال العلامة الطباطبائي:
الصفات الثبوتية تنقسم إلى حقيقيّة كالحي، وإضافيّة كالعالميةّ والقادريّة. والحقيقيّة تنقسم إلى حقيقيّة محضة كالحي، وحقيقيّة ذات إضافة كالخالق والرازق(11).
الصفات الذاتيّة والفعليّة:
تنقسم الصفات على أساس منشأ انتزاعها إلى صفة ذات، وصفة فعل، ويقصد بالأولى ما كان منشأ الانتزاع فيها الذات الإلهية لوحدها دون ملاحظة أي شيء آخر مع الالتفات والأخذ بعين الاعتبار نحو من أنحاء الكمال الوجودي، كالحياة والعلم والقدرة. ويقصد بالثانية ما كان منشأ انتزاعها هو نفس الفعل الخارجي بملاحظة أنّ له مفيضاً خارجاً عنه، فالمخلوق له خالق، والمرزوق له رازق، والمربوب له ربّ، وهكذا في سائر الأفعال الوجودية الخارجية؛ لقاعدة (فاقد الشيء لا يعطيه) بمعنى أن المخلوق لم يكن شيئاً مذكوراً ثم كان، فما عنده من الوجود وكمالته ليس من ذاته الفاقدة لها قبل الوجود، بل من عند غيره، فهو مخلوق فله خالق، كما جاء في قول الطباطبائي بأنّ: الصفات الذاتية بالصفات المنتزعة من مقام الذات، والصفات الفعليّة بالصفات المنتزعة من مقام الفعل(12).
ولا يخفى على المتأمل أنّ القول بكون الصفات الفعلية زائدة على الذات الإلهيّة، بخلاف الذاتية التي هي عين الذات، ومع هذا لازم من وصفه بها التعدد في الذات، أو التركيب فيها؛ إذ أنّ نسبتها لله تعالى لا تعني وجود كمال وجودي آخر غير الذات الإلهيّة، بحيث يمكن أخذ الذات بمعزل عنه، لأنّها إذا كان هكذا لزم خلو الذات عنه وفقدانها له، وهو غير صحيح؛ لما أورده القائلون بعينية الصفات للذات من أدلة عقلية قطعية ثابتة، وهو خلاف الماديات؛ لإمكان تصور صفاتها بمعزل عن ذاتها مع إثبات زيادتها عليها بالأدلة العقلي؛ حيث لا يضر فقدان مثل هذه الصفات عن ذاتها، كصفة اللون والرائحة ونحوها.
وبعبارة أخرى: إنّ العقل حينما ينظر إلى الذات الإلهيّة ويشاهد فيها كمالاً وجودياً فيصفه بالعلم، ثم ينظر فيشاهد فيها كمالاً وجودياً آخر مع عين وحدتها فيصفه بالقدرة وهكذا، فالصفات الذاتية لواجب الوجود هي مفاهيم عقلية تنتزع من مصداق واحد وليست هي علامة على وجود التعدد والكثرة في الذات الإلهيّة، فالكثرة فيها مفهومية اعتبارية لا مصداقية حقيقية.
الصفات الذاتية
1ـ الحياة
تعدّ الحياة من صفاته تعالى الذاتية، وقد اتفق الإلهيون على ذلك، كما اتفقوا على أنّ حقيقتها مجهولة الكنه، وهذا الجهل يشمل مطلق حقيقة الحياة دون أن يقتصر على حياة الباري تعالى فقط؛ ولذا انعطف البحث بعد عجزه عن معرفة حقيقة الحياة، إلى البحث عن آثارها؛ فإنّ قولنا مثلاً: الإنسان حيوان ناطق، هو إشارة إلى ذاته بخلاف، قولنا: الإنسان حيوان ضاحك وماشي و...، فإنّه إشارة إلى آثاره.
ومما لا شك فيه هو وجود الحياة في بعض الموجودات المادية، وهذه الحياة المادّيّة في الكائن الحيّ تتقوّم بركنين أساسيين هما الفعل والدرك، وهذا هو الملاك فيها وهو محفوظ في جميع المراتب لكن مع تكامل يتناسب مع تلك المرتبة، ورغم هذا التفاوت بينها إلاّ أنّا نصف الكلّ بالحياة، ومن هنا جاز وصفه تعالى بالحياة، فهي من صفاته تعالى، والحيّ من أسمائه بمعنى الفاعل والمدرك، لكن لا كفاعلية الممكنات ودراكيتها، بل حياة مناسبة لذاته المتعالية ومقامه الأسنى.
وأيضاً حقيقة العلم والقدرة تكمن في الحياة، فهما من لوازمها، وهي المبدأ الوجودي الذي يصدران عنه، فإذاً كلّ من له علم وقدرة فهو حيّ، ولو جاز إطلاق الحياة على من له علم وقدرة زائدان على ذاته، فمن باب أولى جواز إطلاقها على من له علم وقدرة عين ذاته. هذا مضافاً إلى أنّه تعالى واهب الحياة، ولا يجوز أن يكون معطي الشيء فاقداً له.
قال العلامة الطباطبائي:
الحياة التي في الحيوان مبدأ وجودي يترتب عليه العلم والقدرة. وإذا كان الشيء الذي له علم وقدرة زائدان على ذاته حيّاً، وحياته كمالاً وجودياّ له، فمن كان علمه وقدرته عين ذاته وله كلّ كمال، وكل الكمال، فهو أحقّ بأنّ يسمّى حيّاً، وهو الواجب بالذات (13).
2ـ العلم
قسموا العلم إلى قسمين:
القسم الأول: العلم الحصولي: وهو حصول صورة الشيء في الذهن، وهذا النوع من العلم قطعاً غير مقصود في الكلام لما فيه من الفقر والحاجة.
القسم الثاني: العلم الحضوري: وهو حضور المعلوم لدى العالم من دون توسط أي شيء. وأهم موارد هذا النوع من العلم في الممكنات هي:
أ. علم النفس بذاتها، على أن التغاير بين العلم والعالم والمعلوم اعتباري، واعني من التغاير هو أن النفس من حيث وقوفها على ذاتها تسمى عالمة، ومن حيث أنّها مكشوفة لها تسمى معلوماً، ونفس حالة الحضور والانكشاف تسمى علماً، فإذاً في علم النفس بذاتها يوجد علم وعالم ومعلوم، وهذا لا يخل بوحدتها ؛ إذ ليس هنا إلاّ شيئاً واحداً لكن التغاير بحسب الاعتبار كما ذكرنا آنفاً.
ب. علم النفس بحالاتها وخواصها الباطنية، كالمحبة والعداوة والشجاعة و...
ج. علم النفس بقواها الإدراكية وغير الإدراكية (14).
وهذا القسم من العلم، أعني الحضوري، هو المقصود من الكلام عند البحث عن علمه تعالى، وقد أجمع الفلاسفة الإلهيون على أنّ العلم من صفات الله تعالى الذاتية الكمالية وأنّ العالم من أسمائه، إلاّ أنّ الاختلاف وقع في حدود علمه تعالى وكيفيته؛ ولذا يحتاج الكلام هنا إلى البحث في عدّة أمور:
الأمر الأول: علمه تعالى بذاته
كلّ من يعتقد بتجرّد الذات الإلهيّة عن المادة فإنه يستطيع أن يدرك بأنّ للواجب تعالى علماً بذاته في مرتبة ذاته وهو عين ذاته، وقد عدّ البعض علم كلّ مجرّد ـ وليس الواجب تعالى فقط ـ بذاته من الضرورات(15)، لكن مع ذلك يمكن أن يستدل عليه ـ إذا كان هناك من يشكك في علمه تعالى بذاته ـ بهذا الشكل، وهو أن يقال أنّ العلم بالذات من الكمالات الوجوديّة التي يتمتع بها حتى الإنسان، ومن البديهي أنّ الواجب تعالى له كل كمال وجودي بشكل غير متناهي وبما يتناسب مع مقامه الأسنى، فإذاً له تعالى هذا الكمال الوجودي أعني العلم بذاته وعموماً فالمسألة ليست معقدة ولا تحتاج إلى مشقة في إثباتها خصوصاً على أساس أصول الحكمة المتعالية(16).
الأمر الثاني: علمه تعالى بالأشياء قبل إيجادها (العلم الذاتي)
يعدّ هذا الأمر من المسائل التي وقع فيها تباين شديد في الآراء بين الباحثين من الفلاسفة والعرفاء والمتكلمين، ولعلّ إثباته وتوضيحه ليس بتلك السهولة التي مرت في الأمر الأول.
ولكن يمكننا القول بقاطعية تامة إن الله يعلم بالأشياء قبل الإيجاد، فهو تعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون إلى أبد الآبدين.
وعلمه تعالى هذا فعلي وليس انفعالي، ويقصد به أنّ المعلوم تابع للعلم بمعنى أنّ المعلوم وجد على أساس العلم، لا أنّ هذا العلم وجد على أساس المعلوم الخارجي.
ولقد سبقت الإشارة إلى أن العلم من الصفات الذاتية التي هي عين الذات الإلهيّة، وعلمه تعالى بالأشياء قبل إيجادها غير مستثنى من ذلك، وهذا يعني أيضاً أنّه علم غير متناهٍ؛ إذ لمّا كانت الذات الإلهيّة غير متناهية، وهذا العلم هو عين الذات، فهو غير متناهيٍ أيضاً.
ومن الخصائص الأخرى كونه علم لا يتبدل، ولا يتغير، ولا يقع فيه البداء، وأنّه علم حضوري، بل علمه تعالى مطلقاً علم حضوري كيفما فرض.
وتبقى الملاحظة الأهم التي يجب الإشارة إليها هي كون علمه تعالى هذا علماً تفصيلياً في عين البساطة؛ إذ لو تركب لتنافى مع بساطة الذات، وهذا هو المراد من قولهم: إنّ له تعالى علماً إجمالياً في عين الكشف التفصيلي(17)، فالمقصود من الإجمالي هنا هو البسيط، غير المركب، وليس المراد إنّه علم مبهم في عين التفصيل؛ لأنّه من المحال أن يكون مبهماً ويكون مفصلاً في آن واحد.
والغرض من وراء هذا القول هو دفع ما قد يتوهم من أنّ فرض بساطة الذات الإلهيّة يتنافى مع القول بعينية العلم لها؛ إذ كيف يمكن أن يكون علماً تفصيلياً والذي لازمه التركيب، ويكون عين الذات البسيطة، أليس ذلك تناقض وتنافر واضح؟ فجاء بعض المحققين من الحكماء بهذه النظرية لدفع هذا التوهم(18)، وإنّ علمه تعالى بالأشياء قبل الإيجاد هو علم بسيط في عين كونه تفصيلي. لكن هذا العلم إذا صار مفصلاً كيف يكون بسيطاً؟
إنّ هذا السؤال هو سؤال عن الكيفيّة، ويرجع إلى الكنه ومعرفة المصداق، وهو ما لا مجال إلى معرفته، فما يعرفه الإدراك البشري هو أنّ الله تعالى يعلم بالأشياء تفصيلاً قبل الإيجاد مع بساطة ذاته المتعالية، لكن لا مجال إلى تصوير كيفيّة ذلك.
وقد أقيمت براهين عديدة على هذه النظرية اعني أن له تعالى علماً إجمالياً في عين الكشف التفصيلي، مبتناة على أساس قاعدة بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منها، والإطلاق الوجودي للواجب، وان معطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقداً له.
ثمّ إنّ للمشائين والإشراقيين والعرفاء وبعض المتكلمين نظريات أخرى في هذا الباب، نعرض عن ذكرها هنا على أمل التعرض له في مجال آخر أوسع.
الأمر الثالث: علمه تعالى بالأشياء بعد إيجادها (العلم الفعلي)
يقصد بالعلم الفعلي هو أنّ مخلوقات الله تعالى كما توصف بأنّها فعله تعالى، كذلك توصف بأنها معلومة له؛ إذ أن تمام موجودات عالم الإمكان هي فعل الله تعالى، والله تعالى عالم بفعله، فهو تعالى عالم بها على ما هي عليه من الوجود الفعلي، لا تغيب عنه لحظة من اللحظات وآن من الآنات، لعدم قوامها إلا بوجوده، وعدم استغنائها عنه تعالى.
وعلى سبيل التقريب لو لاحظنا الصورة الذهنية التي هي فعل النفس، نجد أنّها معلومة لها كما أنّها مخلوقة لها، ولا تحتاج إلى العلم بها إلى صورة ثانية، بل هي معلومة بدون توسط شيء آخر، فإذاً هذه الصورة الذهنيّة هي فعل النفس وفي الوقت نفسه علمها. ومن هذا القبيل علمه تعالى بالأشياء بعد إيجادها، فالعالم بأسره كما أنّه مخلوق وفعل له تعالى فكذلك هو معلوم له تعالى، ففعله وعلمه الفعلي تعالى من حيث المفهوم مختلفان لكنهما متحدان من حيث المصداق(19).
ومن خلال ذلك يتضح أنّ العلم الفعلي هو علم حضوري أيضاً؛ إذ أنّ مخلوقاته وأفعاله تعالى معلومة له بنفسها وحاضرة عنده بوجودها لا بتوسط شيء آخر.
ويتضح كذلك أنّ العلم الفعلي خارج عن الذات، وليس كالعلم الذاتي الذي هو عين الذات، لكن هذا العلم، أعني الفعلي، هل له مرتبة واحدة أم مراتب مختلفة؟
ثم إنّ العلم الذاتي لا شك في أنّ له مرتبة واحدة؛ بحكم أنّه عين الذات الإلهيّة، وأمّا العلم الفعلي فقد قامت البراهين العقلية والفلسفية على أنّ لفعله تعالى مراتب متعددة، اعتماداً على قاعدة (أنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ واحد) والتي تعد من مسلمات الفلسفة، وقاعدة (امكان الأشرف) التي قامت بتحليل الوجود الممكن وأثبتت تعدد مراتبه وفق الأشرف والأخس.
وحيث إنّ فعله تعالى وعلمه الفعلي مختلفان مفهوماً لا غير؛ ولذا فان حكم علمه الفعلي نفس حكم فعله عزّ وجلّ.
فذهبوا بعض الفلاسفة والحكماء إلى أنّ الوجود الإمكاني عبارة عن ثلاثة عوالم، هي عالم العقول (المجردات)، وعالم المثال، وعالم المادّة(20).
وذهبوا بعضهم إلى إنّه ثنائي، وأنّ العوالم الإمكانية الكلية هي عبارة عن عالم العقول وعالم المادة(21).
وأمّا المتكلمون من غير الامامية فقالوا إنّ الوجود الإمكاني أحادي وليس فيه إلا العالم المادي، فكل ما سوى الله تعالى فهو مادي جسماني، سواء كان لطيفاً أو كثيفاً(22).
وأمّا العرفاء فذهبوا إلى القول بأنّ الوجود الإمكاني رباعي وأنّ العوالم الإمكانية أربع هي: عالم العقول وعالم المثال وعالم المادّة وعالم الإنسان الكامل الذي يحيط بهذه العوالم الثلاثة(23).
والملاحظة الأهم التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هي أنّ المراد من التعدد والكثرة هنا هي الطولية التي بينها رابطة العلّية، وليس الكثرة العرضية الخالية من هذه الرابطة، بمعنى أنّ مرتبة من الوجود تكون بمنزلة العلّة والسبب والواسطة، ومرتبة أخرى تكون بمنزلة المعلول الذي يوجد بواسطة المرتبة الأشرف أو الأعلى، ومن ثمّ توجد علاقة علّية بين هذه المراتب الوجودية، ويمكن أن نلخص خصائص هذه العوالم الكلية بما يلي:
1ـ إنّها مترتبة وجوداً بالسبق واللحوق، بمعنى أنّ عالم العقل قبل عالم المثال، وعالم المثال قبل عالم المادة وجوداً.
2ـ إنّ الترتيب بينها ترتيب علّي، بمعنى أنّ عالم العقل علّة لعالم المثال، وعالم المثال علّة مفيضة لعالم المادة، وهكذا يكون العالم السابق علّة للعالم اللاحق.
3ـ إنهّا متطابقة نظاماً، لكن بما يليق بكل منها وجوداً، بمعنى أنّ في عالم المثال نظاماً مثالياً يضاهي نظام عالم المادّة وهو أشرف منه، وفي عالم العقل نظاماً يطابق نظام عالم المثال لكنه موجود بنحو أبسط وأشرف.
4ـ ما من موجود مادي أو مجرد، علوي أو سفلي، إلاّ وهو آية للواجب تعالى، يحكي بما عنده من الكمال الوجودي كمال الواجب تعالى.
و هناك فروع متشعبة لهذا البحث نعرض عنها على أمل العودة إليها في مناسبات أخرى، لكن نذّكر قبل إنهاء الحديث أهم الفوارق التي توصلنا إليها من خلال البحث المتقدّم، بين العلم الذاتي والعلم الفعلي:
أ) إنّ العلم الذاتي عين الذات المتعالة، بخلاف العلم الفعلي فهو عين الفعل وهو غير الله تعالى.
ب) العلم الذاتي غير متناه؛ لأنه عين الذات، والذات غير متناهية، وهذا على عكس العلم الفعلي فانه عين الفعل والفعل متناه، فهو متناه أيضا.
ج) العلم الذاتي ثابت وبسيط، وبعبارة أخرى: تنطبق عليه جميع أحكام الذات لأنّه عينها، وهذا على عكس العلم الفعلي الذي تنطبق عليه جميع أحكام الفعل من التغيّر والحدوث و...الخ.
د) إنّ العلم الذاتي له مرتبة واحدة فقط هي مرتبة الذات؛ لأنّه عينها، وأما العلم الفعلي فإذا أثبت البرهان العقلي تعدد مراتب الفعل الإلهي، وأنّ للمخلوقات الإلهيّة مراتب طولية متعدّدة، فسيثبت أنّ لهذا العلم مراتب أيضاً.
3ـ القدرة
تعدّ القدرة من الصفات الذاتية، ولذا تجري عليها كل أحكام الذات؛ لأنّها عينها. ويمكن أن يقال في أبسط تعاريفها بأنها: عبارة عن كون الشيء مصدراً للفعل عن علم، لكن الداعي للفعل في الفاعل الناقص هو طلب الكمال، يعني أنه يريد أن يستكمل بفعله هذا؛ لكون الفعل خيراً وكمالاً له. وأمّا بالنسبة للفاعل التام، فلا معنى للاستكمال فيه؛ لما يستلزمه من النقص والتغيّر، وإنما الداعي له هو ذات، وذاته عين الكمال والتمام لا يشوبها نقص كمال من الكمالات الوجودية.
وحتى يتضح المعنى أكثر نأتي بهذا المثال: لو سأل الإنسان الجواد عن الداعي من وراء بذله، لكان جوابه: لأنّه جواد، أمّا لو قدّر للجود أن ينطق حينما يسأل عن الداعي من وراء بذله وإعطائه، لكان جوابه لأنّه جود، يعني يفعل ذلك بداعي أنّه جود، ومن شأن الجود أن يعطي.
إنّ هذا المنطق إذا أردنا تطبيقه في مورد فعله تعالى، لاقتضى أن يكون الداعي للفعل هو الذات وليس شيء ورائها، فهو إنّما يفعل ذلك لأنّه تام، وليس لأنّه أراد أن يوصل النفع أو لأنّه لا يسأل عمّا يفعل، بل الداعي هو لأنّه تام، ومن شأن التام أن يفعل. وهذا المعنى مستفاد من عبارات بعض الأعلام، قال الفيلسوف صدر الدين الشيرازي: الواجب ـ جلّ اسمه ـ فلكونه في ذاته تاماً وفوق التمام، فبذاته البسيطة الحقّة يفعل ما يفعل لا بمشية زائدة ولا بهمة عارضة لازمة أو مفارقة، فهو بمشيئته وعلمه ورضاه وحكمته التي هي عين ذاته، يفيض الخير، ويجود النظام، ويصنع الحكة وهذا أتمّ أنحاء القدرة (24).
وقال العلامة الطباطبائي: القدرة ـ المجرّدة عن النواقص والإعدام ـ هي كون الشيء مبدءاً فاعلياً للفعل عن علمٍ بكونه خيراً، واختيارٍ في ترجيحه(25). وقال الأستاذ العلامة مصباح يزدي: القدرة عبارة عن كون الفاعل الحيّ المختار مبدأ لأفعاله، فإذا كان هذا الفاعل ذا كمالات غير متناهية فإنّه يصبح ذا قدرة غير متناهيّة(26). والأمر الذي يتضح من خلال هذه النصوص هو أن للقدرة أركان رئيسية ثلاثة، هي:
1ـ المبدئية، أي الفعل وعدم الانفعال.
2ـ العلم؛ إذ ترتبط القدرة بالفعل الذي لفاعله علم به.
3ـ الاختيار؛ إذ لا يكفي علم الفاعل بالفعل وحسب، بل لا بدّ من أن يكون قادراً على الإتيان بالفعل اختياراً. وهناك فروع أخرى لهذا البحث لا يسع المجال لذكرها، نعرض عنها على أمل العودة إليها في مناسبات أخرى.
الصفات الفعليّة
1ـ الكلام
إنّ الكلام في الاستعمال العرفي هو عبارة عن لفظ يدلّ على معنى معين حسب الاتفاق عليه، ويستعمله المتكّلم لإفهام الآخرين بمقصوده.
وهو - أعني الكلام الذي عندنا- من الأمور الاعتبارية التي دعت إلى اعتبارها الحاجة الاجتماعية؛ للزوم حاجة الضرورية الناس إليه في تفيهم بعضهم لبعض، وإعلام بعضهم بعضهاً عما في ضمائرهم.
فاللفظ في حقيقة الأمر هو وجود اعتباري لمعناه، والتكلم إيجاد اعتباري للمعنى الذي في ضمير المتكلم، ليستدل به السامع العالم بالوضع على المعنى المقصود. واعتباريته(27) من جهة اعتبارية الدلالة(28)، والغاية فيه إعلام ما في الضمير.
ومن هنا يظهر أنّ الفعل لمّا دلّ بخصوصيته على خصوصية ذات فاعله في كماله دلالة حقيقية، كان كلاماً لفاعله، كاشفاً عما في الضمير، ويصدق حدّ الكلام عليه، غاية الأمر أن الدلالة هنا حقيقية غير اعتبارية، لكن بما أنّ مفهوم التكلّم يلحظ فيه وجود المخاطب والكلام الذي يلقى إليه، فلابد من اعتباره(29)، من الصفات الفعلية(30).
غير أنّ بعض المحققين من العلماء اعتبره صفة ذات، وذلك بإرجاعه إلى القدرة، التي هي من الصفات الذاتيّة(31)، هذا.
وقد اتفق المسلمون على كون الكلام صفة للواجب تعالى وأنّ المتكلم من أسمائه عزّ اسمه، لكنهم اختلفوا في تفسير حقيقة كلامه تعالى وفي قدمه وحدوثه، فذهبت المعتزلة إلى القول بالكلام اللفظي(32)، وذهبت الأشاعرة إلى القول بالكلام النفسي(33).
وأمّا الحكماء فقالوا بأنّ كلامه تعالى مساوق لفعله، فكل موجود كما هو فعله ومخلوقه تعالى، كذلك يعد كلام له عزّ وجلّ، ويسمّى بالكلام الفعلي(34).
ولم يختلف الحال كثيراً في حدوث الكلام وقدمه، فذهبت المعتزلة إلى القول بحدوثه(35)، وذهب أهل الحديث والحنابلة إلى القول بقدمه(36).
وأمّا الأشاعرة فقالت: إنّ القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيء لا يقبله العقل السليم غير أنّ المراد من كلام الله تعالى ليس القرآن المقروء بل الكلام النفسي وهو قديم(37).
وأمّا الحكماء فالذين عدّوا الكلام من صفات الفعل فقد قالوا إنّه حادث بحدوث الفعل(38). والذين أرجعوه إلى القدرة واعتبروه من صفات الذات فأجروا عليه أحكام الصفات الذاتية(39).
وقد تقدّمت الإشارة إلى شيء من ذلك، وعند هذا الحد نختم الحديث عن كلامه تعالى بهذا القدر من البحث، لضيق المجال، وسنعود للتفصيل في ذلك في مقالات أخرى إن شاء الله تعالى.
2ـ السمع والبصر
اتفق المسلمون على أنّه تعالى سميع بصير، قال المحقق الحلي: اتفق المسلمون على إجراء ذلك عليه تعالى واختلفوا في معناه(40).
وذهب بعض آخر إلى أكثر من ذلك حيث عدّ اتّصافه تعالى بالسمع والبصر من ضروريات الدين، قال صدر الدين الشيرازي:
وردت في شريعتنا الحقّة، بل من ضروريات هذا الدين المبين المعلومة بالقران والحديث المتواتر والإجماع من الأمّة أنّ الباري سميع بصير(41).
وعقب الحكيم السبزواري على ذلك بقوله: أو صار في هذا الأوان بحيث لا يحتاج إلى الدليل في إثباتهما له تعالى؛ لأنّ ضروري الدين كضروري العقل(42)، أي كما أنّ القاعدة العقلية تعطي نتيجة يقينية لا تقبل الخلاف، فكذلك هو ضروري الدين.
غير أنّ الخلاف وقع في كونهما صفة ذات أو صفة فعل، فالمتعارف عليه هو كونهما من صفات الذات، وذلك بإرجاعهما إلى صفة العلم وتأويلهما بالعلم بالمبصرات والمسموعات، قال العلامة الطباطبائي:
ويتفرع أيضاً على علمه تعالى أنّه سميع بصير كما أنّه عليم خبير؛ لما أنّ حقيقة السمع والبصر هي العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات من مطلق العلم وله تعالى كل علم(43).
لكن الملاك المذكور سابقاً في صفات الذات والفعل يفيد أنّهما من صفات الفعل؛ إذ أنّ السمع والبصر بعد تجريدهما من اللوازم الماديّة ـ كوجود الأذن والعين و... - يدلان أيضاً على العلم بالمسموعات والمرئيات الموجودة، بمعنى عدم كفاية الذات لوحدها في انتزاع هاتين الصفتين، واستعمالهما في الموارد التي لا يوجد فيها بالفعل مسموع ولا مبصر يعتبر خروجاً عن عرف الحوار.
وأمّا تأويلهما بالعلم بالمسموعات والمبصرات أو القدرة على السمع والإبصار، فهو وإن كان ممكن غير أنّه لا يختصّ بهاتين الصفتين، بل يتعداه لسائر الصفات الفعلية، وحينئذٍ يكون تقسيم صفاته تعالى إلى صفات ذات وصفات فعل لا طائل من ورائه.
والحمد لله رب العالمين
________________________________________
(1) قسّم أرباب الفن العلم إلى: حصولي وحضوري.
فيقصدون بالأوّل حضور المعلوم للعالم بماهيته، وبالثاني حضور المعلوم لدى العالم بوجوده.
ثم قسّموا الحصولي إلى: تصور وتصديق، وعرفوا التصور بأنه عبارة عن الصورة الذهنية الحاصلة من معلوم واحد من دون إيجاب أو سلب، أي مجردة عن الحكم. وعرفوا التصديق بأنه عبارة عن الصورة الذهنية الحاصلة من معلوم واحد مع إيجاب أو سلب، أي مع الحكم.
وقال بعضهم: بل هو عبارة عن الحكم.
ثمّ قسّموا التصوّر إلى جزئي وكلّي، ويضم الجزئي التصورات الحسيّة والخياليةّ والوهميّة، ويضم الكلّي المفاهيم الماهويّة والعقلية والمنطقية.
ومحل الشاهد من وراء هذا الكلام هو أنّ قولهم إنّ العقل يدرك فقط المفاهيم الكليّة دون الجزئيّة، هو في باب التصورات الكليّة فقط. وأمّا في باب التصديقات فانه يدرك الجزئية والكلية على السواء،
والخلاصة: ينقسم العلم إلى حصولي وحضوري، وينقسم الحصولي إلى تصور وتصديق، وينقسم التصور إلى جزئي وكلي، والتصورات الجزئية إما أن تكون حسية وإما خيالية وإما وهمية، والتصورات الكلية إما أن تكون ماهوية وإما عقلية وإما منطقية.
فالعقل في باب التصورات لا يدرك إلا التصورات الكلية، وأما التصورات الجزئية فلا يدركها؛ لأنها خارجة عن نطاق إدراكه. وأما في باب التصديقات فيدرك الكليات والجزئيات على حدٍّ سواء.
(2) أقول: إنّ المفهوم ينقسم إلى مفهوم جزئي وكلي، والمفهوم الجزئي: هو الذي لا يقبل الانطباق على أكثر من فرد ومصداق واحد، نحو مفهوم زيد وهذه الشجرة و...، والمفهوم الكلي: هو ما يقبل الصدق والانطباق على أفراد ومصاديق عديدة نحو مفهوم الإنسان والكلي ونحوهما.
ثم إنّ المفاهيم الكلية على ثلاثة أقسام:
منها: ما كان عروضه واتصاف بوصف الكلية في الذهن فقط ، كمفهوم الجنس والنوع، ونحوها، وتسمّى بالمفاهيم المنطقية، إذ أن انتزاعها يكون بلحاظ وصفها في الذهن، والمفهوم في الذهن كيفما فرض بما هو مفهوم دون تقيده بأي قيد آخر، كلي لا جزئي، وإنما تلحقه وصف الجزئية بلحاظ النظر إلى خصائصه الخاصة التي هي خارج عن حقيقة المفهوم بما هو مفهوم، فزيد بما هو زيد كلي، ولكن بلحاظ كونه زيد بن خالد أو زيد الطويل أو زيد العالم بالعلم الكذائي، فهو جزئي، والنوع والجنس من أوضح مصاديق هذا النوع من المفاهيم المنطقية الكلية.
ومنها: ما كان عروضها واتصافها في الخارج فقط، وهذا ما يُعبّر عنها بالمفاهيم الماهوية، كمفهوم الإنسان، الذي انتزع من الجهة المشتركة بين أفراده، فهو ما هو بلحاظ الموصوف، والموصوف فيه هو الحدود الماهوية لهذه الأفراد، وحدها هو كونها حيوان ذو نفس ناطقة.
ومنها: ما كان عروضها في الذهن واتصافها في الخارج، وهو ما عبر عنه بالمفاهيم الفلسفية، كالوجود وسائر الصفات الإلهية، إذ ما عندنا من معرفة وحكاية في الذهن عن الوجود هي حكاية مفهومية لا حقيقة الوجود الخارجية على ما لها من الخصائص والكمالات الخاصة، على أن ما ينتزع منه مفهوم الوجود لم يكن هو حد للوجود في الخارج حتى يصبح من المفاهيم الماهوية التي تحكي حدود الأشياء بلحاظ الجهة المشتركة، ولأنّ الوجود لا حد له، وأنّ اتصافه بحقيقة الوجود وسائر الكمالات ذلك بلحاظ وجوده الخارجي لا الذهني،
(3) المفهوم المتصور إذا نسب إليه الوجود، فإمّا أن يكون هذا الوجود ضروري له وهو الواجب وإمّا أن يكون ضروري الانتفاء عنه وهو الممتنع وإمّا أن لا يكون الوجود أو العدم ضروري له وهو الممكن، فالإمكان إذن هو انتفاء الضرورتين أعني ضرورة الوجود وضرورة العدم. ثمّ إنّ الضرورة واللاضرورة من المعاني التي ترتسم في النفس بها ارتساماً أوليّاً؛ ولذا يعجز المرء عن الإتيان بتعريف حقيقي لها.
(4) تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي: ج 8، ص343، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي.
(5) الشورى: 11.
(6) انظر: تصحيح اعتقادات الأمامية، المفيد، ص40. ومحاضرات في الإلهيات، السبحاني، ص85، مؤسسة الإمام الصادق ، والحكمة المتعالية، صدر الدين الشيرازي، ج6، ص 118، مكتبة المصطفوي.
(7) انظر: الإلهيات، السبحاني، ص115، تلخيص علي رباني الگلبيگاني.
(8) بداية الحكمة، الطباطبائي، ص161، المرحلة الثانية عشر، الفصل الرابع.
(9) الحكمة المتعالية، صدر الدين الشيرازي، ج6، ص105، منشورات طليعة النور، الطبعة الأولى.
(10) سيأتي البحث عنا لاحقاً.
(11) نهاية الحكمة، العلامة الطباطبائي، ص 284، المرحلة الثانية عشر، الفصل التاسع.
(12) انظر نهاية الحكمة، العلامة الطباطبائي، ص557، المرحلة4، الفصل4. وأيضا ص284، المرحلة12، الفصل8.
(13) نهاية الحكمة، العلامة الطباطبائي، ص307، المرحلة 12، الفصل 15.
(14) انظر شرح المنظومة، الحكيم السبزواري، ج2، ص487، نشر ناب 1413هـ.
(15) انظر: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، محمد تقي مصباح يزدي، ج2، ص437، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة 1407هـ ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني.
(16) انظر: الحكمة المتعالية صدر الدين الشيرازي، ج 6، ص53ـ 155، طليعة النور، ط الأولى للناشر 1425هـ.
(17) نهاية الحكمة، العلامة الطباطبائي، ص73، المرحلة8، الفصل 7. وأيضا: ص289، المرحلة12، الفصل 11.
(18) الحكمة المتعالية، صدر الدين الشيرازي، ج2، ص368.
(19) انظر محاضرات في الإلهيات، السبحاني، ص98، مؤسسة الإمام الصادق .
(20) انظر: نهاية الحكمة، ص313ـ 323، المرحلة12، الفصل 19، 20، 21، 22.
(21) انظر: التحصيل، بهمنيار.
(22) انظر: شرح المقاصد، التفتازاني، ج3، ص355ـ 373، منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأولى 1409هـ.
(23) انظر: رسائل ابن عربي، المجموعة الأولى، ص395، دار المحجّة البيضاء، دار الرسول الأكرم، الطبعة الأولى.
(24) الحكمة المتعالية، صدر الدين الشيرازي، ج6، ص309، مكتبة المصطفوي 1368 ش.
(25) نهاية الحكمة، الطباطبائي، ص298، المرحلة12، الفصل13.
(26) المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، محمد تقي مصباح يزدي، ج2، ص439، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، ط1 ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني.
(27) أعني التكلم.
(28) أعني دلالة اللفظ على المعنى فأنّها دلالة اعتبارية وضعيّة، والخلاصة: تنقسم الدلالة إلى ثلاثة أقسام، أولها: الدلالة العقلية: وهي فيما إذا كان بين الدال والمدلول ملازمة ذاتية في وجودهما الخارجي، كالأثر والمؤثر. فإذا علم الإنسان ـ مثلاً ـ أنّ ضوء الصباح أثر لطلوع قرص الشمس، ورأى الضوء على الجدار ينتقل ذهنه إلى طلوع الشمس قطعاً، فيكون ضوء الصبح دالاً على الشمس دلالة عقلية.
ثانيها: الدلالة الطبيعية: وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين ملازمة طبيعية، أعني التي يقتضيها طبع الإنسان، كدلالة حمرة الوجه على الخجل.
ثالثها: الدلالة الوضعية: وهي فيما إذا كانت الملازمة بين الشيئين تنشأ من الوضع والاصطلاح. وهي على قسمين:
ألف ـ الدلالة غير اللفظيّة: إذا كان الدال الموضوع غير اللفظ، كالإشارات والخطوط والنقوش.
باء ـ الدلالة اللفظية: إذا كان الدال الموضوع لفظاً، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الدلالة المطابقية: بأن يدل اللفظ على تمام معناه الموضوع له ويطابقه، كدلالة لفظ كتاب على تمام معناه.
القسم الثاني: الدلالة التضمنية: بأن يدل اللفظ على جزء معناه الموضوع له، كدلالة لفظ كتاب على الورق.
القسم الثالث: الدلالة الالتزامية: بأن يدل اللفظ على معنى خارج عن معناه الموضع له، لازم له كدلالة لفظ الدواة على القلم، والخلاصة: تنقسم الدلالة إلى عقلية وطبعية ووضعية، وتنقسم الوضعية إلى لفظية وغير لفظية، وتنقسم اللفظية إلى تطابقية وتضمنية وإلتزامية.
(29) اعني الكلام.
(30) الخلاصة: تقدّم أنّ صفة الذات يكفي في انتزاعها ملاحظة الذات فقط، بخلاف صفة الفعل التي تحتاج في انتزاعها إلى ملاحظة غير الذات أيضاً.
ومفهوم الكلام مهما وسّعناه وحذفنا خصائص مصاديقه فإنّنا لا نستطيع أن نغض الطرف عن خصوصية تفهيم المعنى للمخاطب، فإذاً هنا يوجد مخاطب ويوجد نفس الكلام، وبهذا يكون قد فَقَدَ الكلام خاصيّة صفة الذات ( اعني أن الذات غير كافية في انتزاع هذه الصفة بل لابد من ملاحظة غيرها أيضا ).
(31) انظر: نهاية الحكمة، العلامة الطباطبائي، ص308، المرحلة12، الفصل16.
(32) كما جاء عن القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه شرح الأصول الخمسة.
حقيقة الكلام الحروف المنظومة، والأصوات المقطعة، وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره، ورازقاً برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلماً بإيجاد الكلام في غيره، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه فعل.
(33) قال الفاضل القوشجي في كتابه شرح التجريد، ص319.
إن من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبر عنها بالألفاظ التي نسميها بالكلام الحسي، فالمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه، هو الذي نسميه الكلام النفسي.
(34) قال الحكيم السبزواري في شرح المنظومة، ج2، ص633:
اللفظ موضوعاً لدى الأنام *** مما هو المعروف بالكلام
فهو وجود معه وجود *** ذهناً له بجعلنا شهود
فحيث في تأدية ذا أيسر *** من غيره لاسم الكلام آثروا
وقال أيضا:
غرر في تكلمه تعالى وان الوجودات كلماته؛ لأنها معربة عما في الضمير، أعني المكنون الغيبي.
(35) انظر: شرح المواقف، الجرجاني، ص93، تحقيق علي بن محمد الجرجاني.
(36) انظر: المصدر نفسه، ص92.
(37) انظر: المصدر نفسه، ص93.
(38) انظر: المنهاج الجديد في تعليم الفلسفة،ج 2، ص447.
(39) انظر: نهاية الحكمة، الطباطبائي، ص308، المرحلة12، الفصل16.
(40) المسلك في أصول الدين، المحقق الحلي، ص47، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى.
(41) الحكمة المتعالية، صدر الدين الشيرازي، ج6، ص359.
(42) تعليقة الحكيم السبزواري على الحكمة المتعالية، ج6، ص359. مطبوعة بهامش الكتاب.
(43) نهاية الحكمة، العلامة الطباطبائي، ص289، المرحلة 12، الفصل11، ط. مؤسسة النشر الإسلامي