عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) رجل الثورة الصامتة

الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) رجل الثورة الصامتة



الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام )

رجُل الثورة الصامتة *

فاضل عباس

طالب في المرحلة الثالثة في معهد الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )

حين نستعرض السيرة الجهادية النيّرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنّ القلم يعجز عن التعبير عن تضحياتهم العظيمة في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى ، ودأبهم على نشر الدين المحمّدي الأصيل ؛ إذ إنّنا نقف أمام مدرسة عظيمة تنوّعت أدوار كلّ فرد من أفرادها ومواقفه ، إلاّ أنّ هدفها واحد ، وهو إقامة حكومة العدل الإلهي وتطبيق السُنّة المحمّدية ، مثل هذا المشروع الإلهي العظيم ، يتطلّب التضحية والفداء بالدم والروح والنفس والأهل ـ أحياناً ـ كما هي كربلاء الحسين ( عليه السلام ) ، وأحياناً أخرى بالكلمة ، والموقف ، والصبر ، والثبات ، كما هي السيرة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام ) .

والأدوار التي قام بها أهل البيت ( عليهم السلام ) رغم اختلافها الظاهري ـ للوَهلة الأُولى ـ إلاّ أنّها في الحقيقة وحدة متكاملة ومنهجية متناسقة ؛ حيث كلّ عنصر فيها قام بإكمال دَور العنصر الآخر ، وبالتالي هي سلسلة محمدية واحدة تعمل على تحقيق الهدف المنشود ، أَلا وهو إقامة حكومة العدل الإلهي على يدَي صاحب العصر والزمان الإمام الحجّة المهدي ( عجّل الله تعالى فرَجه الشريف ) في آخِر الزمان .

فاختلاف الأدوار في السيرة الجهادية العطرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا يعني ـ على سبيل المثال ـ أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجل ثورة وقتال فقط ، بينما الإمام الحسن ( عليه السلام ) رجل مهادنـة وسلـم ، بل الواقع غير ذلك ، فالسيرة الحسينية الجهادية غلَب عليها طابع الصلح مع العدوّ لأسباب وظروف اقتضت ذلك ، بينما السيرة الحسينية غلب عليها طابع الثورة والجهاد لأسباب وظروف أخرى مختلفة ، وخير دليل على ذلك عند استعراضنا الحياة الجهادية للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فهي تارة مليئة بالمواقـف ، والبطـولات ، والتضحيات ، وتارة تستلزم

 الصلح والمسالمة ، ولكن في كلتي الحالتين يبقى الهدف واحد وهو : مصلحة الإسلام العليا .

( ... وقد يعتقد البعض بأنّ الحسن ( عليه السلام ) صاحب الصلح والمهادنة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) له الثورة والتمرّد ، إلاّ أنّه لو عكسنا الشخصين لقام كلٌّ منهما بنفس الدَور ، أي الظروف هي التي حكمت بأنّ كلّ منهما يتبع نهجاً ما ، أي الظروف هي تحكم بالحرب أو السِلم ، بينما الدافع والهدف هو واحد ، هو فقط المصلحة العامّة لا غير )(1) .

وعلى هذا الأساس نلاحظ بأنّه عند الحديث عن سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فإنّه يتبادر مباشرة للذهن صُلحه مع معاوية ، وكأنّ حياته ( عليه السلام ) كلّها تُختزل في هذا الصلح ـ وذلك بغضّ النظر عن أهمّيتها ـ وبالتالي هو بعيد كلّ البُعد عن ساحات القتال والمواجهة ، لكن سيرته سلام الله عليه تحدّثنا بغير ذلك .

تحدّثنا بأنّه أعَدّ الجيوش والمقاتلين لقتال معاوية عندما سمحت له الظروف بذلك ، لكن عامل المفاجأة الذي برز في صفوف جيشه ( عليه السلام ) ـ كبروز حالات الخيانة والغدر ـ دفعه نحو الصُلح مع معاوية ، أليس هو القائل ( عليه السلام ) مجيباً أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح : ( والله لو وجدت أنصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري ) ؟(2) .

وفي موقع آخر يردّ ( عليه السلام ) على أحد أعدائه ، وهو ( عبد الله بن الزبير ) ، الذي كان يُعلن مناوئته لآل محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فكان ممّا أجابه به قوله ( عليه السلام ) : ( وتزعم أنّي سلّمت الأمر ، وكيف يكون وويحك كذلك ؟ ، وأنا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل ذلك ويحك جُبناً ولا ضعفاً ، ولكنّه باغٍ مثلك ... ) (3) .

ومع كلّ هذا وبعد وقوع الصلح مع معاوية ، استمرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) في مسيرته الجهادية ضده ، بل عمل على تمهيد الأرضية المناسبة للثورة الحسينية الكربلائية ، وشهادته ( عليه السلام ) ، وقتله مسموماً خيرُ دليل على ذلك ، وإلاّ لماذا قُتل الحسن ( عليه السلام ) لو كان رجل مسالمة وصُلح مع العدوّ ؟! فأيّ تأثير له على نظام معاوية ما دام كذلك ؟! .

فالجواب : واضح وبديهي ، هو أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) هو رجل ثورة ضد الظلم بكلّ ما للكلمة من معنى ، سواء كان ذلك الجهاد بالكلمة أو بالسيف ؛ ولهذا أصبح استمرار جهاد الإمام الحسن ( عليه السلام ) ضد معاوية ونظامه المتغطرس عامل خوف ورعب عليهم ، بل شكّل خطراً يهدّد كيان النظام الأموي ، ما دفع معاوية لوضع حدٍّ له ، فكانت الشهادة المباركة .

وبناءً على ذلك ، هو أنّ الكثير من البحوث والدراسات ، يلاحظ بأنّ غالبيّتها تتناول الجانب الفكري والأخلاقي لأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بينما الجانب الجهادي والقتالي يبقى غامضاً في

 كثير من الأحيان ، ومثال على ذلك سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، حيث أغلَب الدراسات والبحوث التي تناولت حياته المباركة ، تحمِل عنوان ( صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) ) ـ وذلك بغضّ النظر عن أهمية تلك الدراسات ـ ممّا يوحي بأنّ الحسن ( عليه السلام ) رجل صلح ومهادنة فقط .

ولكن واقع وحقيقة سيرته الجهادية أعظم وأشمل من ذلك ، بل هو كما عند بقية الأئمة ( عليهم السلام ) ، كسيرة الإمامين السجّاد والصادق ( عليهما السلام ) ؛ حيث برزت التكتّلات والتشكيلات السرّية تحت إشرافهم وتوجيهاتهم ، رغم أنّ عصر الإمام السجاد ( عليه السلام ) تميّز بنشر الفكر الأخلاقي والعبادي لمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتميّز عصر الإمام الصادق ( عليه السلام ) بنشر فقه وعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) .

 ويشير إلى تلك الحقيقة سماحة السيد القائد الخامنئي ( دام ظلّه الوارف ) بقوله : إنّ غُربة الأئمة ( عليهم السلام ) لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم ، ولكنّها استمرّت ولعصور متمادية من بعدهم ؛ والسبب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمّة ، بل والأساسية من حياتهم .

 من المؤكّد أنّ هناك كتُباً ومؤلّفات كثيرة قد حظِيَت بمكانةٍ رفيعة وقديرة وذلك ؛ لِما حملته بين طيّاتها من روايات تصف حال الأئمة ( عليهم السلام ) ، ولِما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم ، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير ، والذي يمثّل الخطّ الممتد للأئمة ( عليهم السلام ) طوال 250 سنة من حياتهم ، كان قليل الذِكر في هذه الروايات التي تضمّنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم .

يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة ( عليهم السلام ) كأسوة وقدوة نقتدي بهم في حياتنا ، لا كمجرّد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت على التاريخ ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء ( عليهم السلام ) ...

 إنّ مواجهة الأئمة ( عليهم السلام ) كانت واجهة ذات هدف سياسي ، فما هو هذا الهدف ؟ إذن الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية ، ولا نستطيع أن نقول إنّه كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره ، ولكن هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية ، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريـب .

مثلاً كان هدف الإمام المجتبى ( عليه السلام ) تأسيس حكومة إسلامية للمستقبل القريب ، فقوله ( عليه السـلام ) : ( ما ندري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ) في جوابه للمسيب بن نجيه ولآخرين عندما سألوه عن سبب سكوته ، هو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل (4) .

ولذا كان هذا البحث المتواضع ليُسلِّط الضوء على الجانب العظيم من سيرة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، أَلا وهو الجانب الجهادي لأعداء الإسلام طيلة فترة حياته المباركة ، وسوف نرى ذلك ـ مع القارئ العزيز ـ من خلال عَرْض أبرز المحطّات الجهادية من سيرته ( عليه السلام ) .

أَوّلاً : الملامح الشخصية للإمام الحسن ( عليه السلام ) :

وُلد الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب ثاني أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأَوّل السبطين ، في المدينة المنورة ، ليلة النصف من شهر رمضان المبارك من السنة الثالثة للهجرة .

وأُمّه هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .

وُلد ونشأ ( عليه السلام ) في كنف جدّه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وفي رعاية أبيه علي ، وأُمّه فاطمة ، وهو أَوّل ولَد يولد من سلالة الرسالة ؛ ليحفظ الله به وبأخيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) نموّ تلك الشجرة الطيبة ، التي أصلها ثابت ، وفرعها في السماء .

 ورعاه جدّه العظيم ، بعينه وقلبه ، فهو قطعة من وجوده ، وومضة من روحه ، وصورة تحكيه ، أَورثه هيبته وسؤدده ، حتى فَرِقَ منه أعداؤه ، وأعظمه مخلصوه وأحبّاؤه ، وأَعظِم بإنسانٍ جدّه محمد ، وأبوه علي ، وأُمّه فاطمة ، وأيّ فخر بعد هذا المفتخر ، وأيّ مجدٍ بعده لإنسان .

فلهذا كان المقام المقدّس الذي حظيَ به الإمام الحسن ( عليه السلام ) على لسان جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، والذي يدفعنا لمزيد مِن التأمّل في سيرته المباركة ، بكلّ ما تحتويه من جوانب عظيمة وكمال ذاته وحِكمته ، وسدادٍ رساليّ ، والذي نراه ينسجم تماماً مع وصف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) له وموضعه منه ، فيما ورد عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حقّه ( عليه السلام ) منها :

عن زينب بنت أبي رافع عن أُمّها قالت : ( قالت فاطمة ( عليها السلام ) يا رسول الله ، هذان ابناك فانحلْهما ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمّا الحسن فنحلتُه هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين فنحلتُه سخائي وشجاعتي ) (5) .

ويقول الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً في حقّه ( عليه السلام ) : ( لو كان العقل رجلاً لكان الحسن ( عليه السلام) ) (6) .

وقد نصّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على إمامة الحسن المجتبى ( عليه السلام ) بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( يا علي أنا وأنت وابناك الحسن والحسين ، وتسعة مِن وُلد الحسين أركان الدين ودعائم الإسلام ، مَن تبِعنا نجا ، ومَن تخلّف عنّا فإلى النار ) (7) .

وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوجّه الأنظار إلى إمامة ولَده الحسن ( عليه السلام ) ومقامه السامي ، حيث كان ( عليه السلام ) يسأله عن المسائل المختلفة أمام مرأى ومسمع الملأ من أصحابه ، وقد تركّزت أسئلته على : الزهد والسداد ، والكرم والإخاء والمنَعة وغيرها ، وكان الإمام ( عليه السلام ) يجيب عليها بأجوبة مختصرة شافية (8) .

وكان ( عليه السلام ) يكلّف الإمام الحسن ( عليه السلام ) بالمهام الصعبة ، ويبعثه لحلّ الأزَمات ، ويُشركه في المواقف الحرجة ، فقد بعثه إلى أهل الكوفة لعزل الأشعري ، وأمره بإجابة عبد الله بن الزبير في الجَمَل ، وأمره بنقْض حُكم الحكَمَين ؛ لمخالفتهما القرآن .

وقد عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالإمامة لابنه الحسن ( عليه السلام ) ، في اليومين الأخيرين من حياته ( عليه السلام ) ـ وبعد أن ضربه ابن ملجم ـ حيث أدناه وأوصى إليه قائلاً : ( يا بنيّ إنّه أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن أوصي إليك ، وأدفع إليك كتُبي وسلاحي ، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتُبه وسلاحه ، وأمَرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ... ) (9) .

وأمّا مبايعة الحسن ( عليه السلام ) بالخلافة فقد كانت بعد استشهاد والده ( عليه السلام ) ودفْنه ، حيث وقف الإمام الحسن ( عليه السلام ) خطيباً بين الناس وقال : ( قد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبِقه الأوّلون ، ولا يدركه الآخِرون بعمل ... ) ، ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثمّ قال : ( أيّها الناس ، مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ... ) ، ثمّ قام عبد الله بن العبّاس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته ، فاستجابوا ، وقالوا : ( ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة ! فبايعوه ) (10) .

وكان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً ، كانوا قد بايعوا أباه على الموت (11) .

وبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق ، وما وراءه من خراسان والحجاز واليمن (12) .

وقد جاءت اعترافات معاصريه ( عليه السلام ) بمؤهّلاته وفضائله لتؤكّد استحقاقه للخلافة ، وخصوصاً أنّ بعض هذه الاعترافات كانت من قِبل شخصيات مخالفة لأهل البيت ( عليهم السلام ) بشكلٍ عام ، والفضل ما يشهد به الأعداء .

قال واصل بن عطاء : كان الحسن بن علي ( عليه السلام ) عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك (13) .

وقال عنه ( عليه السلام ) مروانُ بن الحكم : أحلَم مِن هذا ـ وأشار إلى الجبل ـ (14) .

وأما مدح معاوية للحسن ( عليه السلام ) فقد كان يقول :

أمّا الحسن فابن الذي كان قبله ، إذا سار سار الموت حيث يسير (15) .

فتميّز الإمام الحسن ( عليه السلام ) بخصائص قيادية فريدة ، جعلت معاوية يوصي أصحابه باجتناب محاورته (16) ؛ لأنّه ( عليه السلام ) كان أحسن الناس منطقاً في زمانه ، وكان معاوية يخشاه ويتخوّف من عودة الخلافة إليه ؛ لتمتّعه بخصائص لا يتّصف بها غيره (17) ؛ لذا كبّر عند موته ( عليه السلام ) وقال : والله ما كبّرت شماتة لموته ، ولكن استراح قلبي ، وصَفَت لي الخلافة .

وكان ( عليه السلام ) دائم الارتباط بالله تعالى وأكثر الناس خشية منه ، إضافة لتميّزه سلام الله عليه بالزهد والخير والكرم والحِلم ، وفوق كلّ ذلك كان شجاعاً لا يخشى إلاّ الله تعالى ، فقد قال لمعاوية ( إنّ الخلافة لمَن سار بسيرة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ... وليست الخلافة لمَن عمَل بالجود وعطّـل الحـدود ) (18) .

ومن كفاءاته ( عليه السلام ) أنّه وجد أنّ مصلحة الإسلام تكمن في الصلح ، فصالح

 معاوية ، وحقَن دماء أنصاره وأتباعه وسائر المسلمين ، ولم يدخل في معركة خاسرة لا تُحسم لصالحه ولصالح الوجود الإسلامي .

وعندما يُسأل الإمام الحسن ( عليه السلام ) عن رأيه في السياسة ، يقول ( عليه السلام ) : ( هي أن تراعي حقوق الله ، وحقوق الأحياء ، وحقوق الأموات ، فأمّا حقوق الله ، فأداء ما طلَب ، والاجتناب عمّا نهى . وأمّا حقوق الأحياء ، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك ، ولا تتأخّر عن خدمة أُمّتك ، وأن تخلص لوليّ الأمر ما أخلص لأُمّته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا حادَ عن الطريق السويّ . وأمّا حقوق الأموات ، فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم , فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم ) (19) .

ثانياً : مواقف وتضحيات الإمام الحسن ( عليه السلام ) في أهمّ مراحل سيرته المباركة :

* في عهد جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

عاش الإمام الحسن ( عليه السلام ) في عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سبع سنوات من عمره الشريف ، وكانت تلك السنوات على قلّتها كافية لأن تجعل منه الصورة المصغرّة عن شخصية الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، حتى ليصبح جديراً بذلك الوسام العظيم ، الذي حباه به جدّه ، حينما قال له ـ حسبما روي ـ ( أشبهتَ خَلقي وخُلُقي ) .

فشِبهه ( عليه السلام ) لجدّه في الخَلق ، هو أمر واضح ، من ناحية التشابه بالملامح والمنطق ... أمّا شِبهه في الخُلُق يُعدّ وسام الجدارة لذلك المنصب الإلهي ، الذي هو وراثة وخلافة النبي الأعظم ( صلّى الله عليه وآلـه وسلّـم ) ، ثمّ وصيّه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، نعم من هنا نعرف السرّ والهدف الذي يرمي إليه النبي الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في تأكيداته المتكررة ، تصريحاً ، وتلويحاً على ذلك الدَور الذي ينتظر الإمام الحسن وأخاه ( عليهما السلام ) ، وإلى المهمّات الجليّة التي يتمّ إعدادهما لها ، حتى يصرّح ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأنّهما ( عليهما السلام ) ( إمامان قاما أو قعَدا ) (20) .

وروي أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أخبر بما يجري على الإمام الحسن ( عليه السلام ) من بعده ، فيقول : ( إنّ ابني هذا سيد ، وسيُصلِح الله على يديه بين فئتين عظيمتين ) (21) (**) .

وممّا يدخل في الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) في عهد جدّه النبي ( صلّى الله عليه وآلـه وسلّـم ) ، قضية المباهلة مع علماء نصارى نجران الذين ناظروا رسول الله في عيسى ، فأقام عليهم الحجّة ، فلم يقبلوا... ثمّ اتّفقوا على المباهلة أمام الله ؛ ليجعلوا لعنة الله الخالدة على الكاذبين ، ففي اليوم

 المحدّد خرج إليهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعه علي وفاطمة والحسنان ( عليهم السلام ) ، وأمام ذلك طلب نصارى نجران من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يعفيهم من المباهلة ... (22) .

ب ـ في عهد الخلفاء الثلاثة :

في عهد أبي بكر

كان للإمام الحسن ( عليه السلام ) موقف هامّ مع أبي بكر ، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر ، فقال له ( عليه السلام ) : ( انزل عن منبر أبي ) ، فأجابه أبو بكر : صدقت والله ، إنّه منبر أبيك ، لا منبـر أبـي ، فبعث علي ( عليه السلام ) إلى أبي بكر : ( إنّه غلام حدث ، وأنا لم آمره ، فقال أبو بكر إنّا لم نتّهمك ) (23) .

مع التأمّل في ردِّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنا لم آمره ، أي أنّه لا يتضمّن أي إنكاراً على الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ولا إدانة لموقفه ، بل الإمام الحسن لا يحتاج إلى أمر ، فهو يدرك كلّ الأحداث التي عايَشها بفِكره الثاقب ، وإنّ عليه مسؤولية إبقاء حقّ أهل البيت ( عليهم السلام ) على حيويّتها في ضمير ووجدان الأُمّة .

في عهد عُمَر بن الخطّاب :

بعد قضية الشورى على النحو المعروف ، ودعوة عمَر بن الخطّاب للمرشَّحين ومخاطبته لهم قائلاً : ( وأحضروا معكم من شيوخ الأنصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، وأحضِروا معكم الحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس ، فإنّ لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من أمركم شيء ويحضر ابني عبد الله مستشاراً ، وليس له من الأمر شيء ... ) فحضر هؤلاء .

فبالنسبة لقبول الإمام الحسن ( عليه السلام ) للحضور في الشورى ، فهو كحضور علي ( عليه السلام ) فيها ... فكما أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد اشترك فيها من أجْل أن يضع علامة استفهام على رأي عُمَر ، الذي كان قد أظهره في أنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد أبداً ، بالإضافة إلى أنّه من أجل أن لا ينسى الناس قضيتهم .. كذلك فإنّ حضور الإمام الحسن ( عليه السلام ) في هذه المناسبة ، إنّما يعني انتزاع اعتراف من عُمَر بأنّه ممَّن يحقّ لهم المشاركة السياسية ، حتى في أعظم وأخطر قضية تواجهها الأُمّة (24) .

في عهد عثمان بن عفان

كان له ( عليه السلام ) مشاركات عدّة ، نذكر منها:

1 ـ مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بيضة الإسلام ، وفي كثير من الفتوحات الإسلامية أيام خلافة عثمان ، منطلقاً من مقولة أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رعاية مصلحة الإسلام العليا ، التي كرّرها في أكثر من موضع : ( والله لأسلمنّ ما سلِمت أمور المسلمين ، ولم يكن جَور إلاّ عليّ خاصّة ) .

وقد نقلت كتُب التاريخ ومرويّاته هذه الحقيقة ، وممّا جاء في العِبر لابن خلدون : ( وتطلّع المسلمون إلى البصرة والفتح متفائلين بوجود صغير الرسول وحبيبه يجاهد معهم ، وكانت الغزوة ناجحة وموفّقة كما يصفها المؤرّخون ، وعاد الحسن منها إلى مدينة جدّه وقلْبه مفعَم بالسرور ، وعلامة الارتياح بادية على وجهه الكريم ؛ لانتشار الإسلام في تلك البقعة من الأرض ) (25) .

2 ـ كان موقفه من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، معبِّراً فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء ، خصوصاً بعد أن ملّ المسلمون سياسة عثمان وعمّاله ، حيث إنّه بعد فشل كلّ المحاولات التي بذَلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان ، زحفوا إليه من جميع الأقطار ، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه إمّا بإصلاح ما أفسده ، أو بالتخلّي عن السلطة .

وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولَده الحسن ( عليه السلام ) وسيطَينِ بين الخليفة ، ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح . إلاّ أنّ تدخّل مروان ونقْض كلّ ما أُبرم بين الطرفين من اتّفاقات ، فتعقّدت الأمور أخيراً ، وهاجمه الثوّار بتحريضٍ من عائشة وطلحة والزبير ، وقالت لهم عائشة : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) .

 وأثناء ذلك أرسل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ كما يُذكر ـ ولَدَيه حَسَناً وحسيناً ؛ ليدفعا عن عثمان الثوار ، لدرجة أنّ الحسن ( عليه السلام ) قد أُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه ، وذلك كما روى ابن كثير .

ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وولَدَيه ( عليهما السلام ) ، كانوا كغيرهم من خِيار الصحابة ناقمين على تصرّفات عثمان وعُمّاله ، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه ، بل وقف منه موقفاً سليماً وشريفاً (26) .

في عهد أبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :

في هذا العهد كان الإمام الحسن ( عليه السلام ) ظِلاًّ لأبيه ، في كلّ ما تتطلّبه مسألة الولاء لإمامة خليفة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وجندياً واعياً مطيعاً لكلّ أوامره ، ويشهد على ذلك مهمّاته في تلك الفترة والتي منها :

1 ـ دَوره في حرب الناكثين المعروفة بحرب الجَمَل ، وهي الحرب التي استعرت على إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة ، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقيادة عائشة ، فاحتاج الإمام علي ( عليه السلام ) إلى مساندة جماهير الكوفة للذَود عن الحقّ الذي يمثّله ، فاختار لهذه المهمّة

 نجلَه الحسن ( عليه السلام ) ؛ وذلك لشحْذ هِمم أهل الكوفة ، وحمْلهم على دعم الموقف الإسلامي الأصيل .

فانطلق الإمام الحسن ( عليه السلام ) برِفقة عمار بن ياسر إلى الكوفة ، حاملاً كتاب علي ( عليه السلام ) إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة ، يبلّغه فيه باستغنائه عن خدماته ؛ بسبب تحريضه الناس على القعود عن نُصرة علي ( عليه السلام ) ، وقد نجح الإمام الحسن ( عليه السلام ) في استنفار الجماهير لنصرة الحقّ والذود عن الرسالة ، فخرج معه ( عليه السلام ) إلى البصرة اثنا عشر ألفاً كما جاء في بعض الروايات .

وشارك الإمام الحسن ( عليه السلام ) في هذه الحرب إلى جنب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وحمَل رايته وانتصر بها على الناكثين .

2 ـ دَوره في حرب القاسطين المعروف بحرب صفّين (27) : وهي حرب البُغاة التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهكذا أيضاً كان دَور الحسن ( عليه السلام ) فيها كدَوره في حرب الجَمَل ، بل زاد عليه ، حيث قام بتعبئة المسلمين للجهاد وبذَل جهده ؛ لإحباط مؤامرة التحكيم والاحتجاج على المناوئين به ، بل وقد عبّر الإمام الحسن (عليه السلام) عن ولائه المطلق لأبيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في محنته هذه ، مستخفّاً بإغراء البُغاة له بالخلافة دون أبيه ، وذلك حين عرَض عليه عبد الله بن عُمَر أن يخلع أباه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأن يتولّى هو بنفسه ( عليه السلام ) الأمر ، فأجابه الإمام الحسن ( عليه السلام ) ( كلاّ ، والله لا يكون ذلك أبداً ) .

وبعد النزاع الذي ساد جيش أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أثر قضية التحكيم في معركة صفين ، وانقسام الجيش بين مؤيّد ورافضٍ ، استطاع الإمام الحسن ( عليه السلام ) وبتكليفٍ من أبيه (عليه السلام) ، أن يحكي للقوم حقيقة الأمر في كون التحكيم فاسداً .

ثالثاً : الإمام الحسن ( عليه السلام ) في الحُكم

أجمع المؤرّخون على أنّ خلافة الحسن بن علي ( عليه السلام ) كانت في صبيحة اليوم الذي دُفن فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبعد الفراغ من إنزال حكم الله بقتْل ابن ملجم ، فقد ضربه ضربةً واحدة قضت عليه كما أوصاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .

 ومِن ثَمّ تجمّع عنده المسلمون ليبايعوه على الخلافة ـ كما أشرنا مسبقاً ـ وعندما بويع الإمام ( عليـه السـلام ) ، كان في الجانب الآخر معاوية بن أبي سفيان يترصّد الأخبار ، وعاصمته تحتفل بقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولكن خبر البيعة للإمام الحسن ( عليه السلام ) هزّه وأرعد فرائصه ، فعمل معاوية على بثّ الجواسيس في داخل المجتمع الإسلامي ؛ لنشر الإرهاب وإشاعة الدعايات ضد حكم أهل البيت ( عليهم السلام ) لصالح الفتنة في الشام ، لكن سياسة الإمام الحسن ( عليه السلام ) كشفت مخطّطات معاوية .

وكثُرت الرسائل المتبادلة بين الإمام ( عليه السلام ) و معاوية ، وكان أهمّها كتاب الإمام ( عليه السلام ) له بوجوب التخلّي عن انشقاقه والانضواء تحت لوائه الشرعي ، إلاّ أنّ معاوية رفض ذلك ، وكان جوابه الأخير لرسولَي الحسن ( عليه السلام ) إليه ، أنّه قال لهما : ( ارجعا فليس بيني وبينكم إلاّ السيف ! ) .

وهكذا ابتدأ معاوية العدوان ، ممّا دفع الإمام الحسن ( عليه السلام ) لإعلان التعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان ، ولكنّه ( عليه السلام ) أُصيب بخيبة أمل كبيرة حينما انكشف له واقع الجماهير التي يقودها ، والتي أثّرت فيها الدعايات الأُمَوية ، ولكن هذا النداء وصل إلى أسماع بعض المخلصين ، الذين عبّروا عن إخلاصهم بتأنيب الناس ، وتحريضهم على النهوض بمسؤولياتهم الرسالية ، وعاهدوا الإمام الحسن ( عليه السلام ) على المضي قُدُماً في نصرة الحقّ ومواجهة الطغيان .

فاستطاع الإمام ( عليه السلام ) أن يسير بعد ذلك بجيش كبير ، بلَغ حسب بعض الروايات أربعين ألفاً أو أكثـر ، ولكنّه ضعيف في معنوياته يستبدّ به التشتّت حتى بلغ النخيلة (28) .

فنظّم الجيش ورسم الخطط لقادة الفِرَق ، وتوجّهَ بعد ذلك إلى دير عبد الرحمن (29) . وهناك قرّر إرسال طليعة عسكرية كمقدّمة لجيشه إلى ( مَسكن ) (30) ، واختار لقيادتها ابن عمّه عبيد الله بن العباس وقيس بن سعد بن عبادة كمعاونٍ له ، وأقام هو في المدائن (31) ، واتّخذها مقرّاً لقيادته العليا ، وأمّا الطليعة التي أرسلها إلى ( مَسكن ) بقيادة ابن عمه عبيد الله ، فهي الميدان الذي سوف يواجه فيها معاوية وأهل الشام ، وليس بين المعسكرين إلاّ خمسة عشر فرسخاً ، وكان خيرة جنود الحسن ( عليه السلام ) في الركْب الذي سبَقه إلى ( مَسكن ) ، وأنّ الفصائل التي عسكر بها الحسن ( عليه السلام ) في المدائن كانت من أضعف الجيوش معنوية ، ومِن أقرَبها نزعة إلى النفور والقلق والانقسام .

وبما أنّ الإمام وجيشه كانوا في معزل عن بعضهما ، فقد تمكّن معاوية من بثّ الإشاعات المضلّلة في صفوف جيش الإمام ، فقد أُشيع بين جيش الإمام أنّ الإمام قد صالح معاوية ، فاضطرب جيش الإمام لهذه الإشاعة ، ما دفع عبيد الله بن العباس ابن عمّ الإمام إلى الوقوف إلى جانب معاوية وترْك جيش الإمام ، وفي هذه الأثناء أيضاً دارت على الألسُن إشاعةٌ تفيد بقبول قيس بن سعد للصُلح ، وهو قوّة المقاومة الوحيدة المتبقّية في مقابل معاوية .

وكانت هذه بمثابة الضربة القاضية التي وُجّهت إلى الوضع النفسي المنهار في جيش الإمام ، ولم يمضِ بعض الوقت حتى طغَت على السطح كلّ العِلَل ، التي تفشّت في معسكر الإمام ( عليه السلام ) على شكلِ تمزّقٍ وفِتن واضطراب وتآمر على القيادة ذاتها .

وهنا اطمأنّ معاوية بأنّ المعركة لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق ستكون لصالحه ، وسيكون الحسن بن علي ( عليه السلام ) والمخلصون له من جُنده ، خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته ، وأنّ السلطة صائرة إليه لا محالة .

ولكن استيلاءه عليها بقوّة السلاح لا يعطيها الصبغة الشرعية ، ما دفعه إلى التقدّم بعَرض فكرة الصلح على الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وترَك للإمام أن يشترط ما يريد ، وكان معاوية عارفاً بأنّ مثل هذه الفكرة ستثير الفِتَن بين صفوف أنصار الإمام ، بل سيفضلونها على الذهاب إلى الحرب والقتال ، وبالفعل أثمرت فكرة الصلح نتائجها ، حيث يذكر الشيخ المفيد في إرشاده والطبرسي في أعلام الورى : ( أنّ أهل العراق كتبوا إلى معاوية السمع والطاعة ، واستحثّوه على السَير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسَن إليه إذا شاء ، عند دُنوّه من معسكرهم ، أو الفتْك به ) (32) .

لدرجة أنّ الحسن ( عليه السلام ) لمّا بلَغه ذلك ، كان لا يخرج بدون لامَة حرْبِه ( أي الدرع ) ، ولا ينزعها حتى في الصلاة ، وقد رماه أحدهم بسهم وهو يصلّي فلم يثبت فيه .

 فالإمام الحسن ( عليه السلام ) لم يفكّر قطّ بالصلح مع معاوية أو مهادنته ، غير أنّه بعد أن تكاثرت لديه الأخبار عن تفكّك جيشه ، وانحياز أكثر القادة إلى جانب معاوية ، قرّر ( عليه السلام ) أن يدفع بأعظم الضرَرَين :

أوّلهما : الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه ، وفناء أهل بيته وبقية الصفوة الصالحة .

 والثانية : القبول بالصلح وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم ؛ ليتّصل حبلهم بحبل الأجيال اللاحقة ، وليصل إليها معالم الدين .

وهكذا اضطرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) للصلح ، في محاولة ناجحة لكشف حقيقة معاوية ، الذي انفرد بالحكم واستأثر بإدارة شؤون الأُمّة التي ساندته فرأت طبيعته وحكمه ، ومدى الفرْق الشاسع بينه وبين أيام الأمير علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وبذلك يتحمّل الذين أطاعوا معاوية مسؤولية هذه المأساة التاريخية .

فإذاً ، لم يكن الناس قبل توقيع الصلح ينظرون إلى معاوية على أنّه حاكم جائر ، بل كانوا ينظرون إليه على أنّه رجل طالب للحياة والسلطة لا أكثر ، والذي كشف معاوية على حقيقته للناس هو ( صُلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) ) وشروط الإمام الحسن ( عليه السلام ) .

وقد أثبتت الأيام غدر وخيانة معاوية ؛ وذلك عندما داس على بنود الصلح بقدَمَيه ولم يَعُد يعني له ذلك شيئاً ، ممّا أدّى ذلك لانتشار التململ بين أصحاب الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، بحيث إنّهم تجرّأوا على إمام زمانهم ووصفوه بمُذلِّ المؤمنين ، فصبر سلام الله عليه صبراً جميلاً ، وطفق يُبيّن لهم الحقائق التي خفِيَت عنهم في أجواء الانفعال والعاطفة والغضب ، الذي اعتراهم من تحدّي معاوية لهم ، ونقضه لوثيقة الصلح وتوهينه للإمام الحسن ( عليه السلام ) وأصحابه .

فعن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال : ( حدّثني رجُل منّا ، قال : أتيت الحسن بن علي ( عليه السلام ) فقلت : يا بن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أَذلَلْت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً ، ما بقي معك رجُل ، قال ( عليه السلام ) : ومِمّ ذلك ؟ قال : قلت : تسليمك الأمر لهذا الطاغية ـ إشارة لمعاوية ـ قال ( عليه السلام ) : ( والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أنّي لم أجد أنصاراً ، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ) (33) .

رابعاً : الشهادة المباركة

انتقل الإمام الحسن ( عليه السلام ) بعد توقيع الصلح مع معاوية ، إلى مدينة جدّه المصطفى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وودّعته الكوفة وأهلها وهُم يرون الذلّة قد خيّمت عليهم ، وتحكّمت الفتنة بهم ، وبوصول الإمام ( عليه السلام ) إلى المدينة بدأت نشاطاته ، وأعماله الفكرية ، والاجتماعية تأخذ جانباً مهماً في حياة المسلمين ، فأنشأ مدرسة وقيادة فكرية كبرى ؛ لتكون محطّة إشعاع للهدى والفكر الإسلامي .

ولكن أجهزة الحكم الأُمَوي لم يكن خافياً عليها ذلك ؛ ولأجل هذا عقد أقطاب السياسة المنحرفة اجتماعاً مع معاوية لتداول أمر وضع الحسن ( عليه السلام ) ، فكان حديثهم : ( إنّ الحسن قد أحيا أباه وذِكره : قال فصُدِّق وأمَر فأُطيع ، وخفقَت له النعال ، وإنّ ذلك لدافعه إلى ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسـيء إلينـا ) (34) .

وهذا الحديث على وجازته يُعتبر أخطر تقرير قدّمه أقطاب البيت الأُمَوي وقادته إلى زعيمهم معاوية ، حول نشاط الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، بما دفع معاوية إلى ارتكاب إحدى أكبر الجرائم البشعة بحقّ آل محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وذلك من خلال خطّته الخبيثة التي دبّرها بالاتّفاق مع زوجة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ـ جعدة بنت الأشعث (35) ـ التي دسّت له السم (36) ، فقضى شهيداً وكان ذلك سنة ( 49 للهجرة ) .

وتشير الروايات بأنّ هذه ليست المرّة الأُولى التي يتعرّض فيها الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمحاولة اغتياله بالسمّ ، حيث ورد عن اليعقوبي : ( ولمّا حضرته الوفاة قال لأخيه الحسين : ( يا أخي إنّ هذه آخِر ثلاث مرّات سُقيت فيها السمّ ، ولم أُسقَه مثل مرّتي هذه ، وأنا ميّت من يومي ) .

وقال ابن سعد في طبَقاته : ( سمَّه معاوية مِراراً ) .

ومِن ثَمّ باشر الإمام الحسين ( عليه السلام ) أمر تجهيزه ، وأخرجه ليُجدّد به عهداً بجدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولم يشكّ بنو أمية ، أنّهم سيدفنونه هناك ، فاجتمعوا لذلك ، ولبسوا السلاح ، وأقبلوا ومعهم عائشة على بَغْل وهي تقول : ( ما لي ولكم ، تريدون أن تُدخلوا بيتي ـ أي عند قبر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ مَن لا أحبّ ) ، وكادت الفتنة أن تقع ، بين بني هاشم ، وبني أمية ، إلاّ أنّ الحسين ( عليه السلام ) تدارك ذلك  ومضى بأخيه الحسن إلى البقيع ، ودفنوه هناك عند جدّته فاطمة بنت أسد .

وأخيراً : الخاتمة :

مَن ينظر في شخصية الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، وسيرته العملية سواء في عصر أبيه أو في حكمه ، يرى فيه قوّة الشخصية ، والعزيمة الراسخة وسرعة التحرّك لحسم المواقف ، ولكنّ الظروف الموضوعية التي ألمّت بالإمام ( عليه السلام ) أحرجَت موقفه بشكلٍ يندر نظيره في التاريخ .

فهو ( عليه السلام ) لم يسالِم معاوية رضاً به ، ولا ترَك القتال جُبناً وخوفاً من الموت ، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة ؛ ولكنّه صالح حين لم يبقَ في ظرفه احتمال لغير الصُلح ، وبهذا ينفرد الحسن عـن الحسيـن ، أي الحسن لم يبخل بنفسه ، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله ، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهادٍ صامت ، فلمّا حان الوقت كانت الشهادة كربلاء ، شهادة حسنية ، قبل أن تكون حسينية ، وكان يوم ( ساباط ) أعرف بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أُولي الألباب ممّن تعمّق ؛ لأنّ الحسن ( عليه السلام ) ، أعطى من البطولة دَور الصابر على احتمال المكاره في صورة مستكينٍ قاعد .

وكانت شهادة ( الطفّ ) حسنية أوّلاً ، وحسينية ثانياً ؛ لأنّ الحسن ( عليه السلام ) أنضَجَ نتائجها ، ومهّد أسبابها ، كان نصر الحسن الدامي موقفاً على جَلْوِ الحقيقة التي جَلاها ـ لأخيه الحسين ـ بصبره وحكمته ، وبجَلْوها انتصر الحسين نصرة العزيز وفتَح الله له فتْحه المُبين .

وكانا ( عليهما السلام ) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة : أن يكون للحسَن منها دَور الصابر الكريم ، وللحسين دَور الثائر الكريم ؛ لتتألّف من الدَورين خطّة كاملة ذات غرَض واحد (37) .

ونحن نرى بعد صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) الذي وقع في سنة الأربعين للهجرة ، أنّ أهل البيت لم يلتزموا بالبقاء داخل البيت ، والاقتصار على بيان الأحكام الإلهية فقط ، بل نجد منذ أَوّل أيام الصلح أنّ برنامج كلّ الأئمة ( عليهم السلام ) ، كان يقوم على تهيئة المقدّمات لإقامة الحكومة الإسلامية التي يرَونها هُم ... وهذا ما يدلّ بوضوح على أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) كان ينظر للمستقبل ، وهذا الآتي الذي ينظره ليس إلاّ الزوال الحتمي للحكومة الجائرة الباطلة ، وحلول حكومة العدْل مكانها (38) .

ويشهد على ذلك ، عندما أعلن معاوية أنّ كلّ شروط الصُلح مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) صار تحت قدَمَيه ، فجاء بعض وجوه الشيعة إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) وقالوا : يا بن رسول الله ،

 لقد أصبح اتّفاق الصلح هذا كأنّه لم يكن بعد أن نقَضه معاوية ، فما تقولون الآن في القيام ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( كلا ، القيام ليس الآن ، ولكن بعد معاوية ) .

فالمحصّلة : أنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) لم يمتنع عن الشهادة ، بل الشهادة هي التي امتنعت عنه ... وانتصر الحسن ( عليه السلام ) بثورته الصامتة ؛ حيث كانت معاهدة الصلح عملية كشف للمطامع الأُمَوية ولأحقادها الضارية ، وتعرية صريحة لواقِعها البغيض .

ــــــــــــــــــــ

* اقتباس وتصحيح شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ، والمقالة مقتبسة من : مجلة الكلم الطيب ، العدد 21 ، السنة الخامسة 2005 م .

1 ـ جولة في سيرة الأئمة الأطهار ، الشهيد مطهري ، ص39 .

2 ـ الاحتجاج ، للطبرسي ، ص151 .

3 ـ المحاسن والمساوئ ، للبيهقي ، ج1 ، ص60 و 65 .

4 ـ الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت ، الإمام الخامنئي ، ص143 ـ 146 .

5 ـ البحار ، 43 ـ 263 ، ج11 .

6 ـ فرائد السمطين ، ج2 ، ص 68 .

7 ـ أمالي المفيد ، ص 217 .

8 ـ تُحف العقول ، ص 158 .

9 ـ أعلام الورى بأعلام الهدى ، ص 207 .

10 ـ الكامل في التاريخ ، ج3 ، ص 170 .

11 ـ شرح نهج البلاغة ، ج16 ، ص30 ـ 31 .

12 ـ أسد الغابة ، ج1 ، ص 491 .

13 ـ تاريخ ابن كثير ، ج8 ، ص 37 .

14 ـ تحف العقول ، ص166 .

15 ـ ابن أبي الحديد ، ج4 ، ص73 .

16 ـ بحار الأنوار ، ج43 ، ص 338 .

17 ـ وفيات الأعيان ، ج2 ، ص 99 .

18 ـ ربيع الأبرار ، ج2 ، ص 837 .

19 ـ الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، السيد جعفر مرتضى العاملي ، ص 7 .

20 ـ الإرشاد للمفيد ، ص 22 .

21 ـ أسد الغابة ، ج2 ، ص 13 .

(**) هنا أشارة لصلح الحسن مع معاوية مستقبلاً .

22 ـ المباهلة من البهلية ، أي اللعنة .

23 ـ تاريخ الخلفاء ، السيوطي ، ص 80 .

24 ـ الحياة السياسية للإمام الحسن ( عليه السلام ) سيد جعفر العاملي ، ص 125 ـ 126 .

25 ـ يراجع تاريخ الأمم والملوك ، ج5 ، ص 57 . والكامل لابن الأثير ج3 ، ص 109 . والفتوحات الإسلامية ، ج1 ، ص 175 .

26 ـ يراجع سيرة الأئمة الاثني عشر ، للحسني ، ج1 ، ص 485 ـ 486 .

27 ـ صفّين: اسم موضع على شاطئ الفرات ، حيث كان ميدان لحروب طاحنة بين الكوفة والشام .41

28 ـ النخيلة ، موضع قريب من الكوفة ، باتجاه الشام .

29 ـ دير عبد الرحمن : هو مفرق طرق بين معسكري الإمام ( عليه السلام ) في المدائن ومسكن .

30 ـ مَسْكن : هي تقع على نهر وجبل ، ويقصد بـ ( مسكن ) القرية الكثيرة البساتين والشجر .

31 ـ المدائن : وهي عاصمة الساسانية ، وفيها مرقد الصحابي الجليل سلمان الفارسي .

32 ـ المفيد ، الإرشاد ، ص 190 .

33 ـ الطبرسي ، الاحتجاج ، ج2 ، ص 291 .

34 ـ حياة الرسول وأهل بيته ، حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، ص 47 .

35 ـ جَعدة بنت الأشعث : هي إحدى زوجات الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، أقدمت على جريمتها النكراء ... بحكم بُنوَّتها للأشعث بن قيس ـ المنافق المعروف ـ الذي أسلم مرّتين ، وفي مقابل ذلك وعَدَها معاوية بتزويجها ابنه يزيد ، وإعطائها مِئة ألف درهم ، ولكنّها لم تلقَ من ذلك شيء .

36 ـ السم : وهو عبارة

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الامويون والحسين عليه السلام
حاجة نظام الخلق إلى خليفة الله‏
لا يضحي الإمام بالعدالة للمصلحة
ملامح عقيلة الهاشميّين السيّدة زينب الكبرى *
يوم الخروج وكيفيته
الجزع على الإمام الحسين (عليه السّلام)
الدفاعٌ عن النبیّ صلى الله علیه وآله وسلم
أهل البيت النور المطلق
حديث الغدير ودلالته على ولاية أمير المؤمنين (ع)
عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي (عليه ...

 
user comment