الخوارج سياسياً وتاريخياً
جعفر مرتضى العاملي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله الأطهار .
ظهور الخوارج :
الخوارج : فرقة ظهرت في النصف الأوّل من القرن الأول الهجري ، وبالذات في مناسبة حرب صفين التي دارت بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) الخليفة الشرعي من جهة ، وبين معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الأمر لنفسه من جهة أخرى ، حيث رأى معاوية : أنّ علياً سيربح الحرب لواستمرّت ، فأمر ـ بمشورة من عمروبن العاص ـ برفع المصاحف ، الأمر الذي أنجرّ إلى التحكيم ، وكان أولئك المعترضون على قبول عليّ للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل ، كما اعترفوا به هم أنفسهم ، كما صرّحت به النصوص التاريخية الكثيرة جدّاً ، وهذا ما يكذّب ما يدّعيه البعض من أنّ الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أوّل الأمر .
نعم ... إنّ هؤلاء قد حكموا على عليّ (عليه السّلام) بالكفر لأجل قبوله التحكيم الذي أجبروه هم عليه ، كما كفَّروا الخليفة الثالث عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته ، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة والزبير وعائشة وغيرهم .
ثمّ إنّهم خرجوا على عليّ (عليه السّلام) وحاربوه ، وكان من جملة ما احتجّوا به لحربهم إياه : أن قالوا : (زعم أنّه وصي فضيّع الوصيّة ) كما ذكره اليعقوبي ، نعم وهؤلاء بالذات وأتباعهم هم الذين سُمّوا بالخوارج ، وهم محطّ بحثنا الآن .
موقف عليّ (عليه السّلام) من الخوارج :
وقد عالج أمير المؤمنين (عليه السّلام) قضية الخوارج بحكمة ومرونة ، ثمّ بحزم وبحسم أيضاً ، حيث حاول أوّلاً أن يقنعهم بخطئهم في تصوّراتهم ومواقفهم ، فناقشهم ووعظهم هووأصحابه : ابن عباس وغيره ، وأقاموا عليهم الحجّة ، حتى رجع منهم الألوف .
ويلاحظ هنا : أنّه (عليه السّلام) ينهى ابن عباس عن أن يخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذووجوه ، ولكن يخاصمهم بالسنّة ، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً .
كما أنّه هونفسه قد التزم بذلك إلى حدٍّ كبير ، حيث نجده يهتمّ بأن يحتجّ عليهم بأقوال النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأعماله بالدرجة الأولى ، فاحتجّ عليهم بأنّه ( صلى الله عليه وآله ) قد رجم الزاني ثمّ صلّى عليه وورثه أهله ، وقتل القاتل كذلك ، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ، ثمّ قسّم عليهما من الفيء ، ونكحا المسلمات ، فأخذهم ( صلى الله عليه وآله ) بذنوبهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولا أخرج أسماءهم من بين أهله .
واحتجّ عليهم أيضاً بمنِّ النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على أهل مكّة فلم يسبّ نساءهم ولا ذريتهم ، وبمحوه ( صلى الله عليه وآله ) كلمة : ( رسول الله ) من صحيفة الحديبية ، وبإعطائه النصفة لأهل نجران ، حيث قال : ( ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) وبتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة الذين نقضوا العهد .
ولكن... رغم كلّ تلك المحاولات والمواعظ والاحتجاجات ، ورغم رجوع الألوف منهم عن غيّهم ، فقد بقيت بقيّة حوالي أربعة آلاف أبوإلاّ البقاء على ما هم عليه ، ومحاربته ، وقتلوا الأبرياء ، حتى النساء ، وأخافوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فاضطر (عليه السّلام) لمحاربتهم لدفع شرّهم ، وإخماد نار فتنتهم ، فحاربهم ، وقتلهم ، ولم يفلت منهم إلاّ أقل من عشرة ، كما لم يستشهد من أصحابه إلاّ أقلّ من عشرة ، كما أخبر به (عليه السّلام) قبل ذلك .
ويقول المؤرّخون : إنّ الذين أفلتوا من القتل قد أصبحوا بذرات أخرى للخوارج في مناطق عديدة فيما بعد .
وأمّا أولئك الذين استأمنوا ، فقد صاروا يخرجون على عليّ (عليه السّلام) وعلى غيره بعد ذلك ، فخرج منهم ألفان على الإمام في النخيلة فقضى عليهم ، ثمّ صار الخوارج يخرجون عليه في شراذم قليلة في بضعة مئات وأقلّ وأكثر في الأنبار ، وماسبذان ، وجرجرايا ، والمدائن ، وسواد الكوفة ، فكان يقضي على حركاتهم تلك الواحدة تلوالأخرى بيسر وسهولة .
أنا فقأت عين الفتنة :
ويقول (عليه السّلام) عن حربه للخوارج ولغيرهم :
( أنا فقأت عين الفتنة ، ولم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلبها ) .
وفي رواية أخرى لهذا النصّ بدل ذيل الكلام : ( ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ، ولا القاسطون ، ولا المارقون ) .
وفي نصّ آخر : ( ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان) .
ويبدو أنّ سرّ ذلك هو أنّه قد كان على رأس الناكثين : طلحة والزبير ، وهما من أهل السابقة في الإسلام ، ثمّ أُمّ المؤمنين عائشة زوجة الرسول ، وبنت الخليفة الأوّل أبي بكر ، المرأة الذّكية والشجاعة ، والتي كانت تحظى بعناية ورعاية خاصّة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، الذي يتميز بعظمة خاصة في نفوس الناس ، وشاع وذاع عنه ما لا يمكن تجاهله وإنكاره .
وكان معاوية يتزّعم القاسطين ، وعمر هو الذي جعله على بلاد الشام ، وكان يعامله معاملة متميزة ، وبقي على عمله إلى أن توفي عمر ، ثمّ طيلة خلافة عثمان ، وتربّى أهل تلك البلاد على أفكاره واتجاهاته ، وأصبحت بلاد الشام سفيانية كما أشار إليه الأصمعي وغيره . ثمّ هناك الشبهات التي كان يلقيها معاوية في الناس بالنسبة لمقتل عثمان .
أمّا المارقون ... فكانوا معروفين بالعبادة والزهد ، فالإقدام على حربهم وقتلهم لم يكن أمراً سهلاً وميسوراً لكلّ أحد ، أمّا عليّ (عليه السّلام) فقد كانت مكانته بين المسلمين معروفة لدى كلّ أحد ، وكانت الأمّة لا تزال تسمع من وعي النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الكثير الكثير ممّا يدل على فضله ، وأنّه مع الحقّ والحقّ معه ، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى ، حتى ليصبح قتاله للخوارج ولغيرهم حتى عائشة دليلاً صريحاً على تعدّيهم وظلمهم ، وخطئهم في موقفهم على الأقل .
نعم ... وقد رأينا الكثيرين من الخوارج عليه ـ (عليه السّلام) ـ يشكّون في صحّة وسلامة موقفهم منه ، حتى إذا جاء العهد الأموي بدءً من معاوية ، قالوا : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه . ثمّ أخذوا على عاتقهم مهمة قتال الأمويين بكلّ ضراوة وعنف ، كما هو معلوم .
لا تقاتلوا الخوارج بعدي :
وبعد... فإنّا نجد علياً الذي يحارب الخوارج ويستأصل شأفتهم يوصي الناس وشيعته بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده ، ويعلل ذلك بأنّه ليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه .
وأيضاً ... فقد ذكرت الحرورية عنده ، فقال : إن خرجوا على إمام عادل وجماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإنّ لهم في ذلك مقالاً .
ولعلّ سرّ ذلك هو:
أولاً : إنّ الخوارج في المستقبل سيقاتلون الأمويين الذين كانوا أشدّ خطراً على الإسلام والأمّة ، لأنّ دعوتهم وطريقتهم تستهوي النفوس الضعيفة ، لأنّهم يدعون إلى الدنيا وإلى زبارجها وبهارجها ، وهذا ما ينساق إليه الناس بغرائزهم ويلائم هوى نفوسهم ، كما إنّهم قد تلاعبوا في عقائد المسلمين وغيّروها وأدخلوا عليهم فيها الشُبَهة والإسرائيليات وغير ذلك ممّا لا مجال لذكره هنا ، في حين أنّه كان لهم القدح المعلّى والقدم الثابت في الانحراف ، مع خبث نفوسهم ، وشدّة ظلمهم وفجورهم .
يقول عليّ (عليه السّلام) بعد كلامه السابق عن الخوارج : ( ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة فإنّها فتنة عمياء مظلمة ، عمت خطتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، واخطأ البلاء من عمي عنها ، وأيم الله ، لتجدنّ بني أمية لكم أرباب سوء ، كالنار الضروس تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، ـ إلى أن قال ـ : لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم ، وغير ضائر بهم ، ـ إلى أن قال ـ : ترد فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى) .
أمّا دعوة الخوارج فلم يكن لها ذلك الخطر ، وذلك لما يلي :
ألف : لقد كان الخوارج ـ عموماً ـ أعراباً جفاة ، لا ثقافة ولا معرفة لديهم ، يشكّلون بها خطراً على الدّين بشبهاتهم وانحرافاتهم .
باء : إنّ دعوتهم لم تكن تنسجم مع الفطرة ولا تتقبلها العقول ، وإذا ما استهوت بعض شعاراتهم بعض البسطاء والسُذّج لبعض الوقت فإنّها لا تلبث أن تنحسر وتتلاشى بمجرّد دعوتهم إلى الفطرة ، والعقل السليم ، والفكر المستقيم .
يضاف إلى ذلك : حِدِّيتهم المتناهية في التعامل مع سائر المسلمين ، حيث لم يكن قلوبهم تعرف الرحمة والشفقة حتى للأطفال والنساء .
فالأزارقة، وقد كانوا أعظم فرقهم وأشدّها شوكة ، وقد استولوا على الأهواز وأرض فارس وكرمان وجبوا خراجها سنوات عديدة ، إنّ هؤلاء يقولون بكفر جميع من عداهم ، ولا يحقّ لأصحابهم المؤمنين منهم أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعا إليها ، ولا أن يأكلوا ذبائحهم ، ويتزوّجوا منهم ، ويرثوا منهم ، ويورثوهم ، ويكون غيرهم مثل كفّار العرب ، وعبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلاّ الإسلام والسيف ، ودارهم دار حرب ، ويحلّ قتل أطفالهم ونسائهم ، ويحلّ لهم الغدر بمن خالفهم ، ولا تجوز التقية ، إلى غير ذلك ممّا لا مجال لذكره هنا.
جيم : إنّ الخوارج إنّما حاربوا علياً (عليه السّلام) لشبهة تمكّنت من نفوسهم ، وزيّن لهم الشيطان إنّهم ظاهرون ومنتصرون ، فهم قد طلبوا الحقّ فوقعوا في الباطل ، وإذا كان قد خالط ذلك الشيء من حبّ الدنيا والمصالح الشخصية والمفاهيم الجاهلية ، والعصبيات القبلية ، فإنّما كان ذلك ملبساً بلباس ديني ، وشبهة كانت طاغية على فهمهم وإدراكهم ومبرّرة على هذا الأساس ، فكانوا ـ كما عن عليّ (عليه السّلام) ـ مصداقاً لقوله تعالى : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ إنّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (1) .
ثانياً : إنّ ظاهر الخوارج هو إنّهم من العُبّاد والزُهّاد ، فمن يتصدّى لحربهم ـ سوى عليّ (عليه السّلام) ـ لم يكن يستطيع أن يدافع عن نفسه كثيراً ولاسيما إذا كان الإعلام ـ حتى الأموي ـ ضدّه ، ويعمل على تشويهه ، وتحطيم كلّ مقومات حياته ووجوده .
كما أنّ العراق الميّال لعليّ وأهل بيته (عليهم السّلام) سينشغل بقضية لن تكون نتائجها إلاّ زعزعة ثباته ، وتمزّق أوصاله ، ويقلل من فرص اجتياح المدّ الشيعي على شكل التعاطف مع أهل البيت لمناطق أخرى تقع في نطاق اهتمامات الحكم الأموي .
كما أنّ توّلي هؤلاء لحرب الخوارج معناه أن يتحمّلوا هم آثار الحرب ومخلفاتها غير المرغوب فيها ، ولاسيما ما ينشأ عن سفك الدماء عادة من الأحقاد ، ثمّ زعزعت الثوابت على الصعيد القبلي والعاطفي .
ثالثاً : لقد كان الشيعة قلّة ومضطهدين من قبل الحكم الأموي ، فتكليفهم بقتال الخوارج معناه المزيد من إضعافهم هم والخوارج مع بقاء الحكم الأموي محتفظاً بكامل قواه ، يتحكّم بمقدرات الأمّة ، ويسومها الخسف والذلّ .
وقد حاول الأمويون ابتداء من معاوية الزجّ بأهل البيت وشيعتهم في حرب الخوارج ، فأرسل معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) وهو في طريقه من الكوفة إلى المدينة يدعوه لحربهم ، فرفض (عليه السّلام) طلبه وكتب إليه : ( لوآثرت أن أقاتل أهل القبلة لبدأت بقتالك ) ، وفي مناسبة أخرى على ما يظهر يذكره (عليه السّلام) بأن ليس من طلب الحقّ فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه فأسكت معاوية .
إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ الأمويين قد استطاعوا أن يجيبوا الشيعة على حربهم ، وقد نكل الحجّاج بأهل العراق ، وقتل من قتل وفعل بهم الأفاعيل في مجال إرغامهم على ذلك .
عليّ (عليه السّلام) وجرحى الخوارج :
ويقول البلاذري عن حرب النهروان : (ووجد عليّ (عليه السّلام) ممّن به رمق أربع مائة فدفعهم إلى عشائرهم ولم يجهز عليهم ، وردّ الرقيق على أهله حينما قدم الكوفة ، وقسّم الكراع والسلاح وما قوتل به بين أصحابه ) ، وهذا معناه أنّه حينما أخبر (عليه السّلام) أنّه لا يفلت منهم عشرة كان يقصد أنّه لا يفلت منهم ولومن الجراحة ، نعم ... وكذلك فعل (عليه السّلام) مع جرحاهم الأربعين في سواد الكوفة ، وذلك يعبر عن أنّه (عليه السّلام) إنّما كان يتعامل معهم من منطلق إنساني إسلامي بعيداً عن أي تأثّر وانفعال ، ولم يكن كأولئك الذين لا ينطلقون في مواقفهم إلاّ من مصالحهم الشخصية ، وعلى أساس من انفعالاتهم وعصبياتهم .
عوامل ساعدت على ظهور الخوارج :
وبعد ، فلم يكن ظهور الخوارج في مناسبة حرب صفين أمراً عفوياً وليد ساعته ، وإنّما كان ثمّة أجواء ومناخات ، وعوامل وأسباب ساعدت على ظهورهم ، ونذكر منها :
العامل الثقافي الناقص والمنحرف ، حيث كانوا في الأكثر أعراباً جفاة ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولا اهتدوا بهدى العقل .
إنّ أكثرهم كانوا من تميم ، وهي من ربيعة ، وكانت القبائل الربيعية ـ حسبما يراه البعض ـ تحسد قريشاً على استيلائها على الخلافة ، وبينها وبين مضر إحن جاهلية ، خفف الإسلام من حدّتها ، ولم يذهب بكلّ قوتها ، ولعلّ لأجل ذلك نجد أبا حمزة الخارجي حينما غزا المدينة كان يقتل القرشي ويدع الأنصاري ، كما أنّ الأصمعي يصف الجزيرة بأنّها خارجية ، لأنّها مسكن ربيعة ، وهي رأس كلّ فتنة .
لقد شاع عن الخوارج : إنّهم من الزهّاد والعُبّاد حتى اعتقد كثير من الباحثين : أنّ ثورتهم كانت خالصة لله تعالى ، ولم يكن للدنيا في تفكيرهم أي نصيب ، ولكن الذي يبدو هو أنّ الدنيا كانت تستأثر بجانب كبير من تفكيرهم ، واهتماماتهم ، وقد كان لمفاهيمهم الجاهلية ، وعصبياتهم القبلية ومصالحهم الشخصية ، وأملهم بالفوز والنصر أثر كبير في إصرارهم على موقفهم ذاك من عليّ (عليه السّلام) ، والذي كان مبنياً على حالة من الشكّ والتردد كما صرّحوا به أنفسهم ، وكما صرّح به الإمام الصادق (عليه السّلام) . أمّا موقفهم من الأمويين وغيرهم من حكام الجور فقد كان لهم فيه مقالاً ـ كما عن عليّ (عليه السّلام) ـ ولم يكن لديهم أدنى شكّ في صحته وسلامته ، ولكن ذلك لا يعني إنّهم في حربهم لهم لا يطلبون الحكم والسلطان ، والحصول على شيء من حطام الدنيا أيضاً ، فإنّ ذلك كان مدّ نظرهم ، ومطمح نفوسهم ، وكشاهد على كل ما تقدم نذكر :
ألف ـ إنّ علياً (عليه السّلام) يقول عنهم : ( غرّهم الشيطان ، وأنفس بالسوء أمارة ، غرّتهم بالأماني ، وزيّنت لهم المعاصي ، ونبّأتهم بأنّهم ظاهرون ) .
ويدلّ على صحة ذلك : ما كانوا يرتكبونه من جرائم وموبقات في حقّ الأبرياء حتى النساء والأطفال ، وحتى قبل معركة النهروان أي قبل أن يضعوا لأنفسهم منهجاً عقائدياً يبيح لهم تلك العظائم والجرائم .
ب ـ إنّ من جملة ما نقموه على عليّ (عليه السّلام) : أنّه لم يقسم بينهم السبي في حرب الجمل ، كما قسم بينهم الغنائم .
ج ـ إنّ شيخاً منهم بعد أن رجع عن مقاتلتهم أخبر عنهم : إنّهم كانوا إذا هووا أمراً صيروا حديثاً .
د ـ إنّ شبيب بن يزيد الشيباني قد طلب من عبد الملك أن يفرض له في أهل الشرف ، فرفض ، فغضب وجمع الرجال ، وخرج عليه يحاربه .
وقد أخذ أتباعه عليه ، أنّه كان لا يطبّق التعاليم الخارجية على قومه ، أمّا نجدة الخارجي ، فلم يعاقب رجلاً كان يشرب الخمر في معسكره ، بحجة أنّه شديد النكاية على العدو، وبعض زعمائهم وهو عبيدة بن هلال يُتّهم بامرأة حداد ، فيحتال خليفتهم ( قطري بن الفجاءة ) لتبرئته .
هـ ـ وفي بعض حروبهم : ( جعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها ، والسوط ، والعلف ، والحشيش ، أشدّ قتال ) .
وـ وزياد بن أبيه يولّي أحدهم سابور ويرزقه أربعة آلاف درهم كلّ شهر ، فيلزم الطاعة ، ولا يفارق الجماعة ، على حدّ تعبيرهم ، كما أنّ زياداً حينما يعطيهم ما يركبون يُقبلون بالتردد عليه ، والسمر عنده .
ز ـ بل إنّنا نجدهم مستعدّين لأن يقتل بعضهم بعضاً في قِبال إطلاق سراحهم من سجن ابن زياد .
إلى غير ذلك من الشواهد التي لا مجال لتتبعها .
رابعاً ـ إنّ العراق الذي كان على اتصال مباشر بغير العرب قبل فتحه في عهد عمر بن الخطاب ، الذي كان له سياسة خاصة في تمييز العرب على غيرهم ، كان ينظر إلى الخليفة الثاني نظرة خاصة متميزة ، حتى أنّ علياً لم يستطع أن يمنع جنده من صلاة التراويح حيث تنادوا : يا أهل الإسلام غُيّرت سنّة عمر ، كما لم يستطع أن يعزل شريحاً عن القضاء ، لأنّه منصوب من قبل عمر ، وقد بايعوه على أن لا يغيّر شيئاً ممّا قرّره أبوبكر وعمر ، على حدّ تعبيرهم .
وأصحاب الجمل أيضاً قد نادوا بأمير المؤمنين : أعطنا سنّة العمرين ، وقال الخوارج لقيس بن سعد : ( لسنا متابعيكم أبداً وتأتونا بمثل عمر ) إلى غير ذلك ممّا يدلّ على عظمة الخليفة الثاني في نفوس الناس والخوارج بالذات .
وما اشتهر من أنّ الكوفة كانت علوية ، فإنّما كان ذلك بعد استيطان عليّ (عليه السّلام) لها ، وبذله الكثير من الجهود في سبيل توعية أهلها على الكثير من الحقائق التي كان لا بُدَّ لهم من التعرّف عليها ، ومن ذلك مناشدته للناس بحديث الغدير في رحبة الكوفة ، وفي صفين ، وإخباراته الغيبية الكثيرة لهم ، ومنه إخباره بمصير أهل النهروان ، وبحديث المخدّج ، وغير ذلك .
ومع ذلك فلم يكن في الكوفة خمسون رجلاً يعرفونه حقّ معرفته ، وحقّ معرفة إمامته كما عن الإمام الصادق ، وإنّما يحاربون معه وفاءً بالبيعة التي كانت له في أعناقهم ، بالإضافة إلى ما سمعوه من وعن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) في فضله الأمر الذي جعل له مكانة واحتراماً خاصاً لديهم .
خامساً ـ إنّ العراق قد فُتح في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ليواجه الحياة العسكرية ، ويتحمّل آثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإذا كان يرافق ذلك عدم توفر العمق الإيماني إلاّ في حدود العواطف والأحاسيس ، وعدم توفّر العناية الكاملة بالتربية الإسلامية ، والتأهيل لاستيعاب التعاليم الإلهية ، ثمّ التفاعل معها بالشكل المناسب والمقبول ، والمفاهيم الجاهلية ، والأهواء ، والطابع المميز للحياة آنئذٍ ، ولاسيما على مستوى الزعامات القبلية ، مع فارق وحيد ، وهو أنّ ذلك أصبح يتلوّن ويتلبّس باسم الدين ، ويستفاد منه في التمرير والتبرير ، والدّين من ذلك كله براء .
سادساً ـ إنّ الذين حاربوا علياً في وقعة الجمل ، والذين يتعاطفون مع عثمان في محنته التي تعرّض لها ، قد أصبحوا الآن في جيش عليّ (عليه السّلام) فقد كان حي الناعطين(2) في الكوفة عثمانياً ، كما أنّ الناس كانوا بعد حرب صفين ، فيهم المعجب بنتائجها ، وفيهم الكاره ، والغاشّ والناصح كما يقولون ، وإذن فليس لنا أن نتوقع من هؤلاء ـ بملاحظة حالتهم الثقافية الدينية وعلاقاتهم القبلية وغير ذلك ـ أن يكونوا مخلصين له كلّ الإخلاص ، ولاسيما وإنّهم هم الذين يتحمّلون أعباء الحرب وآثارها لا يرون إنّهم يحصلون في مقابل ذلك على نفع يذكر حسب مقاييسهم ومفاهيمهم عن الربح والخسران في حالات كهذه .
وإذا كان عليّ (عليه السّلام) لا يقيم وزناً للزعامات القبلية ، ويقيم علاقاته معها على أساس ما تملكه من معان إنسانية نبيلة ، وما تقدّمه من خدمات في سبيل الدّين والإنسان ، ولم يكن ليميّز أحداً على أحد مهما كانت الظروف والأحوال ، وإذا كان أهل الشام يعتبرون قضية معاوية قضيتهم ، ومصيره مصيرهم ، وهويبذل الأموال فيهم ، ويشتري الرجال ـ إذا كان كل ذلك ـ فإنّ الفرصة تكون مواتية لمعاوية ليصطاد الزعامات القبلية في عراق عليّ بالذات ، ويتحفهم بالأموال والأماني سرّاً وجهراً ، ويكيد بهم علياً والإسلام ، ولم يكن ثمّة مناعات وحصانات كافية للوقوف في وجه أمر كهذا ، حسبما تقدّم .
تركيبة الخوارج :
أمّا تركيبة الخوارج ، فلم تكن لتشجع على التفاؤل ـ فبالإضافة إلى إنّهم أعراف جفاة يهيمن عليهم الجهل والقسوة ـ فقد كانوا أخلاطاً من العرب والموالي ، والعرب منهم يحتقرون الموالي ، كما أنّ معظمهم كان من السفلة فلم يكونوا من أهل البيوتات المعروفة بالشرف والسؤدد ، ولا كان ثمّة تقارب في المآرب والأغراض التي كان كلّ منهم يطمح إلى تحقيقيها ، ولذا فقد كان من الطبيعي أن تكثر بينهم التحزّبات والانقسامات ، وليترك ذلك آثاراً بارزة على قدراتهم ، وفعالية مواقفهم وحركاتهم .
الخوارج ... والأمويون :
وأمّا بعد عهد عليّ (عليه السّلام) فلقد حارب الخوارج الأمويين بضراوة وعنف ، حتى أنهكوا الحكم الأموي ، ومهّدوا السبيل لإسقاطه ، وكان انشغال مروان الجعدي بحربهم مانعاً له عن أن يمدّ يد العون لعامله نصر بن سيّار الذي كان يواجه الضربات الساحقة من أبي مسلم الخراساني القائم بأمر الدعوة العباسية ، بل إنّ المهلب بن أبي صفرة الذي قاتل الخوارج في عهد الزبيريين والأمويين معاً قد حاول الاستفادة من شخصية وشعارات طالما جهد الزبيريون والأمويون في طمسها والقضاء عليها ، فيخطب أصحابه محرّضاً لهم على قتالهم ، فيكون ممّا يقول : ( قاتلوهم على ما قاتل عليه أوّلهم عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ) ، ثمّ جعل شعار أصحابه ـ لوتعرّضوا للبيات من قبل الخوارج ـ : ( حم ، لا ينصرون ) وهوشعار النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، ويروى أنّه كان شعار أصحاب عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ، كما يروي المعتزلي .
ويبدوأنّ سياسة الأمويين الظالمة تجاه الناس ، قد ساهمت في إقبال الناس على الانخراط في سلك الخوارج لمحاربتهم حتى ليبلغ عدد جيش الضحّاك الخارجي مئة وعشرين ألفاً كما يقولون .
الخوارج في العهد العباسي :
كما أنّ الخوارج قد حاربوا العباسيين في مناسبات كثيرة ، ولكن بفعالية أقل ممّا كانت عليه في السابق ، فإنّ جذوتهم بدأت تخبوا ، وخطرهم بدأ ينحسر ، ولذا فلا نرى لتفصيل الكلام في حركاتهم كبير فائدة .
نعم ، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ نحلة الخوارج قد ظهرت في أواخر العهد الأموي بين البربر في الشمال الإفريقي وقوى أمرهم ، وحاربوا حكّام تلك البلاد ، حتى سيطروا على القيروان إلى أن أخرجها منهم يزيد بن حاتم بن قبيصة ، الذي أرسله المنصور العباسي .
كما أنّ بعض أسر الخوارج قد حكمت تاهرت لأكثر من 130 عاماً حتى أزالهم عنها الفاطميون ، ولعلّ سرّ انتشار هذه النحلة بين البربر هو سذاجة هؤلاء وسطحيتهم آنئذٍ ، ثمّ انجذابهم إلى الشعارات البراقة التي كان الخوارج يرفعونها باسم الدين ، بالإضافة إلى الظروف الخاصة التي كان يعاني منها البربر .
ولكنّ هؤلاء البربر أنفسهم قد عادوا إلى التشيع بمجرّد ظهور الفاطميين ، وكانوا دعامة ملكهم ، وإن كان لا يزال البعض منهم يعتنق نحلة الخوارج ، ويعيشون في بعض المناطق في الشمال الإفريقي حتى الآن .
مفارقات هامّة في سياسات الخوارج :
ونجد أنّ المواقف السياسية للخوارج بعض المفارقات مثل :
ألف ـ ما يذكره البعض : من إنّهم قد بايعوا زيد بن عليّ ، حينما ثار على الحكم الأموي ، كما أنّ بعض شعرائهم وهو حبيب بن جدرة الهلالي قد رثاه حينما استشهد ، مع أنّ زيداً هذا هو حفيد عليّ (عليه السّلام) الذي قتلهم وأباد خضراءهم ، وكانت دعوته شيعية علوية خالصة .
ب ـ إنّ شيبان بن سلمة الخارجي ، زعيم الفرقة الشيبانية قد أعان أبا مسلم الخراساني القائم بأمر الدعوة العباسية ، وابن الكرماني على العامل الأموي نصر بن سيّار .
ج ـ إنّهم قد أعانوا ابن الزبير أيضاً ، حيث قد وجدوا : أنّ من واجبهم أن يمنعوا حرم الله من الغزو الأموي ، فذهبوا إلى ابن الزبير ، فأظهر لهم أنّه على رأيهم ، فقاتلوا معه أهل الشام ، ثمّ امتحنوه فظهر لهم أنّه مخالف لهم فتركوه وكان ذلك سنة 64ﻫ .
د ـ قال ابن خلدون : ( وولى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشي ، وعزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، فامتنع عبد الله بالحيرة ، وسار إليه النضر وتحاربا أشهراً ، وكانت الصفرية مع النضر عصبة لمروان ، لطلبه بدم الوليد ، وأمه قيسية ) .
ومن المعلوم أنّ الصفرية هم إحدى فرق الخوارج الكبرى ولا سيما في أواخر العهد الأموي .
انحسار دعوة الخوارج وأسبابه :
قد تقدّم ما يوضّح بعض أسباب انحسار دعوة الخوارج عن مناطق الحركة العلمية ، والنشاط الثقافي ، والنفوذ والقوّة والازدّهار ليعيشوا في مناطق نائية حياة فيها الكثير من مظاهر الجهل والقسوة والبداوة ، وحرمهم إلى حدًّ كبير من المساهمة في المدّ الثقافي والعلمي الذي كان يزداد قوّة يوماً عن يوم ، ثمّ من التمّتع بكثير من الطيبات التي أحلّها الله لعباده ، حتى أصبحوا في نهاية الأمر لصوصاً سلابين كما أخبر به عليّ (عليه السّلام) ، ونصّ عليه عدد من المؤرّخين والباحثين .
ونؤكّد على أنّ ممّا ساهم في انحسار دعوتهم ، وتحجيم نشاطهم سرعة تفرّقهم ، وتشعّبهم فرقاً وأحزاباً ، بسبب إنّهم ـ كما قال عليّ (عليه السّلام) ـ : ( معاشر إخفّاء الهام سفهاء الأحلام ) الأمر الذي أعطى لأعدائهم الفرصة للاستفادة من هذه الحالة ، فكان المهلّب يحاول إلقاء الخلاف بينهم ، وقد نجح في ذلك إلى حدٍ ما .
ثمّ هناك تركيبتهم غير المتناسقة ، ثمّ ظروفهم الحياتية وحالتهم الفكرية والثقافية ، ثمّ طبيعة تعاليمهم التي كانت تنعكس على مواقفهم ، وعلى تحرّكهم السياسي والعسكري ، وغير ذلك ، وتؤثّر في حِدِّيتهم في مواقفهم ، وتجعلها تتسم بالعفوية والارتجال ، ولا تساعد على التخطيط السرّي المنظّم لها .
هذا كله بالإضافة إلى عدم وضوح كثير من الأمور الدينية لهم ، حيث لم يكونوا قادرين على التمييز بين الإيمان والكفر وموجباتهما .
تساهل الخوارج عبر الزمن :
ويلاحظ هنا : أنّه كلما طال العهد كلما اتجه الخوارج إلى التخفيف من حدّة تعاليمهم وعقائدهم ، تبعاً لازدياد معارفهم وإدراكاتهم لضرورات الحياة ، حتى لقد تساهلوا في موقفهم بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد جنح التناوتي إلى الاعتدال في مسألة الحكم على عليّ (عليه السّلام) وهي دائماً من أمّهات المسائل عند الأباضيّة ، فإنّ عمدة ومحور مذهب الخوارج ، والمبرر لوجودهم هو تكفير الخليفتين عثمان وعليّ (عليه السّلام) ، بل لقد نقل لنا بعض الإخوان عن بعض علمائهم في الجزائر : إنّهم يظهرون الحبّ لعليّ وآله وينكرون أن يكون ابن ملجم قاتل عليّ (عليه السّلام) منهم ، فإنّ صحّ هذا فإنّه يكون تطوراً جديداً وهامّاً جدّاً في مذهب الخوارج .
وإنّ تساهل الأباضيّة في كثير من الأمور ـ حتى أننا لا نجد إلاّ القليل من أوجه الشبه بينهم وبين أسلافهم في الصدر الأول ـ ليفسّر لنا بقاءهم على مرّ الزمن بينما نجد غيرهم من الفرق قد بادوا وانقرضوا بسرعة منذ القرون الأولى ، فإنّ تساهلهم هذا قد ساهم طبيعياً في إزالة كثير من نقاط الضعف التي سبقت الإشارة إلى بعضها .
عقائد الأباضيّة وفقههم :
وما دمنا في الحديث عن فرقة الأباضيّة ، فلا بأس بالإشارة إلى أنّه ربّما يتصوّر البعض : أنّ هذه الفرقة قد تأثّرت في عقائدها بالمعتزلة ، وذلك لمخالفتها أهل السنّة في أصول عقائدية هامّة حيث قالت: بعدم تجسيم الله تعالى ، وبعدم رؤيته تعالى في الآخرة ، وعدم قِدَم القرآن ، وعدم القول بالجبر والقدر .
ولكنّ الحقيقة هي : أنّ الخوارج لم يتح لهم الاختلاط بالمعتزلة ، ولا عايشوا التيارات الفكرية بصورة فعالة ، كما أنّ تفرقهم في البلاد البعيدة عن العواصم الإسلامية قد جعلهم في مأمن من المدّ العارم لأحاديث الإسرائيليات ، وبقوا في تعاملهم مع النصوص على طبعهم العربي الساذج ، وهذا يعني : أنّهم قد توصّلوا إلى آرائهم العقائدية تلك بأنفسهم ومن دون تأثّر بأحد .
نعم ، نجد في التاريخ : أنّ عبد الله بن أباض مؤسس الأباضيّة قد عاد إلى الاعتزال ، ولذلك فإنّ أصحابه لا يعظمون أمره ، وذلك أمر آخر لا يرتبط بهذا الذي نحن بصدده .
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أنّ بعض فرق الخوارج كانت تعتقد بالمهدية ـ حسب بعض النصوص ـ وإن كانت سائر الفرق قد سكتت عن هذا الأمر وأغفلت التعرّض إليه .
وبالنسبة لفقه الأباضيّة ، وغيرهم ، فإننا نقول : إنّ صبغة الخوارج كانت أولاً سياسية ، ثمّ في عهد عبد الملك مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث عقائدية ، وكان الخوارج الأولون يعتمدون على فهمهم الخاص للآيات القرآنية ، وعلى استنباطاتهم العقلية المحدودة في مجال التحدّيات العملية للتصرفات والمواقف التي كانت تفرض نفسها ـ آنياً ـ عليهم ، فكانت تلك الاستفادات والاستنباطات سريعة ومرتجلة تتسم بالسطحية ، وتهيمن عليها الميول ، والعواطف والأحاسيس ثمّ لا تلبث أن تتحوّل إلى مبدأ وعقيدة تزهق من أجلها النفوس وتبذل في سبيلها المهج .
ولكن ممّا لاشكّ فيه هو أنّ كثيراً من فتاواهم وآراءهم كانت جديرة بالاحترام والتقدير ، لأنّها مأخوذة من السيرة العملية التي كانت رائجة في الصدر الأول ، ونابعة من طبيعتهم البدوية الساذجة والصافية ، ومنساقة مع الفهم الفطري للآيات القرآنية ، وللسنّة النبويّة في أحيان كثيرة .
إلاّ أنّ التزامهم بالحرفية التامّة قد أدّى في حالات كثيرة إلى ظهور كثير من السخافات المضحكة ، بالإضافة إلى السطحية وقصور النظر ، ولكنّ المهمّ هو أنّ تلك الآراء والفتاوى الصحيحة عندهم ـ ولم تكن كثرتها كبيرة ـ قد كانت ـ طبيعياً ـ مجرّد حالات جزئية منفصلة تماماً عن كلّ ما سواها فلم يكونوا يملكون تصوّراً عامّاً ، ولا نظرة شمولية ، من شأنها أن تعطيهم القدرة على استيعاب المعارف المختلفة وتوجيهها وجهة صحيحة في مجال الاستنتاج وإدراك أبعاد الموضوع ، وما يرتبط به ، ولعلّ ذلك يفسّر لنا أمر عليّ (عليه السّلام) لابن عباس بأنّ ( لا تخاصمهم بالقرآن فإنّه حمّال ذو وجوه ) .
وبعد ، فإنّ حدّة الخوارج في مواجهة المخالفات كان من شأنه أن يضفي لوناً غير مرغوب فيه ، وينفر الناس منهم ومن آرائهم الفقهية حتى الصحيحة منها .
إلاّ أنّه وبسبب اتساع مدارك الخوارج ، وإدراكهم طرفاً من ضرورات الحياة ومقتضياتها قد اتجهوا ـ ونخصّ بالذكر الأباضيّة منهم ـ نحو التخفيف النسبي من حدّة بعض التعاليم والعقائد التي عرفت عنهم ، ثمّ وبسبب بُعد بلادهم عن الاهتمامات المباشرة للحكام ، ولأنّهم قد نعموا بالاستقرار النسبي ، فقد أتيحت لهم الفرصة للتأليف في عقائدهم وفقههم ، ويذكر ابن خلدون وغيره : إنّ مؤلفاتهم تلك ضاربة بسهم من إجادة التأليف والترتيب ، وبناء الفروع على أصولهم .
الوهابيون ... والخوارج :
وأخيراً، فلربما نجد صلات وثيقة ، وتشابهاً كبيراً بين آراء وشعارات الخوارج ، وشكل ونمط الحياة عندهم وبين آراء ، وشعارات ، وشكل ونمط الحياة لدى الوهابيين ولاسيما بالنسبة لشدّتهم على المسلمين ، واعتبارهم كفّاراً وبحكمهم ، ثمّ تساهلهم مع غير المسلمين .
ثمّ ما نشهده من الانسجام التامّ بين الحكومات الوهابية وبين قوى الاستكبار والاستعمار العالمي ، وحميمية العلاقات فيما بينهم ، وقبول ذلك لدى عامة الناس لدى ذينك الفريقين ، ولعلّه لأنّه ينشأ عن رأي مذهبي اعتقادي ، لا مناصّ من احترامه ، ولا مفرّ من تحمّل آثاره ، وتكريسه على مستوى الحياة والواقع .
ختام :
وبعد . . فإنّني أرجو أن أكون قد وفّقت لإعطاء صورة موجزة عن الخوارج وحركاتهم وبعض ما يرتبط بوضعهم السياسي والثقافي وبعقائدهم والله أسأل أن يوفّقنا ويجمع بالإسلام كلمتنا ، أنّه ولي قدير .
شوال 1403ﻫ ق ـ آب سنة 1983م
ــــــــــــــــــــ
(1) القران الكريم : سورة الكهف ( 18 ) ، الآية : 104 ، الصفحة : 304 .
(2) حي سمي باسم بطن من همدان يسكنونه، وناعط جدهم.